(}. الحج في طوره المدني المترف .{)
كان كثير من المسلمين يحجون إلى بيت بالله الحرام رجالاً ، أي مشاة على
أقدامهم حتى إن هارون الرشيد حج ماشيًا ، وأكثرهم يحجون ركبانًا على الإبل ،
وبعضهم على الخيل والبغال والحمير ، وكان بعض أهل الأقطار البعيدة على
الحجاز في الشرق والغرب الذين وراء البحار أو في جزائرها يركبون السفن
الشراعية ، فيقاسون في مصارعتها للأمواج وعواصف الرياح أهوالاً ، يرون فيها
من الموت صنوفًا وألوانًا ، وكانوا ينفقون في سفر الحج أموالاً عظيمة ، وربما
استغرق سفر الحج سنة أو أكثر ، وكان مريد الحج يوطن نفسه على الموت ،
فيكتب وصيته ويودع أهله لبعد الشقة وشدة المشقة ولفقد الأمن على الأنفس
والأموال ، وكانوا يعدون ما ينفقونه في سفر الحج أفضل نفقاتهم ، ويعدون أفضلها
في تطهير أنفسهم وتزكيتها ما ينفقونه في نفس الحرمين الشريفين من الصدقات
والقربات على أهلهما ، مهما يكن من عنائهم فيهما .
ولما أنشئت البواخر الكبار المواخر في جميع البحار قرَّبت المسافات ، وقللت
النفقات ؛ ولكن أصحابها من شعوب الفرنجة المستعمرين للأقطار الإسلامية تواطئوا
على معاملة الحجاج فيها أسوأ من جميع أصناف المسافرين ؛ ليصرفوا أكثر أغنياء
المسلمين المترفين عن الحج ، وزادوهم رهقًا بما وضعوا من النظم الشديدة للحجر
الصحي عليهم ، وواتتهم الحكومة المصرية على ذلك ، فكانت معاملات رجالها
للحجاج في موانيها ومحاجرها أقسى من كل ما يقاسونه في غيرها شدة وإهانة ونفقة ،
ولا تزال تعد أرض الحجاز بيئة وبائية بسوء خضوعها للسيطرة الأوربية ، وقد
مرت عشرات من السنين لم يقع فيها وباء في الحجاز ، ومن المعلوم بالقطع أنه ما
وقع وباء فيه من قبل إلا منتقلاً إليه من غيره من الأقطار ولا سيما الهند ، ولا تزال
الحكومة المصرية تفرض على من يسافر إلى الحجاز لأداء فريضته ، ومن يعود
منه معاملة شاذة مرهقة لا تعامل بمثلها من يسافر من الهند أو يجيء منها ، على أن
وطأتها خففت في السنين الأخيرة ، وقد دخل موسم هذا العام في طور جديد من
الراحة والسهولة والاقتصاد والانتظام بما أعدته له شركة بواخر مصر في باخرتيها
زمزم والكوثر ، وسنبين ذلك في مقال آخر مع ما يجب على الحجاج في دينهم
شكرًا على هذه النعم عليهم .