مقدمة :
مكة البلد الحرام ، أحبُّ بلاد الله إلى الله ، وأحبها إلى رسوله ، قبلة المسلمين ومهوى أفئدتهم ومأوى حَجِّهم ، ومجمع وفودهم ، وملتقى جموعهم ، حرّها الله تعظيماً وإجلالاً يوم خلق السموات والأرض ، بها الكعبة أول بيت وضع لعبادة الله على الأرض ، وللبيت العتيق جعل الله حرماً لتعظيمه ، فجعل فيه الأمان حتى شمل ما فيه من الشجر والبنات فلا يقطع ، وما فيه من الطير فلا ينفّر ، وجعل ثواب الأعمال فيه أفضل من ثوابها في غيره ، والصلاة فيه بمائة ألف صلاة ، ومن عظمة البيت أخذت مكة عظمتها ومن حرمته كانت حرمتها ومن أمانه ـ حيث قال الله عنه :
{ ومن دخله كان آمناً } آل عمران : 97
كان أمانها ، أقسم الله بها لنبية على عظَمة قدرها فقال :
{ لا أُقسمُ بهذا البلد } البلد : 1
وعندها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والله إنك لخير أرض الله ، وأحب أرض الله إلى الله ، ولولا أني أُخرِجتُ منك لما خَرجتُ ، وعن كعب قال : اختار الله البلاد ، فأحب البلاد إلى الله البلد الحرام .
تحريم مكة
يقال لمكة : البلد الحرام ، ويتضح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مكة حرام منذ خلق الله السماوات والأرض ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : لما فتح الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة ، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : " إن الله حبس عن مكة الفيل ، وسلط عليها رسوله والمؤمنين ، وإنها لن تحل لأحد كان قبلي ، وإنها أحلت لي ساعة من نهار ، وإنها لن تحل لأحدٍ بعدي ، فلا ينفّر صيدُها ، ولا يختلي شوكها ، ولا تَحِلُّ ساقطتها إلى لمنشد ، ومن قُتل له قتيل فهو بخير النظرين ، إما أن يفدى وإما أن يقتل " .
فقال العباس : إِلاّ الإِذْخِرَ يا رسول الله ، فإنا تجعله في قبورنا وبيوتنا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إلاالإ ذخر " متفق عليه .
حدود الحرم
وأول من نصب حدود الحرم إبراهيم الخليل ـ عليه السلام ـ نصبَ إبراهيم ـ عليه السلام ـ أنصاب الحرم ، يُرِيه جبريلُ ـ عليه السلام ـ ثّم لم تحرك حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعص عام الفتح تميم بن أسد الخزاعي فجددها ، ثّم لم تحرك حتى كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه فبعص أربعة من قريش فجددوها .
وإنما جعل الله للبيت العتيق حرماً لتعظيمه ، فجعل فيه الأمان ، حتى للطير والشجر ، وجعل ثواب الأعمال فيه أفضل من غيره ، والحرم دائرة على مكة المكرمة وبعض حدوده أقرب من بعض ، وقد نصبت أعلامٌ علىحدود في الطرق الرئيسية المؤدية إلى مكة وهي :
1- في طريق جدة منالغرب : " الشميسي " ( الحديبية ) وتبعد اثنين وعشرين كم .
2- الجنوب : " إضاءة لِبْن " في طريق اليمن الىتي من تهامة وتبعد اثني عشر كم .
3- الشرق : ضفة وادي عُرَنة الغربية وتبعد خمسة عشر كم .
4- الشمال الشرقي : طريق الجعرانة بالقرب من قرية " شرائع المجاهدين " وتبعد ستة عشركم .
5- الشمال : حَدُّه التنعيم ويبعد سبعة كم .
حُرمة الحرم
قال الله تعالى :
{ ومن دخله كان ءامناً } آل عمران 97
يعني حرم مكة ، إذا دخله الخائف يأمن من كل سوء ، وكذلك كان الأمر في حال الجاهلية ، كان الرجل يقتل ويدخل الحرم فيلقاه ابن المقتول فلا يهيجه حتى يخرج .
وقد انعقد الإجماع على أن من جنى في الحرم جناية فلا يُؤَمّن لأنه هتك حرمة الحرم ، وأما إذا ارتكب الجناية في الحل ثم التجأ إلى الحرم فيضيّق عليه حتى يخرج إلى الحل فيقام عليه الحد ، فقد رُوي عن ابن عباس أنه قال : من أحدث حدثاً ثم استجار بالبيت فهو آمن ، وليس للمسلمين أن يعاقبوه بشيء حتى يخرج ، فإذا خرج أقاموا عليه الحد .
أسماؤُها
للبلد الشريف ، والحرم المنيف أسماء كثيرة قاربت الخمسين ، وقد سمى الله ـ عزّ وجلّ ـ مكة بخمسة أسماء : مكة ، وبكة ، والبلد ، والقرية ، وأم القرى ، أما مكة فقال ـ عزّ وجلّ :
{ وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة } الفتح 24 .
وأما بكة فقد ذكرها الله تعلى في قوله :
{ إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهديً للعالمين } آل عمران : 96
وأما تسميتها بالبلد ، فقد قال تعالى :
{ لا أقسم بهذا البلد } البلد : 1
يعني مكة ، والبلد في اللغة صدر القرى ، وأما تسميتها بالقرية ، فقال تعالى :
{ وضرب الله مثلاً قريةً كانت ءامنة مطمئنة } النحل 112
والقرية تجمع عدداً من كبيراً من الناس وهو اسم مأخوذ من الجمع : يقال قريت الماء في الحوض أي جمعته فيه . وأما تسميتها أم القرى فقال تعالى :
{ ولتنذر أم القرى } الأنعام 92 يعني مكة .
أفضلية مكة
الأحاديث التي تبين فضل مكة ومكانتها عند الله تعالى وعند رسوله كثيرة ، ومن هذه الأحاديث ، حديث عبد الله بن عدي بن الحمراء ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بمكة ـ وهو على راحلته بالحَزْوة ـ :
" والله إنك لخير أرض الله ، وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أُخرجت منك لما خرجت .
وهذا ـ حديث ابن الحمراء ـ أصح الأحاديث الواردة في الباب ، وهو حجة القائلين بأفضلية مكة على غيرها من الأماكن .
ويكفي مكة فضلاً أن الصلاة في المسجد الحرام يضاعف أجرها أضعافاً كثيرة ، فعن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة " .
فإذا حسبنا فضل صلاة واحدة في المسجد الحرام علىمقتضى حديث تفضيل الصلاة فيه على غيره بمائة ألف تبلغ الصلاة الواحدة في المسجد الحرام ما يصلى في خمس وخمسين سنة وستة أشهر وعشرين ليلة ، وصلاة يوم وليلة ـ أي خمس صلوات ـ تبلغ صلوات مائتين وسبع وسبعين سنة وتسعة أشهر وعشر ليال .
