۞ منتديات كنوز الإبداع ۞
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

۞ منتديات كنوز الإبداع ۞


 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 النظرية السياسية

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
المقداد

عضو مبدع  عضو مبدع
المقداد


الجنس : ذكر
العمر : 40
الموقع المدينة المنورة
التسجيل : 30/09/2011
عدد المساهمات : 151

النظرية السياسية  Empty
مُساهمةموضوع: النظرية السياسية    النظرية السياسية  Icon_minitimeالخميس 10 نوفمبر 2011, 7:18 pm



------------------------

المقدمة

النظرية السياسية من المواضيع الرئيسة في علم السياسة ، واعتمادها كمجال معرفي ومادة للتدريس إنما هو اعتراف بمرحلة النضج التي وصل إليها الفكر السياسي وعلم السياسة بشكل عام ، فأن تُهيكل الأفكار السياسية في إطار نظريات فهذا معناه أن السياسة لم تعد مجرد أفكار ومقولات عامة بعيدة عن الواقع بل أصبح من الممكن ضبط وتقنين الشأن السياسي ليصبح علماً مثله مثل العلوم الأخرى. ومن هنا ليس عبثاً استعمال لفظ النظرية وهو لفظ مستمد أصلاً من العلوم الحقة التي وصلت إلى درجة من الدقة والضبط جعلا من الممكن ضبط مقولاتها وتعميماتها في إطار نظريات علمية تكون هادياً للباحث في تلك العلوم.

فلا غرو، إن كان اعتماد مفهوم النظرية والقوانين السياسية بالإضافة إلى توظيف أدوات البحث العلمي ومناهجه في المجال الاجتماعي، محاولة من الباحثين الاجتماعيين للوصول بالمعرفة الاجتماعية إلى درجة من الدقة والموضوعية شبيهة بالحالة التي عليها العلوم الحقة. ومع ذلك وبالرغم من الجهود الشاقة التي بذلها العلماء الاجتماعيون في هذا المجال إلا أن البعض مازال يشكك في علمية المعرفة الاجتماعية بما في ذلك النظريات والقوانين الاجتماعية، حتى أن ليفي شتراوس (عالم وفيلسوف فرنسي معاصر) عندما سوئل هل هناك علوم اجتماعية؟ أجاب لدي شك في ذلك، وشكه ينبع من إدراكه أن الظواهر الاجتماعية تختلف عن الظواهر الطبيعية، فإذا كانت الأولى قابلة للملاحظة والتكميم والضبط والتجريب، فإن الثانية على درجة كبيرة من التعقيد وعدم الثبات والتحول من حال إلى حال، فالظاهرة الاجتماعية يتداخل في تشكلها مؤثرات سسيولوجية ونفسية ودينية واقتصادية وعاطفية، مما يجعل حصر مكوناتها وإخضاعها للتجربة أمراً شاقاً، وهذا الأمر يجعل من المخاطرة وبمثابة مغامرة علمية، صياغة نظريات وقوانين بعدية المدى تزعم القدرة على فهم وتفسير الظواهر الاجتماعية بشكل مرض، ومن هنا فإن الباحثين يتعاملون بحذر مع النظريات الاجتماعية والسياسية وخصوصاً بعيدة المدى وشمولية التحليل.

إن قولنا المشار إليه أعلاه لا ينفي الجدوى عن النظريات الاجتماعية ، ولكن المقصود هو القول أنه في مجال التنظير الاجتماعي والسياسي يجب أن لا يتبادر إلى الذهن أن عملية التنظير في هذا المجال تغني الباحث عن المقاربات الميدانية والتجريبية أو أن النظريات السياسية تعبير صادق عن الواقع، فما بين الواقع والنظريات فجوة كبيرة والعلماء يلهثون دوماً لصياغة نظريات يمكنها أن تواكب الواقع، فالنظيرات وحتى التي تزعم أنها علمية وموضوعية لا تتطابق دوماً مع الواقع، ولنا في واقع الحياة السياسية اليوم خير دليل على ذلك ، فلا توجد أي نظرية سياسية قادرة على تفسير ما يجري في السياسة الدولية ،وفهم ما يجري ، حيث الفهم والتفسير من أهم أهداف النظرية السياسية.

جاء اعتماد مصطلح النظرية في العلوم السياسية بعد رحلة طويلة وشاقة وممانعات متعددة المصادر، واجهت الفكر السياسي، حيث انتقل من الأسطورة السياسية إلى الفلسفة السياسية ومنها إلى العلم السياسي، هذا الأخير هو الرحم الذي منه خرجت النظريات السياسية.وبالرغم من الاعتراف بالعلم السياسي وبالنظريات السياسية ، إلا أن علماء السياسة ما زالوا يناضلون حتى يعترف بهم كمرجعيات رئيسة في الحقل السياسي ، وما زالوا في بلدان العالم الثالث على وجه التخصيص مهمشين ومستبعدين على مستوى الممارسة السياسية ، حيث هواة السياسة وتجار السياسة ومستلبو السلطة من العسكر والمغامرين يحتكرون الحياة السياسية ،ة هذا ناهيك عن الممانعة التي تجدها النظرية السياسية من الفكر الغيبي والأسطوري ومن تيارات دينية ترفض أية مرجعية لشؤون الحياة بما فيها الشأن السياسي غير المرجعية الدينية .

إن النظرية السياسية هي ذلك الجزء العلمي والممنهج من الفكر السياسي الذي كان قبل أن تصبح السياسة علم ، مجرد أفكار عائمة وغير مضبوطة. وقد يتساءل البعض أيهما أكثر دقة، مصطلح "نظرية سياسية" أو "نظريات سياسية"؟ وهو تساؤل مشروع خصوصاً إذا رأينا مؤلفات تتناول نفس الموضوعات تسمى أحياناً بالنظرية السياسية وحيناً آخر تسمى بالنظريات السياسية. إن اختلاف التسمية في نظرنا وإن كان ليس بالأمر الذي يستحق كثير نقاش، إلا أنه في بعض الأحيان يحدث لبسا، فاستعمال تسمية النظرية السياسية قد يوحي عند البعض وجود نظرية واحدة تستوعب مجمل الشأن السياسي، كما أن تسمية نظرية سياسية يجعل الأمر وكأن المقصود به تاريخ الأفكار السياسية أو مجمل التنظيرات السياسية. أما اعتماد مصطلح النظريات السياسية فيوحي بوجود نظريات – بالمعنى الدقيق للكلمة – متعددة كل منها يتناول جانباً من الظاهرة السياسية، فهناك نظرية حول الدولة وأخرى حول الديمقراطية وثالثة حول السلطة الخ، وحيث إن مصطلح النظرية السياسية هو الذي شاع في مجال الدراسات الأكاديمية، فسنستعمل هذا المصطلح.

مقاربة موضوع النظرية السياسية يحتاج كمحاولة تفسيرية إلى تفكيك المصطلح إلى مفردتيه: النظرية، والسياسة، ثم القيام ببنائه من جديد، فلا تفهم النظرية السياسية إلا إذا عرفنا ماذا تعني كلمة نظرية أولاً ثم ماذا تعني كلمة سياسة ثانياً.ولكن قبل القيام بعملية التفكيك ثم التركيب، لابد من الإشارة إلى أن مصطلح النظرية السياسية حاله حال المصطلحات والمفاهيم في العلوم الاجتماعية والسياسية، حمال أوجه، بمعنى أن الناس وحتى المختصين في العلوم السياسية يفهمون المصطلح انطلاقاً من خلفياتهم الفكرية والمذهبية. وبالرغم من الرحلة الطويلة والشاقة التي قطعتها العلوم الاجتماعية – بما في ذلك علم السياسة – في مجال ضبط مفاهيمها ومقولاتها ومحاولتها التشبه بالعلوم الطبيعة إلا أنها مازالت بعيدة كل البعد على أن تصل إلى درجة الدقة والضبط في العلوم الطبيعية. وهذا يعني أن ما يقصده باحث ما بالنظرية السياسية قد لا يكون هو نفسه الذي يعنيه باحث آخر، فما اعتبره أنا نظرية قد لا يعتبره آخرون كذلك، مثلاً كان الماركسيون يطلقون على مذهبهم اسم النظرية العلمية، فيما آخرين كانوا يمسونها الفلسفة الماركسية، وشتان ما بين النظرية العلمية والفلسفة، ومع ذلك فقد تواضع علماء السياسية على عناصر يمكن في حالة توفرها في منظومة فكرية ما أن تنعت هذه المنظومة بـ "نظرية سياسية".

ولابد من الإشارة هنا إلى أنه في محاولتنا هذه لعمل مؤلف حول النظرية السياسية كنا مترددين ما بين التركيز على الجانب المفاهيمي من النظرية السياسية أو إعطاء الأولوية لمحتوى النظرية السياسية، أي الموضوعات التي تدرسها وتدخل في حقل اهتماماتها، أيضاً كنا مترددين ما بين الاهتمام بالجانب ألقيمي والأخلاقي من الشأن السياسي أو الاهتمام بواقع الممارسة السياسية. لا شك أن الطالب الجامعي الذي يدرس لأول مرة النظرية السياسية وربما لا يتوفر على معرفة كافية بالمقصود بالنظرية السياسية كمفهوم، يحتاج كماً كافياً من المعلومات النظرية والمفهومات المجردة حول الموضوع، ولكن المفاهيم المجردة وحدها لا تكون كافية إن لم تصاحب بأمثلة وتطبيقات وتحليل لموضوعات تقرب الطالب من فهم المقصود بالنظرية السياسية. وعلى هذا الأساس حاولنا أن نجمع ما بين الجانب النظري والجانب التطبيقي. ومع ذلك فقد انتابتنا حالة من التردد فيما يتعلق بالجانب التطبيقي، ذلك أنه ليس من السهل تناول كل الموضوعات التي تدخل ضمن إطار اهتمام النظرية السياسية لكثرة هذه الموضوعات وتعدد تفرعاتها، وحتى تباين تطبيقات النظرية الواحدة من نظام سياسي إلى آخر، فالنظرية حول الدولة فيها الجانب التاريخي وفيها التنظيرات التي تخص الدولة في العالم الغربي وتلك التي نظّرت للدولة الاشتراكية والشيوعية زمن وجود المعسكر الاشتراكي، ولكننا كمجتمعات عربية إسلامية نعيش في دول لها خصوصياتها، وعليه لا يفيد أن ندرس نظرية الدولة في الغرب ونتجاهل خصوصية الدولة في العالم الثالث، حتى داخل هذه الخصوصية توجد خصوصيات، مثلاً الدولة في الحالة الفلسطينية، فضمن أي مقاربة نظرية يمكن أن ندرجها، وأي من نظريات الدولة تصلح للحالة الفلسطينية؟. ما قلناه حول الدولة ينطبق أيضاً على الديمقراطية، فدراسة النظرية الديمقراطية كما نشأت في الغرب وتطورت وكما تمارس اليوم هناك، مفيدة ولا شك وتعتبر مرشداً ونموذجاً يمكن الاسترشاد به أو البناء عليه، ولكن في مجتمعاتنا العربية الإسلامية، هل يمكن الأخذ بالنظرية الديمقراطية الغربية بحذافيرها أم أن الأمر يتطلب عملية تبيئة لمقولات هذه النظرية لتتناسب ومجتمعاتنا، هذا إن لم يحتاج الأمر إلى مناقشة رأي القائلين بعدم ضرورة الأخذ بالديمقراطية ككل في مجتمعاتنا. إلى آخره من الموضوعات التي تحتاج إلى الجمع ما بين النظرية والتطبيق.

وفي الختام لابد من الاعتراف بأن عملنا هذا هو محاولة لتقريب الطالب من موضوع النظرية السياسية، سواء على مستوى الجانب المفاهيمي أو على مستوى الموضوعات التي هي محل اهتمام النظرية السياسية، ونرجو أن يوفر هذا الكتاب قاعدة منطلق لمناقشات مستفيضة حول النظرية السياسية، وخصوصاً أننا حاولنا أن نثير قضايا لها علاقة بواقع النظرية السياسية في عالمنا العربي وفي مجتمعنا الفلسطيني، قضايا تشغل الرأي العام وخصوصاً الطلبة الذين يتابعون أحداثاً وتحولات سياسية عاصفة في أكثر من بلد، منها ما يتعلق بموضوع الانتقال الديمقراطي وأخرى تتعلق بالسلطة السياسية ومصادر شرعيتها وقضايا حقوق الإنسان الخ.


الفصل الأول: مقاربة مفاهيمية للنظرية السياسية

كما هو واضح فالموضوع هو النظرية السياسية وهو مركب من كلمتين تحيل كل إلى الأخرى فالنظرية تحيل إلى السياسة والسياسة تحيل إلى النظرية، بمعنى أن الفهم المتكامل للموضوع يتطلب أن نقارب مفاهيميا مفردتي العنوان : الأولى السياسة و هو مجال العلم الذي إليه تنسب النظرية التي توسًم علماء السياسة أنها تهديهم إلى إدراك أعمق للظاهرة السياسية، و الثانية هو النظرية بمفهومها العلمي.

المطلب الأول: في تعريف السياسة
النظرية السياسية بما هي نتاج عقل الإنسان العالم، هي جزء من الفكر السياسي وجزء من علم السياسة، ولكنها ذلك الجزء الذي يعبر عن مرحلة النضج في التفكير السياسي، وانتقال هذا الأخير من فكر تهيمن عليه الأساطير والخرافات والتأملات الفلسفية البعيدة عن الواقع، إلى فكر ممنهج ومنظم يستمد من الواقع ويحاول أن كون قريباً منه، قادراً على تفسيره وفهمه وتتبع تحولاته. ومن هنا فأن فهم النظرية السياسية لن يكون ممكنا دون مقاربة مفهوم السياسة.
ليس بالأمر الهين تعريف السياسة، فبقدر البساطة الظاهرة على هذا المصطلح وكثرة تداوله بين الناس العاديين وبين رجال السياسة، فإن التعريف العلمي لهذا المصطلح لا يتفق مع هذا التعويم لاستعمال مصطلح السياسة، ومن ناحية أخرى فإن تعقد البناء الاجتماعي وتداخل ما هو سياسي مع ما هو اقتصادي أو ديني أو إيديولوجي أو قانوني يجعل عملية التمايز أو التمفصل بين هذه الأنساق أو المجالات أمراً صعباً، أو كما قال جوليان فروند إن السياسة تشبه "كيس سفر يحتوي ما تنوع من الأشياء...فيه ما شئت من الصراع، والحيلة، والقوة، والتفاوض والعنف والإرهاب، والتخريب والحرب والقانون..."

حيث إن الشأن السياسي وكما هو الحال مع المجالات الاجتماعية الأخرى أخضع للمنهج العلمي وأدواته الدقيقة، فقد أصبح من الممكن مقاربة الظواهر السياسية مقاربة علمية، بل وظهور علماء وعلوم متخصصة بدراستها، مع ما يصاحب ذلك من محاذير. بتوظيف علم الاشتقاق أو الإيتمولوجيا فإن كلمة سياسة باللغة العربية تقابل كلمة (Politics) بالإنكليزية و(Politique) بالفرنسية والمصطلحان مشتقان من اللفظ اللاتيني (Polis) بمعنى المدينة أو الناحية أو اجتماع المواطنين، ومشتقاتها (Politeia) بمعنى المدينة والدستور والنظام السياسي و (Politike) بمعنى الفن السياسي، أي أن معناها كان معالجة الأمور التي تعني المدينة. وهذا ما يوحي بأن السياسة أو الحكم بالسياسة اقترن في نشأته بـ (دولة - المدينة)، أي أنه مرتبط بتجاوز المجتمعات الإنسانية مرحلة العلاقات القائمة على انساق القرابة من أسرية وعشائرية إلى المجتمع المدني المنظم على أساس المدينة والتساكن والمواطنة والوظيفة، أي بشكل آخر انتقال المجتمعات من الحكم عن طريق رئيس القبيلة الذي يستند في حكمه على النفوذ الشخصي الاجتماعي أو الديني أو على عامل السن إلى الحكم عن طريق السلطة السياسية القائمة على الإكراه والقسر وعلاقة حاكمين بمحكومين، هذا التعريف للسياسة انطلاقاً من التحليل الابستومولوجي للمصطلح دفع العديد من الباحثين الغربيين وانطلاقاً من الأنوية الحضارية الغربية إلى اعتبار الشأن السياسي أمراً مقتصراً على المجتمعات الأوروبية ولم تعرفه المجتمعات الأخرى – مجتمعات ما قبل دولة – المدينة اليونانية. وهذا ما قال به مالينوفسكي Malinowski الذي نفى وجود جماعات "سياسية" لدى جماعات الفيدا وأهالي أستراليا الأصليين، فهذه المجتمعات تلعب فيها صلة القرابة العامل الرئيسي في علاقاتها الاجتماعية، فعلاقات القرابة تتنافى مع العلاقات السياسية. إلا أن هذه المقاربة لمصطلح السياسة اعتماداً على أصل الكلمة اليوناني تجد من يعارضها ويأخذ بمقولة أرسطو بأن الإنسان حيوان سياسي بطبعه، فلا يوجد مجتمع بدون حكومة. إن الخلاف في الواقع يكمن في اختلاف مفهوم السياسة لدى الأقدمين عنه لدى المجتمعات المنظمة في إطار دولة. فالسياسة بمعنى القيادة موجودة في كل المجتمعات بما فيها البدائية، إلا أنها في هذه الأخيرة لم تكن جهازاً منفصلاً عن الأجهزة الأخرى، من اقتصادية واجتماعية ودينية، بل كانت متداخلة معها وكانت كلها تتركز في يد رجل واحد أو مجلس واحد. أما السياسة في دولة – المدينة وما بعدها من نظم سياسية حديثة، فمختلفة، إنها مؤسسات وأجهزة مستقلة قائمة بذاتها، تتقاطع وتتلاقى مع مؤسسات المجتمع الأخرى ولكنها لا تذوب فيها.

