الخريطة المفاهيمية للمجتمع المدني
هناك إجماع بين العلماء الاجتماعيين في مختلف البلاد على أن العالم دخل في بداية الألفية التالية في عصر جديد، له ملامح متميزة وقسمات مختلفة عما دار من وقائع وأحداث وما ساد من ظواهر طوال القرن العشرين. وهذا العصر الجديد هو بكل بساطة عصر العولمة. والعولمة ليست مجرد مفهوم جديد يصف ظواهر سياسية واقتصادية مستحدَثة، بقدر ما هي عملية تاريخية من نتاج تراكم طويل في بنية المجتمع العالمي، ربما منذ ظهور النظام الرأسمالي الحديث الذي نشأ في أوروبا في القرن السادس عشر وأخذ يمتد ويتوسع حتى شمل مختلف قارات العالم، وخصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
وقد ساعدت على بروز العولمة، كعملية تاريخية، ثورة الاتصالات الكبرى، التي تتمثل في البث الفضائي بالأقمار الاصطناعية، وكذلك وقبل كل شيء ظهور شبكة الإنترنت التي باتت تربط العالم كله، شعوبه، وبلاده، وثقافاته، وأفراده، بحيث أصبح التواصل المستمر وتدفق المعلومات والمعارف السمة الأساسية لعصرنا. والعولمة باعتبارها ظاهرة برزت حديثاً أيّاً كانت بداياتها التاريخية وهل هي قديمة أم مستحدثة، تحتاج لفهمها وإدراك دلالاتها إلى تعريف إجرائي من ناحية، وخريطة معرفية من ناحية أخرى.
قدمت الموسوعة نموذجاً في مجال تأسيس علم اجتماعي عربي، يقوم على الرؤية النقدية، وعلى قيمة الندِّية المعرفية للباحثات والباحثين العرب، وهي مسألة ضرورية.
وقد قمنا في كتابنا "الخريطة المعرفية للمجتمع العالمي" (نهضة مصر 2008) برسم خريطة تفصيلية للعولمة، تعكس نظريتنا التي على أساسها قدمنا تحليلاً ثقافياً متعمقاً للتحولات العالمية.
وقد لفت نظرنا أن العلوم الاجتماعية المعاصرة برز فيها في العقد الأخير مفهوم رسم الخرائط mapping. فهناك "خرائط معرفية" كتلك التي قدمناها في كتابنا المشار إليه، غير أن هناك أيضاً "خرائط مفاهيمية" تتولى بالتعريف والتحليل النقدي رسم خريطةٍ لمفهوم محوري، مع بيان ارتباطاته بمفاهيم أخرى، والعلاقات العضوية بين هذه المفاهيم. ومن أبرز الأمثلة العربية الرائدة على الخرائط المفاهيمية "الموسوعة العربية للمجتمع المدني" التي أصدرتها مؤخراً الشبكة العربية للمنظمات الأهلية، والمحرر والباحث الرئيسي للموسوعة هي الدكتورة أماني قنديل، المدير التنفيذي للشبكة العربية للمنظمات الأهلية.
وهذه الموسوعة الفريدة هي نتاج عمل جماعي، حيث قام بتحرير موادها المتنوعة فريق من الباحثين المتميزين من مختلف البلاد العربية. وترد أهمية الموسوعة إلى أن مفهوم المجتمع المدني على رغم كونه مفهوماً قديماً اهتم بتأصيله في مجال الفلسفة الفيلسوف "هيجل" في القرن التاسع عشر، وعالم الاجتماع الألماني "هابرماس" في أواخر القرن العشرين، إلا أنه اكتسب في سياق العولمة أهمية قصوى. وذلك لأنه نتيجة لتطورات متعددة حيث لم تعد الدولة القومية Nation State هي الفاعل الرئيسي بمفردها في النظام الدولي، ولكن أصبح المجتمع المدني العالمي World Civil Society أحد الفواعل المهمة، وخصوصاً في ارتباطه بظاهرة التحول الديمقراطي، أي انتقال النظم السياسية من الشمولية إلى الليبرالية.
وقد قدم للموسوعة الأمير طلال بن عبدالعزيز رئيس مجلس أمناء الشبكة العربية للمنظمات الأهلية، كما كتبت الدكتورة أماني قنديل مقدمة مهمة حددت فيها أسباب إصدار هذه الموسوعة.
وقبل أن نسترسل في الحديث عن الموسوعة وأقسامها وموضوعاتها، نسوق هذا التعريف للمجتمع المدني الذي صاغته الدكتورة أماني قنديل في سياق المادة التي حررتها، وهو أن "المجتمع المدني هو مجموعة التنظيمات التطوعية المستقلة ذاتياً، التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة، وهي غير ربحية، تسعى إلى تحقيق منافع أو مصالح للمجتمع ككل، أو بعض فئاته المهمَّشة، أو لتحقيق مصالح أفرادها، ملتزمة بقيم ومعايير الاحترام والتراضي، والإدارة السلمية للاختلافات والتسامح وقبول الآخر".
والموسوعة تنقسم إلى تسعة فصول، حاول الفصل الأول فيها تحليل المجتمع المدني في إطار الخريطة المعرفية للعالم، واهتمت باقي الفصول بدراسة جذور مفهوم المجتمع المدني، وتحديد المفهوم ذاته، والمفاهيم التنموية والقيمية التي ترتبط بالمجتمع المدني والمجتمع المدني العالمي والشبكات، ومكونات الحكم الرشيد، ومفاهيم رئيسية في تشريعات المجتمع المدني والمواثيق الأخلاقية، ومفاهيم تكنولوجيا المعلومات والاتصال في المجتمع المدني، وأخيراً تقييم منظمات المجتمع المدني. ومن هذا الاستعراض الوجيز يتبين صدق وصفنا للموسوعة بأنها تقدم "خريطة مفاهيمية" للمجتمع المدني لأول مرة، لأنها لم تقنع بالتركيز فقط على مفهوم المجتمع المدني وإنما درست دراسة شاملة كل المفاهيم المرتبطة به.
