الجنس : البحار و المحيطات التسجيل : 18/01/2012عدد المساهمات : 46
موضوع: ≤♦≛♦≥ السنة ومكانتها ≤♦≛♦≥ الأربعاء 18 أبريل 2012, 9:12 am
≤♦≛♦≥ السنة ومكانتها ≤♦≛♦≥
نَحمدُ اللهَ -تَبارَكَ وَتَعالَى- أنْ جَعلنا مِن أهلِ الإسلامِ والسُّنَّةِ، وعندما نذكرُ السُّنةَ نذكرُ أمرًا مُستقِرًّا في النفوسِ، مُطمئِنَّةً به القلوبُ والعقولُ. . نذكرُ أمرًا لا يَسعُ مُسلمًا إنكارُه، ولا يستطيعُ أحـدٌ ردَّه؛ فهو جزءٌ كبـيرٌ -وكبـيرٌ جـدًّا- مِن عقيـدةِ المسلمِ ومِنهاجِه؛ التي لا يكونُ المسلمُ مسلمًـا -حقًّا-، ولا مُؤمنًا -صِدقًا- إلا بها.
فعندما يقولُ المسلمُ في كلمةِ التوحيدِ: ) لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، مُحمدٌ رَسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-(؛ فإنَّه لا يعني في هذِهِ الكلمةِ مُجردَ القولِ والقولِ الآخَر؛ وإنَّما يعني بهذهِ الكلمةِ: الإيمانَ الصادقَ بهذا النبيِّ الكريمِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-، والاتباعَ الحقَّ لِهديِهِ، وأحكامِه، وسُنَّتهِ، وأمْرِه ونَهيِه -صَلَواتُ ربِّي وسَلامُهُ علَيهِ-. فأنْ يأتيَ أحدٌ لِيقولَ بِلِسانِه: ( لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، مُحمدٌ رَسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-( ، ثم يكونُ بِفِعلِه مُناقضًا لهذا المعنى، غيرَ خاضِعٍ له، ولا مُستَنـيرٍ بِهديِه؛ فهذا يكـادُ يكونُ كالمكذِّبِ بفِعلـهِ قولَـه!
لذلك عندما ذكرَ النبيُّ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- وصيَّتَه الأخيرةَ لم تكنْ هذه الوصيةُ الأخيرةُ فَلتةً مِن القولِ -أبدًا-؛ بل كيف يكونُ شيءٌ مِن كلامِه -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- فَلتةً -في قليلٍ أو في كثيرٍ-، وهو الذِي لا يَنطِقُ عنِ الهَوى، إنْ هُو إلَّا وَحيٌ يُوحَى -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-؟!
وإنما أردتُ أنْ أقولَ؛ بِأنَّ هذهِ الوصيَّةَ الأخيرةَ جُزءٌ مِن وَصايا مُتواصِلةٍ مُمتدَّةٍ عبرَ حَياتهِ الشـريفةِ -كلِّها-عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-. فَكما وَردَ في حديثِ العِرباضِ: » عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلفاءِ الرَّاشِدينَ المَهْدِيِّينَ مِن بَعدِي، عَضُّوا عَلَيْها« أي: السُّنَّة، وهي الأصلُ، لم يَقل: ( عَلَيْهِما )؛ وإنَّما قَـالَ: » عَلَيْها «؛ لأنَّها هِي الأصْلُ، وهِيَ الأساسُ. فإنَّه -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- كانَ قَد قـالَ -في حياتِهِ الشـريفةِ- مثلَ ذلكَ في مَواضِعَ شتَّى؛ كَمِثلِ حديثِ تَميمٍ الدَّارِيِّ -أيضًا- في »صحيحِ مُسلمٍ« قال: » الدِّينُ النَّصِيحَةُ، الدِّينُ النَّصِيحَةُ، الدِّينُ النَّصِيحَـةُ «، قالوا: لِمَـنْ يا رسولَ اللهِ؟ فقالَ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: » لِله وَلِكِتابِهِ وَلِرَسُولِهِ«-صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-. ما النصيحةُ لِرسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- إلَّا أنْ تَكونَ الإيمانَ الجازمَ بهِ، والاطمئنانَ التامَّ بِسُنَّتِهِ، والاتِّباعَ الصادقَ لِهديِهِ الشـريفِ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-، ليسَ -فَقط- في عَقائِدِنا، وليس -فَقط- في عِباداتِنا؛ بلْ في أخْلاقِنا، وسُلوكِيَّاتِنا، وفي تَعامُلِنا، ومُعامَلاتِنا؛ فالأُسْوةُ الكاملةُ، والقُدوةُ التامَّةُ الشاملةُ هي سُنَّةُ رسولِ الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-، كما قال -تعالَى- في كِتابِهِ العَزيزِ عن نبِيِّهِ الكريمِ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: ?لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا?[الأحزاب: 21].