هذا الرأي الذي يميز ما بين السياسة في مجتمعات ما قبل دولة المدينة اليونانية والسياسة في المجتمعات الحديثة أو المدينية، تطرق إليه بتوسع الانتربولوجي الفرنسي بيار كلاستر في كتابه "مجتمع اللادولة"، حيث يقول بأن المجتمعات البدائية - أي تلك المنظمة على أساس غير ما هو معروف في المجتمعات الأوروبية - لم تعرف السلطة السياسية كجهاز قائم بذاته بل كانت مندمجة مع بقية المؤسسات الأخرى، ويميز بين السلطة السياسية وبين نفوذ الزعيم في المجتمعات الأولى، فالزعيم يحظى بالاحترام والتقدير ويمثل الجماعة لدى الجماعات الأخرى، ويفض النزاعات الداخلية، ولكنه لا يمتلك أي سلطة قسرية، وغياب عنصر القسر أو الإكراه هو ما ينفي صفة السياسة عن سلطة الزعيم، إن الزعيم بما أنه المعمم لنشاطات الجماعة الاقتصادية والطبقية لا يحوز على أي سلطة تقريرية، إنه غير متأكد على الإطلاق من أن أوامره سوف تنفذ".

أما في اللغة العربية فإن كلمة سياسة وكما ورد في "لسان العرب" أتت من السوس بمعنى: الرياسة، حيث يقال:ساسوهم سوساً، وإذا رأسوه قيل سوسوه، والسياسة أيضاً بمعنى القيام على الشيء بما يصلحه.وقيل إن أقدم استعمال لكلمة السياسة في الأدب العربي يرجع إلى عهد الخنساء، حيث قالت في إحدى أبياتها الشعرية:

ومعــاصـــم للهالكيـــن ******وساسـة قــوم محاشــد .
لا شك أن علم الاشتقاق وإن كان يقربنا من دلالة الكلمات ومعانيها الأولية، فإنه لا يكشف عن الأبعاد العلمية والفكرية التي تأخذها المصطلحات عندما تتحول إلى جزء من النظام الفكري والقيمي لمجتمع ما وفي ظروف مختلفة، وخصوصاً المصطلح في العلوم الاجتماعية حيث هو ذو حمولة إيديولوجية كبيرة. ومن هنا تأتي أهمية المعنى الاصطلاحي لكلمة سياسة.

تذهب غالبية التعريفات الاصطلاحية التي أعطيت لكلمة سياسة إلى ربطها بنظام الحكم أو بعلاقة الحاكمين بالمحكومين، فالسياسة لا تكون إلا في المجتمعات الكلية التي تقاد عن طريق هيئة سياسية تصدر قوانين ملزمة للأفراد وتمارس عليهم الضغط والإكراه، فلا يمكن تصور سياسة دون وجود سلطة سياسية وحيث لا يمكن تصور سلطة سياسية دون ممارسة التسلط – بدرجاته المتباينة – فإن وجود السياسة يستدعي وجود السلطة.

برجوعنا إلى كلمة سياسة كما توردها القواميس المتخصصة سنجد تعدداً خصباً في التعريفات، فعرفها معجم "روبير" 1962 بأنها "فن إدارة المجتمعات الإنسانية"، أما معجم كاسل Casslle فيقول: إن السياسة ترتبط بالحكم والإدارة في المجتمع المدني "أما قاموس ليتره Littre الفرنسي 1870 فقد قدم ثمانية تعاريف لكلمة سياسة منها: "فن حكم الدولة" "السياسة علم حكم الدول وإدارة العلاقات مع الدول الأخرى"، وفي قاموس العلوم الاجتماعية عُرفت السياسة بأنها: "تلك العمليات الصادرة عن السلوك الإنساني التي يتجلى فيها الصراع بين الخير العام من جهة ومصالح الجماعات من جهة أخرى، ويظهر فيها استخدام القوة بصورة أو بأخرى لإنهاء هذا الصراع أو التخفيف منه أو استمراريته".

وإذا انتقلنا من التعريف القاموس لكلمة سياسة إلى التعريفات التي أعطاها المختصون لهذه الكلمة سنجد نفس التنوع فستانلي هوفمان أعطى مائة تعريف لمفهوم السياسة، حتى يمكن أن يقال إن لكل عالم سياسة تعريفه الخاص لها، فقد عرفها جوليان فروند بأنها: "الفعالية الاجتماعية التي تأخذ على عاتقها – عن طريق القوة المرتكزة إجمالاً على القانون، تأمين السلامة الخارجية والوفاق الداخلي لوحدة سياسية خاصة، وصيانة النظام وسط الصراعات الناجمة عن تنوع واختلاف الآراء والمصالح". ومع ذلك فإن الكاتب هو بذاته غير مقتنع بدقة ووضوح تعريفه حيث يقول في موضع آخر من كتابه، بأن السياسة تشبه كيس سفر يحتوي على تنوع الأشياء، ففيه ما شئت من الصراع ومن الحيلة والقوة والتفاوض والعنف والإرهاب والتخريب والحرب والقانون...

أما ماكس فيبر Max Veber فقد عرف السياسة "بأنها الفعالية التي تطالب بحق السيطرة من أجل السلطة القائمة على أرض ما، مع إمكان استخدام القوة أو العنف في حالة الحاجة، سواء من أجل النظام الداخلي أو الفرص التي تنتج عنه، أو من أجل الدفاع عن الجماعة في وجه التهديدات الخارجية". ويقترب من هذا التعريف للسياسة ما جاء به غبرييل الموند Almond الذي عرف السياسة أو المنتظم السياسي الذي هو مجال اهتمام أو حقل عمل علم السياسة بأنها: "نظام التفاعلات الذي يوجد في جميع المجتمعات المستقلة، والذي يقوم بوظائف التوحيد والتكيف ويؤديها في الداخل وتجاه المجتمعات الأخرى، ويمارس هذه الوظائف باستخدام القسر المادي أو بالتهديد باستخدامه، سواء أكان استخدامه شرعياً شرعية تامة أو بعض الشيء، فالنظام "أو المنتظم" السياسي هو القيّم الشرعي على أمن المجتمع والصانع الشرعي لما يحدث فيه من تغيير"

أما عند المفكرين المسلمين، فقد تم التعامل مع الموضوع بشيء من الحذر والغموض حتى لا يحدث تضارب بين المنظور الإسلامي للحياة كدين ودنيا، و السياسة كأمر دنيوي محض يعود للناس أمر التصرف فيه. وهذا الغموض مازال سائداً إلى اليوم حيث يعود نصيب كبير من الصراع بين التيارات الأصولية وبين الأنظمة الحاكمة ومؤيديها إلى مفهوم السياسة والحكم ومن أين يستمد الحاكمون سلطتهم، وما هي مرجعيتهم؟.

وقد استشري هذا الاختلاف منذ اللحظة التي تحولت فيها الخلافة إلى "ملك عضوض" على حد تعبير ابن خلدون، فكان لزاماً التعامل مع الشأن السياسي كفكر وممارسة قائمة بغض النظر عن توافقها أو عدم توافقها مع الشرع – وما بين التوافق وعدم التوافق احتمالات وأوضاع لا تعد ولا تحصى –، وعليه رأى المفكرون المسلمون أن السياسة هي القيام على أمور المسلمين بأحسن وجه، وإن كان الفارابي مثلاً يعمم مفهوم السياسة لتصبح معرفة قواعد التصرف الأنسب في مجالات المنزل والحياة الفردية عموماً والسلوكيات الاجتماعية، فأن الفخر الرازي يربط السياسة بالرياسة فالسياسة أو علم السياسة هو علم الرياسة.

أما ابن سينا 1 فقد تأثر بالتقسيم الأرسطي – نسبة إلى الفيلسوف اليوناني أرسطو – الذي ميز بين المعرفة لذاتها أي المعرفة النظرية، وبين المعرفة الهادفة إلى تفضيل سلوك معين، أي المعرفة العملية، ومن هنا ميز ابن سينا بين الأخلاق، وسياسة المنزل، وسياسة المدينة. أما إخوان الصفا 2- فقد ميزوا بين خمسة أنواع من السياسات وهي:

1- السياسة النبوية التي يضطلع بها الأنبياء والرسل، إذ يضعون النواميس والسنن الذكية، يداوون النفوس المريضة من الديانات الفاسدة.
2- السياسة الملوكية التي يقوم بها خلفاء الأنبياء الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
3- السياسة العامة، وهي الرياسة على الجماعات.
4- السياسة الخاصة وهي معرفة الإنسان بكيفية تدبير أمر المنزل.
5- السياسة الذاتية وهي معرفة الإنسان لنفسه وأخلاقه ومراجعة أقواله وأفعاله.

وبالنسبة لابن خلدون 3 فقد اعتبر أن السياسة ضرورة بشرية، فنظر لما في طبائع البشر من الاستعصاء فلابد من وجود وازع يزع بعضهم عن بعض، ولكنه ميز بين المُلك والرئاسة، فالمُلك هو السياسة بمفهومها الحديث والمُلك لا يكون إلا بالغلبة والقهر أما الرئاسة فصاحبها متبوع ولكن ليس له على متبوعيه قهر أو سلطة نافذة، ويقول في ذلك: "إن الآدميين بالطبيعة الإنسانية يحتاجون في كل اجتماع إلى وازع وحاكم يزع بعضهم عن بعض، فلابد أن يكون متغلباً عليهم وإلا لا تتم قدرته وهذا التغلب هو الملك وهو أمر زائد على الرئاسة لأن الرئاسة إنما هي سؤدد وصاحبها متبوع، وليس عليهم قهر في أحكامه وأما الملك فهو التغلب والحكم بالقهر" ثم يحلل ابن خلدون السياسة التي هي نتيجة طبيعة للاجتماع البشري ويقسمها إلى ثلاثة أنواع:

1- السياسة الطبيعية التي يقصد بها حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة.
2- السياسة العقلية، وتعني حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار، وبالتالي يحصل نفعها في الدنيا فقط، وهي على وجهين: أحدهما يراعى فيه المصالح العامة ومصلحة الحاكم في استقامة ملكه بصفة خاصة، ثانيهما يراعى فيه مصلحة السلطان وكيف يستقيم له الملك مع القهر والاستطالة وتكون المصالح العامة في هذه تابعة لمصلحة الحاكم، هذه السياسة العقلية، هي سياسة سائر الحكام سواء كانوا مسلمين أم غير مسلمين وإن كان المسلمون يجرون منها على ما تقتضيه الشريعة الإسلامية بحسب جهودهم.
3- السياسة الشرعية، وتعني حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية والراجعة إليها، هذه السياسة يحصل نفعها في الدنيا والآخرة، لعلم الشارع بالمصالح الدنيوية والأخروية.

ومن الإسهامات السياسية المتميزة لعلماء المسلمين، ما جاء به أبن قيم الجوزية 3، فقد تبنى ابن الجوزية تعريف ابن عقيل للسياسة بأنها " ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد " ، كما تبنى قول الشافعي " لا سياسة إلا ما وافق الشرع : إلا أن أبن الجوزية فسر هذا القول بان يعني ،لا سياسة إلا ما وافق الشرع ولم يعارضه ، وليس أن لا سياسة إلا ما نطق به الشرع ، فهذا الفهم الأخير غلط وتغليط للصحابة 1. وهذا التمييز بين ما نطق به الشرع وما وافق الشرع يفتح باب الاجتهاد وإعمال العقل أمام العلماء ليشرعوا بما يتوافق مع الظروف المتغيرة.


هل علم السياسة علم الدولة أم علم السلطة؟
في بداية ظهور علم السياسة كعلم مستقل قائم بذاته في منتصف القرن التاسع عشر، كان ينظر إليه كعلم الدولة وهذا ما يتضح من خلال التعريف الذي أعطاه معجم ليتره للسياسة عام 1870 "السياسة علم حكم الدولة"، وهو تعريف كان متأثراً أو سائراً على هدى الدراسات والمفاهيم السابقة منذ دولة اليونان القديمة التي نحتت كلمة Polis بمعنى دولة المدينة.

فعلم السياسة كعلم الدولة يهتم فقط بالدولة كمؤسسة قائمة محكومة بالقانون ومسيرة بسلطة سياسة، أي أنه يهتم أساساً بالدولة والحكومة والقانون، وأنصار هذا الرأي لا يرون الظاهرة السياسية إلا حيث تكون دولة ذات وجود قانوني وقد سبق أن أوضحنا ذلك.

وقد تعززت هذه النظرة مع أنصار وكتاب نظرية السيادة وهي النظرية التي تجعل الدولة التجسيم الكامل لسيادة الأمة، أي لمجموعة فعالياتها السياسية الداخلية والخارجية، ودراستها هي دراسة هذه الفعاليات، كما تبنى هذه النظرة لعلم السياسة كعلم الدولة بعض المفكرين المعاصرين من أمثال روجيه سولتو Roger Soltau وجان دابن Jean Dabi ومارسيل بريلو، ويعجب هؤلاء من التفكير بأي موضوع رئيس لعلم السياسة غير الدولة، ويتساءل دابن عما يمكن أن يكون علم السياسة إن لم يكن علم الدولة؟

إلا أنه مع تطور علم السياسة بدأ هجر هذا المفهوم لعلم السياسة كعلم الدولة إلى النظر إليه كعلم القوة، أو السلطة، ذلك أنه رغم أن الدولة هي مؤسسة اجتماعية أو "مؤسسة المؤسسات" كما توصف فهي ليست خارج المجتمع بل إفراز له وتعبير عن مكوناته وعلاقات القوة التي تحكم وحداته، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن حصر علم السياسة كعلم للدولة يثير تساؤلات حول ماذا نعني بالدولة؟ وما هي صورها؟ وما هو موقف علم السياسة من المجتمع المدني بتنظيماته وأنشطته وعلاقاته؟ وإذا كان علم السياسة هو علم الدولة فقط فما هو الشأن بالنسبة لمجتمعات وجدت قبل وجود الدولة ومجتمعات موجودة اليوم وغير منظمة على شاكلة الدولة الغربية المعاصرة؟ وضمن أي علم ندرس التنظيمات والجماعات كالنقابات والأحزاب وجماعات الضغط والحركات الاجتماعية والدينية؟.

وهكذا فإن التوجه للحديث يتعامل مع علم السياسة كعلم القوة والسلطة وهو توجه يتجاوز النظرة القانونية والمؤسساتية التي كانت تحكم علم السياسة إلى نظرة جديدة تبحث في كل أشكال علاقات القوة التي تحكم المجتمع سواء كعلاقة قوة بين أفراده بعضهم البعض أو كعلاقة قوة بين وحدات المجتمع والدولة كجهاز سياسي. والتعامل مع علم السياسة كعلم القوة أي كعلم يهتم بالسلطة وبكيفية الاستيلاء والمحافظة عليها وممارستها ومقاومتها هو الذي يميزه عن العلوم الأخرى. ويرى مارسيل بريلو Marcel Prelot أن فكرة السلطة هي الموضوع الخاص بعلم السياسة، "ولمجتمع فروع هذا العلم موضوع مشترك هو دراسة السلطة في المجتمع من مختلف وجوهها...فموضوع هذا العلم ليس الدولة فقط وإنما أيضاً الجمعيات المحلية والنقابات والمؤسسات والكنائس "فكل تجمع يعود لعلم السياسة فور حيازته سلطة".

ولكن يبقى برلو متحفظاً في تعريف السياسة كعلم السلطة، فهو يرى أن هذا التعريف لا يساعد على التوصل إلى المفهوم الحقيقي لعلم السياسة، لأن هناك خلط بين السلطة والقدرة أو القوة، فالسلطة في رأيه دائماً سياسية أي مرتبطة بالدولة، أما القدرة أو القوة فهي مجرد داعم للسلطة، كما أنه يصعب عزل السلطة عن المجتمع أو الدولة عن المجتمع، ويرى أيضاً: "إن تحويل علم السياسة إلى دراسة السلطة يعني في آن واحد توسيعه وتقليصه، توسيعه بجعله يدرس أشكالاً للسلطة تختلف كثيراً عن السلطة السياسية وتقليصه، طالما أنه لا يقتصر على الدراسة وحدها لظواهر السلطة".

ومن هنا ينتقد استعمال كلمة Politique كدال على علم السلطة، لأن هذه الكلمة مشتقة من كلمة Polis التي تعني المدينة أو الدولة والأصح أن يسمى هذا العلم كراتولوجيا Cratologie لأن كراتوس Cratos تتفق مع السلطة وليس كلمة Polis.