وفي الحديث مضاعفة أجر الصلاة ما يقتضي مضاعفة كل حسنة بمائة ألف . قال المحب الطبري : إن فيما تقدم من أحاديث مضاعفة ثواب الصلاة والصوم دليل اطراد التضعيف في جميع الحسنات إلحاقاً بهما ، وقد قال الحسن البصري : صوم يوم بمكة بمائة ألف يوم ، وصدقة درهم بمائة ألف ، وكل حسنة بمائة ألف .
ويشترط في مضاعفة الأجر شرطان : الإخلاص لله في العمل ، والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم .
وعلى المسلم تجنب المعصية في مكة ، فإنه كما تضاعف الحسنات تضاعف السيئات . قال مجاهد : تُضاعف السيئات بمكة كما تُضاعف الحسنات .
وسئل أحمد بن حنبل : هل تكتب السيئة أكثر من واحدة ؟ قال : لا ، إلا بمكة لتعظيم البلد .
المُجاورة بمكة
المجاورة بمكة مستحبة لما فيها من تضاعف الحسنات والطاعات ، وقد جاور بها ممن يقتدي به من سلف الأمة خلائق لا يُحصون . ومن أكبر الأدلة على استحباب مجاورتها ـ تمني النبي صلى الله عليه وسلم سكناها . وتمنى بلال العود إلى مكة .
وصف الكعبة المشرفة وتاريخ بنائها وعمارتها
قال الله تعالى :
{ جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس } . المائدة 97
الكعبة : بيت الله الحرام في وسط المسجد ، ووجه تسميتها بالكعبة هو ماروى الأزرقي فعن أبي نجيح قال : إنما سميت الكعبة لأنها مكعّبة على خلقة الكعب ، فسُميت لكونها مربعة ، وكذا قال عكرمة ومجاهد ، ويقال : بُرد مكعب إذا طُوي مربعاً .
وقيل : سميت الكعبة لعلوها ونتئها .
وتُسمّى بالبيت العتيق أيضاً ، لأن الله تعالى أعتقه من الجبابرة ، روى عبد الله الزبير ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إنما سمي البيت العتيق لأنه لم يظهر عليه جبار.
بناء الكعبة
بنيت الكعبة أكثر من مرة ، والمشهور من عدد بنائها خمس :
الأول : بناء الملائكة ، والثاني : بناء آدم عليه السلام ، والثالث : بناء إبراهيم عليه السلام والرابع : بناء قريش في الجاهلية وحضره النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمس وعشرين سنة ، والخامس : بناء ابن الزبير .
بناء إبراهيم وإسماعيل للكعبة
عندما ولد إسماعيل لهاجر ، اشتدت غيرة سارة منها ، وطلبت من الخليل أن يغيب وجهها عنها ، فأوحى الله تبارك وتعالى إلى إبراهيم أن يخرجها وابنها إلى مكة المشرفة فذهب إبراهيم عليه السلام بها وبولدها ، فسار بهما حتى وضعها حيث مكة اليوم .
وكان إبراهيم بعد أن ترك هاجر وابنها يزورهما ويتفقد أحوالهما ، وفي إحدى زياراته وجد إسماعيل يبري نبلاً له تحت دوحة من زمزم ، فلما رآه قام إليه ، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد ثم قال : يا إسماعيل ، إن الله أمرن بأمر ، قال : فاصنع ما أمرك به ربك ، قال : وتعينني ؟ قال وأعينك ، قال : فإن الله أمرني أن أبني ههنا بيتاً ـ وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها ـ فعند ذلك رفعا القواعد من البيت ، وجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني ، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر ( المقام ) فوضعه له ، فقام عليه وهو يبني ، وإسماعيل يناوله الحجارة ، وهما يقولان :
{ ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم } . البقرة : 127
ويدوران حول البيت .
بناء قريش الكعبة
قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم بقليل كانت الكعبة رضماً ، وارتفاعها فوق القامة ، وقد قام نفر بسرقة كنز الكعبة ، وكان في بئر في جوفها ، فأرادت قريش رفعها وتسقيفها ، وكان البحر قد رمى بسفنية إلى جدة لرجل من تُجار الروم ، فتحطمت فأخذوا خشبها فأعدوه لتسقيفها ، ثم إن الناس هابوا هدمها ، فبدأ الوليد ابن المغيرة بالهدم فلما لم يصبه شيء هدم الناس معه .
النبي صلى الله عليه وسلم يضع الحجر
ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها كل قبيلة تجمع علىحدة ، ثم بنوها حتى بلغ البنيان موضع الركن فاختصموا فيه ، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى ، حتى تحاوزوا وتخالفوا ، وأعدو للقتال ، فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمساً ، ثم إنهم اجتمعوا في المسجد ، وتشاوروا وتناصفوا ، فزعم بعض أهل الرواية أن أبا أمية ابن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، وكان عامئذٍ أسنَّ قريش كلها . قال : يا معشر قريش ، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه ، ففعلوا ، فكان أول داخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رأوه قالوا : هذا الأمين ، رضينا هذا محمد ، فلما انتهى إليهم ، وأخبروه الخبر ، قال : هَلُمّ إلىّ ثوباً ، فأتي به ، فأخذ الركن فوضعه فيه بيده ثم قال : لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ، ثم ارفعوه جميعاً ، ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه ، وضعه هو بيده ثم بُني عليه .