ثم -أيُّها الإخوةُ في اللهِ!- إنَّ منزلةَ السُّنَّةِ في الإسلامِ مَنزلةٌ عُظمَى، وهي جزءٌ مِن فِطرةِ الناسِ التِي عاشُوها، وألِفُوها، وأنِسُوا بها، فلا يَستطيعُ أحدٌ أن يُنكِرَ -أو أنْ يَستنكِرَ- السُّنَّةَ ومكانَتَها ومنزلَتَها؛ لِذلِكَ: فإنَّ التركيزَ على منزلةِ السُّنَّةِ لا يَكونُ بين أهلِ السُّنَّةِ؛ فإنَّ أهلَ السُّنةِ بها مُؤمِنون، ولها مُطمئِنُّون، وإليها داعُون، وبها عامِلون، وبِأنوارِها مُنتنَوِّرُون مُنوِّرُون. ولكنْ: ما الواجبُ ذِكرُه والتذكيرُ به بين أهلِ السُّنةِ؟ الواجبُ ذِكرُه والتذكيرُ به بينَ أهلِ السُّنة -أيُّها الإخوةُ في اللهِ!- هو بعضٌ مِن الملامِحِ التي قَد يَكونونَ مُخطِئين فِيها، أو غَيرِ فاهِمينَ لها أو مُستوعِبينَ حَقائِقَها.
وأضرب على ذَلكَ أمثلةً حيويَّةً واقعيَّةً نعيشُها، ونَعتادُها، ونحياها -صباحَ مَساءَ، وليلَ نهارَ-؛ لعلَّها تُوَعِّي قلوبَنا، وتُفهِّمُنا -أكثرَ وأكثرَ- ما الواجبُ علينا سُلوكُه تُجاه هذه السُّنة النبويَّة المبارَكة. أمَّا أوَّلُ ذلِكَ: فَلْنعْلَمْ أنَّنا إذا أطلقْنا كلمةَ »السُّنَّة« فإنَّها لا تعني -فَقَط- الأمْرَ المستَحَبَّ المُستَحْسَنَ. كَثيرٌ من الناسِ إذا قُلتَ له: ( هَذِه سُنَّة )، يَقولُ لكَ: ( إذًا: هَذا شَيءٌ مُستحَبٌّ، مُستَحْسَنٌ )! هذا غَلطٌ شَنيعٌ! فإنَّ مِنَ السُّنةِ سُنَّةً واجبةً؛ المتخلِّفُ عنها آثمٌ؛ كما أنَّ المُطبِّقَ لها مَأجور. إذًا: الفاعِلُ لَها مأجورٌ، والتَّاركُ لها آثِمٌ مَأزُور. هذِهِ واحدةٌ.