أما موريس دوفرجيه Maurice Duvreger فيقول بأن تعريف علم السياسة بأنها "علم السلطة" يتفوق على تعريفها بأنها "علم الدولة"، لأنه يسمح من التحقق من صحة فرضيته الأساسية لأن دراسة السلطة في جميع الجماعات دراسة مقارنة يسمح بكشف الفروق بين السلطة في الدولة والسلطة في الجماعات الأخرى إذا كان في الجماعات الأخرى سلطة

ونشير هنا أن الفضل في التحول من "علم الدولة" إلى "علم السلطة" يعود للأمريكيين، حيث انتقل من أمريكا إلى أوروبا ولقي ترحيباً من علماء السياسة فيها، فخصوصية المجتمع الأمريكي دفعت علماء السياسة فيها إلى التحول من دراسة الدولة والسيادة والقانون إلى مجال أوسع يشمل دراسة العلاقات الفيدرالية، وفصل السلطات، والحكم المحلي، والهجرة، والتصنيع، والتحضر وجماعات الضغط، حتى يمكن القول إن ما يسير السياسة الداخلية الأمريكية ويؤثر على السياسة الخارجية ليست الحكومة المركزية بل هذه القوى الاجتماعية وتوازنها. وللأمريكيين يعود الفضل أيضاً إلى استقلال علم السياسة وفصله عن القانون الدستوري، فقبل 1880 لم تكن السياسة تدرس في أقسام أكاديمية خاصة بها بل كفرع من التاريخ والفلسفة والقانون والأخلاق والاقتصاد، وفي يونيو من نفس العام أنشأت جامعة كولومبيا أول مدرسة لعلم السياسة.

وفي فرنسا يعود الفضل إلى جورج بوردو Burdeau في إكمال الثورة التي أدت إلى استقلال علم السياسة عن القانون الدستوري حيث انتقل هذا الأخير كما يقول مارسيل بريلو من وضع العلم الأساسي إلى دور العلم المرجع.

إن وصول علم السياسة إلى المكانة المتميزة بين العلوم جاء نتيجة مسيرة طويلة من الدراسة والبحث على يد عديد من علماء السياسة المرموقين، حيث يشير البعض إلى ميكيافلي كأب لعلم السياسة الحديث نظراً لإسهاماته المهمة في التنظير للدولة، وفي فصله بين السياسة من جهة والأخلاق من جهة أخرى، وفي القرن السادس عشر انتقل الاهتمام من إيطاليا إلى فرنسا وذلك على يد بودان Jean Bodin، الذي وضع كتابه (عن الجمهورية) De La republique عام 1576، متضمناً نظرية في السيادة تبرر الحكم الملكي المطلق.

وفي القرنين السابع عشر والثامن ظهر فلاسفة العقد الاجتماعي ليغنوا النظرية السياسية متأثرين بالمنهج العلمي الذي بدأ يفرض نفسه ويحقق مكتسبات في مجال العلوم الطبيعية، توماس هوبز Thomas Hobbs وجون لوك John Loke ودافيد هيوم David Hume، 1711 – 1776) وجرمي ينتام Jermy Bentham 1748، وستيوارت مل 1806 – 1973، وتوالت الإسهامات في حقل علم السياسة على يد مونتسكيو ثم كنت ودي توكفيل Alexis de Tocqueville، وكارل ماركس، وماكس فيبر وباريتو الخ.

نخلص مما سبق إلى ما يلي :-
1) أن الحديث عن السياسة وعلم السياسية هو في جوهره حديث عن النظرية السياسة ، فعلم السياسة ما هو إلا مجمل الإسهامات الفكرية لعلماء السياسة ، وما كان للسياسة أن تصبح علما لولا النظريات السياسية.
2) إن الدولة هي قلب وأساس السياسة وعلم السياسة ، وبالتالي فأن غالبية النظريات السياسية تمحورت حول الدولة.
3) لكل مجتمع – أو مجموعة مجتمعات متشابه- نظرياته السياسية الخاص به ، والتي غالبا ما تكون منسجمة مع / ونابعة من ، ثقافته الوطنية ومستوى تطوره الحضاري . فبعض المجتمعات ترى أن الدكتاتورية هي الأقدر على ضبط المجتمع وتأمينه من الأخطار – الداخلية والخارجية-، فيما مجتمعات أخرى ترى بالديمقراطية الحل الأنسب للتعامل مع خصوصيات المجتمع ومتطلباته، ومجتمعات ثالثة ترى أن الاشتراكية أو الحكم العسكري هو الأنسب لها ،الخ. ومن هنا تسود في المجتمعات الأولى نظريات الدكتاتورية والاستبداد ، وفي الصنف الثاني من المجتمعات ، نظريات الديمقراطية وحقوق الأنسان ، وفي الصنف الثالث من المجتمعات ، تسود النظرية الاشتراكية ومشتقاتها .

ونشير أيضاً إلى أنه حتى منتصف هذا القرن كان هناك عدم دقة في استعمال مصطلح علم السياسة وتداخله مع العلوم السياسية الأخرى حيث كان علم السياسة أحد العلوم السياسية ،التي كانت تنقسم إلى العلوم التالية: المذهب السياسي، والتاريخ السياسي، وعلم الاجتماع السياسي، وعلم القانون، وعلم السياسة، إلا أن منظمة الأونسكو سعت إلى إعطاء علم السياسة مكانته التي يستحقها، وكلفت مجموعة من علماء السياسة وضع مؤلف حول علم السياسة وتحديد موضوعاته ووضع حد للتداخل بينه وبين العلوم الاجتماعية الأخرى، وبالفعل وضع مؤلف مشترك تحت عنوان "علم السياسة المعاصر" عام 1950، وقد تم اعتماد عبارة "علم السياسة" بدل "العلوم السياسية" وأوصت اللجنة بتدريس هذا العلم في الجامعات وكانت النظرية السياسية على رأس هذه الموضوعات.أما موضوعات هذا العلم فقد حددتها على الشكل التالي:

1- النظرية السياسية:
أ‌. النظرية السياسية
ب‌. تاريخ الأفكار السياسية
2- المؤسسات السياسية:
أ‌. الدستور
ب‌. الحكومة المركزية
ج. الحكومة الإقليمية والمحلية
د. الإدارة العامة
هـ. وظائف الحكومة الاقتصادية والاجتماعية
و. المؤسسات السياسية المقارنة
3- الأحزاب والفئات والرأي العام:
أ‌. الأحزاب السياسية
ب‌. مشاركة المواطن في الحكومة والإدارة
ج. الرأي العام
4- العلاقات الدولية:
أ‌. السياسة الدولية
ب‌. التنظيمات والإدارات الدولية
ج. القانون الدولي

إلا أننا نلاحظ أن هذا التقسيم لم يحترم، حيث أن علم السياسة يدرس في بعض الجامعات كمادة مستقلة جنباً إلى جنب مع مواد هي حسب تقسيم الأونسكو فروع من علم السياسة.أيضا نلاحظ أن تاريخ الفكر السياسي يعد جزءا من النظرية السياسية، وكلاهما يأتيان على رأس اهتمامات علم السياسة .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
المقداد

عضو مبدع  عضو مبدع
المقداد


الجنس : ذكر
العمر : 40
الموقع المدينة المنورة
التسجيل : 30/09/2011
عدد المساهمات : 151

النظرية السياسية  Empty
مُساهمةموضوع: رد: النظرية السياسية    النظرية السياسية  Icon_minitimeالخميس 10 نوفمبر 2011, 7:20 pm



المطلب الثاني : في تعريف النظرية Theory


تعد عملية التنظير عماد العلم الحديث والوحدة الأساسية في نسق التفكير العلمي، فلا يوجد علم دون نظريات علمية، فالمعرفة التجريبية أو الميدانية تستلهم النظريات العلمية، كما أن نتائجها قابلة للتحول بدورها إلى نظريات علمية.
تعددت التعريفات المعطاة لمفهوم النظرية، فهناك فرق بين الاستخدام الشائع لمفهوم النظرية الذي يعني كل ما هو نظري وتأملي، وقائم على التصوارت Insights، وبين المعنى العلمي الحديث للنظرية الذي يربط ما بين الجانب النظري وبين الواقع التجريبي والمعاش. فالنظرية المنفصلة عن الواقع ما هي في الحقيقة إلا فلسفة، أي مجموعة مقولات غير نابعة أو متفاعلة مع الواقع وأما النظرية العلمية فهي تلك التي تكون في علاقة جدلية مع الواقع تتطور به ويتطور بها، ويكون الواقع هو المحك العملي لتأكيد مصداقيتها وعلميتها.
فلا غرو إذن، أن يثير تعريف النظرية كثيراً من اللبس حيث تتداخل التعريفات العلمية للنظرية مع المفاهيم السائدة لدى العامة من الناس، وقد أثار ميلفن M. Melvin هذه الإشكالية حيث كتب يقول: "يستخدم مصطلح النظرية أولاً استخداماً عاماً للإشارة إلى الجوانب المتعلقة بالخبرة الواقعية، ويستخدم ثانياً لكي يعني كل مبدأ تعميمي تفسيري، وعادة ما يتكون هذا النوع من النظريات من قضية تقرر علاقة وظيفية بين المتغيرات، وحين تكون المفاهيم قريبة من الواقع يُطلق على المبدأ التعميمي مصطلح القانون، أما حينما تكون أكثر تجريداً، فغالباً ما يُستخدم مصطلح النظرية.وتعني النظرية، ثالثاً: مجموعة من القوانين المتسقة منطقياً، وقد أصبح ذلك هو الاستخدام المفضل لأنه يلائم العلوم التي قطعت شوطاً كبيراً في تطورها، كما أنه يرتبط بمفهوم النسق الذي يتضمن ترتيباً معيناً لقضايا النظرية، ويستخدم المصطلح رابعاً وأخيراً استخداماً ضيقاً للإشارة إلى العبارات التلخيصية، والتي تتخذ صورة مجموعة من القوانين تم التوصل إليها بالبحث التجريبي .

أُعطي للنظرية عدة تعريفات، منها: "بناء تصوري يبنيه الفكر ليربط بين مبادئ ونتائج معينة"، وأنها: "إطار فكري يفسر مجموعة من الحقائق العلمية، ويضعها في نسق علمي مترابط" وأنها "تفسر ظاهرة معينة من خلال نسق استنباطي"، وأنها "مجموعة من القضايا التي ترتبط معاً بطريقة علمية منظمة، والتي تعمل على تحديد العلاقات السببية بين المتغيرات"، وعرفت بأنها: "عبارة عن مجموعة مرتبطة من المفاهيم والتعريفات والقضايا والتي تكون رؤية منظمة للظواهر عن طريق تحديدها للعلاقات بين المتغيرات بهدف تفسير الظواهر والتنبؤ بها". أما أرنولد روس في كتابه "النظرية والمنهج في العلوم الاجتماعية" فقد عرف النظرية بأنها: "بناء متكامل، يضم مجموعة تعريفات وافتراضات وقضايا عامة تتعلق بظاهرة معينة، بحيث يمكن أن يستنبط منها منطقياً مجموعة من الفروض القابلة للاختبار" ..

فالنظرية إذن هي ذلك الإطار التصوري القادر على تفسير عالم الخبرة الواقعية، أي الظواهر والعلاقات بهدف البحث عن العلل والأسباب والتنبؤ أيضاً، أو كما يقول تيماشيف Timasheff بأن النظرية بصورة عامة هي مجموعة من القضايا التي تتوافر فيها الشروط التالية:
أولاً: ينبغي أن تكون المفهومات التي تعبر عن القضايا محددة بدقة.
ثانياً: يجب أن تشق القضايا الواحدة من الأخرى.
ثالثاً: أن توضع في شكل يجعل من الممكن اشتقاق التعميمات القائمة اشتقاقاً استنباطياً.
رابعاً: أن تكون هذه القضية خصيبة ومثمرة تستكشف الطريق لملاحظات أبعد مدى وتعميمات تنمي مجال المعرفة 1.

فالنظريات العلمية تساعد على فهم الواقع، ومع ذلك فقد انتقد عالم الاجتماع روبرت ميرتون Mcrton الخلط الحاصل بين تفسر الظواهر الاجتماعية من ناحية والنظرية السوسيولوجية من ناحية أخرى، حيث يرى أن النظرية يجب أن تسبق التفسير وتوجهه 2. ومن جهة أخرى فأن النظريات العلمية أيضا لم تعد تلك المقولات أو القضايا المتصفة بالصحة المطلقة أو باليقين الأكيد، بل هي مقولات نسبية التأكيد، ومحددة الشمولية والتعميم، فالنظريات لا توضع من أجل الوصول إلى اليقين، بل إنها تسعى للوصول إلى معرفة نسبية مؤقتة، ومن هنا تُعامل النظرية أحياناً على أنها فرض من الدرجة الثانية، فهي أقل تأكيداً من القوانين.

إن تطور العلم لم يؤد إلى زيادة يقينية المعرفة العلمية بل على العكس أدى إلى إثارة الشكوك حول ما كان يزعم حول يقينية المعرفة العلمية، وهو الأمر الذي انعكس بدوره على النظرية العلمية، فمفهوم النظرية الذي كان شائعاً باعتبارها نسقاً من المقولات الأكيدة، مهدد بأن يفقد معناه، وفي هذا السياق عبر كثير من العلماء عن تشككهم بيقينية النظريات العلمية. فأوجست كونت يقول: "إن المعاني المطلقة تبدو لي مستحيلة جداً إلى درجة أنه على الرغم من دلائل الصدق التي أراها في نظرية الجاذبية، فإني لا أكاد أجرؤ على ضمان استمرارها". وفي نفس الإطار يقول سوليفان Sullivan في كتابه (حدود العلم) إن النظرية العلمية الحقة ليست إلا فرضاً عاماً ناجحاً، وأنه لاحتمال كبير أن كل النظريات العلمية خاطئة.

أما كارل بوبر Karl Poper فقد ربط بين افتراضية العلم ونسبية النظرية مميزاً بين النظرية والعلم من جانب وبين الدين والعقدية Cult, Dogma من جانب آخر، فهذا الأخير هو الذي يملك صفة الإطلاق واليقينية، ولا يقبل النقاش أو إعادة النظر. أما كلود برنارد فقد وصف مفهوم النظرية بالقول بأنها مجرد درجات نستريح عندها حتى نتقدم في البحث، فهي تعبر وتعكس الوضع الراهن لمعرفتنا ولذا يجب ألا نؤمن بها إيماناً بعقائد الدين وأن نعدلها تبعاً لتقدم العلم .

النظرية العلمية إذن نظرية نسبية Relative theory قابلة للتعديل والتغيير بتطور الاكتشافات العلمية وبتطور الحياة الاجتماعية والمعرفة الإنسانية، وما دام العقل الإنساني في حالة تطور فلا يعقل أن يبقى مقيداً بنظريات تجاوزها الزمن وتجاوزتها المعرفة المحصلة حديثاً، فأي تقدم علمي في ميدان من الميادين ينتج عنه ضرورة إعادة النظر في النظريات المطروحة سابقاً في نفس الميدان، كما أن فشل النظرية من خلال احتكاكها بالواقع في إثبات الحقيقة أو إذا ظهرت حقائق أخرى متناقضة معها، يتطلب أن تخلي مكانها لنظرية أخرى أكثر قدرة على إثبات الحقيقة، والتعامل مع الواقع، ويعد تصارع النظريات في شتى الميادين مظهراً من مظاهر التطور المعرفي وشرطاً لتطور المعارف الإنسانية، ذلك أن مبدأ البقاء للأصلح يبقى هو الحكم في هذا المجال.

إن وضع النظرية على المحك العملي وقدرتها على التحدي والاستجابة لمتطلبات الواقع شرط أساسي من شروط النظرة العلمية فالنظرية لا تأخذ هذه الصفة لمجرد الانسجام والاتساق المنطقي بين حججها وبياناتها، وإنما تتعدى ذلك إلى التحقق العلمي الناتج عن اختبار أدلتها، وافتراضاتها اختباراً يعتمد على التجربة والقياس وغيرها من وسائل البحث العلمي، وهذا ما أكد عليه كارل بوبر في أكثر من موضع في كتاباته، حيث يرى أن النظرية العلمية هي النظرية القابلة للاختبار "أي أن باستطاعتنا أن نحاول تكذيبها، وإذا كانت هذه المحاولات بارعة بما يكفي فإنها تستطيع في النهاية أن تبرهن، لا على النظرية صحيحة – وهو مستحيل – بل إنها تتضمن حقاً عنصراً من الحقيقة" .

النظرية في العلوم الاجتماعية
ظهرت النظرية الاجتماعية – نسبة إلى العلوم الاجتماعية بما فيها علم السياسة – متأخرة عن النظرية في العلوم الطبيعية، ويمكن اعتبار القرن السادس عشر بداية ظهور الإرهاصات الأولى للنظرية الاجتماعية على يد مجموعة من المفكرين الذين حاولوا دراسة المجتمع بطريقة منهجية عقلانية مستلهمين طرائق البحث العلمي في ذلك. وكان المجال الذي ظهرت فيه النظرية لأول مرة هي الدراسات الفلسفية والسياسية المتعلقة بنظرية الدولة من حيث أصل نشوئها، والأشكال التي تتخذها عبر مراحل تطورها.

هذا التحديد الزمني لظهور النظرية لا يخلو من تحيز للفكر الغربي الذي يؤرخ للمعرفة الإنسانية العلمية، بدءا من عصر النهضة، ذلك أن للأولين فضل في وضع معرفة علمية بما فيها سياسية ترفى إلى درجة العلم مثل أفلاطون وأرسطو وابن خلدون، إلا أن ما يؤخذ على معرفة الأولين، إنها لم تتفاعل مع الواقع وتدخل معه في علاقة جدلية، فقد عبرت عن الواقع وهذا جزء من النظرية العلمية، ولكنها لم تؤثر عليه، كما أنها لم تؤسس قاعدة لمراكمة معرفة متواصلة، بل كانت تشبه الجزر المنعزلة وسط بحر من التفكير غير العلمي. فمثلا نظرية أبن خلدون حول العصبية والدولة وفي مجال علم العمران، لم تؤثر في الواقع الذي كان يعيشه، بل لم يتم الاهتمام بكتاباته إلا بعد زمن من موته.