بناء إبراهيم بن الزبير الكعبة
لما أبطأ عبد الله بن الزبير عن بيعة يزيد بن معاوية وتخلف وخشي منهم ، لحق بمكة ليمتنع بالحرم ، وجمع مواليه ، وجعل يظهر عيب يزيد ، ويهاجم بني أمية ، فبلغ ذلك يزيد ، فقرر إرسال جيش إلى عبد الله ليأتوا به مغلولاً ، وبينما هو يعد الجيوش ، إذ أتى يزيد خبر أهل المدينة وما فعلوا بعامله ، ومن كان معه بالمدينة من بني أمية وإخراجهم إياهم منها إلا من كان من ولد عثمان ابن عفان ، فأرسل يزيد جشاً لقتال أهل المدينة ، فلما ظفر بهم ودخلها ، مضى الجيش إلى مكة بقيادة الحصين بن نمير ، فقاتل ابن الزبير بها أياماً ، وجمع ابن الزبير أصحابه ، فتحصَّن بهم في المسجد الحرام ، وحول الكعبة ، ونتيجة لكثرة الخيام حول الكعبة احترقت إحدى الخيام ، وكان في ذلك اليوم رياح شديدة ، والكعبة يومئذ مبنية بناء قريش ، مِدْمَاك من ساج ، ومِدمْاك من حجارة من أسفلها إلى أعلاها ، وعليها الكسوة ، فطارت الرياح بلَهَب النار فاحترقت كسوة الكعبة ، واحترق الساج الذي بين البناء ، وكان احتراقها يوم السبت لثالث ليال خلون من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين ، فضعفت جُدران الكعبة ، حتى إنها لتنقض من أعلاها إلى أسفلها ، وتقع الحمامة عليها فتتناثر حجارتها ، ففزع لذلك أهل مكة وأهل الشام جميعاً . والحصين بن نمير محاصر ابن الزبير ، فأرسل ابن الزبير رجالاً من أهل مكة من قريش وغيرهم ، وقالوا لحصين : إن يزيد الذي رفض ابن الزبير مبايعته قد توفي ـ وكان توفي بعد حريق الكعبة بسبعة وعشرين يوماً ـ فعلى ماذا نقاتل ؟ ارجع إلى الشام ، حتى تنظر ماذا يجتمع عليه رأي صاحبك ـ يعنون معاوية بن يزيد ـ وهل يجمع الناس عليه ؟ فلم يزالوا حتى لأن لهم ، ولم يزالوا به حتى رجع إلى الشام ، فلما أدبر جيش الحصين بن نمير ، وكان خروجه من مكة لخمس ليالٍ خلون من ربيع الآخر سنة أربع وستين ، دعا ابن الزبير وجوه الناس وأشرافهم ، وشاورهم في هدم الكعبة ، فأشار عليه ناس غير كثير بهدمها ، وأبى أكثر الناس هدمها ، وكان أشدهم عليه إباء عبد الله بن عباس وقال له : دعها على ما أقرها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني أخشى أن يأتي من بعدك من يهدمها ، فلا تزال تهدم وتبنى فيتهاون الناس في حرمتها ولكن ارفعها .
فقال ابن الزبير : والله! ما يرضى أحدكم أن يرقع بيت أبيه وأمه ، فكيف أرقع بيت الله سبحانه وتعالى وأنا أنظر إليه ينقض من أعلاه إلى أسفله ، حتى إن الحمام ليقع عليه فتتناثر حجارته .
فأقام ابن الزبير أياماً يشاور وينطر ثم أجمع على هدمها ، وكان يجب أن يكون هو الذي يرُدُّها على ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على قواعد إسماعيل ، ففي الصحيحين من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لها : " ألم تري أن قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم ؟ " فقالت : يا رسول الله ، ألا ترُدُّها على قواعد إبراهيم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت " .
فقال ابن عمر : ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر إلا أن البيت لم يُتَمَّمْ على قواعد إبراهيم .
قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ : فقلت له : ما شأن بابها مرتفعاً ؟ قال : " فعل ذلك قوُمك ليُدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا " .
وفي حديث : " لولا أن قومك حديث عهدهم بكفر لنقَضْت الكعبة وجعلت لها بابين : باب يدخل منه الناس وباب يخرجون منه " ففعله ابن الزبير فقد هدم ابن الزبير الكعبة وبنى على أساس إبراهيم عليه السلام وكانت قريش قد قصرت عن ذلك ، وأدخل الحِجر في البيت ، وجعل لها بابين شرقياً وغربياً ، فلما فرغ ابن الزبير من بناء الكعبة ، خلَّفها من داخلها وخارجها من أعلاها إلى أسفلها ، وكساها القباطي وقال : من كان لي عليه طاعة فليخرج فليعتمر من التنعيم ، فمن قدر أن ينحر بدنة فليفعل ، ومن لم يقدر على بَدَنة فليذبح شاة ، وخرج ماشياً وخرج الناس معه مشاة حتى اعتمروا من التنعيم شكراً لله سبحانه ، ولم يُر يومٌ كان أكثر عتيقاً ، ولا أكثر بَدَنة منحورة ، ولا شاة مذبوحة ، ولا صدقة أكثر من ذلك اليوم .
ونحر ابن الزبير مائة بدنة ، فلما طاف بالكعبة استلم الأركان الأربعة جميعاً وقال : إنما كان ترك استلام هذين الركنين ـ الشامي والغربي ـ لأن البيت لم يكن تاماً . فلم يزل البيت على بناء ابن الزبير ـ إذا طاف طائف استلم الأركان جميعاً ـ ويدخل البيت من هذا الباب ، ويخرج من الباب الغربي ، وأبوابه لاصقة بالأرض حتى قُتِل ابن الزبير رحمه الله تعالى ، فدخل الحجاج مكة ، وكتب إلى عبد الملك بن مروان يخبره بما زاده ابن الزبير في البيت ، فكتب إليه عبد الملك بن مروان : أن سُدّ بابها الغربي الذي كان فتح ابن الزبير ، واهْدمْ ما كان زاد فيها من الحجر ، فهدم الحجاج منها ستة أذرع وشبراً مما يلي الحِجر ، وألبسها به على ما كانت عليه وترك سائرها لم يحرك منها شيئاً . ثم إن الخليفة علم بحديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ فندم عليه لكنه تركه ولم يزد عليه شيئاً ، والقصة مذكورة في صحيح مسلم .
فلما كانت خلافة الوليد بن عبد الملك ، بعث إلى واليه على مكة خالد القَسري بستة وثلاثين ألف دينار ، فضرب منها على باب الكعبة صفاحاً من ذهب وعلى ميزاب الكعبة ، وعلى الأساطين التي في بطنها وعلى الأركان في جوفها ، فيكون الوليدُ أولً من ذهّب البيت في الإسلام.
وقعة أصحاب الفيل
في عهد عبد المطلب وَقَعَ حدث عظيم خلَّده القرآنُ وهو وقعة أصحاب الفيل ، ذلك أن أبرهة الحبشي الذي كان يحكم اليمن ، بنى له كنيسة سمّاها ( القُلَّيس ) وأراد أن يصرف إليها حج العرب من الكعبة ، فغضب العرب لذلك ، وأتى رجل كناني فأحدث فيها ، فلما علم أبرهة بذلك غضب وأقسم ليسيرن إلى البيت فيهدمه ، ثمّ أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت ، ثم سار ومعه الفيل .
فلما نزل أبرهة المُغَمَّس ، بعث رجلاً من الحبشة يقال له الأسود بن مقصود ، على خيل له حتى انتهى إلى مكة ، فساق إليه أموال أهل تهامة من قريش وغيرهم ، وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم ، وهو يؤمئذ كبير قريش وسيدها ، فهمت قريش وكنانة و هذيل ، ومن كان بذلك الحرم بقتاله ، ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به ، فتركوا ذلك .
وبعث أبرهة حنُاطة الحميري إلى مكة وقال له : سل عن سيد أهل هذا البلد وشريفها ثم قل له : إن الملك يقول لك : إني لم آت لحربكم ، إنما جئت لهدم هذا البيت ، فإن لم تعرضوا دونه بحرب ، فلا حاجة لي بدمائكم ، فإن هو لم يرد حربي فأتني به .