ولعل السؤال الذي ينبغي إثارته الآن: لماذا موسوعة عربية للمجتمع المدني؟
قدمت الدكتورة أماني قنديل في مقدمتها للموسوعة إجابات محددة على هذا السؤال المهم. وقد قسمت هذه الأسباب إلى مجموعة من الاعتبارات. المجموعة الأولى منها تتعلق بالدور الذي لعبته الشبكة العربية طوال المرحلة السابقة (1997-2008) فقد اتجهت الشبكة للعمل على ثلاثة محاور أساسية، هي تدفق المعرفة والمعلومات، وإدراكها لأهمية التلاحم بين المعرفة والتدريب، والحاجة إلى وقت كافٍ تتراكم فيه المعرفة العلمية بالمجتمع المدني، من خلال البحوث والدراسات التي يقوم بها الباحثون العرب، وأخيراً اهتمام الشبكة بتأسيس وتحديث قواعد البيانات.
أما المجموعة الثانية للاعتبارات التي دعت إلى إصدار الموسوعة العربية للمجتمع المدني فهي ترتبط بالسياق السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي للمجتمع المدني في المنطقة العربية ككل.
وهذا السياق يتسم بتصاعد الاهتمام السياسي والاقتصادي بالمجتمع المدني، مما يدعو الى توجيه اهتمام أكبر وبشكل علمي مخطط لقضية بناء قدرات المجتمع العربي.
والموسوعة من ناحية أخرى تستجيب بالفعل لطلب واحتياج مجتمعي مصدره نشطاء المجتمع المدني والباحثون والدارسون لهذا المجال. ومن ناحية أخرى فصدور الموسوعة كان ضرورياً لأهمية التأكيد على قيم الثقافة المدنية، بالإضافة إلى موضوعات متعددة كان لابد من دراستها، كالقواعد القانونية والتشريعية المنظمة لعمل مؤسسات المجتمع المدني، بالإضافة إلى الأبعاد القيمية المتعلقة بمفاهيم العمل الجماعي وثقافة التطوع والممارسة الديمقراطية والمواثيق الأخلاقية. وتجدر الإشارة هنا الى أن الشبكة سبق لها أن أصدرت ميثاقاً مهماً لأخلاقيات عمل مؤسسات المجتمع المدني العربي يضم كافة القيم التي ينبغي عليها مراعاتها، وقد صاغ هذا الميثاق السيد يسين وأقر في مؤتمر الشبكة العربية للمنظمات الأهلية.
ولعل المجموعة الثالثة من اعتبارات إصدار الموسوعة والتي تتعلق بالتراكم العلمي غير المسبوق في أدبيات المجتمع المدني الغربي التي أنتجها باحثون عرب، كانت تقتضي إصدار الموسوعة.
ومن المعروف أن الباحثين العرب في العقد الأخير قاموا ببحوث نظرية متعددة عن المجتمع المدني من ناحية المفهوم ومناهج الدراسة، بالإضافة إلى بحوث ميدانية بالغة الأهمية لدراسة مؤسسات المجتمع المدني في عدة بلاد عربية.
وقد قامت الأستاذة شهيدة الباز الخبيرة في سوسيولوجيا التنمية بدراسة ميدانية رائدة في هذا المجال بتكليف من الشبكة العربية للمنظمات الأهلية. والدراسة تقدم خريطة تفصيلية للمجتمع المدني العربي. وقد نشرت الشبكة هذه الدراسة في كتاب صدر عنها، وهو يقدم قاعدة بيانات مهمة لمؤسسات المجتمع المدني العربية، بالإضافة إلى تحليل متعمق لمشكلاتها والتحديات التي تواجهها.
وبالإضافة إلى كل هذه الاعتبارات فهناك ما يتعلق بالخريطة المعرفية للمجتمع العالمي وموضع المجتمع المدني منه، كما أن هناك -بتأثير العولمة- توجهاً كونياً يهدف إلى إعلاء مبادئ حقوق الإنسان، في إطار عملية التحول الديمقراطي الشاملة التي يمر بها العالم، ونتيجة لكل هذه التطورات وبروز ما يطلق عليه "المجتمع المدني العالمي"، كان لابد لنا في العالم العربي من أن نرسم معالم خريطة المجتمع المدني العربي وهو ما قامت به الموسوعة العربية للمجتمع المدني بشكل يعكس تعمق الباحثين الذين حرروا مواد الموسوعة.
وفي تقديرنا أن صدور هذه الموسوعة يمثل علامة فارقة في مجال التفكير العلمي العربي، لأنها لم تقنع بترجمة بعض المفاهيم التي تتردد في عديد من المراجع الغربية، بقدر ما سعت بنجاح ملحوظ إلى تأصيل هذا المفهوم بصورة نقدية، تكشف عن عديد من التحيزات الأيديولوجية الغربية. بالإضافة إلى كونها قدمت نموذجاً يحتذى به في مجال تأسيس علم اجتماعي عربي، يقوم على الرؤية النقدية للتراث العلمي العالمي من ناحية، وعلى قيمة الندِّية المعرفية للباحثات والباحثين العرب، وهي مسألة ضرورية في أي حوار موضوعي بين الثقافات.