تثير النظرية الاجتماعية كثيراً من الإشكاليات سواء من حيث تعريفها أو من حيث مدى تلائمها مع الواقع، ذلك أنه توجد فجوة كبيرة ما بين الواقع الملموس والمعرفة العقلية في العلوم الاجتماعية، وإن كانت النظرية الاجتماعية تتفق مع غيرها من النظريات العلمية من حيث بنائها ووظائفها في العلم إلا أنها تختلف من حيث المضمون لاختلاف الحياة الاجتماعية عن المجال الطبيعي.

وقد أشاد العديد من الكتاب إلى هذا الغموض الذي تثيره النظرية الاجتماعية، فنجد مرتون Merton في كتابه النظرية الاجتماعية والبنية الاجتماعية يقول: "إن عالم الاجتماع يميل إلى استعمال كلمة النظرية كمرادف لكلمات:
1- المنهجية 2- الأفكار 3- تحليل المفاهيم 4- التفسيرات اللاحقة 5- التعميمات التجريبية 6- الاشتقاق "استنتاج الترابط الناجم عن اقتراحات قائمة مسبقاً" والتقنين، "البحث بواسطة الاستنتاج عن مقترحات عامة تسمح باستخلاص افتراضات خاصة قائمة مسبقاً" 7- النظرية "بالمعنى الضيق للكلمة".

ويشير المعجم النقدي لعلم الاجتماع إلى أن النظرية الاجتماعية، وإن كانت غير منحصرة بالمعنى الضيق للنظرية المشار إليه سابقاً، فإنها ليست بالضرورة بهذا الحد من الغموض الذي أشار إليه مرتون. ويرى واضع المعجم النقدي لعلم الاجتماع أن معنى النظرية يأخذ شكلين: الأول هو المعنى الضيق لكلمة النظرية والثاني هو المثال، وهو "مجموعة من المقترحات أو الأحكام المابعد نظرية، المتعلقة باللغة الواجب استعمالها لمعالجة الحقيقة الاجتماعية أقل مما تتعلق بالحقيقة الاجتماعية .

وقد ساد لدى علماء الاجتماع مصطلح النموذج Model أو المناهج النظرية أو الاتجاهات النظرية بدلاً من مصطلح المثال المشار إليه أعلاه، وهكذا تتعدد المناهج النظرية باختلاف المجتمعات وباختلاف الكتاب، وباختلاف الأيديولوجيات والمصالح، حيث تلعب الأيديولوجيات دوراً خطيراً في صياغة النظرية الاجتماعية، ومن الملاحظ أن النظريات الاجتماعية الغربية ليست محايدة، بل ذات حمولة أيديولوجية كبيرة، بل إن المشكلة التي تواجه بناء نظرية اجتماعية لها قابلية أوسع على التفسير والقبول هي مشكلة أيديولوجية أكثر مما هي علمية .

إن المراقب للكتابات الاجتماعية والسياسية يلاحظ أن العديد منها والذي يحمل عنوان النظرية الاجتماعية لا يشير إلا قليلاً إلى النظرية بمعناها الضيق، بل يورد تحت العنوان كل عملية التنظير الاجتماعي، أي كل ما جاء به العلماء والمختصون من تحليلات وتفسيرات تنصب على الظواهر الاجتماعية، دون أن يكون مصدرها البحوث الميدانية التجريبية، وبهذا المعنى تفترق النظريات الاجتماعية عن البحوث الميدانية التجريبية، ومع ذلك فإن العلاقة وطيدة بين النظرية الاجتماعية والبحث الميداني Field research وكلاهما مكمل للآخر، فلا يمكن لباحث ميداني أن ينطلق من فراغ بل يكون غالباً مسترشداً بنظرية وبأفكار اجتماعية مسبقة تنير له الطريق، كما أن نتائج البحث الميداني مآليتها أن تصاغ في نظريات أو تعزز من مقولات نظريات سابقة "إن أي باحث في علم من العلوم لابد له من نظرية توجهه في جمعه للوقائع المتعلقة بالظاهرة التي يريد دراستها، وفي اختياره للفروض التي يريد أن يختبر صدقها، وفي اختياره للمنهج وللأدوات التي يستخدمها في دراسته" .

وبالرغم من التقدم الذي عرفته النظرية الاجتماعية إلا أنها تبقى قاصرة عن الإحاطة بالظواهر الاجتماعية محل البحث، إنها قد تسمح بجعل الظاهرات قابلة للفهم، وتضع تحت تصرف الباحث أداة نظرية مهمة تساعده على الإحاطة بالظاهرة وامتلاك القدرة على التفسير والتنبؤ، إلا أن قابليتها على التفسير والتنبؤ تبقى أقل يقينية مما هو الحال مع النظريات في العلوم الطبيعية، وواقع الحال أن النظرية الموجودة في العلوم الاجتماعية هي مجرد تقليد نظري لمفهوم النظرية في العلوم الحقة .

إن الطبيعة المتحولة للظاهرة الاجتماعية/السياسية وتباين الظاهرة الواحدة من مجتمع إلى آخر، يجعل من الملح وضع نظريات نسبية قصيرة المدى، وهو ما أكد عليه مرتون الذي طالب بصياغة "نظريات متوسطة المدى بدلاً من إقامة انساق نظرية بالغة العمومية والتجريد"، كما ربط ميرتون بين الجانب التنظيري، وجانب البحث الميداني، فالنظرية في رأيه ما هي إلا ضرب من التقنيين Codilication بمعنى أن مهمتها الأساسية تتمثل في تنظير التعميمات الأمبريقية التي يمكن التوصل إليها من خلال دراسة الصور الاجتماعية المختلفة للسلوك، ولفت الانتباه إلى المشكلات النظرية التي أهملها أو تجاهلها علماء الاجتماع السابقون، لذلك يجب صياغة فروض جديدة من خلال عملية "التقنين" على أن تساعدنا هذه الفروض بعد ذلك على التحقق من النظرية عند قيامنا بدراسات مقبلة .

هذه الملاحظة التي أتى بها ميرتون مهمة، وخصوصاً لمجتمعات العالم الثالث ذي الخصوصية المجتمعية المتميزة عن المجتمعات الغربية، ذلك أن النظريات الاجتماعية، أو التعميمات الامبريقية التي تعبر عنها هذه النظريات، إن كانت علمية وصحيحة، فإن هذه الصحة محصورة بالمجتمعات المدروسة، ولكن قد تفقد هذه التعميمات أو النظريات قيمتها العلمية إن حاولنا تطبيقها قسراً على مجتمعات مغايرة كمجتمعات العالم الثالث.

فالنظريات الاجتماعية والسياسية الغربية، قد تكون علمية وصحيحة، إلا أنها تصبح متحيزة Partiality وغير موضوعية بل قد تكون معادية إن حاولنا الأخذ بها دون تمحيص أو مراجعة، فالواقع الاجتماعي يبقى هو الحَكم دائماً، وقد اعترف العديد من علماء الغرب أن النظريات الاجتماعية الغربية تهيمن عليها العقائدية، ومحكومة باعتبارات أيديولوجية، هذا لا يعني القطعية معها، ولكن يمكن استعمالها كأدوات ومناهج للتفسير والتحليل توظف لدراسة الواقع، دون أن يكون الباحث ملتزماً بالنتائج أو التعميمات التي توصلت إليها هذه النظريات في مجتمعات أخرى.

هذا القول لا ينفي صفة العلمية عن النظريات الاجتماعية بقدر ما أنه يضع "الحقيقة العلمية" في العلوم الاجتماعية في إطارها الصحيح باعتبارها حقيقة نسبية وليست مطلقة، مع أن كارل مانهايم يثير الشكوك حول "الحقيقة النسبية" حيث يرى أن الحقيقة إما أن تكون مطلقة أو لا تكون، وحيث أن النظريات الاجتماعية في نظره لا تملك الحقيقة المطلقة فهي إذن مجرد وجهات نظر خاصة بفئة أو طبقة، وبالتالي: "لا يمكنها سوى أن تقدم معرفة نسبية الطابع، أي مرتبطة وظيفياً بالوضع الاجتماعي للطبقات، ومصالحها الاقتصادية والسياسية، ومن ثم فهي معرفة مشوهة".

بل إن هناك من يقف موقفاً متطرفاً في رفضه للنظريات الاجتماعية، من منطلق أن أصحاب النظريات المجردة يقفون عند مرحلة عرض المفاهيم والتصورات بشكل متناسق، ولكنهم لا يكلفون أنفسهم عناء اختبارها واقعياً أو تحقيقها تحقيقاً علمياً استناداً إلى فروض واضحة، ومن هنا يرى جورج هومانز G. Homans أن العديد من النظريات السوسيولوجية قد تصلح لأي شئ ولكنها لا تصلح على الإطلاق في تفسير الواقع الاجتماعي الذي هو هدفها الأول، وهو بعد أن يقابل النظرية الاجتماعية بنظيرتها في العلوم الطبيعية، يخلص إلى القول بعدم وجود نظرية في علم الاجتماع مستوفاة تماماً لشروط العلمية .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
المقداد

عضو مبدع  عضو مبدع
المقداد


الجنس : ذكر
العمر : 40
الموقع المدينة المنورة
التسجيل : 30/09/2011
عدد المساهمات : 151

النظرية السياسية  Empty
مُساهمةموضوع: رد: النظرية السياسية    النظرية السياسية  Icon_minitimeالخميس 10 نوفمبر 2011, 7:22 pm



المبحث الثاني: النظرية السياسية

المطلب الأول :تعريف النظرية السياسية
النظرية السياسية محل البحث هي نظرية علمية واجتماعية ، علمية لأنها تستمد مقولاتها من خلال تطبيق طرق المنهج العلمي،من ملاحظة واستقراء ومقارنة وتجريب ،و اجتماعية لأنها جزء من النظرية الاجتماعية العامة، فعلم السياسية هو علم اجتماعي والظاهرة السياسية ظاهرة اجتماعية. وعليه، ولدت النظرية السياسية في إطار جهد علماء الاجتماع والسياسة لإضفاء طابع العلمية على الدراسات التي تتعلق بالدولة والسلطة وبمجمل الشأن السياسي. ومع ذلك فإن العلماء يستعملون مصطلح النظرية السياسية أحياناً بمعان شتى، فمنهم من يدرج تحت عنوان النظرية السياسية كل ما كتب حول الحياة السياسية مما يخلق تداخلاً ما بين النظرية السياسية وتاريخ الفكر السياسي، بمعنى أن النظرية السياسية تأخذ مدلول التنظير السياسي بالمعنى الدارج للنظرية – أي التفكير والمنظومات الكلامية – وآخرون لا يميزون ما بين النظرية السياسية وعلم السياسة، فإريك فوجلين Eric Voeglin لا يضع تمييزاً ما بينهما "فالنظرية عنده تعني فكراً نقدياً عن السياسة والذي بدونه لا يمكن أن يكون هناك علم سياسة . لقد ولدت النظرية العلمية السياسية متواكبة مع ولادة علم السياسة وهذه الولادة هي في نفس الوقت اللحظة التاريخية التي تحررت فيها السياسة من أسر الفلسفة ومقولاتها المسبقة، فالواقع هو الرحم الذي منه ولدت النظرية السياسة وليس العقل المجرد للعالم السياسي، وفي هذا السياق لا نستغرب كون العديد ممن وضعوا نظريات سياسية لم يكونوا علماء سياسة نظريين أو فلاسفة بل كانوا أناس عركتهم السياسة كواقع مأزوم، فجون لوك كان طبيباً، ومونتسكيو قاضياً ورجل قانون، وجان جال روسو كان كاتب مقال وقصاص، وكان سبنسر مهندساً، وستيوارت مل كان موظفاً في شركة الهند الشرقية الخ.

ولكن هذا لا يعني أن إضفاء صفة الواقعية والعلمية على النظرية السياسية، أنها متطابقة مع الواقع أو أنها نتيجة حتمية للتجريب السياسي، فهناك دائماً فجوة ما بين المقولات النظرية والواقع ولا توجد نظرية علمية متطابقة تماماً مع الواقع – سبقت الإشارة إلى ذلك – نعم النظرية العلمية السياسية تؤسَس من الواقع ولكنها تكون في علاقة جدلية مع الواقع تؤثر به ويؤثر عليها، تطوره ويطورها، وفي هذا السياق يرى فوجلين أن النظرية السياسية: "‘علم تجريبي Experimental منظم يقوم على الخبرة الكلية للكائن البشري الموجود ومهمتها صياغة مشاكل التنظيم تجريبياً ونقدياً والتي تشتق من الانتربولوجيا الفلسفية" . نفس المقاربة للنظرية السياسية نجدها عند هيرسون Lawrence J. R. Herson الذي ينظر إلى النظرية السياسية كمشروع ذهني يمكن ربطه بدائرتين متقاطعتين من الأفكار التي تتقابل في جملة واحدة مؤداها "أن النظرية هي مجموعة من الملاحظات أو التأكيدات المرتبطة منطقياً ببعضها بعضاً، والقائمة على أساس امبيريقي – تجريبي – وإن إحدى هاتين الدائرتين تسمى عادة بـ "النظرية الفرضية" لأنها تقيم فروضاً، على حين تسمى الأخرى بـ "النظرية الوصفية" ولكل من هاتين النظريتين أساسها العقلي التقليدي الخاص بها، وكذلك أسلوبها البحثي أو المنطقي الذي يصاحبها .

أما جيمس دورتي James E.Doughertyو روبرت بغالستغراف Robert L.Pfaltzgraff.Jrفقد استعرضا المعاني الكثيرة للنظرية السياسية في العلوم الاجتماعية بشكل عام وهي :

1-نظام استنتاجي Deductive System) ) يقدم مجموعة متماسكة منطقيا ، وليس بالضرورة ان تكون مقولات النظرية متطابقة مع الواقع ، ولكنها تصلح للمقارنة مع ما هو قائم . وفي الحالة الأخيرة تتشابه مع النماذج المثالية لماكس فيبر.
2-إطار مفهومي أو نظام للتصنيف ، يسمح بترتيب ودراسة معلومات وبيانات بشكل منظم وعقلاني .
3-قد تكون النظرية مجموعة من الفرضيات حول السلوك السياسي ، يتم التوصل إليها بالاستقراء (Induction ) من دراسات تجريبية أو دراسات مقارنة إن استحال التجريب .
4-النظرية بمعنى مجموعة من البيانات أو التصريحات حول السلوكية العقلانية المرتبطة بعناصر القوة ، ويطلق عليها النظرية الواقعية
5-قد تكون النظرية ذا طابع أخلاقي لا ترتبط بالسلوك الواقعي بقدر ما تعبر عما يجب أن يكون وتسمى في هذه الحالة بالنظرية المثالية ،فالنظرية هنا هي مجموعة من القيم وقواعد السلوك والمبادئ التي تدل على ما يجب أن يكون عليه السلوك السياسي.
6-وأخيرا ، النظرية، كمجموعة اقتراحات عملية لرجال الدولة والمسئولين ، وهذه الاقتراحات والإرشادات تكون إما بمثابة مسلمات حول النظام الدولي وشكله وبنيته، وما يترتب على ذلك من سلوكية سياسية معينة عند رجل الدولة لتحقيق أهداف معينة ، أو تكون مجرد توصيات سياسية تصلح للاسترشاد بها.2

هذا التعدد الخصيب في تعريف النظرية السياسية هو الذي يساعد على تطور الفكر السياسي وعلم السياسة ، كما انه يتوافق مع الديمقراطية التي تفسح المجال لحرية الرأي والفكر ، كما ان هذا التعدد يفسح المجال لإعمال قانون البقاء للأصلح، الذي يطبق في الطبيعة، على النظريات السياسية، فالنظرية القادرة على التعامل مع الواقع وفهمه وتغييره والقادرة على تكييف مقولاتها مع مستجدات الواقع تكون فرصها في الاستمرارية والدوام أكثر من النظريات الجامدة المنغلقة حول نفسها والعاجزة عن تفسير الواقع أو التكيف معه، فهذه الأخيرة ستكون مجبرة على إخلاء الميدان للأولى. النظرية السياسية العلمية من هذا المنطلق هي ذات القدرة على الربط ما بين الماضي والحاضر واستشراف آفاق المستقبل، أو بشكل آخر قادرة على التحرر من أسر التاريخ والأسطورة والفلسفة والغيبيات، القدرة على الضبط في الحاضر والتنبؤ للمستقبل من أهم خصائص النظرية السياسية.