سورة الفيل
ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل (1) ألم يجعل كيدهم في تضليل (2) وأرسل عليهم طيراً أبابيل (3) ترميهم بحجارة من سجيل (4) فجعلهم كعصفٍ مأكول (5) .
فلما دخل حُناطة مكة ، سأل عن سيد قريش وشريفها فقيل له : عبد المطلب بن هاشم ، فجاءه فقال له ما أمره به أبرهة ، فقال له عبد المطلب : والله ما نريد حربه وما لنا بذلك طاقة ، هذا بيت الله الحرام ، وبيت خليله إبراهيم ـ عليه السلام ـ فإن لم يمنعه منه فهو بيته وحرمه ، وإن يُخَلِّ بينه وبينه فوالله ما عندنا دفعٌ عنه ، فقال له حناطة : فانطلق معي إليه ، فإنه أمرني أن آتيه بك .
وكان عبد المطلب أوسم الناس وأجملهم وأعظمهم ، فلما رآه أبرهة أجّله وأعظمه وأكرمه عن أن يُجلسه تحته ، وكره أن تراه الحبشة يجلس معه على سرير ملكه ، فنزل أبرهة عن سريره فجلس على بساطه ، وأجلسه معه عليه إلى جنبه ثم قال لترجمانه : قل لك : حاجتك ؟ فقال له ذلك الترجمان . فقال : حاجتي أن يردّ عليّ الملك مائتي بعير أصابها لي ، فلما قال له ذلك قال أبرهة لترجمانه : قل له : قد كنتَ أعجَبْتني حين رأيتك ، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني ، أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك ، وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه ، لا تكلمني فيه ؟! .
قال له عبد المطلب : إني أنا ربّ الإبل وإن للبيت رباً سيمنعه ، قال : ما كان ليمتنع مني ، قال :أنت وذاك .
رد أبرهة على عبد المطلب إبله ، وانصرف عبد المطلب إلى قريش وأمرهم بالخروج من مكة ولتحرز في شعف الجبال والشعاب تخوفاً عليهم من معرة الجيش .
ثم قام عبد المطلب ، فأخذ بحلقة باب الكعبة ، وقام معه نَفَر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده
فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة ، وهيأ فِيلَه وعبَّى جيشه ، وكان اسم الفيل محموداً ، وأبرهة مجمع لهدم البيت ، ثم الانصراف إلى اليمن ، فلما وجهوا الفيل إلى مكة برك الفيل ، فضربوه ليقوم فأبى ، فوجهوه راجعاً إلى اليمن فقام يهرول ، ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك ، ووجهوه إلى مكة فبرك ، فأرسل الله تعالى عليهم طيراً من البحر ، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها ، حجر في منقاره ، وحجران في رجليه ، أمثال الحمص والعدس ، لا يصيب منهم أحداً إلا هلك ، وأصيب أبرهة في جسده ، وخرجوا به معهم تسقط أنامله أنملة أنملة حتى قدموا به صنعاء ، وهو مثل فرخ الطير فمات هناك .
وقد كان لحادثة الفيل أثر كبير جداً على قريش وماكنتها بين قبائل العرب ، فلما رد الله الحبشة عن مكة ، وأصابهم ما أصابهم من النقمة ، عظَّمت العربُ قريشاً . وقالوا : أهلُ الله ، قاتل الله عنهم ، فكفاهم مؤونة عدوهم .
كما أن الحدث رفع مكانة عبد المطلب ورفع ذكره وعظَّم شأنَه بين العرب جميعاً ، فقد تصرف بذكاء وحسن تدبير وجنَّب قومه أخطاراً جساماً .
هدم مكة في آخر الزمان
جاء في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يؤكد أن الكعبة سوف تخرّب في آخر الزمان، فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يُخرِّب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة " .
وعن علي ـ رضي الله عنه ـ قال : استكثروا من الطواف بهذا البيت ما استطعتم من قبل أن يُحال بينكم وبينه ، فكأني أنظر إليه أصعل ، أصمع ، يهدمها بمسحاته .
وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كأني به أسود أفحَج يقلعها حجراً حجراً .
وعن سعيد بن سمعان ، أنه سمع أبا هريرة ـ رضي الله عنه ـ يحدّث أبا قتادة ـ رضي الله عنه ـ قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يُبايع لرجل ما بين الركن والمقام ، ولن يستحِلَّ البيتَ إلا أهلُه ، فإذا استحلُّوه فلاتسأل عن هلكة العرب ، ثمّ تأتي الحبشة فيخربونه خراباً لا يعمر بعده أبداً ، وهم الذي يستخرجون كنزه " .
وهذا حديث لا يتناقض مع حديث عائشة ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " يغزو جيش الكعبة فإذا كانوا ببيداء من الأرضِ يُخسَفُ بأولهم وآخرهم " . يقول ابن حجر في كتابه (فتح الباري ) باب هدم الكعبة : إن فيه إشارة إلى أن غزو الكعبة سيقع ، فمرة يهلكهم الله قبل والوصول إليها ،و أخرى يمكّنهم . والظاهر أن غزو الذين يخربونه متأخر عن الأولين .
ولا يقال : إن الله حبس عن مكة الفيل ولم يُمكِّن أصحابه من تخريب الكعبة ، ولم تكن إذ ذاك قبلة ، فكيف يسلط عليها الحبشة بعد أن صارت قبلة للمسلمين ؟ لأن ذلك محمول على أنه يقع في آخر الزمان ، قرب قيام الساعة ، حيث لا يبقى في الأرض أحد يقول : الله ، الله ، كما ثبت في صحيح مسلم : " لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض : الله الله " . ولهذا وقع في رواية سعيد بن سمعان : " لا يعمر بعده أبداً "
كسوة الكعبة
إن تاريخ كسوة الكعبة جزء لا يتجزأ من تاريخ الكعبة نفسها ، والاهتمام بكسوة الكعبة يكعس مدى اهتمام المسلمين بها وتقديسها وتشريفها ويبين مكانتها الرفيعة في نفوسهم .
الكسوة قبل الإسلام :
قال محمد بن إسحاق : بلغني عن غير واحد من أهل العلم أن أول من كسا الكعبة كسوة كاملة تُبَّعٌ ـ وهو أسعد الحِميري ـ أُرِيَ في النوم أنه يكسوها فكساها الأنطاع ، ثمّ أُرِيَ أن يكسوها فكساها الوصايل ثياب حبرة من عصب اليمن . وبعد تُبَّع كساها كثيرون في الجاهلية ، وكان ذلك يعتبر واجباً دينياً ، وكان مباحاً لمن أراد أن يكسو الكعبة أن يكسوها متى شاء ، ومن أي نوع شاء ، وكانت الكعبة تكسى بأنواع مختلفة من الكسى منها : الخصف ، والمعافر ، والملاء ، والوصائل ، والعصب .
