⇭✵✌✵⇭ السنة وقضاياها ⇭✵✌✵⇭
تعريف السنة :
السنة : عبارة عما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال وغيرها مما هو تبيين للقرآن ، وتفصيل للأحكام ، وتعليم للآداب ، وغير ذلك من مصالح المعاش والمعاد .
الصحابة والسنة :
أول من تلقى السنة هم الصحابة الكرام ، فحفظوها وفهموها ، وعلموا جملتها وتفصيلها ، وبلغوها - كما أمروا - إلى من بعدهم .
ثم تلقاها التابعون ، وبلغوها إلى من يليهم . . . وهكذا ، فكان الصحابي يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كيت وكيت ، ويقول التابعي : سمعت فلانا الصحابي يقول : سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ويقول الذي يليه : سمعت فلانا يقول : سمعت فلانا الصحابي يقول : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهكذا .
الحاجة إلى حفظ السنة :
كل من علم أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء ، وأن شريعته خاتمة الشرائع ، وأن الحياة الأبدية في اتباعه يعلم أن الناس أحوج إلى حفظ السنة منهم إلى الطعام والشراب .
وجوب معرفة أحوال الرجال :
قد وقعت الرواية ممن يجب قبول خبره ، وممن يجب رده ، وممن يجب التوقف فيه ، وهيهات أن يعرف ما هو من الحق الذي بلغه خاتم الأنبياء عن ربه عز وجل ، وما هو الباطل الذي يبرأ عنه الله ورسوله ، إلا بمعرفة أحوال الرواة .
وهكذا الوقائع التاريخية ، بل حاجتها إلى معرفة أحوال رواتها أشد ، لغلبة التساهل في نقلها ، على أن معرفة أحوال الرجال هي نفسها من أهم فروع التاريخ ، وإذا كان لا بد من معرفة أحوال الرواة ، فلا بد من بيانها ، بأن يخبر كل من عرف حال راو بحاله ليعلمه الناس ، وقد قامت الأمة بهذا الفرض كما ينبغي .
أول من تكلم بأحوال الرجال :
أول من تكلم في أحوال الرجال القرآن ، ثم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم أصحابه . والآيات كثيرة في الثناء على الصحابة إجمالا ، وذم المنافقين إجمالا ، ووردت آيات في الثناء على أفراد معينين من الصحابة - كما يعلم من كتب الفضائل - وآيات في التنبيه على نفاق أفراد معينين ، وعلى جرح أفراد آخرين ، وأشهر ما جاء في هذا قوله تعالى : إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ( الحجرات 6 ) نزلت في رجل بعينه ، كما هو معروف في موضعه ، وهي مع ذلك قاعدة عامة .
أحاديث الفضائل :
وثبتت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحاديث كثيرة في الثناء على أصحابه جملة ، وعلى أفراد منهم معينين ، معروفة في كتب الفضائل ، وأخبار أخر في ذم بعض الفرق إجمالا ، كالخوارج ، وفي تعيين المنافقين وذم أفراد معينين ، كعيينة بن حصن ، والحكم بن أبي العاص ، وثبتت آثار كثيرة عن الصحابة في الثناء على بعض التابعين ، وآثار في جرح أفراد منهم .
التابعون والجرح والتعديل :
وأما التابعون ، فكلامهم في التعديل كثير ، ولا يروى عنهم من الجرح إلا القليل ، وذلك لقرب العهد بالسراج المنير - عليه وعلى آله أفضل الصلاة والتسليم ، فلم يكن أحد من المسلمين يجترئ على الكذب على الله ورسوله ، وعامة المضعفين من التابعين إنما ضعفوا للمذهب ، كالخوارج أو لسوء الحفظ أو للجهالة .
****ثم جاء عصر أتباع التابعين وما بعده ، فكثر الضعفاء ، والمغفلون ، والكذابون ، والزنادقة ، فنهض الأئمة لتبيين أحوال الرواة وتزييف ما لا يثبت ، فلم يكن مصر من أمصار المسلمين إلا وفيه جماعة من الأئمة يمتحنون الرواة ، ويختبرون أحوالهم وأحوال رواياتهم ، ويتتبعون حركاتهم وسكناتهم ، ويعلنون للناس حكمهم عليهم .
كتب الرجال :
استمر ذلك إلى القرن العاشر ، فلا تجد في كتب الحديث اسم راو إلا وجدت في كتب الرجال تحقيق حاله ، وهذا مصداق الوعد الإلهي - قيل لابن المبارك : هذه الأحاديث المصنوعة ؟ قال : تعيش لها الجهابذة ، وتلا قول الله سبحانه وتعالى : انا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون .
الرحلة لتحقيق العلم .