لقد تراجعت النظرية الماركسية بالرغم من اتساق مقولاتها وبالرغم من أن الاتحاد السوفييتي كان قوة عسكرية جبارة، وهذا السقوط يعزى إلى أن النظرية الشيوعية لم تتمكن من تطوير نفسها لتجيب على تحديات العصر ومتطلبات الحياة للمواطن السوفييتي، وبقي الماركسيون كلما واجهوا مشكلة اجتماعية ما يرجعون إلى ما قاله ماركس ولينين، مع أن هؤلاء قالوا ما قالوه في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وما قالوا يتعلق بواقع المجتمع آنذاك، إلا أن الحياة ليست جامدة، بل هي في تطور مستمر وعلى النظرية أن تتطور معها، ومن هنا لا نستغرب أن قوة النظرية الليبرالية وقدرتها على الصمود لا يعود فقط إلى كون أصحابها متقدمين تكنولوجياً وعسكرياً، بل إلى أنها استطاعت دوماً أن تطور مقولاتها في شتى المجالات – السياسة والاجتماع والاقتصاد والعلوم– لتلاحق الوتيرة السريعة لتطور الحياة.

المطلب الثاني: تصنيفات النظرية السياسية
علاقة النظرية بالواقع والتباس مفهوم النظرية في العلوم الاجتماعية وخصوصا السياسية ،كان وراء تعدد تصنيفات النظرية السياسية، بتعدد المواقف الفلسفية لأصحابها. وقد تعززت الخلافات مع ظهور عدد من السلوكيين المتأثرين بالفلسفات الوضعية والوضعية المنطقية، فحيث أنه يصعب التحقق من صحة المقولات والظواهر السياسية، في حدود الخبرة الحسية، فان ما يسمى بالنظرية السياسية ما هي إلا فلسفة سياسية، ومن هنا طالبوا بالتمييز ما بين النظريات التي تعتمد على التجريب أي تبني مقولاتها من خلال استقراء الواقع، والفعل والانفعال به، والنظريات القيَّمية – المستمدة من القيم المجردة المنفصلة عن الواقع - ، فالأولى هي النظرية العلمية الحقيقية التي تقف على قدم المساواة مع النظريات في العلوم الطبيعية والرياضية. ومن هنا ظهر التمييز ما بين النظريات التجريبية والنظريات المعيارية.

هذا الفصل ما بين الواقع والممارسة على مستوى تصنيف النظريات السياسية، وجد معارضة من بعض المختصين الذين يقولون انه درج على إعطاء النظرية السياسية احد المعنيين، دون الفصل التام بينهم أو وضع احدهم في مواجهة الآخر كما فعل السلوكيون، المعنى الأول: هو دراسة تطور الأفكار السياسية منذ أفلاطون وأرسطو إلى اليوم، مع دراسة الظروف التي أنشأتها، وتأثير النظرية على الممارسة السياسية، أما المعنى الثاني: فهو الاقتصار على الدراسة المنهجية للمؤسسات والسلوك السياسي في العالم المعاصر ومحاولة التوصل إلى تعميمات بواسطة طرائق المنهج العلمي، دون إصدار أحكام قيمية ومعيارية.

وهكذا نلاحظ الكتاب وعلماء السياسة الذين أخذوا بالمعنى الأول للنظرية السياسية، يقتصرون في تناولهم للنظرية السياسية على الدراسة النظرية النقدية لنتاج المفكرين السياسيين عبر التاريخ، وقد ساد هذا التصور خلال الثلاثينيات، و من بين الكتاب المتأثرين بهذا النهج نجد جورج سباين في كتابة " تاريخ النظرية السياسية "، وفي نفس الاتجاه يذهب آخرون في دراستهم للنظرية السياسية، إلى الاقتصار على شرح وتوضيح معنى أهم المصطلحات والمفاهيم السياسية المتداولة في الحقل السياسي اليوم، كالديمقراطية والحرية والسلطة والحرية والدكتاتورية، الخ. أما الكتاب المتأثرون بالمدرسة السلوكية، فاعتبروا أن النظرية السياسية هي تلك التعميمات والأحكام العامة التي تعكس الواقع السياسي، وقد بدا هذا التيار بالظهور مع تزايد النقد لإطلاق صفة نظرية سياسية على مجرد دراسة تاريخ الأفكار السياسية، أو على أحكام قيَّمية حول الشأن السياسي، حتى قيل إن كل ما كتب تحت عنوان نظرية سياسية لا يستحق هذا الاسم، وانه قد حان الوقت للتمييز بين النظرية السياسية الحقيقية وتاريخ الفكر السياسي. مع تراجع التيار السلوكي في العلوم السياسية والاجتماعية، ومنذ الثمانينيات من القرن العشرين أصبح مفهوم النظرية يقوم على نظرة متوازنة تجمع ما بين الفكر المجرد والواقع الحسي، "أي بمجال الوصف والتفسير ومجال الإرشاد والتقويم".1
هذا التوجه الجديد الذي يرفض الفصل بين النظرية والممارسة، تبلور فيما بعد على يد مجموعة من المفكرين الذي وضعوا ما سمي بالنظرية السياسية النقدية Critical Theory of Politics والسمة البارزة لهؤلاء المفكرين هي رفض التسلط الفكري للنظريات البرجوازية التي تقدس المشروع الثقافي الغربي، وعلى هذا الأساس ( فأن دراسة الظواهر السياسية والاجتماعية يجب أن تعتمد على مفهومين رئيسيين، الأول هو الكلية أو الطابع الكلي في التحليل، والثاني هو التاريخية، أو النظر إلى الظاهرة في سياقها التاريخي. والنتيجة التحليلية هي أن المجتمع يتغير ويمر بتحولات تاريخية لا نهائية وغير مقيدة المدى والنطاق، وان التناقضات الاجتماعية هي التي تُسير وتدفع حركة المجتمع وعجلة التاريخ البشري، فليس هناك إذن حتمية جامدة أو حدود نمطية لمسارات التطور الاجتماعي.ولهذا نجد أن النظرية تتهم كلا من النظريات المعيارية والنظريات الإمبريقية بأنها تنحصر في تبرير الوضع القائم، وأنها أقل تحررية، وسعة أفق في فهم الحاضر واستشراف المستقبل).1

تعددت تصنيفات النظرية السياسية ، بتعدد المفكرين وتعدد العلوم السياسية ، ويمكن القول أن غالبية علماء السياسة وبغض النظر عن مجال تخصصهم يعتمدون التصنيف التالي للنظرية السياسية:
أ‌- النظرية المثالية .
ب -الواقعية السياسية.
ت-السلوكية .
ج-نظرية النظم .
خـ-ما بعد السلوكية.
د-الواقعية الجديدة .

وفي العلاقات الدولية، والعلاقات السياسية علم سياسي ،يضع المؤلفان المشار إليهم أعلاه –جيمس دورتي و روبرت بالستغراف-، تصنيفا للنظريات المستعملة في هذا الميدان ، وهي 2:
أ-النظرية المثالية
ب-الواقعية السياسية .
ت-نظرية النظم.
ج-نظريات الصراع التقليدية.
ح-النظريات الاقتصادية لتفسير الإمبريالية والحرب
خ-نظريات الصراع الكبرى:الردع النووي ومراقبة التسلح.
د-نظريات التكامل الدولي.
ذ-نظريات اتخاذ القرار.
ر-نظرية اللعب أو المباراة.


أما ستانلي هوفمان فيضع تقسيما ثنائيا للنظريات وهو1:

أ-النظرية الفلسفية والنظرية التجريبية .
ب-النظرية العامة والنظرية المتوسطة أو الجزئية.
ج-النظرية الاستنتاجية والنظرية الاستقرائية.

ودون تناقض مع النظريات السابقة ، ولاعتبارات منهاجية وتخصصية ، نجد نظريات للديمقراطية وأخرى للدولة ،فأندرو فنسنت وضع تصنيفا خاصا بنظرية الدولة ،وهي التالي :-2

أ-نظرية الحكم المطلق أو الاستبدادية Absolutism ، وهي حكم الشخص الواحد أو الحكم الشمولي.
ب-النظرية البنائية .وهي عكس الأولى ، وتقوم على الدستور والحكم المقيد.
ت-النظرية الأخلاقية ، وجاءت كنقيض للنظريتين السابقتين ،وروادها من الألمان حيث نشأت بعد الثورة الفرنسية وأثرت على الفكر السياسي في كل أوروبا، واهم روادها هو هيغل (1770-1830 )، الذي اعتبر أن الدولة قدر الإنسانية ، والدولة والأفراد يشتركون في الجوهر والأهداف ،وبالتالي يجب النظر إليها باحترام والعمل على أن تبقى قوية .
ج-النظرية الطبقية في الدولة،ويقصد بها النظرية الماركسية بمختلف تياراتها الفكرية ، - أشرنا إليها سابق-.
ح-النظرية التعددية في الدولة ،وهي اقرب إلى التيارات الفكرية منها إلى النظرية المتماسكة ، وأحيانا تتقاطع مع البراجماتية السياسية وحتى مع الفوضوية ، وهي نظرية تعلى من شان الفرد والتعددية داخل المجتمع ، فهي تربط الفرد بالفئات الاجتماعية أكثر مما تربطه بالدولة أو السلطة ، ومن هنا فهي تؤمن بالتعددية السياسية والاجتماعية والثقافية.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
المقداد

عضو مبدع  عضو مبدع
المقداد


الجنس : ذكر
العمر : 40
الموقع المدينة المنورة
التسجيل : 30/09/2011
عدد المساهمات : 151

النظرية السياسية  Empty
مُساهمةموضوع: رد: النظرية السياسية    النظرية السياسية  Icon_minitimeالخميس 10 نوفمبر 2011, 7:24 pm



المطلب الثالث :خصائص وأهداف النظرية السياسية

أولا :خصائص النظرية السياسية
انطلاقا من العلاقة الجدلية ما بين الفكر والواقع، فأن ولادة النظرية السياسية لم يكن أمرا سهلا، بل كانت ولادة عسيرة، فهي ولدت ضمن المعاناة ووسط أوضاع مأزومة، ويمكن القول، إن غالبية النظريات السياسية كانت نتاج لأزمة سياسية ما تعصف بالمجتمع وتفرض تحدياً على علماء السياسة وعلى المهتمين بالحياة السياسية، وتحفز عقولهم على البحث عن مخرج للأزمة، بمعنى أنها تأت استجابة لتحد الواقع، فنظريات الديمقراطية والسلطة ومفاهيم الحرية والمساواة عند أفلاطون و أرسطو جاءت كرد على تحد الأزمة التي بدأت تعرفها الديمقراطية الاثينية منذ القرن الخامس قبل الميلاد – تحديداً بعد هزيمة أثينا أمام إسبرطة – ونظرية العقد الاجتماعي التي دشنها توماس هوبس، انبثقت في عقله نتيجة الأزمة العاصفة والحرب الأهلية التي كانت تمر بها بلاده إنجلترا نتيجة الصراع بين حكومة كروميل وآل ستيوارت، والنظرية الماركسية جاءت كردة فعل لما كان يعتقده كارل ماركس، أزمة النظام الرأسمالي الخ. وهذا أمر مفهوم حيث يلاحظ أنه في مراحل الركود السياسي والمجتمعي والاستقرار بشكل عام تقل عملية إنتاج النظريات والأيديولوجيات لأن الإنسان يكون مطمئناً على وضعه وبالتالي لا ينتابه قلق السؤال الذي يدفعه إلى البحث عن البديل للأمر الواقع، فالنظريات هي نتاج حالة قلق على الحاضر وتخوف من المستقبل.

في كثير من الحالات يكون إنتاج النظريات عملاً مقصوداً من علماء مختصين في العلوم السياسية، بمعنى أن ينكب عالم أو مجموعة من العلماء على دراسة ظاهرة سياسية ما موظفين تقنيات وأدوات البحث العلمي ليخرجوا لنا بنظرية سياسية، ولكن في أحيان أخرى لا تنتج النظرية السياسية من جانب علماء مختصين ولا تكون نتيجة بحث مقصود وموجه، بل تأت بشكل طبيعي ومنطقي من خلال ممارسة رجال السياسية، بمعنى أن الممارسة السياسية تستدع تلقائياً من يعبر عنها مفاهيمياً فتكون هذه التعبيرات أو الصياغات العقلية هي النظرية السياسية، وسواء كان الأمر مقصوداً ومخططاً، وسواء سبقت النظرية الممارسة أو العكس – مع أن هناك علاقة جدلية بين الفكر والممارسة – فإن النظرية السياسية العلمية هي نتيجة منطقية لتطور المعرفة الإنسانية وتطور الفكر الإنساني، فحيث أن الحياة تتطور والمعرفة الإنسانية تتطور والعقل الإنساني يتطور ويصبح أكثر نضجاً مستفيداً من التجارب السابقة، فلابد أن تكون الصياغات العقلية حول الواقع أكثر نضجاً وعلمية.

فحيث أن النظرية السياسية هي فكر علمي وممنهج ، فلا بد ان تتوفر على خصائص تميزها عن المنظومات الفكرية الأخرى، وهذه الخصائص هي :

أولا : دقة ووضوح مفاهيمها ، ذلك أن وضوح مفاهيم النظرية يساعد على فهمها ، ولا يوقع القارئ أو المتعامل معها في اللبس.والنظرية الجيدة هي الأكثر قدرة على توحيد اكبر عدد من المفاهيم السابقة المستعملة في مجال تخصصها.

ثانيا : أن تكون الافتراضات Assumptions التي تعتمد عليها النظرية عقلانية ومنطقية وليست خيالية ويجب أن تكون مبنية على بحوث سابقة .

ثالثا :أن تتميز بالبساطة دون ركاكة أو تسطيح ،بحيث توصل ما تريد دون عناء من المتلقي.وليس صحيح أن تعقد المصطلحات وصعوبتها ،مقياس على جودة النظرية ومتانتها.

رابعا :دقتها في التبوء ، فكلما زادت صحة تنبؤاتها كلما كانت أكثر علمية ، مع الأخذ بعين الاعتبار أن القدرة على التنبؤ في دراسة الظواهر السياسية أقل مما هو في دراسة الظواهر الطبيعية.

خامسا : أن تكون ذات قدرة عالية على تفسير الظاهرات التي تدرسها ، والتفسير الجيد هو الذي يساعد على الفهم.

سادسا:أن تكون قابلة للتجريب واقعيا ، وإن تعذر التجريب على بعض الظواهر السياسية ،يجب أن تسهل النظرية عملية إجراء مقارنات ما بين الظواهر المتشابهة.

سابعا :النظرية الجيدة هي التي تحقق منفعة اجتماعية ،و اقتصادية من حيث توفير المال والجهد على الباحثين.

ثامنا :أن تكون أصيلة وليست تكرار لنظريات سابقة .

تاسعا :أن تكون أكثر مطابقة للواقع Relevance ، ولكن ليس بالضرورة أن تتطابق مع الواقع تماما ،فالظاهرات السياسية أعقد من أن تحكمه وتحيط به نظرية واحدة.

ثانيا : أهداف النظرية السياسية
فحيث أن النظريات السياسية نظريات علمية و ليست مجرد رياضة عقلية أو تنظير من أجل التنظير، إذن لا بد ان يكون هناك هدف مقصود من وضعها. يرى غالبية العلماء أن أهداف النظرية السياسية تتقاطع مع أهداف العلم بشكل عام وهي: الضبط والتفسير والتنبؤ. ديفيد سنفر يرى أن للنظرية الاجتماعية وظيفتان أساسيتان : الأولى ،أنها توفر وسيلة منهجية ناجعة لتسجيل ما هو معروف سابقا ، والثانية ،توفير الأساس الذي منه يمكن للباحثين الانطلاق للحصول على معرفة جديدة 1، دون أن يضطروا للرجوع لنقطة الصفر. ويمكن القول إن أهداف النظرية السياسية تتلخص فيما يلي:

أولاً: تساهم في نمو علم السياسة والمعرفة السياسية بشكل عام، بعملها على ضبط المفاهيم السياسية وعقلنة الخطاب السياسي وإخراج الفكر السياسي من التعميم والتسطيح وتحريره من الأفكار المسبقة والأسطورية غير المبرهن عليها علمياً.

ثانياً: تمكين الباحثين في علم السياسة من إطار نظري مبرهن عليه علمياً يمكنهم من الانطلاق في أبحاثهم نحو مقاربات جديدة دون الاضطرار للرجوع إلى نقطة الصفر ، أي أن النظريات السياسية هي التي تراكم المعرفة العلمية في الشأن السياسي.

ثالثاً: تضع تحت تصرف رجال السياسة ، من قادة ورؤساء ،خلاصة ما توصل إليه علماء السياسة من فهم للشأن السياسي، الأمر الذي يساعد رجال السياسة على الممارسة على أسس علمية.
رابعاً: تنظم المشاعر الوطنية والعواطف وأشكال العصبويات وتجعلها أكثر عقلانية وأكثر استجابة لتحديات الواقع.
خامساً: النظريات السياسية تضع تحت تصرف الباحث خلاصة التفكير الإنساني السياسي، وبالتالي تمكنه من كم من المعرفة التي تساعده على استخلاص القوانين والعبر، مما يجعل معرفته للحاضر وقدرته على استشراف آفاق المستقبل أكثر سهولة.
سادسا :تكشف عن أوجه القصور في المعرفة السياسية السائدة وفي الممارسة السياسية.
أما بالنسبة لمجالات اهتمام النظرية السياسية، فلا نبالغ إن قلنا إن كل مناحي الحياة السياسية هي موضوع للنظرية السياسية، فحيث توجد سياسة توجد النظرية السياسية. ونظراً للتداخل الحاصل ما بين الظواهر السياسية والظواهر الاجتماعية الأخرى، فقد تشعب مجال عمل النظرية السياسية وتداخل مع علوم أخرى بحيث أصبح للنظرية السياسية اهتمامات سسيولوجية، ويتجلى ذلك في نظريات علم الاجتماع السياسي، واهتمامات دينية ويتجلى ذلك في علم الاجتماع الديني، وللنظرية السياسية اهتمامات بالجغرافيا ومن هنا جاء مصطلح "الجغراسيا" أو الجغرافيا السياسية، أيضاً تهتم النظرية السياسية بعلم النفس ويتجلى ذلك في العديد من النظريات السياسية التي تؤسس انطلاقاً من ربط الممارسة السياسية بالبنية السيكولوجية لرجل السياسة وللمجتمع بشكل عام، فهارولد لاسويل مثلاً أقام نظريته السياسية على أسس سسيكولوجية، ومما جاء به في هذا السياق: "أن الحركات السياسية تستمد حيويتها من تحويل المشاعر الخاصة إلى الموضوعات العامة" ، ونفس المنطلق السيكلوجي للنظرية نجده عند باريتو في نظريته حول النخبة أو الصفوة.