وكانت الكُسى توضع على الكعبة فوق بعض فإذا ثقلت أو بليت أزيلت عنها ، وقسمت أو دفنت .
وكانت قريش في الجاهلية تُرافِد في كسوة الكعبة ، فيضربون ذلك على القبائل بقدر احتمالها منع عهد قصي بن كلاب ، حتى نشأ أبو ربيعة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، وكان يختلف إلى اليمن يتجر بها ، فأثرى في المال ، فقال لقريش : أن أكسو وحدي الكعبة ، وجميع قريش سنة ، فكان يفعل ذلك حتى مات ، يأتي بالحبرة الجيدة من الجَند فيكسوها الكعبة ، فسمته قريش العدل ، لأنه عدل فعله بفعل قريش كلِّها ، فسموه العدل ويقال لولده : بنو العدل .
وأول عربية كست الكعبة الحرير والديباج : نُتَيلة بنت جناب ، أم العباس بن عبد المطلب .
كسوة الكعبة في الإسلام :
لم يكسُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكعبة قبل الفتح ، لأن الكفار ما كانوا يسمحون بذلك ، وعندما تَّم فتح مكة لم يغير رسول الله صلى الله عليه وسلم كسوة الكعبة حتى احترقت على يد امرأة تريد تبخيرها ، فكساها الثياب اليمانية ، ثم كساها أبو بكر وعمر وعثمان القُباطي .
وثبت أن معاوية بن أبي سفيان كان يكسو الكعبة مرتين سنوياً ، بالديباج يوم عاشوراء ، وبالقباطي في آخر شهر رمضان ، ثم كساها يزيد بن معاوية وابن الزبير وعبد الملك بن مروان بالديباج ، وكانت الكعبة تكسى في كل سنة كستوتين : كسوة ديباج ، وكسوة قباطي ، فأما الديباج فتكساه يوم التروية فيعلَّق القميص ، وأما الإزار وهو من الديباج أيضاً فيعلق يوم عاشوراء بعد ذهاب الحاج لئلا يخرقوه . ولا تزال كسوة الديباج عليها إلي يوم سبع وعشرين من رمضان فتكسى القباطي للفطر .
وفي عهد المأمون أصبحت الكعبة تكسى ثلاث كِسى : الديباج الأحمر يوم التروية ، والقباطي يوم هلال رجب ، والديباج الأبيض يوم سبعة وعشرين من رمضان ، ولما عرف المأمون أن الديباج الأبيض ينخرق أيام الحج جعل كسوة رابعة بيضاء يوم التروية ، ثم كساها الناصر العباسي ثوباً أخضر ثم ثوباً أسود ومنذ ذلك اليوم احفتظ باللون الأسود .
وأول من كسا الكعبة من الملوك بعد انقضاء دولة بني العباس الملك المظفّر صاحب اليمن سنة ( 659هـ ) واستمر يكسوها عدة سنين مع ملوك مصر . وأول حاكم مصري سعى إلى كسوتها بعد العباسيين الملك الظافر بيبرس البُندُقْاري سنة ( 661هـ ) وفي عام ( 751هـ ) أوقف الملك الصالح إسماعيل بن الملك الناصر محمد بن قلاوون ملك مصر وقفاً خاصاً لكسوة الكعبة : الخارجية السوداء ، مرة كل سنة ، وكسوة خضراء للحجرة النبوية الشريفة مرة كل خمس سنوات ، ولكن الخديوي " محمد علي " حل ذلك الوقف في أوائل القرن الثالث عشر الهجري ، وأصبحت الكسوة تصنع على نفقة الحكومة ، اختصت تركيا ومن يتولى السلطة من آل عثمان بكسوة الكعبة الداخلية .
وفي عام ( 810هـ ) أُحدثت الستارة المنقوشة التي توضع على واجهة الكعبة ، وهي المسماة " البرقع " ثم انقطع ما بين سنتي ( 816 و 818 هـ * ثّ/ استؤنفت عام ( 819هـ ) حتى الآن.
الكسوة في العهد السعودي :
اهتمَّ الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود ـ رحمه الله ـ برعاية الحرمين الشريفين ، وانطلاقاً من هذا الاهتمام أمر الملك سعود ابن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ بإنشاء دار خاصة لعمل كسوة الكعبة المعظمة في مكة المكرمة ، وتم توفير كل ما يحتاج إلي العمل .
ورغبة في إتقان العمل وإظهاره بالصورة التي تتلاءم مع قدسية الكعبة المشرفة صدر أمر جلالة المغفور له الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود ـ رحمه الله عام ( 1382هـ ) بتجديد مصنع الكسوة وفي عام ( 1397هـ ) تمَّ افتتاح المبنى الجديد بـ ( أم الجود ) في مكة المكرمة ، وزود بآلات حديثه لتحضير النسيج ، وأُحدث قسم النسيج الآلي مع الإبقاء على أسلوب الإنتاج اليدوي ، لما له من قيمة فنية عالية ، وما زال المصنع يواكب عجلة التطور ، ويحافظ على التراث اليدوي العريق ، لينتج كسوة الكعبة في أبهى صورها .
مقام إبراهيم وفضله
وهو الحجر الذي وقف عليه إبراهيم ـ عليه السلام ـ عند بناء الكعبة ، ولما كان هذا الأمر من أحبّ الأعمال إلى الله تعالى جعل أثر قدمية عليه ذكرى للمؤمنين من ذريته وعبرةً لهم ولغيرهم . وقد صحَّ عن سعيد بن جبير أنه قال : الحجر مقام إبراهيم ، ليّنه الله ، قد جعله رحمة ، فكان يقوم عليه ، ويُناولِ له إسماعيل الحجارة .
وعن أنس قال :قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وافقت ربي في ثلاث قلت : يا رسول الله ، لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى ، فنزلت { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } البقرة : 125 الحديث .
وأخرج الطبري في تفسيره من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في هذه الآية : إنما أمروا أن يصلوا عنده ، ولم يؤمروا بمسحه .
وكان المقام من عهد إبراهيم لزق البيت إلى أن أخره عمر ـ رضي الله عنه ـ إلى المكان الذي هو فيه الآن . أخرجه عبد الرزاق في مصنفه بسند صحيح عن عطاء وغيره وعن مجاهد أيضاً ، وأخرج البيهقي عن عائشة مثله بسند قوي ولفظه : إن المقام كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وفي زمن أبي بكر ملتصقاً بالبيت ثم أخّره عمر ، ولم تنكر الصحابة فعل عمر ولا من جاء بعدهم فصار إجماعاً .
وكان عمر رأى أن إبقاءه يلزم منه التضييق على الطائفين أو على المصلين فوضعه في مكان يرتفع به الحرج ، وتهيأ له ذلك لأنه الذي كان أشار باتخاذه مصلى .