أمَّا الأُخرَى الَّتِي تُرافِقُها: أنَّ بعضَ الناسِ يَفهمُها فهمًا -حتَّى- أدْنَى مِن هذا الفَهم! تقـولُ لَه: ( افْعَلْ كَذا )، يقولُ لكَ: ( إنَّه سُنَّة )!! كأنَّ لِسانَ حالِهِ يَقولُ: إذًا لا أفعَلُها (!) آلسُّنةُ أُمِر بِها وبِاتِّباعِها لِكي تُفعلَ أم لكي تُتركَ؟! الجوابُ الحقُّ الواضحُ، الذي عليهِ النُّورُ لائِح: أنَّ السُّنةَ سُنَّةٌ لِكي تُفعَلَ. لِذلكَ: قَـولُ بعضِ الناسِ عندما تأمُـرُه بِسُنَّةٍ؛ يقولُ لكَ: ( إنها سُنَّة )! يعني: لا أريدُ أنْ أفعلَها (!) إذا كانت سُنَّةً، وكنتَ مؤمنًا بها أنَّها سُنةٌ؛ فالأصلُ أنْ تفعلَها -بِغَضِّ النظرِ أنَّها سُنَّة مُستحبَّة، أو سُنَّة واجبة-.
بل إنَّني أقولُ: الصَّحابةُ -رِضِيَ اللهُ -تعالى-عَنْهم- وهُم أعظـمُ مَن وَطِئَ الحَصا بعدَ الأنبياءِ -عامةً-، وبعد سيِّدِهم ومُقدَّمِهِم رسولِنا الكَريم -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-خاصَّةً-، هؤلاءِ الصَّحابةُ الأبرارُ، والأئمةُ الأطهارُ -رَحمَهُم اللهُ -تَعالى- أجمَعينَ-، هَؤلاءِ عِندمـا كانتْ تُذكَـرُ بين أيْدِيهمْ سُنَّةٌ؛ هَل كانوا يَقولونَ: ( هَذه سُنَّة واجبةٌ، أم سُنَّة مُستحبَّة )؟! لَم يَكن ذلك -البتةَ- قائمًا في أذهانِهم، ولا مُتخيَّلًا في أعيُنِهم؛ وإنَّما كانوا كما قال بعضُ كُتَّاب هذا العَصـر -كلمةً حَسنةً- قالَ: ( لَم يَكن الصحابةُ في تلقِّيهِم عن النبيِّ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- إلَّا قائمينَ على ما يُقالُ فيه منهجُ التلقِّي للتَّنفيذ «؛ قال لَهم رسولُ اللهِ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: ( افْعَلوا )؛ يَفعَلون، ( اتْرُكُوا )؛ يَترُكُون. نَعم، قد يتخلَّف بعضُهم عن أمرٍ؛ لأنَّه لم يستوعِبْه، أو لأنه عنده إشكالٌ، أو لأنه عندَه تردُّد في معرفةِ التَّطبيقِ، أمَّا أنْ يكونَ تردُّد مع العلمِ والبيان؛ فلم يَكنْ هذا يكن -قطُّ- مِن مُجمل أصحابِ رسولِ الإسلامِ -عليهِ أفْضَلُ الصَّلاةِ وأتَمُّ التَّسليمِ-. هذِه واحِدة.