ومع ذلك تبقى السياسة بمفهومها العام هي محط اهتمام النظرية السياسية، وحيث أن علماء السياسة عرفوا هذا العلم أحياناً بأنه علم الدولة وحيناً آخر بأنه علم السلطة، فقد اهتمت النظرية السياسية بالدولة وكانت أول نظرية سياسية تدور حول الدولة من حيث أصلها وبنيتها ومصادر شرعية السلطة فيها، ولكن بعد أن أصبح علماء السياسة يهجرون تعريف السياسة كعلم الدول إلى علم السلطة انفتحت النظرية السياسية على آفاق جديدة، بحيث أصبحت تهتم بكل الفئات والمجالات التي تكون فيها علاقات سلطوية أو علاقات تضامن أو صراع – ماركس أقام نظريته على قاعدة الصراع فيما الكس دي توكفيل أقامها على قاعدة التعاون والتضامن داخل المجتمع – وبدأت تظهر نظريات سياسية حول السلطة ونظريات حول النخبة السياسية وأخرى حول المجتمع المدني، ونظريات حول حقوق الإنسان، وفي السنوات الأخيرة تعددت النظريات السياسية التي تولي اهتماماً بالبعد الديني وبروابط ما قبل الدولة – الطائفية والقبلية – حتى النظريات الكلاسيكية حول الدولة والسيادة أصبحت محل نظر عند المنظرين السياسيين المحدثين بفعل موجة العولمة المستجدة وتفكك الأسس التي كانت تقوم عليها نظرية الدولة – الأمة.

ولكن وحيث أن التنظير جزء من الفكر والتفكير، وحيث أن الفكر الإنساني السياسي موزع ما بين تيارات وأيديولوجيات متباينة بتباين الخلفيات الدينية والسيكولوجية والطبقية وتباين المصالح، فإن النظرية السياسية تتأثر بذلك كل التأثير بحيث نجد نظريات سياسية محافظة وأخرى ثورية أو تقدمية، نظريات سياسية متفائلة وأخرى متشائمة – توماس هوبس في نظريته للعقد الاجتماعي كان يعبر عن نظرة متشائمة حول الطبيعة البشرية، فيما جون لوك ومنتسكيو عبرا عن نظرة متفائلة حول نفس الموضوع – نظريات عنصرية ونظريات ديمقراطية، نظريات براغماتية ونظريات دوغماتية الخ.

ومن البداهة القول، إن تموقع نظرية سياسية جديدة في فضاء التنظير السياسي وأخذها مكانتها المرموقة لا يتم بسهولة، ذلك أنه من المعروف أن الناس بطبيعتهم يخشون الجديد ويتعاملون بحذر معه، فالتعامل مع شئ تم التعود عليه أسهل من الدخول في مغامرة غير محسوبة مع أفكار وأوضاع جديدة، ومن هنا تواجه النظريات السياسية الجدية بمقاومات عدة، قد تكون من الثقافة الاجتماعية السائدة أو من طرف أصحاب المصالح والقوى المتحكمة في المجتمع التي تخشى أن يزعزع الفكر الجديد وخصوصاً إن تلازم مع ممارسة جديدة، مواقعهم ويهدد مصالحهم. وهكذا نلمس أن الأفكار الجديدة قد تحتاج إلى حروب حتى ترسخ، فكان للقوة والفتح دور في نشر رسالة الديانات السماوية، والفكر الليبرالي لم يتوطد إلا بعد حروب وصراعات دينية وسياسية، والماركسية فرضت وجودها عبر ثورات دامية، والفاشية والنازية بالحديد والنار تمكنتا من الاستمرار لحوالي عقدين من الزمن الخ.

واليوم تفرض التحولات المتسارعة في العالم وخصوصاً بعد الموجة الثالثة من التحولات العالمية وانهيار المعسكر الاشتراكي وانتشار مقولات العولمة وقوة تأثير ثورة المعلوماتية، يفرض كل ذلك تحديات جسام على النظرية السياسية، ويدفع بها إما إلى تحديث وتطوير مقولاتها وأدواتها البحثية أو على أن تعيش حالة اغتراب في عالم تسيره المصالح وتوازنات القوى. وقد وصل الأمر بالبعض كديفد استون Easton والفرد كوبان Alfred Cobban إلى الاعتراف بأن النظرية السياسية في حالة تدهور وانحدار مستمرين بل منهم – بيتر لاسليت Peter Laslett – من نعي النظرية السياسية ، مع أننا نرى أن النظريات السياسية لا تموت بل تتحول وتتطور.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
المقداد

عضو مبدع  عضو مبدع
المقداد


الجنس : ذكر
العمر : 40
الموقع المدينة المنورة
التسجيل : 30/09/2011
عدد المساهمات : 151

النظرية السياسية  Empty
مُساهمةموضوع: رد: النظرية السياسية    النظرية السياسية  Icon_minitimeالخميس 10 نوفمبر 2011, 7:26 pm




الفصل الثاني
السلطة

ما أن يُطرح مصطلح سياسة أو نظرية سياسية حتى يستحضر الذهن مباشرة تصورات حول الدولة، فالسياسة تقترن بالسلطة والسلطة تعني الدولة أو تحيل إليها. ومما لا شك فيه أن لا سياسة دون دولة ودون سلطة سياسية، ولكن للسلطة معان متعددة إن كان بعضها يحيل إلى الدولة فإن أخرى بعيدة نسبياً عن مجال الدولة ونظام الحكم ،
فالدولة اليوم هي التي تملك في يدها حق احتكار القوة واحتكار السلطة السياسية العامة، إلا أن السلطة بالمفهوم الاجتماعي سابقة في وجودها على سلطة الدولة، فالدولة جاءت لتحتكر ممارسة السلطة العامة التي كانت قبل وجود الدولة تمارس من قبل رب الأسرة أو زعيم القبيلة أو أفراد المجتمع. ومن هنا فالسلطة ظاهرة اجتماعية قبل أن تكون ظاهرة سياسية.

المبحث الأول: النظرية العامة للسلطة
السلطة Authority هي علاقة خضوع وتبعية، فحيثما وجدت هذه العلاقة توجد السلطة بمفهومها العام، فظاهرة السلطة ظاهرة طبيعية في أي مجتمع، فهي ترافق الفرد منذ طفولته، في المنزل والمدرسة ثم في العمل الخ، وفكرة عيش الإنسان دون خضوعه لسلطة هي فكرة خيالية، فوجود السلطة إذن سابق لوجود الدولة، وعليه فإن المجتمع الإنساني عرف السلطة منذ عهوده الأولى، فكانت سلطة رب الأسرة حيث كان هذا الأخير هو السيد المطلق على أفراد أسرته وله حق الحياة والموت عليهم، وكانت الأسرة تشكل وحدة اجتماعية، سياسية اقتصادية قائمة بذاتها، وكان رب الأسرة هو الممول الاقتصادي والقاضي والمدافع عن أسرته والمحافظ على سلامتها وموقد نارها المقدسة ومقدم القرابين للآلهة باسم أفراد أسرته، ومن هنا يمكن القول: "إن تجربة السلطة في العائلة هي التجربة الأغنى والأعمق تأثيراً بين تجارب السلطة التي يعيشها الإنسان الاجتماعي" . كما وجدت سلطة شيخ القبيلة الذي كان يجمع بين يديه سلطات معنوية ومادية تجعل منه الزعيم الأوحد في القبيلة وممثلها لدى الجماعات الأخرى وكانت القبيلة تحت سلطته تمثل وحدة سياسية واقتصادية قائمة بذاتها، ويخضع كل أفراد القبيلة لسلطة شيخها ويأتمرون بإمرته، وهكذا فإن الإنسان منذ أن بدأ يعيش في جماعة الزم نفسه بالخضوع لبعض الأنظمة وتنفيذ بعض الأحكام وهذا هو الأصل الاجتماعي للسلطة.

وعليه فإن السلطة "معترف بها في كل مجتمع إنساني، حتى في المجتمع البدائي...السلطة هي دوماً في خدمة بنية اجتماعية لا يمكنها المحافظة على نفسها بتدخل "العرف" أو القانون فقط، أو بنوع من التقيد التلقائي بالقواعد"، لأنه لا يوجد أي مجتمع تحترم فيه القواعد تلقائياً، ومن هنا فإن وظيفة السلطة هي الدفاع عن المجتمع ضد نقائصه الداخلية وضد التهديدات الخارجية أيضاً وفي نفس الاتجاه يذهب أندريه هوريو، حيث يرى أن السلطة لا تتجلى فقط في إطار الدولة، فهي ظاهرة أشمل من هذا الشكل للمجتمع الكلي، فللسلطة مميزات مشتركة سواء كانت سلطة دولة أو سلطة اجتماعية خارج الدولة .

أعطيت عدة تعريفات للسلطة، فعرفها "م.ج. سميت" بأنها القدرة على التأثير فعلياً على الأِشخاص والأمور باللجوء إلى مجموعة من الوسائل تتراوح بين الإقناع والإكراه، ويعرفها ماكس فبير Max Weber بأنها الإمكانية المتاحة لأحد العناصر داخل علاقة اجتماعية معينة ليكون قادراً على توجيهها حسب مشيئته، وفي تعريف آخر لها يقول فيبر بأن السلطة هي: "إمكانية خضوع جماعة معينة لأمر محدد المضمون"، أما "ج. بيتي" فيعرف السلطة بأنها: "الحق المعترف به لشخص أو جماعة برضى المجتمع في اتخاذ القرارات المتعلقة ببقية أعضاء المجتمع" أما "بارسونز" T. Parsons فيعطي للسلطة تعريفاً اجتماعياً وظيفياً ويعرفها بأنها: "القدرة على القيام بوظائف معينة خدمة للنسق الاجتماعي باعتباره وحدة واحدة"، وفي نفس الاتجاه يذهب موريس دفرجيه، ولكن مع تمييزه ما بين السلطة والقدوة أو النفوذ – حيث يعطي للقدرة والنفوذ نفس المعنى – فالسلطة في نظره هي: "مفهوم معياري، يحدد وضع من يحق له الطلب من الآخرين الامتثال إلى توجيهاته في علاقة معينة، لأن نظام المعايير والقيم لدى الجماعة التي تنمو فيها هذه العلاقة يقيم هذا القانون وينسبه لمن يفيد منه، يقترن هذا الحق بالأمر، بصورة عامة بالوسائل الضرورية لكي يمارس بفعالية، أي أن السلطة تقترن بالقدرة، لكن ذلك ليس موجوداً دوماً، ثمة الكثير من القدرات دون سلطة، ويمكن أن يكون ثمة سلطات دون قدرة .

ومن هذه التعريفات نستنتج أن السلطة توجد داخل كل مجتمع إنساني توجد به تراتبية اجتماعية وتفاوتاً بين الأشخاص، سواء كان تفاوتاً في الثروة أو المكانة الاجتماعية أو في المنزلة الدينية أو في السن، وعليه فإن التخصص في الوظائف الاقتصادية والعسكرية والدينية واحتكارها يساعد على تجسيد السلطة الاجتماعية.

إن السلطة كعلاقة خضوع وإلزام توجد في كل المجتمعات البشرية المنظمة في جماعة، بما في ذلك المجتمعات البدائية، ذلك أن الأفراد لا يخضعون للقانون أو العرف أو المصلحة العامة بمحض إرادتهم، فوجود سلطة هو الضمانة لهذا الخضوع، فلا يوجد أي مجتمع تحترم فيه القوانين تلقائياً، ولكن هذا لا يعني أن كل سلطة هي بالنتيجة سلطة شرعية، فحتى تكون السلطة شرعية يجب أن تحظى بالقبول والاعتراف من لدى الأفراد المنتمين للجماعة، إن السلطة سواء كانت شرعية أو غير شرعية تفترض وجود عنصر الإكراه، أما إذا لم يتوفر عنصر الإكراه فإن علاقة التبعية والخضوع تدرج ضمن مفهوم النفوذ، فالنفوذ هو السلطة المجردة من الإكراه، فسلطة الزعيم ليست سلطة شرعية، بل لا يعتبرها دفرجيه سلطة بالمطلق، بل هي قدرة أو نفوذ، لأن ليس لصاحبها الحق بأن يطلب الطاعة وأن يعطي توجيهات وأن يأمر، فشرعية السلطة تنبع من الاعتراف بها بمثابة سلطة من طرف أعضاء الجماعة، وعلى الأقل من قبل غالبيتهم فالسلطة تكون شرعية عند توفر إجماع ولو ضمني فيما يتعلق بمشروعيتها .

نلاحظ من خلال هذه المقاربة أن دوفرجيه لا يكتفي بتوفر عنصر الإكراه للقول بوجود سلطة، كما يذهب البعض – بل يشترط أيضاً توفر السلطة على الشرعية أي قبول المجتمع للسلطان – من بيده السلطة – وخضوعهم لأوامره طواعية، وهذه المقاربة تفسر لنا استعمال كلمة زعيم أو سلطة الزعيم في دول العالم الثالث للدلالة على ممارس السلطة أو صاحبها، لأنه يمتلك القدرة لكنه يفتقد في أغلب الأحيان الشرعية، وسلطته هي امتداد لـ "سلطة" زعيم القبيلة والمجتمع ما هو إلا قبيلة كبيرة .

وفي كثير من الحالات يتم تداخل بين مفهوم السلطة ومفهوم النفوذ وقد عرف "روبير داهل" النفوذ بأنه: "العلاقة بين فاعلين يحمل أحدهم الآخرين عن طريق النفوذ على أن يعمل بشكل مختلف عما كانوا سيقومون به لولا ذلك، وهذا النفوذ يكون مستمداً من الغنى، أو المكانة والقرابة الخ" بمعنى أن النفوذ لا يقوم على الرضى الطوعي للمجتمع.

وفي نفس السياق يميز لاسويل Lasswel وكابلان Kaplan في كتابهما "السلطة والمجتمع 1950"، السلطة عن النفوذ بالقول: "إن التهديد بالجزاء هو الذي يميز السلطة عن النفوذ بصورة عامة، فالسلطة تؤلف حالة خاصة من حالات ممارسة النفوذ: إنها العملية التي تؤثر في أفعال الآخرين بالتهديد أو بالاستخدام الفعلي للزواجر القاسية نتيجة عدم الامتثال للأفعال المطلوبة" .

مما سبق نستنتج أن السلطة ملازمة للطبيعة البشرية، وأنها تتضمن عنصري السيطرة والكفاءة، فالسيطرة ضرورية لإخضاع الناس بالإكراه، ولكن الإكراه لوحده قد لا يكون كافياً لضمان الخضوع، فتأتي الكفاءة والشرعية لتسهلا عملية الخضوع وتشرعها. لا شك أن كل سلطة اجتماعية تبدأ كسلطة قائمة على الإكراه أي سلطة فعلية، وتتميز هذه السلطة بتفوق عنصر السيطرة والإكراه أي سلطة فعلية، وتتميز هذه السلطة بتفوق عنصر السيطرة والإكراه على عنصر الكفاءة بالنسبة للممارس السلطة، ولكن وحتى يضمن ممارس السلطة – أب أسرة أو زعيم قبيلة أو حاكم – خضوع الناس وقبولهم لسيطرته فإنه يسعى لإضفاء شرعية على سلطته، وقد يكون مصدر هذه الشرعية إله من الآلهة وهو الأصل الأول للسلطة، حيث كانت شخصية الزعيم تتداخل مع شخصية الإله، أو مصدرها صفات خاصة بممارس السلطة، كذكائه وخبرته وقوته الشخصية، أو يكون مصدرها المجتمع المعني بالسلطة، وفي هذه الحالة يمنح المجتمع لصاحب السلطة حق ممارسة السلطة اعتماداً على كفاءته أو لاعتبارات أخرى يرى المجتمع أنها تتوفر فيه ولا تتوفر في غيره. فمثلاً نجد ماكس فيبر – المشار إليه أعلاه – بعد تعريفه للسلطة يحدد لها ثلاثة مصادر؟ فهي إما سلطة تقليدية Traditional Authority أو سلطة كارزماتية Charismatic أو سلطة عقلانية قانونية Rational Authority.