الحِجر
يدل كثير من الأحاديث على أن الحِجر من البيت ، فيدخل تحت قوله : { وليطوفوا بالبيت العتيق } الحج : 29
فعلى هذا يلزم الطواف بالحجر ، فإن تَركه في طوافه لم يجزئه . والحِجر هو المكان الذي أنزل فيه إبراهيم ـ عليه السلام ـ زوجته هاجر وابنه إسماعيل عندما قدم بهما إلى مكة ، وأمر هاجر أن تتخذ فيه عريشاً ، وقد أدخلت قريش جزءاً من الكعبة في الحِجر لقصر النفقة التي أعدوها لعمارتها . وعندما تمكن عبد الله بن الزبير من مكة هدم الكعبة وعمَّرها وأدخل فيها ما أخرجته قريش في الحجر ، ولكن الحجاج ـ بعد مقتل ابن الزبير ـ أعاده إلى الحجر وبنى الجدار على أساس قريش وهو باقٍ إلى الآن ، فصار بعض الحجر من الكعبة وبعضه ليس منها ، ومن الحجة على ذلك حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ ونص الحديث : " لولا أن قومك حديث عهد بشرك ـ أو بجاهلية ـ لهدمت الكعبة ، فألزقها بالأرض وجعلت لها بابين : باباً شرقياً ، وباباً غربياً وزدت فيها من الحجر ستة أذرع ، فإن قريشاً اقتصرتها حين بنت الكعبة " . قال ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ لئن كانت عائشة ـ رضي الله ـ سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك استلام الركنين اللذين يليان الحِجر إلا أن البيت لم يُتمّم على قواعد إبراهيم .
وذكر كثير من العلماء أن إسماعيل ـ عليه السلام ـ دُفِن في الحِجْر عند قبر أمه هاجر . والروايات الواردة في هذا الباب كلها ضعيفة ، لا يصحّ منها شيء ، ويدلّ على نكارتها أن كبار الصحابة شهدوا بناء قريش وحفر أساس الكعبة آنذاك ، ولم يحدّث أحد منهم أنه رأى أثر قبْر ، ولو كان ذلك ثابتاً لما جاز لنا أن نطأ موضع القبر لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن وطء القبور والقعود عليها .
وفي أكثر من حديث أن من دخل الحجر كأنما دخل البيت ، عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : كنت أحِبُّ أن أدخل البيت فأصلي فيه ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فأدخلني الحجر فقال : " إذا أرَدت دخول البيت فصلي هاهنا ، فإنما هو قطعة من البيت ، ولكن قومك اقتصروا حيث بنوه .
وقد صح عن ابن عباس أنه قال : صلوا في مصلى الأخيار واشربوا من شراب الأبرار ، قيل لابن عباس : ما مصلى الأخيار ؟ قال : تحت الميزاب . قيل : وما شراب الأبرار ؟ قال : ماء زمزم .
وهذا يدل على فضل الصلاة في الحجر.
فضل الحجر الأسود
هناك كثير من الأحاديث التي تؤكد فضل الحجر الأسود والحض على استلامه وتقبيله في الطواف ، ويكفيه فضلاً أنْ مسته يد النبي صلى الله عليه وسلم وقبَّله فمه الشريف .
ففي الصحيحين : " أن عمر بن الخطاب قبّل الحجر الأسود وقال : إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ، ولولا أني رأيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يُقبِّلك ما قبَّلتك " .
وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نزل الحجَر الأسود من الجنَّة وهو أشد بياضاً من اللبن ، فسودته خطايا بني آدم " .
وعن ابن عباس أيضاً قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجر : " والله ليَبْعَثَّنهُ الله يوم القيامة له عينان يُبصرُ بهما ولِسانٌ ينطق به يشهد على من استلمه بحق .
وقال مسافع بن شيبة : سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص قال : أشهد بالله ثلاثاً ـ وضع أضبعيه على أذنيه ـ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الحجر والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنَّنة طمَس الله نورهما ، ولولا أن الله طمس نورهما لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب . وبنى إبراهيم الكعبة وبقي حجر ، فذهب الغلام يبقي شيئاً ، فقال إ[راهيم : ابغني حجراً كما آمرك . قال : فانطلق الغلام يليتمس له حجراً ، فأتاه به فوجده قد ركب الحجر الأسود في مكانه ، فقال : يا أَبهْ ، من أتاك بهذا الحجر ؟ فقال : أتاني به من لم ييتَّكل على بنائك . جاء به جبريل ـ عليه السلام ـ من السماء .
وعن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنه استلم الحَجر ، ثم قَبَّل يده ، وقال : ما تركته منذ رأيت رسول الله يُقبِّله .
بئر زمزم
وقصة حفرها وتدفقها خيراً وبركةَ معروفة مشهورة .
جاء إبراهيم بأم إسماعيل وإسماعيل ، وهي ترضعه حتى وضعها عند دوحة ، فوق زمزم ، وليس بمكة زرع لأحد ، وليس بها ماء ، ووضع عندهما جراباً فيه تمر وشناً فيه ماء ، ثم قفا منطلقاً فتبعته أم إسماعيل فقالت : أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء ؟ فقالت له ذلك مراراً ، وجعل لا يلتفت إليها .
فقالت له : آلله أمرك بهذا ؟
قال : نعم
قالت إذاً لا يضيعنا الله .
ثم رجعَتْ فانطلق إبراهيم ، حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه ، استقبل بوجهه البيت ، ثم دعاء بهؤلاء الدعوات ورفع يديه وقال :
{ ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع ، عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون } . إبراهيم : 37
وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء ، حتى إذا نفد وعطش ابنها ، وجعلت تنظر إليه يتلوى ـ أو قال : يتلبَّط ـ فانطلقت كراهية أن تنظر إليه ، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها ، فقامت عليه فاستقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً، فلم تر أحداً ، فان هبطت من الصفا ، حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ، ثم أتت المروة فقامت عليها ، ونظرت هل ترى أحداً فلم تر أحداً ، ففعلت ذلك سبع مرات .
قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ولذلك سعى الناس بينهما " فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت : صه تريد نفسها ، ثم تسمَّعت فسمعت أيضاً .
فقال : قد أسمعْتَ إن كان عندك غواث ، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم ، فبحث بعقبه أو قال : بجناحه حتى أظهر الماء ، فجعلت تحوضه وتقول بيدها هكذا ، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يغور بعدما تغرف قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لو تركت زمزم أو قال : لو لم تغرف من الماء فكانت زمزم عيناً معيناً " فشربت وأرضعت ولدها.
فقال لها الملك : لا تخافوا الضيعة ، فإن هاهنا بيتَ الله ـ عز وجل ـ يبنيه هذا الغلام وأبوه ، وإن الله لا يضيع أهله .