و كان نشاط الأئمة في ذلك آية في من الآيات ؛ فمن أمثلة ذلك : قال العراقي في شرح مقدمة ابن الصلاح : روينا عن مؤمل أنه قال : حدثني شيخ بهذا الحديث - يعني حديث فضائل القرآن سورة سورة - فقلت للشيخ : من حدثك ؟ فقال : حدثني رجل بالمدائن وهو حي ، فصرت إليه ، فقلت : من حدثك ؟ فقال : حدثني شيخ بواسط ، وهو حي ؛ فصرت إليه ، فقال : حدثني شيخ بالبصرة ، فصرت إليه ، فقال : حدثني شيخ بعبادان ، فصرت إليه ، فأخذ بيدي ، فأدخلني بيتا ، فإذا فيه قوم من المتصوفة ومعهم شيخ ، فقال : هذا الشيخ حدثني ، فقلت : يا شيخ ، من حدثك ؟ فقال : لم يحدثني أحد ، ولكننا رأينا الناس قد رغبوا عن القرآن ، فوضعنا لهم هذا الحديث ليصرفوا قلوبهم إلى القرآن ، لعل هذا الرجل قطع نحو ثلاثة أشهر مسافرا لتحقيق رواية هذا الحديث الواحد .
طرق اختبار الرواة :
للأئمة في اختبار الرواة طرق منها : النظر في حال الراوي في المحافظة على الطاعات واجتناب المعاصي ، وسؤال أهل المعرفة به .
قال الحسن بن صالح بن يحيى : كنا إذا أردنا أن نكتب عن الرجل سألنا عنه ، حتى يقال : أتريدون أن تزوجوه ؟ .
ومنها أن يحدث أحاديث عن شيخ حي ، فيسأل الشيخ عنها ، مثاله : قول شعبة : قال الحسن بن عمارة : حدثني الحكم ، عن يحيى بن الجزار ، عن علي سبعة أحاديث ، فسألت الحكم عنها ، فقال : ما سمعت منها شيئا .
ومنها أن يحدث عن شيخ قد مات ، فيقال للراوي : متى ولدت ؟ ومتى لقيت هذا الشيخ ؟ وأين لقيته ؟ ثم يقابل بين ما يجيب به وبين ما حفظ من وفاة الشيخ الذي روى عنه ، ومحل إقامته وتواريخ تنقله ، ومثاله : ما جاء عن عفير بن معدان أن عمر بن موسى بن وجيه حدث عن خالد بن معدان ، قال عفير : فقلت له في أي سنه لقيته ؟ قال : سنة ثمان وخمسين ومائة ، في غزاة أرمينية ، قلت اتق الله يا شيخ ، لا تكذب ، مات خالد سنة أربع وخمسين ومائة ، أزيدك أنه لم يغز أرمينية .
ومنها : أن يسمع من الراوي أحاديث عن مشايخ قد ماتوا ، فتعرض هذه الأحاديث على ما رواه الثقات عن أولئك المشايخ ، فينظر : هل انفرد هذا الراوي بشيء أو خالف أو زاد ونقص ؟ فتجدهم يقولون في الجرح : ينفرد عن الثقات بما لا يتابع عليه ، في حديثه مناكير ، يخطئ ويخالف . . . ونحو ذلك .
حفظ أهل الحديث :
ومنها : أن يسمع الراوي عدة أحاديث ، فتحفظ أو تكتب ، ثم يسأل عنها بعد مدة ، وربما كرر السؤال مرارا لينظر : أيغير أو يبدل أو ينقص ؟
دعا بعض الأمراء أبا هريرة ، وسأله أن يحدث - وقد خبأ الأمير كاتبا حيث لا يراه أبو هريرة - فجعل أبو هريرة يحدث والكاتب يكتب ، ثم بعد سنة دعا الأمير أبا هريرة ، ودس رجلا ينظر في تلك الصحيفة ، وسأل أبا هريرة عن تلك الأحاديث ، فجعل يحدث والرجل ينظر في الصحيفة ، فما زاد وما نقص ولا قدم ولا أخر .
وسأل بعض الخلفاء ابن شهاب الزهري أن يملي على بعض ولده ، فدعا بكاتب ، فأملى عليه أربعمائة حديث ، ثم إن الخليفة قال للزهري بعد مدة : إن ذلك الكتاب قد ضاع ، فدعا الكاتب فأملاه عليه ، ثم قابلوا الكتاب الثاني على الكتاب الأول ، فما غادر حرفا .
وكانوا كثيرا ما يبالغون في الاحتياط ، حتى قيل لشعبة : لم تركت حديث فلان ؟ قال : رأيته يركض على برذون ، وقال جرير : رأيت سماك بن حرب يبول واقفا فلم أكتب عنه ، وقيل للحكم بن عتيبة : لم لم ترو عن زاذان ؟ قال : كان كثير الكلام .