فلا صَلاحَ، وَلا نَجاةَ، ولا فَلاحَ، ولا نَجاحَ لهذه الأمةِ إلا بالتَّطبيقِ العِلميِّ العمَلِيِّ الدَّعَويِّ الصادِقِ الواثِقِ لأحاديثِ رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- وسُنَّته. ليسَ -فقط- بأنْ نعرفَ كيفَ ننامُ، وكيفَ نأكُل، وكيف نشـربُ، وكيف نَدخلُ المسجدَ، وكيفَ نخرُج مِن المسجدِ. . -وهذه -كلُّها- سُننٌ رَضيَّةٌ مَرضيَّة، لا ننتقصُها قدْرَها، ولا نقلِّلُ مِن قيمَتِها-؛ ولكنَّنا نذكُرُ ذلك؛ لأنَّ بعضَ الناسِ يَقتصِـرُ السُّنةَ على هذا وأمثاله! لأنَّ بعضَ الناسِ يَختصِـرُ السُّنةَ على هذا وأشباهِه! هذا مِن السُّنة؛ وليسَ هُو السُّنَّة. السُّنةُ شاملةٌ للعَقائِد. كثيرٌ مِن العقائدِ وَردتْ في سُنةِ رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-. . كثيرٌ مِن مسائلِ العِلمِ والعَمل وَرد في سُنةِ رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-. . كثيرٌ مِن مواقفِ الأمرِ بالمعروفِ، والنهيِ عن المنكرِ وَرد في سُنَّة رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-. فأنْ نقتصرَ السُّنةَ، أو نختَصِرَها على ما وَرد: ( كيف نأكُل، وكيف نشـربُ، وكيفَ ننام، وكيف نَدخُل المسجدَ، وكيف نخرُجُ منه. . وما أشبَهَ ذاك )؛ فهذا اختصارٌ مُخِلٌّ، وبابٌ مُضِلٌّ أنْ تكونَ السُّنةُ هي هذا الباب! أن تكونَ السُّنة هِي هذا المقْدار! السُّنةُ أشملُ مِن ذلك وأوسعُ؛ لِتشملَ كلَّ ما فيه صلاحُك -يا مُسلمُ! يا عَبدَ اللهِ!- مما وَرد فيها، وصَحَّ عن النبيِّ الكريم -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-.
وهذه نقطةٌ ثالثةٌ: وهي أنه ليسَ كُل ما نُقل في الكُتب -خَلا »صَحيحيِ البُخاريِّ ومُسلمٍ«- يكون صحيحًا. فبعضُ الناسِ يَذكرُ حديثًا فتقولُ له: ( هذا حديثٌ لا يَصِح )؛ فينظرُ إليك طولًا وعرضًا؛ كأنه يظنُّ أنَّ كلَّ ما رُوي فإنه صَحيح! وما ذاكَ إلا بِسببِ جهلِه، ولو سَـأل لَعلِم؛ كـما قـالَ النـبيُّ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّـلامُ-: » هلَّا سَأَلُوا فَعَلِمُوا؛ فَإِنَّما شِفاءُ الْعَيِّ السُّؤَالُ «، وكـما قـال -تعالى-:? فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ?[الأنبياء: 7]. فَهؤلاءِ الذينَ يَجهلون. . ونحنُ لا نُشكِّك بِنواياهم، ولا نُشككُ بإخْلاصِهم، ولا نُشكِّك بِصِدقهم؛ لكنَّ مُلاحظتَنا على سُلوكِهم، وعلى عَمَلهم، وعلى فِعلِهم أنَّهم يَروُون ويَنقُولون ما هَبَّ ودَبَّ؛ بلْ إنَّ بعضًا منهم يقول: سَمِعنا العلماء [يَقولُون] كذا (!) لَو سألتَه مَن هذا العالِم؟ ما تخصُّصُه؟ ما اخْتصاصُه؟ ما عِلمُه؟ ما ميِّزَتُه؟ فإنَّه لا يدري! ولا يُحسن أنْ يُجيب! لو أنَّك أصابَك وجَعٌ في قدميكَ؛ هل تذهبُ إلى طبيبِ الأسنان؟ لو أصابك وجعٌ في أسنانِك؛ هَل تذهبُ إلى طبيبِ الباطنيَّة؟ أم أنك تذهبُ في كلِّ أمرٍ إلى أهلِ الاختصاصِ فيه؟ لِذلك قال الحافظُ ابنُ حَـجرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- في كِتابِه العُجابِ »فَتحِ البَارِي«: » مَن تَكلَّم في غَيرِ فَنِّه؛ أتَى بالعَجائبِ! «. فعَن الحديثِ يُسأل أهلُ الحديث، وعن الفِقه يُسأل أهلُ الفِقه، وعن اللغةِ يُسأل أهلُ اللغة. . وهكذا في سائرِ العُلومِ، وفي سائرِ التخصُّصات.