اندثار زمزم :
ثم إن زمزم قد اندثرت وزال أثرها بمرور الأيام وتتابع الليالي . يقول ياقوت الحموي في معجم البلدان : وتطاولت الأيام على ذلك حتى غوَّرت تلك السيول وعفَتْها الأمطار ، فلم يبق لزمزم أثر يعرف . والصحيح أن جرهم هم الذين دفنوها حينما تركوا مكة وذهبوا عنها .
عبد المطلب يعيد حفر زمزم :
وظلت زمزم مدثورة مجهولة المكان حتى ولي عبد المطلب سقاية البيت ورفادته ، فأتي في منامه ، فقيل له : احفر طيبة .
وقال : وما طيبة ؟
فأتي من الغد فقيل له : احفر برة .
قال : وما برة ؟
فأُتي من الغد فقيل له : احفر المضنونة .
فقال : وما المضنونة ؟
فقيل له : احفر زمزم .
قال : وما زمزم ؟
قال : لا تزح ولا تذم ، تسقي الحجيج الأعظم وهي بين الفرث والدم ، عند نقرة الغراب الأعصم ، وهي شرف لك ولولدك .
وكان الغراب الأعصم لا يبرح عند الذبائح مكان الفرث والدم ، فغدا عبد المطلب بِمعولة ومسحاة ومعه ابنه الحارث ، وليس له يؤمئذ ولد غيره ، فجعل يحفر ثلاثة أيام حتى بدا له الطوى ، فكبر وقال : هذا طوى إسماعيل .
فقالت له قريش : أشركنا فيه ، فقال : ما أنا بفاعل ، شيء خُصِّصتُ به دونكم ، فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه ، فقالوا : كاهنة بني سعد .
فخرجوا إليها فعطشوا في الطريق حتى أيقنوا الموت .
فقال عبد المطلب : والله ! إن إلقاءنا بأيدينا هكذا العجز ، ألا نضرب في الأرض فعسى الله أن يرزقنا ماء ، فارتحلوا وقام عبد المطلب إلى راحلته فركبها ، فلما انبعثت به انفجر تحت خُفها عينُ ماءٍ عذْبٍ ، فكبر عبد المطلب ، وكبر أصحابه ، وشربوا جميعاً .
وقالوا له : قد قضى لك علينا الذي سقاك ، فوالله! لا نخاصمك فيها أبداً ، فرجعوا وخلوا بينه وبين زمزم .
أسماؤها :
لزمزم أسماء كثيرة ، وكثرة الأسماء تدل على عظم المسمى ، قيل : إنها سميت زمزم لكثرة مائها ، والزمزمة عند العرب الكثرة والاجتماع ، وقيل : سميت زمزم لأنها زُمت بالتراب لئلا يأخذ الماء يميناً وشمالاً ، ولو تركت لساحت على الأض حتى تملأ كل شيء ، ومن أسمائها غير زمزم : الشبّاعة ، برَّة ، طيبة ، بُشرى ، عَونة ، صافية ، شراب الأبرار ، ومَضنونة ، وهناك أسماء غير هذه .
ماء زمزم وفضله :
جاء كثير من الأحاديث والآثار التي تؤكد أفضيليتها ، ومما يؤكد أفضليتها أن جبريل عندما شق صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم غسل قلبه بماء زمزم ، فلو كان هناك ماء أفضل منه لغسل به قبل المصطفى صلى الله عليه وسلم .
وفي حديث آخر عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل ـ عليه السلام ـ وهو يلعب مع الصبيان فأخذه فصرعه ، فاستخرج القلب ، ثمّ شق القلب ، فاستخرج منه علَقْةً فقال : هذا حظ الشيطان منك ، ثم غسله بماء زمزم ، ثمّ لأَمَهُ ثم أعاده في مكانة ، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه ـ يعني ظِئرَه ـ فقالوا : إن محمداً قد قُتل ، فاستقبلوه وهو منتقع لونه . قال أنس ـ رضي الله عنه ـ لقد كنت أرى المخِيط في صدره صلى الله عليه وسلم .
وعن أفضليته يقول ابن عباس عنهما ـ : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم ، وفيه طعام من الطُّعم وشفاء من السُّقم . وشر ماء على وجه الأرض ماء بوادي بَرَهُوت بحضرموت ، عليه كرِجلِ الجراد من الهوامِّ ، يصبح يتدفق ويمسي لا بَلال فيه " . وقال مجاهد : ما رأيت ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أطعم ناساً قطُّ إلا سقاهم من ماء زمزم . وقال أيضاً : كان ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ إذا نزل به ضيفٌ أتحفه من ماء زمزم .
ومن أفضليتها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل التضلّع من مائها براءةً من النفاق . فعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " آية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلّعون من ماء زمزم .
فائدة : ويستحب منه الوضوء ونحوه فعن جابر ـ رضي الله عنه : " أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بسجل من ماء زمزم ، فشرب منه وتوضأ . وليه عند أحمد : " أن النبي صلى الله عليه وسلم رمل ثلاثة أطواف من الحجر إلى الحجر ، وصلى ركعتين ، ثم عاد إلى الحجر ، ثم ذهب إلى زمزم فشرب منها وصب علىرأسه " الحديث .
ماء زمزم شفاء
لقد ثبت بالأحاديث الصحاح أن في ماء زمزم شفاء ، كما ثبت ذلك بالقصص المتواترة ـ قديماً وحديثاً ـ التي شفَى الله فيها مرضى من عللٍ ، بعضُها أعجز الطب ويئس من شفائه الأطباء ، فعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم ، وفيه طعام من الطُّعم وشفاء من السُّقم " الحديث .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ماء زمزم لما شرب له " فمن شربه استشفاءً شفاه الله تعالى بفضله . قال أبو جمرة : كنت أدفع الناس عن ابن عباس ، فاحتسب أياماً . فقال : ما حبسك ؟ قال : الحمى . قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الحمى من فيح جهنم فأبردوها بماء زمزم " .
وقال قيس بن كُركُم : قلت لابن عباس ـ رضي الله عنهما : ألا تخبرني عن زمزم ؟
قال : لا تُنزح ولا تُذم ، طعام من طُعم ، وشفاء من سُقم ، وخير ماءٍ نعلم .
وهي طعام :
في الحديث : " ماءُ زمزم لما شُرِبَ له " وقد اعتمد عليها أبو ذر شهراً كاملاً لا يدخل بطنه إلا ماء زمزم ، فلم يجد سخْفة الجوع على كبده ، ففي الصحيح من حديث أبي ذر أنه لما أسلم قال : يا رسول الله ، أنا هاهنا من بين ثلاثين ليلة ويوماً ، قال : " من كان يطعمك ؟ " قال : ما كان لي طعام إلا ماء زمزم ، فسمنت حتى تكسرت عُكَن بطني ، وما أجد على كبدي سخفة جوع . قال : إنها مباركة إنها طَعَامُ طُعْم " .