إلا أن السلطة كظاهرة اجتماعية تتطور بتطور المجتمعات، وتتغير موائلها تبعاً لذلك، فإذا كانت في القديم تستمد من السماء – سلطة دينية – أو من الجاه أو من المكانة أو من القوة، فإنها اليوم وعلى مستوى المجتمع الكلي تتركز في يد من يتحكم في إنتاج الثروة- رأس مال ، نفط ، معلوماتية -، فالمتحكم بالثروة اليوم يتحكم بالسلطة على الطبيعة والناس. و "ظهور نظام جديد لإنتاج الثروة هز أركان كل ركائز النظام القديم للسلطة، وانتهى بتحويل الحياة العائلية تحويلاً تاماً، كما أدخل مثل هذا التحويل على عالم الأعمال والسياسة، والدولة – القومية، وحتى بنية السلطة نفسها في جملتها" . وهذا القول يجد مصداقيته إذا نظرنا إلى المتحكمين في العالم، فعالمياً الدول المسيطرة هي ذات القوة الاقتصادية: أمريكا، اليابان، ألمانيا، فيما الاتحاد السوفييتي العملاق عسكرياً انهار لأنه ضعيف في قدرته على إنتاج الثروة، وداخل المجتمعات نجد أن السلطة السياسية والاجتماعية تتركز في يد النخبة من أصحاب الأرض والشركات والعقارات – فسلطة المال اليوم تطغى على كل سلطة، وأغنى رجال العالم اليوم هم منتجو المعرفة – الثورة المعلوماتية – فسلطة اليوم هي سلطة المعلوماتية وما يرتبط بها.

إن هذا التعريف العام للسلطة يشمل كل أنواع السلطة السياسية وغير السياسية ذلك أنه ليس كل سلطة هي بالضرورة سلطة سياسية، وقد تباينت آراء الأنتربولوجيين حول طبيعة السلطة السياسية وتعريفها لدى الجماعات البدائية وكيف يمكن أن نميز بين السلطة السياسية والسلطة غير السياسية؟.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
المقداد

عضو مبدع  عضو مبدع
المقداد


الجنس : ذكر
العمر : 40
الموقع المدينة المنورة
التسجيل : 30/09/2011
عدد المساهمات : 151

النظرية السياسية  Empty
مُساهمةموضوع: رد: النظرية السياسية    النظرية السياسية  Icon_minitimeالخميس 10 نوفمبر 2011, 7:28 pm



المبحث الثاني: السلطة السياسية Political Authority
أعطى بعض الأنتربولوجيين السياسيين للسلطة معنى مستقى من الأنوية الحضارية الغربية التي ينتمون إليها، حيث نفوا صفة المجتمع السياسي عن المجتمعات البدائية، فالبريطاني تيفارت، يؤكد "أن التنظيم السياسي أمر استثنائي مميز لبعض الجماعات..فكل الشعوب كانت لفترة معينة أو لا تزال، منظمة على أساس آخر "نفس الموقف قال به مالينوفسكي الذي نفى وجود جماعات سياسية لدى جماعات الفيدا وأهالي استراليا الأصليين، هؤلاء الكتاب يعتبرون أن الشأن السياسي يبدأ حيث ينتهي نطاق القرابة، باعتبار أن الجماعات البدائية تلعب فيها صلة القرابة العامل الرئيسي في علاقتها الاجتماعية، فعلاقات القرابة تتنافى مع العلاقات السياسية -كما سبقت الإشارة-، وحسب هذا المفهوم فإن السلطة السياسية مرتبطة بوجود الدولة، إذن فالمجتمعات البدائية التي لا تعرف السلطة السياسية هي مجتمعات اللادولة .

إلا أن هذه المقاربة التي تنفي صفة السياسي وبالتالي صفة الدولة عن المجتمعات البدائية، تجد من يعارضها ويأخذ بمقولة أرسطو بأن الإنسان حيوان سياسي بطبعه، فلا يوجد مجتمع بدون حكومة، إن الخلاف في الواقع يكمن في اختلاف مفهوم السياسة لدى الأقدمين عنه عند المجتمعات المعاصرة، فالسياسة بمعنى القيادة موجودة عند كل المجتمعات، إلا أنها عند المجتمعات البدائية لم تكن جهازاً منفصلاً عن الأجهزة الأخرى من اقتصادية واجتماعية ودينية، بل كانت متداخلة معها وكانت كلها تتركز في يد رجل واحد أو مجلس واحد. أما مفهوم السياسة اليوم فمختلف، إنها جهاز مستقل قائم بذاته له أصوله وقواعده، والسلطة السياسية لا تتواجد وتأخذ معناها ومدلولها الحقيقي اليوم إلا في ظل وجود المجتمع المدني، الذي هو مرحلة متطورة في حياة المجتمعات، "إنه حاصل اجتماع عدد كبير من الجماعات التي تختلط دون أن تذوب، إنه كما يقول علماء الاجتماع مجتمع كلي" ، إذن السلطة السياسية لا تتواجد إلا في وجود المجتمعات الكلية.

وفي تحليله للسلطة السياسية عند المجتمعات البدائية يقول بيار كلاستر إن المجتمعات البدائية لم تعرف السلطة السياسية كجهاز قائم بذاته بل كانت مندمجة مع بقية المؤسسات الأخرى، ويميز بين السلطة السياسية وبين نفوذ الزعيم في المجتمعات البدائية، فالزعيم يحظى بالاحترام والتقدير ويمثل الجماعة لدى الجماعات الأخرى، ويفض النزاعات الداخلية، لكنه لا يمتلك أي سلطة قسرية، وغياب عنصر القسر أو الإكراه هو ما ينفي صفة السياسي عن سلطة الزعيم: "إن الزعيم بما أنه المعمم لنشاطات الجماعة الاقتصادية والطبقية، لا يحوز على أي سلطة تقديرية، إنه غير متأكد على الإطلاق من أن أوامره سوف تنفذ" .وعليه فإن السلطة السياسية بمفهومها المعاصر تنتفي في المجتمعات البدائية لانتفاء علاقة حاكمين بمحكومين فالزعيم ليس ملكاً وليس رئيس دولة، وبالتالي لا يحوز على أي نفوذ أو سلطة إعطاء الأوامر الملزمة، فناس القبيلة ليسوا ملزمين بإطاعة الأوامر: "إن مجال الزعامة ليس مكاناً للسلطة وصورة الزعيم الهمجي لا تمثل في شيء صورة المستبد المقبل، إن جهاز الدولة لا ينتج مطلقاً من الزعامة البدائية" .

إن سلطة زعيم القبيلة التي هي سلطة شخصية تمارس من قبل صاحبها الذي يتصرف وكأنه القانون، هذه السلطة يمكنها أن تتحول إلى سلطة سياسية إذا أخذت طابعاً مؤسساتياً أي سلطة محددة في الواقع بقواعد قانونية وأصول إجرائية تحول دون أن يتصرف من يملكها وفق رغباته الشخصية، وبمعنى آخر فإن ما يميز "الدولة" بالمفهوم القديم عن الدولة الحديثة أن السلطة في الأولى كانت فردية بينما في الدولة الحديثة السلطة هي المؤسسات والأجهزة، حتى وإن كان هناك حاكم مستبد فإن هذا لا يستطيع أن يمارس سلطته الاستبدادية بصفة شخصية، بل يمارسها عن طريق المؤسسات أو الأجهزة القمعية.وقد عرفت غالبية دول إفريقيا ودول آسيوية هذه الحالة ، فقبيل الاستعمار كانت هذه الشعوب تعيش كقبائل محكومة من زعمائها دون مؤسسات سياسية واضحة ، وعندما جاء الاستعمار، وضع حدود وهمية بين القبائل ونصب زعماء القبائل ملوكا ورؤساء وخلق مؤسسات سياسية وهمية،إلا انه إلى اليوم ما زالت هذه المجتمعات تعاني من حالة التداخل والصراع ما بين المجتمع القبلي والدولة واستحقاقاتها السياسية.

هذا الفصل بين الزعامة وبين السلطة السياسية، سبق أن تطرق إليه العلامة ابن خلدون في مقدمته الشهيرة، حيث ميز بين الرئاسة التي تعني الزعامة دون سلطة إكراه، وبين الملك الذي يعني القهر والغلبة فيقول: "إن الآدميين بالطبيعة الإنسانية يحتاجون في كل اجتماع إلى وازع، وحاكم يزع بعضهم عن بعض فلابد أن يكون متغلبا عليهم وألا لا تتم قدرته وهذا التغلب هو الملك وهو أمر زائد على الرئاسة، لأن الرئاسة إنما هي سؤدد وصاحبها متبوع، وليس له عليهم قهر في أحكامه وأما الملك فهو التغلب والحكم بالقهر" .

ومع ذلك فقد أشار العديد من الانترلولوجين السياسيين إلى صعوبة وضع تحديد دقيق بين المجتمعات السياسية والمجتمعات غير السياسية، وبالتالي ما بين السلطة السياسية والسلطة غير السياسية، نعم يمكن تحديد ذلك داخل المجتمع الكلي، مثلاً في الدولة نميز بين سلطة الدولة كمجتمع سياسي والسلطة التي تمارسها المجتمعات الأدنى "الفرعية"، كالأحزاب والنقابات، والطوائف، والقبائل والأسر، ولكن ما بين المجتمعات الكلية وبعضها البعض وخصوصاً فيما يتعلق بلحظة التأسيس، يصعب تحديد متى انتقل المجتمع من مرحلة اللادولة – المجتمع اللاسياسي – إلى مرحلة الدولة أو المجتمع السياسي، وبالتالي متى ظهرت السلطة السياسية، وقد أشرنا إلى التداخل بين مفهوم الزعامة ومفهوم السلطة، وبالتالي صعوبة الفصل الواضح بين سلطة الزعيم التقليدي، وسلطة الحاكم السياسي، أيضا فيما يتعلق بالقول بأن المجتمعات اللاسياسية تقوم فيها العلاقات على أساس القرابة ومن القرابة تستمد "السلطة" أما المجتمعات السياسية فتنتفي فيها علاقات القرابة كمحدد رئيس، لتحل محلها علاقات تراتبية ووظيفية، هذا القول ليس دقيقاً تماماً فالأنتربولوجيا السياسية "بدلاً من أن تتصور القرابة والسياسة كعبارتين مانعتين الواحدة للأخرى أو متعارضين الواحدة للأخرى، كشفت الروابط المعقدة القائمة بين هذين النظامين...وهكذا أظهرت دراسة التنظيم النسبي وامتداده في المكان وجود علاقات سياسية مبنية على استخدام مبدأ التحدر خارج نطاق القرابة الضيق، كذلك تقدم القرابة للسياسي، في هذه المجتمعات نموذجاً ولغة .

لقد بينت دراسات انتربولوجية سياسية، أن علاقات القرابة والجوار أو الأرض المشتركة، بالإضافة إلى الصراع والحرب كلها أمور لعبت دوراً في إعطاء مضمون سياسي للمجتمعات التقليدية – المجزأة...وهذا ما يفسر لنا إطلاق ابن خلدون لفظ دولة على السلطة القائمة في البادية، وواقع السلطة السياسية في كثير من مجتمعات العالم الثالث اليوم بما فيها المجتمعات العربية يدل على التداخل ما بين القرابة والسلطة السياسية، حيث نجد سلطة تقليدية مستمدة من الوراثة أو الأصول وفي حالات كثيرة تُمتَلك السلطة من قِبل أفراد الأسرة المالكة، فالحكم هو حكم الأسرة أو القبيلة والأسرة والعشيرة محددان أساسيان في السياسة.

وما دمنا تطرقنا إلى مفكر مسلم، فيستحسن أن نشير إلى موقف الإسلام من السلطة والدولة، ففي اللغة العربية كلمة سلطة تحيل إما إلى التسلط والإكراه، وهو المعنى الأكثر تداولاً وقبولاً في الفكر السياسي العربي، أو تحيل إلى معنى السلط والسليط، أي طويل اللسان، بمعنى أن السلطة تستمد من سلاطة اللسان أي حدته وفصاحته، ولكن كلمة سليط تعني الزيت التي يضاء به، فكأن السلطة هنا تعني الإنارة والقدرة على قهر الظلام، ومن هنا نجد كلمة سليط تحيل إلى السلطان، فالسلطان "موئل السلطة ومركزها" معناه باللغة العربية، الحجة والبرهان، وكأن هذا المعنى يدل أن السلطان صاحب السلطة لا يعني فقط التسلط والجبر بل القدرة على امتلاك الحجة والبرهان لإقناع الناس وإنارة طريقهم إلى الصواب.

أما فيما يتعلق بظهور المجتمع السياسي في المجتمع العربي الإسلامي، فقد بين ابن خلدون ذلك بتمييزه ما بين مجتمع البدو المتسم ببساطة العيش وبانقسامه إلى قبائل متطاحنة ومتحاربة ومجتمع الحضر – المدن – المتميز بتعقد الحياة الاجتماعية وطرائق العيش وخفوت حدة العصبية القبلية، فالأول هو الذي يعرف السياسة أما المجتمع القبلي السابق له فهو مجتمع لا يعرف السياسة، هذا الرأي يتفق معه الكاتب محمد سليم العوا الذي ينفي وجود مجتمع سياسي وبالتالي سلطة سياسية في المجتمع البدوي العربي قبل ظهور الإسلام "فلم يكن لمثل هذه السلطة وجود في مجتمعات البدو أو وحداتهم التي ينتمون إليها"، فالمجتمع السياسي لم يظهر إلا بعد ظهور الإسلام، ولكن ليس مباشرة فحتى عندما كان المسلمون في مكة لم يشكلوا مجتمعاً سياسياً، فهذا لم يظهر إلا بعد العقبة الثانية وما تلاها من هجرة الصحابة من مكة إلى المدينة .

من كل ما سبق ما هي مؤشرات وجود مجتمع سياسي وبالتالي سلطة سياسية؟
يذهب غالبية علماء السياسة والاجتماع إلى القول إن السلطة السياسية هي السلطة التي تتبلور مع وجود الدولة أي السلطة المقترنة بعنصر الإكراه أو القوة، حيث يشهد التاريخ أنه لم تقم سلطة سياسية بغير قوة، كما أنه لم تنهار سلطة سياسية بغير القوة أيضاً، فبغير القوة – بمفهومها الواسع – يصبح من المشكوك فيه أن تتمكن سلطة سياسية من إشاعة الاستقرار والنظام داخل المجتمع.

قد لا يكون هذا القول كافياً لتعريف السلطة السياسية، وبالتالي تعددت المقاربات للتعرف على السلطة السياسية، فهناك مقاربة تقول إن السلطة تكون سياسية عندما تمارس في المجتمع الكلي، ومن هنا يمكن الحديث عن سلطة سياسية في مقابل سلطات اجتماعية في المجتمعات الفرعية – سبق التطرق إلى ذلك – ومقاربة أخرى تعتبر السلطة سلطة سياسية عندما تكون سلطة سيدة، بمعنى أن ممارسيها لا يخضعون لأي سلطة أخرى . وهو الأمر الذي يطرح عند الحديث مثلاً عن السلطة الفلسطينية ومدى السيادة التي تتمتع بها وسنشير إلى ذلك لاحقاً.

وهناك مقاربة أخرى تُعرف السلطة السياسية تعريفاً وظيفياً، فتعتبر السلطة السياسية هي الفعالية الاجتماعية التي تتكلف – مستعينة بالقوة المرتكزة على القانون غالباً – بتأمين السلامة من أي خطر خارجي وتأمين الوفاق والانسجام الداخلي لأي مجتمع، وهذا القول يتفق مع ما قال به بريلو Marcel Prelot من تلازم المجتمع والدولة والقدرة – السلطة – وصعوبة الفصل بينهما "فالدولة – المجتمع تستدعي الدولة – القدرة، والدولة – القدرة تستدعي الدولة – المجتمع" .

أما "جورج بالاندييه" فيضع عدة مؤشرات يستدل منها على وجود مجتمع سياسي وبالتالي سلطة سياسية وهذه المؤشرات هي:
أولاً: الاستدلال بطرائق التنظيم المكاني:
حسب هذا المعيار يُفهم الميدان السياسي أولاً كنسق تنظيمي عامل في نطاق محدد ووحدة سياسية، أو كحيز مشتمل على جماعة سياسية، وحسب هذا المعيار أيضاً ميز ماكس فيبر النشاط السياسي – بمعزل عن اللجوء المشروع إلى القوة – بكونه يجري داخل أرض ذات حدود معينة" من القرابة إلى الأرض" فالسلطة السياسية مرتبطة بالدولة ذات الإقليم المحدد.
ثانياً: الاستدلال بالوظائف:
بمعنى أن المجتمع السياسي يتميز بوظائف خاصة به، فهو يؤمن التعاون الداخلي والدفاع عن سلامة المجتمع ضد المخاطر الخارجية، وقد شدد "ج. الموند A. Almond" على أن جميع الأنظمة السياسية تتشارك بخاصيتين: تأدية الوظائف نفسها من قبل جميع الأنظمة السياسية، والتعددية لجميع البنى السياسي.
ثالثاً: الاستدلال بطرائق العمل السياسية:
يرى "م.ج. سميت" أن الحياة السياسية مظهر من مظاهر الحياة الاجتماعية ونظام عمل، فالعمل الاجتماعي يكون سياسياً عندما يسعى إلى السيطرة أو التأثير على القرارات المتعلقة بالشؤون العامة.
أما "د. اسيتون Easton" فيرى أن العمل يكون سياسياً عندما يرتبط ارتباطاً شبه مباشر بصياغة وتنفيذ قرارات ملزمة بالنسبة إلى نظام اجتماعي معين، ويرى بالانديه أن هذا التعريف الأخير مرن إلى حد كبير، ذلك أن الأسرة أو الجمعية مثلاً تعد نظاماً اجتماعياً، لكن أي منها لا تشكل تنظيماً سياسياً أو مجتمعاً سياسياُ، فالنظام السياسي ينطبق فقط على "مجمل النشاطات التي تضمن اتخاذ قرارات تهم المجتمع الكلي وفروعه الكبرى".