قال قائلٌ: قال رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: » إذا رأيتُم الرجلَ يَعتادُ المساجِـدَ؛ فاشْهَـدوا له بالإِيمانِ «؛ قُلنـا له: هذا حديثٌ ضعيفٌ، ولا يصِحُّ ولا يَثبُت، قالَ: القُرآن الكَريم يقولُ: ? إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ?[التوبة: 18]! قلنا له: إذا كان القُرآن -في نَظرِك- يَدلُّ على هذا المعنى؛ فاستدلَّ بالقرآن، وأمَّا الحديثُ الذي لا تَعرفُ صِحَّتَه؛ فلا تستدلَّ بِه. على أنَّ في الحديثِ معنًى ليس مذكورًا في القرآنِ؛ وهَذا مِن دِقةِ أهلِ الحديثِ، وسَدادِ نَظرِهم في فَهْم السُّنَّة، وفَهم مَعانيها الدَّقيقة. أينَ فـي القُرآنِ: (فاشْهَدوا له بالإيـمان)؟! الشَّهادةُ طلبٌ بالإخبارِ، وليس إخبارًا عن واقعٍ؛ فافترقَ النصُّ القرآنيُّ عن الحديثِ النبويِّ.
فهؤلاء الذين يستدلُّون ويتكلَّمون بأحاديثِ رسولِ الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- دونَ أنْ يَعرِفوا، ودون أنْ يَفهمُوا، ودون أنْ يُصيبوا في حُسنِ اسْتِدلالِهم -إمَّا مِن حيث الصحةُ في الثُّبوت، أو مِن حيث الصوابُ في الاستدلالِ-؛ يجبُ أنْ يتعلَّموا؛ كما قالَ النبيُّ-عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: » مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيرًا؛ يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ «. لكنْ لمَّا كانتِ السُّنةُ أشملَ؛ كان الواجبُ أنْ يكونَ العِلمُ أكْمَلَ؛ لِيصِلَ هذا العِلمُ إلى هذه السُّنَّةُ، ولِيكونَ الإيمانُ بها أقر بَ إلى مُرادِ اللهِ، وأقربَ إلى حقيقةِ سُنَّةِ رسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وعَلى آلِهِ وصحبِه أجْمَعين-.
أيُّها الإخوةُ في اللهِ! السُّنةُ النبويةُ نورٌ يَهدي الآخذَ به إلى طاعةِ الموْلَى -سُبحانَه وتعَالى-، وطاعةُ المَولَى -سُبحانَه وتَعالى- فيها التَّسديدُ إلى صراطِه المستقيم. ألَا نَقرأُ في كتابِ اللهِ في كلِّ ركعةٍ مِن صلاتِنا: ? اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ? [الفاتحة: 6]؟ الصـراطُ المستقيمُ -كما قالَ أئمةُ التَّفسيرِ-: هو الإسلامُ والسُّنَّة. . الصّـِراطُ المستقيمُ: هو العَملُ بالكِتابِ والسُّنَّة؛ فهُو عِلمٌ وعَمَل. كيف تهتدي إلى الصّـِراطِ المستيقيمِ وأنتَ لا تتَّبعُ النبيَّ الكَريمَ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-؟ الَّذي قالَ اللهُ -تَبارَكَ وتَعالَى- فِيه في كِتابِه: ? وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا?[النور: 54]؛ فَجعلَ سَبيلَ الهِدايةِ طاعةَ رسولِ اللهِ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-. بل النصُّ القُرآنـيُّ الـجازِمُ الحازمُ الحاسِمُ: ? مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ? [النساء: 80]فَهذا يُدلِّلُ دلالةً قويةً، وتدليلًا ظاهرًا أنَّه لا طاعةَ للهِ -على وجهِ الحقِّ- إلا بِطاعةِ رسولِ الله -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-.