وعن ابن عباس ـ في زمزم ـ قال : كنّا نسميها شباعة ، نعم العون على العيال .
قصص عن شفاء مرضى بماء زمزم :
هناك عشرات بل مئات القصص عن شفاء مرضى من أمراض يئسَ من علاجها الأطباء ، ولكن الله جعل في ماء زمزم شفاءها ، وفيما أودعها من أسرار ، عودة هؤلاء المرضى إلى عالم العافية ، سوف نكتفي بنموذج منها من العصر الحديث .
وهي قصة معروفة معاصرة من زماننا هذا ، وبَطَلتُها ما زالت تعيش بيننا تؤكد القصة وتحكي قدرة الله ، وصدق رسوله إن " ماء زمزم لما شرب له " وإن ماء زمزم شفاء من سقم وطعام من طعم . إنها قصة ( ليلى الحلو ) من المغرب ، أصيبت ليلى بالسرطان ، وكانت غافلة عن ذكر الله ، مغرورة بصحتها وجمالها ، بعد أن علمت بالمرض ذهبت إلى بلجيكا ، فقيل لها : لابد من إزالة الثدي واستعمال أدوية كيماوية تسقط الشعر ، وتظهر لحية على الوجه ، كما تسقط الأظافر والأسنان ، ولكنها رفضت هذا العلاج وطلبت علاجاً خفيفاً وعادت إلى المغرب ، ولكن بعد ستة أشهر شعرت بنقص شديد في الوزن ، وتغير لونها ، وأرهقتها الآلام فتوجهت إلى بلجيكا ، فقال الأطباء لزوجها : إن المرض قد عمَّ وأصيبت الرِّئتان ، وأنه لا دواء لها الآن ، ونصحوه أن يأخذها إلى بلدها لتموت هناك . ولكن زوجها تذكّر شيئاً قد نسيه ، فقد ألهمه الله أن يقوم بزيارة إلى بيت الله الحرام ، فتوجه هو وزوجته إلى هناك ، بكت كثيراً عندما رأت الكعبة ودعت الله ألا يخيب رجاءها ، وأن يحير الأطباء في أمرها ، أخذت ليلى تقرأ كتاب الله ، وتتضلَّعُ من ماء زمزم ، وشَعرت بالراحة والاطمئنان في بيت الله ، فطلبت من زوجها أن يسمح لها بالبقاء في الحرم وعدم الرجوع إلى الفندق ، فاعتكفت هناك ، كان نصفها الأعلى مليئاً بالأورام والكويرات التي تؤكد أن المرض قد عمّ ، نصحها زيملاتها في الحرم أن توالي غسل نصفها الأعلى بماء زمزم ، كانت تخاف أن تلمس أورام جسدها ، ولكنها أخيراً طردت الخوف ، وأخذت تمسح جسدها وثديها الذي كان مملواءاً دماً وصديداً بشيء من ماء زمزم ، وحدث ما لم يكن في الحسبان ، كل الكويرات ذهبت ، ولم يعد هناك ألم ولا صديد ، لقد شفاها الله بما أودع من سرٍّ في ماء زمزم ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال عنه : " فيه طعام من الطعم وشفاء من السقم " .
المُلتزم
والملتزم يقع بن الركن والباب ، فعن مجاهد قال : ما بين الركن والباب الملتزم ومن دعا الله سبحانه وتعالى في الملتزم أجاب الله تعالى دعاءه .
عن عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه كان يلزم ما بين الركن والباب وكان يقول : ما بين الركن والباب يدعى الملتزم ، لا يلزم ما بينهما أحد يسأل الله شيئاًً إلا أعطاه إياه .
ويقول ابن القيم بخصوص وقوفه صلى الله عليه وسلم بالملتزم : فالذي روي عنه أنه فعله يوم الفتح ، ففي سنن أبي داود ، عن عبد الرحمن بن أبي صفوان قال : لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، انطلقت فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرجمن الكعبة هو وأصحابه وقد استلموا الركن من الباب إلى الحطيم ، ووضعوا خدودهم على البيت ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطهم .
وروى أبو داود أيضاً من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال " طفت مع عبد الله ، فلما حاذى دبر الكعبة قلت : ألا تتعوذ ؟
قال : نعوذ بالله من النار .
ثم مضى حتى استلم الحَجَر ، فقام بين الركن والباب ، فوضع صدره ووجهه وذراعيه ، وبسطهما بسطاً وقال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله .
فهذا يحتمل أن يكون في وقت الوداع ، وأن يكون في غيره ولكن قال مجاهد والشافعيُّ بعده وغيرهما : إنه يستحب أن يقف في الملتزم بعد طواف الوداع ويدعو الله سبحانه وتعالى .
وقد ورد في الأحاديث ما يخبر أن كثيراً من الصحابة قد كانوا يلتزمونه ويدعون عنده ، فعن أبي الزبير قال : رأيت عبد الله بن عمر ، وابن عباس ، وعبد الله بن الزبير ـ رضي الله عنهم ـ يلتزمونه . وعن حنظله قال : رأيت طاوساً يستعيذ بين الركن الأسود والباب .
وقال عثمان بن الأسود : رأى مجاهد إنساناً بين الباب والركن ، فضرب منكبه ـ أو قال : ظهره ـ وقال : الزم الزم . قال مروان في حديثه قال مجاهد : يدعى ما بين الركن والباب الملتزم فقلّ إنسان يسأل الله شيئاً ، ويستعيذ من شيء إلا أعطاه .
وعن طارق بن عبد الرحمن قال : طفت مع علي بن الحسين ـ رضي الله عنهما ـ فلما فرغ من اطوافه أرسل إزاره حتى بدا بطنه ، ثم ألصقه ما بين الركن والباب .
غزوة فتح مكة
عندما تم صلح الحديبية ، دخلت خزاعة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ودخلت بنو بكر في عهد قريش ، ولكن رجلاً من بني بكر أصاب رجلاً من خزاعة ، واستعرت نتيجة ذلك الحرب بين الفريقين ، وأمدت قريش بني بكر بالسلاح ، بل حارب بعض القرشيين مع بني بكر مستخفين بظلمة الليل ، وبذلك نقضوا الاتفاق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجاء من خزاعة من يطلب النصر من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمر صلى الله عليه وسلم الناس بالجهاز وأخبرهم أنه سائر إلى مكة .
وقال : " اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نغْبِتها في بلادها " فتجهز الناس .
فلما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير إلى مكة ، كتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إلى قريش يُخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر في السير إليهم ، ثم أعطاه امرأة وجعل هلا جُعلاً على أن تُبَلِّغَه قريشاً ، فجعلته في رأسها ثم فتلت عليه قرونها ، ثم خرجت به ، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بم