مخالطة الأمراء :
وكانوا يطعنون فيمن خالط الأمراء ، أو قبل عطاياهم ، أو عظمهم ، بل ربما بالغوا في ذلك ، كما وقع لمحمد بن بشر الزنبري المصري مع سعة علمه ، كان يملي الحديث على أهل بلده فاتفق أن خرج الملك غازيا ، فخرج الزنبري يشيعه ، فلما انصرف وجلس يوم الجمعة على مجلسه ، قام إليه أصحاب الحديث فنزعوه من موضعه ، وسبوه وهموا به ، ومزقوا رواياتهم ، ثم ذكره ابن يونس في تاريخ مصر فقال : " لم يكن يشبه أهل العلم " .
إنما كانوا يتسامحون فيمن بلغ من الجلالة بحيث يعلم أنه إنما يخالط الأمراء ليأمرهم بالمعروف ، وينهاهم عن المنكر ، ويكفهم عن الباطل ما استطاع ، كالزهري ، ورجاء بن حيوة ، وروى الشافعي ، قال : دخل سليمان بن يسار على هشام بن عبد الملك ، فقال له : يا سليمان ، الذي تولى كبره من هو ؟ يعني في قول الله تعالى والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم ( النور : 24 ) - قال : عبد الله بن أبي ، قال كذبت ، هو فلان قال : أمير المؤمنين أعلم بما يقول ، فدخل الزهري ، فقال : يا ابن شهاب ، من الذي تولى كبره ؟ قال : ابن أبي ، قال : كذبت ، هو فلان . فقال الزهري لهشام : أنا أكذب لا أبا لك ؟ والله لو نادى مناد من السماء : إن الله أحل الكذب ما كذبت ، حدثني عروة ، وسعيد ، وعبيد الله وعلقمة ، عن عائشة أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبي ، وذكر تمام القصة وفيها خضوع هشام للزهري واسترضاؤه له .
وقد وقعت للزهري قصة تشبه هذه مع الوليد بن عبد الملك ، وفيها : أن الوليد قال له : يا أبا بكر ! من تولى كبره أليس فلانا ؟ قال الزهري : قلت : لا ! فضرب الوليد بقضيبه على السرير : فمن ؟ فمن ؟ حتى ردد ذلك مرارا ، قال الزهري : لكن عبد الله بن أبي ، وفي جواب سليمان لهشام لطيفة ، حيث لم يقل : أمير المؤمنين أعلم ، ويسكت ، بل قال : أعلم بما يقول ، أي : أعلم بقول نفسه ، لا أعلم بحقيقة الحال ، ولكن المقام لم يكن لتغني فيه مثل هذه الإشارة ، فلذلك قيض الله تعالى الزهري ووفقه ، فقال ما قال ، وقوله لهشام - وهو الملك - : لا أبا لك ، جرأة عظيمة .
ورع أهل الحديث :
وكانوا من الورع وعدم المحاباة على جانب عظيم ، حتى قال زيد بن أبي أنيسة : أخي يحيى يكذب .
وسئل جرير بن عبد الحميد عن أخيه أنس ، فقال : قد سمع من هشام بن عروة ، ولكنه يكذب في حديث الناس فلا يكتب عنه .
وروى علي بن المديني عن أبيه ، ثم قال : وفي حديث الشيخ ما فيه .
وقال أبو داود : ابني عبد الله كذاب .
و كان الإمام أبو بكر الصبغي ينهى عن السماع من أخيه محمد بن إسحاق .
حفظ علماء السلف لتراجم الرجال
كان الرجل لا يسمى عالما حتى يكون عارفا بأحوال رجال الحديث .
ففي تدريب الراوي ، قال الرافعي وغيره : إذا أوصي للعلماء لم يدخل الذين يسمعون الحديث ولا علم لهم بطرقه ولا بأسماء الرواة . . . وقال الزركشي : أما الفقهاء ، فاسم المحدث عندهم لا يطلق إلا على من حفظ متن الحديث ، وعلم عدالة رواته وجرحها . . . وقال التاج السبكي : . . . إنما المحدث من عرف الأسانيد والعلل وأسماء الرجال . . . وذكر عن المزي أنه سئل عمن يستحق اسم الحافظ ، فقال : أقل ما يكون أن يكون الرجال الذين يعرفهم ويعرف تراجمهم وأحوالهم وبلدانهم أكثر من الذين لا يعرفهم ليكون الحكم للغالب .
فكان العالم يعرف أحوال من أدركهم ، إما باختباره لأحوالهم بنفسه ، وإما بإخبار الثقات له ، ويعلم أحوال من تقدمه بأخبار الثقات ، أو بإخبار الثقات عن الثقات . . . . وهكذا ويحفظ ذلك كله ، كما يحفظ الحديث بأسانيده ، حتى كان منهم من يحفظ الألوف ، ومنهم من يحفظ عشرات الألوف ومنهم من يحفظ مئات الألوف بأسانيدها ، فكذلك كانوا يحفظون تراجم الرواة بأسانيدها ، فيقول أحدهم أخبرني فلان أنه سمع فلانا قال : قال فلان : لا تكتبوا عن فلان ، فإنه كذاب . . . وهكذا . .