ونقطةٌ رابعةٌ: أنَّ للعقلِ مكانَه الذي لا يتجاوَزُه في فَهم سُنَّة رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- بالحُكم عليها. العقلُ يتفهَّم، ولا يَحكُم. يقولُ ابنُ القيِّم -رَحِمَهُ اللهُ-: » العَقلُ سُلطانٌ؛ وَلَّى الشَّرعَ ثم عَزَلَ نفسَه « لماذا؟ لأنَّ الشرعَ -حينئذٍ- يُخاطبُك بما فيه صلاحُك، ولا يَسَعُك إلا أن تستَسلِمَ -حتَّى لو لم تستوعبْ-؛ لأنَّ عقـلَك ليس هو العقلَ الكامِـل، ما لـم تَستوعبْـه أنتَ؛ يَستوعبْـه غيـرُك؛ كـذاك الـذي قـال: ( لا يلزم )!! لا يلزمُك؛ ولكن يلزمُنا. . لا يلزَمُ الشُّذَّاذ؛ ولكنَّه يلزمُ الكُمَّلَ مِنَ الأئمةِ الأفذاذ.
وكذلكَ الحالُ ها هُنا: بعـضُ الناسِ تقولُ له: قالَ رسولُ الله -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: كَذا وَكذا؛ يَقولُ لكَ: واللهِ ما دَخَل عَقلي (!) وهل عقلُكَ هو العقلُ الكاملُ؟! وهل عقلُكَ هو المسطَرةُ التِي يُقاس كلُّ عقلٍ عليها؟! إذا كنتَ كذلكَ؛ فهل تَنفي أنْ يَكون غيرُك مثلَك؟ حاشا وكلا؛ ما أحدٌ يَستطيع أن ينفيَ -مهما كانَ- وفَوق كلِّ ذِي عِلمٍ عَليم.
لكنِ الواجب كما قالَ اللهُ -تَبارَكَ وتَعالَى-: ? فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا?[النساء: 65]. . ? وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ?[الأحزاب: 36]. . لا خيَرةَ.. لا سَبيلَ إلا التَّسليم؛ لأن العقلَ قاصِر، ولأنَّ اللهَ -تَبارَكَ وتَعالَى- عندما أمرَك في كِتابِه، أو أمَرَك على لسانِ رسولِه ز؛ إنَّما أمَرك بما فيه صلاحُك. . إنَّما أمَركَ بِـما فيه نَجاتُك. . إنَّما أمَرَ بِما فيه الخيرُ لكَ في الدُّنيا والآخِرَة كما قالَ -تعالَى-: ? أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ? [الملك: 14]. فَلِلعقلِ مَكانُه الذي لا يَتجاوَزُه.
كنا ننصحُ بعضَ الناسِ، ونقولُ لهم: أخبرَنا نبيُّنا -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- عن رصِّ الصُّفوفِ، وعن أنْ تُوضَع الأقدامُ بِجَنب الأقدامِ، والأكتفُ بِجنبِ الأكتُف، حتى إنَّ النبيَّ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- أُعطِي مُعجزةً خاصةً في وصلِ الصُّفوف؛ ماذا قال؟ قال: » إنِّي أراكُمْ مِن وَراءِ ظَهْرِي «. . اللهُ أكبرُ!. . » إنِّي أراكُمْ مِن وَراءِ ظَهْرِي «. له عُيونٌ خلفيَّة؟!! لا نعلمُ في وصفِـه أنَّ له عيونًا خلفيَّةً، كيف يَرى؟ اللهُ أعلـمُ. ? وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا?[النساء: 65] أخبرَنا الصادقُ المصدوقُ؛ فليسَ لَنا إلا التَّسليم. أبو بكرٍ -رضِيَ اللهُ عن أبي بكرٍ، قاهِر الشِّيعةِ الشنيعةِ، وغائِظهم. . رضيَ اللهُ عنهُ، وقاتَلَ اللهُ مُنتَقِصَه- عندما جاءَه كفارُ قريشٍ الأُوَل: ( إنَّ صاحبَك يقولُ: إنه أُسرِيَ به، وعرجَ إلى السَّماء! ) ماذا كانَ جوابُه؟ -بكلِّ بَساطةٍ-: » إنْ كانَ قالَهُ؛ فَقد صَدَق «! كلِمَة واحِدَة! أيُّ إيمانٍ هذا؟! وأي تَصدِيقٍ هذا؟! وأيُّ صِدق في النَّفس، وشَفافيَةٍ في العقلِ هذِه التي مكَّنتْ هذا الصَّحابيَّ الجليلَ مِن هذهِ الدَّرجةِ الإيمانيَّة العاليةِ الرفيعة؟! » إنْ كانَ قالَها؛ فَقد صَدقَ «! وهذا في أعظمِ أمْرٍ، وفي أوَّل الإسلامِ، وفي موضعِ الفِتنة والافتِتان! فما بالُنا -الآنَ- وقد وَطَّأ اللهُ الأمرَ، ونشـرَ الدِّينَ، واطْمأنَّت قلوبُ المؤمِنين، وانشـرحتْ صُدورُ الموحِّدين؟! فأوْلَى وأوْلَى. » إذا صحَّ الأثرُ؛ بَطلَ النَّظرُ «، » وإذا جَاءَ نَهرُ اللهِ؛ بَطلَ نهرُ مَعقِل « -كما يَقولونَ-.
الرسولُ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- يقولُ: » ألَا إِنِّي أراكُمْ مِن وَراءِ ظَهْرِي؛ لَتُسَـوُّنَّ صُفُوفَـكُمْ، أوْ لَيُخالِفَنَّ اللهُ بيـن وُجُـوهِكُم «؛ فكان الصحابةُ يَرُصُّ بعضُهم بعضًا، حتى قال -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: » إِنِّي أرَى الشَّيْطانَ يَتَخلَّلُ أقْدامَـكُمْ « -أو كَما قالَ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّـلامُ-. نذكُر هذا الحديـثَ لبعضِ الناسِ -مِن عامَّة الناس-؛ فيقولُ: (يعني الشَّيطان يدخلُ بين قَدَمِي وقَدَمِ صاحِبي، ولا يَدخلُ مِن بين قدمَيَّ؟!)! أيُّ سَفاهةٍ هذِه التي يعترضُ فيها بِعقلِه البارِد على سُنَّةِ رسولِ الله -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- الذي لا يَنطقُ عن الهوى! الأصلُ: أن تسلِّم وتستَسلِمَ. إذا قصـرت؛ فاتَّكِئ على تقصيرِك ولا تتَّكِئ على سوءِ الظنِّ بِسُنة رسولِك -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-. هذا هُو الأَصلُ.
ومِن بابِ الفائِدَةِ الفِقهيَّةِ: رأيتُ عددًا مِن الأئمةِ يقولُ للناسِ: ( اِسْتَوُوا واعْتَدِلُوا )، وهُو يَنظُر إلى جِهةِ القِبلةِ؛ لا يَتفقَّدُ الناسَ! لا يَنظرُ إليهم هكذا: اِسْتَوُوا. . ينظر إلى هَذا: اقْتَـرِب. . إلى هَذا: ابْتعِدْ. . إلى هَذا: تَقدَّمْ. . هذا خِلافُ السُّنةِ. أمَّا رسولُ اللهِ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- الَّذِي كان يَقولُ وهُو يَنظُر إلى القِبلةِ؛ لِماذا؟ لأنَّه كان يَراهُمْ مِن وَراءِ ظَهرِهِ! فمَنْ مِثل رَسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- في هَذِه؟ وقد سَمعتُ شيخَنا -رَحِمَهُ اللهُ- يُنبِّهُ على هذا الخَطأِ: أنَّ الإمامَ الذِي يَقولُ لِلناسِ: ( اسْتَوُوا واعْتَدِلُوا )، وهُو يَنظُرُ باتِّجاهِ القِبلةِ؛ أنَّ هَذا مُخالِفٌ، وَعمَلُه غيرُ صائِبٍ.