رابعاً: الاستدلال بالخصائص الشكلية:
يلاحظ "ج. بوربون" أن كل طاعة ليست بالضرورة سياسية – سبق أن تطرقنا للموضوع – فداخل كل جماعة توجد مجموعة من الأنظمة قد تدخل في تنازع مع بعضها البعض، الأمر الذي يؤدي إلى سيطرة أحدهما على الآخرين، وهنا يبرز المفهوم السياسي أنه تفوق بنية معينة على البنى الأخرى في مجتمع محدد.

إن المؤشر الأخير لوجود المجتمع السياسي يقربنا من مفهوم السلطة السياسية في التفسير الماركس، فالماركسيون يرون أن السلطة السياسية وجدت مع وجود المجتمع الطبقي أي المجتمع المنقسم إلى طبقات اجتماعية متباينة ومتصارعة، فالسلطة السياسية تفرض نفسها عندما تسيطر طبقة على أخرى والسلطة "هي قدرة طبقة اجتماعية معينة على تحقيق مصالحها الموضوعية الخاصة" .
ونخلص إلى القول أن السلطة ليست مفهوماً محض سياسي، وإنما هي واقعة اجتماعية مثلها مثل القانون الذي هو أيضاً واقعة اجتماعية، لأن السلطة السياسية لا تكون إلا حيث يوجد مجتمع وتوجد علاقات اجتماعية، وإن كانت السلطة السياسية أو السلطة المؤسسية هي أرقى أنواع السلطة، فإن السلطة بصورة عامة سابقة للسلطة السياسية ومصاحبة لها أيضاً، حيث نجد أن الفرد يخضع في آن واحد إلى سلطة سياسية وسلطة اجتماعية، قد تكون سلطة رب الأسرة أو سلطة حزب أو جمعية أو سلطة العادات والتقاليد للمجتمع الذي يعيش فيه.

كما نشير إلى أن السلطة السياسية عرفت تطوراً تواكب مع تطور المجتمعات، فبعد أن كانت هذه السلطة تستمد من – وتتمحور حول – رئيس القبيلة حيث كانت له سلطة شخصية هو موئلها، أصبحت بعد ذلك تستمد من أصول دينية، فالزعيم أو الملك إما أن يكون إلهاً أو يدعي أنه يستمد سلطته من الإله، وفي مرحلة أخرى ومع ظهور المجتمع المدني ظهرت إرادة الأمة التي منها تستمد السلطة وأصبحت هذه الأخيرة تعتمد في شرعيتها على إدارة الأمة التي منها تستمد السلطة وأصبحت الدولة هي المحتكرة لممارسة السلطة بما يعنيه ذلك من احتكارها لممارسة الإكراه المصاحب لممارسة السلطة السياسية.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
المقداد

عضو مبدع  عضو مبدع
المقداد


الجنس : ذكر
العمر : 40
الموقع المدينة المنورة
التسجيل : 30/09/2011
عدد المساهمات : 151

النظرية السياسية  Empty
مُساهمةموضوع: رد: النظرية السياسية    النظرية السياسية  Icon_minitimeالخميس 10 نوفمبر 2011, 7:29 pm



المبحث الثالث :السلطة السياسية والشرعية Legitimacy


كما سبق الذكر فالسلطة توجد داخل مجتمع مكون من مكونات الدولة توجد حيث يوجد جهاز – أجهزة رسمية – أو أشخاص يحتكرون عملية اتخاذ القرارات العامة ولديهم القدرة على فرض هذه القرارات. ولكن وجود السلطة شيء وشرعيتها شيء آخر، وإن كان موريس دفرجيه اعتبر أن السلطة السياسية لا تكون إلا إذا تلازمت مع الشرعية، بمعنى أن السلطة السياسية بالضرورة سلطة شرعية، إلا أن العديد من علماء السياسة يقرون بالوجود الواقعي للسلطة السياسية بغض النظر عما إذا كانت شرعية أو غير شرعية، حيث غالباً ما تضفي الشرعية على السلطة بعد أن تصبح واقعاً.

والسؤال هو ما المقصود بالشرعية؟ وما هي مقومات أو عناصر السلطة الشرعية؟ ومن أين تُكتسب الشرعية؟.
بالرغم من تداول مفهوم الشرعية بشكل واسع سواء على المستوى السياسي كقولنا نظام شرعي أو غير شرعي، أو اجتماع شرعي أو غير شرعي، أو سلوك شرعي أو غير شرعي، أو قرار شرعي أو غير شرعي الخ، أو على المستوى الفردي حيث تضفي صفة الشرعية على كل تصرف يحضى بالقبول أو الرضى من طرف الأشخاص المعنيين بهذا التصرف أو الذين يتجه إليهم.ومن هنا فالمعنى العام لكلمة الشرعية تعني توافق السلوك مع قناعات ورضى الناس. ولكن هذا المعنى العام ليس بهذه السهولة التي يعتقدها البعض فكيف يمكن أن نقيس رضى الناس ونعرف إن كان رضاهم على حكامهم ناتج عن قناعة أم هم مجبرين على إظهاره خوفاً ممن في يدهم السلطة؟ وهل يمكن أن يكون النظام شرعياً إلى ما لانهاية؟ أم أن هذه الشرعية تتقيد باستمرارية حالة الرضى التي عليها الناس؟ وأخيراً ما هي العلاقة بين الشرعية بمعنى الحكم بالقانون والشرعية بمعنى الحكم بما يرضى الناس؟ وهل دائماً حكم القانون أو بالقانون يعني التوافق مع رضى وقناعات غالبية أفراد المجتمع؟.

أولا: الشرعية لغوياً
في اللغة العربية الشرعية مشتقة أصلاً من الشرع، والشرع في اللغة العربية هو البيان والإظهار، وشرع الشيء أي بينه وأوضحه، والشرع مرادف للشريعة وهي ما شرع الله لعباده من الأحكام. كما أن الكلمة تطلق على الطريق المستقيم ويقصد العلماء المسلمون بكلمة الشرعية "الأحكام التي شرعها الله لعباده على لسان رسول الله وغيره من الرسل" ثم تطور مفهوم الشريعة وأصبحت تعني كل أحكام النظام الإسلامي، ما تعلق منها بالدين وما اختصت بالتشريع سواء وردت في القرآن أم في السنة أو في الإجماع أم في التفاسير وبالتالي الشرعي – نظام أو سلوك – هو المنسوب إلى الشرع أو الذي يتصرف ويسلك بمقتضى الشرع، والنظام الشرعي هو النظام الذي يلتزم في سلوكه ما جاءت به الشريعة الإسلامية، هو ما شرعه الله ورسوله .

ويعتقد سعد الدين إبراهيم أن الشريعة في الفقه الإسلامي هي المقابل المصطلحي لمفهوم البيعة، مستنداً على ما ذكره ابن خلدون في مقدمته: "أعلم أن البيعة هي العهد على الطاعة كأن المبايع يعاهد أميره على أنه يسلم له النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين لا ينازعه في شيئ من ذلك ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر على المنشط والمكره، وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا جعلوا أيديهم في يده تأكيداً للعهد، فأثبته ذلك فعل البائع والمشتري... .

أما في اللغات الأجنبية فكلمة Legitimacy مشتقة من اللاتينية كمرادف للقانون، وهي تعني أيضاً التشريع والمشرع، والسلطة الشرعية: "هي تلك السلطة التي يعترف بها أنها مشروعة أو مبررة من طرف أولئك الذين تطبق عليهم، إنها معترف بها كقانونية، عادلة وصحيحة" .

ثانيا : المعنى الاصطلاحي للشرعية
مفهوم الشرعية اصطلاحاً اختلف بعض الشيء عن المفهوم اللغوي، فالفلاسفة مثلاً يذهبون إلى القول إن الحكومة الشرعية هي الحكومة التي تتولى سلطة يؤمن الشعب أنها السلطة الحقيقية أو السلطة التي تستحق الطاعة دون غيرها.فالشرعية هنا تستمد من القناعة والإيمان، فمثلاً الملكيون لا يؤمنون بسلطة غير السلطة التي تتركز بيد الملك والمؤسسة الملكية، بمعنى أن إيمانهم بالملكية يدفعهم لإضفاء صفة الشرعية على الملك بغض النظر عن صفات هذا الملك. وكذا الأمر بالنسبة لأنصار الديمقراطية، فهؤلاء لا يعتبرون حكومة ما شرعية إلا إذا كانت منتخبة بطريقة حرة ونزيهة. إذن القناعة المسبقة بتصور ما عن الشرعية هو الذي يجعل الناس يضفون صفة الشرعية على نظام ما أو يسقطونها عنه.

أما المعنى الاجتماعي والسياسي للشرعية، فالشرعية هي صفة لنظام يحض برضى الأغلبية من السكان. عرف سيمور ليبست Seymour Lipsetالشرعية بأنها " اعتقاد المحكومين بأن مؤسسات النظام السياسي القائم في مجتمعهم أفصل ما يمكن تكوينه " أو " إن هذه المؤسسات هي الأكثر ملاءمة وصلاحية للمجتمع ".1
وعلى هذا الأساس فالشرعية متبدلة بتبدل الواقع الذي يعبر عنه الشعب أو يريده الشعب، وبالتالي لا تلتزم الشرعية هنا بقيمة ثابتة ونهائية، فقد تكون غالبية الشعب ذات توجه ثوري وبالتالي فإن النظام الشرعي في نظرها هو الذي يعبر عن هذا التوجه، ولكن بعد حين قد ترتد الغالبية عن الثورية وتطالب بالديمقراطية فيكون النظام الشرعي بالنسبة لها هو النظام الديمقراطي المنتخب، ويصبح النظام المعتمد على الشرعية الثورية نظام غير شرعي.

وقد يحدث في بعض الحالات أن ينقسم الناس ما بين شرعيتين فيحدث آنذاك صراع حول السلطة بحيث تسعى كل فئة إلى إقامة نظام يعتمد توجهاتها السياسية والقيمية أي تصورها للشرعية، وفي هذه الحالات قد يحسم الأمر بطريقة ديمقراطية بحيث تعتمد الشرعية التي تؤيدها الأغلبية ويصبح على الأقلية الالتزام بإرادة الأغلبية مع احترام الأغلبية لحقوق الأقلية ، أو أن يحسم الصراع عن طريق القوة فتفرض شرعية الأقوى دون التفات لرأي الأغلبية.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
المقداد

عضو مبدع  عضو مبدع
المقداد


الجنس : ذكر
العمر : 40
الموقع المدينة المنورة
التسجيل : 30/09/2011
عدد المساهمات : 151

النظرية السياسية  Empty
مُساهمةموضوع: رد: النظرية السياسية    النظرية السياسية  Icon_minitimeالخميس 10 نوفمبر 2011, 7:40 pm



ثالثا: الشرعية القانونية والشرعية السياسية – الشرعية والمشروعية

يطرح السؤال أحياناً، هل أن كل سلطة تَحكم بالقانون هي سلطة شرعية بالضرورة، بغض النظر عن مصدر القانون؟.
مبرر طرح هذا السؤال أننا نجد في بعض الحالات أنظمة سياسية تزعم أنها تحكم بالقانون، وقد يوجد بالفعل قانون ودستور، و بالرغم من ذلك لا يكون الشعب راضياً عن الحكم، بل ومتمرداً عليه. في هذه الحالة إما أن يكون القانون معبراً بالفعل عن إرادة الشعب ووضع بوسائل ديمقراطية ولكن السلطة القائمة تلجأ إلى التحايل على القانون أو تفسيره بما يخدم مصالحها، أو أن السلطة تضرب بعرض الحائط القانون، متجاوزة إياه، إلى ممارسة دكتاتورية ومستبدة، أو أن القانون القائم غير معبر عن إرادة الأمة وليست الأمة هي التي وضعته، بل شخص الحاكم أو الفئة الحاكمة، ويحدث هذا غالباً عندما يقوم شخص أو فئة ما بانقلاب أو تمرد يطيح بالنظام القائم – شرعي كان أو غير شرعي – ويؤسس نظاماً جديداً وحتى يضفي صفة الشرعية على وجوده يضع قوانين بل يمكنه أن يمنح للشعب دستوراً – الدستور المنحة – ويحكم بمقتضى هذه القوانين وبمقتضى هذا الدستور، وفي هذه الحالة، ظاهرياً يبدو النظام شرعياً لأنه يحكم بالقانون وبالدستور ولكنه في العمق والجهور يفتقر إلى المشروعية بمعنى رضى غالبية الشعب.

أثبتت تجارب الشعوب أن الشرعية القانونية والمشروعية السياسية المعبرة عن إرادة الأمة لا تتطابقان دائما، فكم من قوانين جائرة وكم من دساتير منحها الحكام ليضفوا شرعية موهومة على نظامهم؟ وكم من حالة أعلن الحكام أنهم يستمدون شرعيتهم من دستور الثورة وقوانينها أو من القرآن كدستور لأمة الإسلام، ولكنهم مارسوا من التصرفات ما هو نقيض لفكر الثورة التي يزعمونها ولروح الإسلام الذي يتمسحون به !. عنصر الرضا كمعيار للحكم على مدى شرعية نظام ما يكونً ملتبساً ومثيراً للتساؤلات وخصوصاً في دول العلم الثالث حيث تسود الأمية والجهل وتغيب الديمقراطية، فكيف يمكن قياس رضى الشعب عن حكامه؟ وهل مجرد خروج الناس بالمظاهرات وتجمعهم بمهرجانات تنظمها السلطة مرددين هتافات مؤيدة لها ورافعين شعارتها، كافياً للقول بتوفر عنصر الرضى وبالتالي شرعية النظام؟ وكيف نميز ما بين الرضى الظاهر دون قناعة، وبين حقيقة مواقف وقناعات الشعب التي يخشون الجهر بها ؟.

لا شك أن شرعية السلطة أمر ليس من البساطة قياسها أو الحكم المطلق أنها موجودة أو غير موجودة؟ أو أن هذا المؤشر أو ذاك يكفي وحده للقول بشرعية السلطة أو عدم شرعيتها؟ فالشرعية عملية معقدة، فهي قيمة و صيرورة، يتداخل فيها التعود أو العادات والتقاليد مع المصلحة مع الخوف مع القناعة مع الايدولوجيا ، وهي ترتبط بثقافة الشعوب ومستوى التعليم فيها ونوع التحديات التي تواجها ، إن كانت داخلية أو خارجية الخ، فالناس عادة لا يهتمون كثيراً في البحث عن المصادر الفلسفية والقيمية للسلطة بل يهتمون بمدى قدرة السلطة القائمة على تلبية احتياجاتهم الحياتية وضمان مستقبل أجيالهم. فالشرعية تستمد غالباً من القدرة على تلبية حاجات ومصالح، والتعبير عن أحاسيس ومشاعر، أكثر من كونها تستمد من قوانين ودساتير، إلا إذا كانت هذه الأخيرة ضمانة لتلبية الحاجات والمصالح. فلسنوات كانت الأنظمة الشيوعية والشمولية عموما ، تحضا بالشرعية حيث كانت قادرة على توفير متطلبات الحياة الكريمة للمواطنين، ولكن عندما عجزت عن توفير هذه المتطلبات فقدت شرعيتها وتجلى ذلك في خروج الجماهير ضدها.

وفي الختام لابد من الإشارة إلى مفارقة في مصطلح شرعية السلطة، فالشرعية كما قلنا تعني الرضى والقبول بالسلطة، ولكن السلطة هي علاقة خضوع وإكراه، بمعنى أن الشرعية تتضمن الإقرار بإكراه السلطة وتحمل تسلطها. وهنا تكون الموازنة دقيقة، بحيث على السلطة أن لا تمارس من الإكراه والضغط على الشعب ما يجعل معاناته تفوق كثيراً المكاسب والخدمات التي تقدمها له السلطة، لأنه في هذه الحالة سيكون الشعب مضطراً على التضحية بالمنافع الضئيلة للتخلص من العبء الثقيل للسلطة، إن شرعية السلطة تعني ذلك التوازن الدقيق ما بين ضرورة التسلط والإكراه من طرف السلطة ومنافعها من جهة أخرى.

وعليه يمكن الاعتماد على ما قال به فقهاء القانون الدستوري حيث ميزوا بين الشرعية Lgitimite والمشروعية Legalite فالأول تعني الحكم بالقانون أي مطابقة ممارسة السلطة مع القانون القائم أما الثانية المشروعية فهي مطابقة ممارسة السلطة مع القيم العميقة للمجتمع وإرادته سواء كان القانون معبراً عنها أم لا.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
المقداد

عضو مبدع  عضو مبدع
المقداد


الجنس : ذكر
العمر : 40
الموقع المدينة المنورة
التسجيل : 30/09/2011
عدد المساهمات : 151

النظرية السياسية  Empty
مُساهمةموضوع: رد: النظرية السياسية    النظرية السياسية  Icon_minitimeالخميس 10 نوفمبر 2011, 7:42 pm



رابعا :من أين تستمد السلطة مشروعيتها – مصادر شرعية السلطة-؟

وكما سبقت الإشارة ودون الدخول في جدل نظري حول الفرق بين الشرعية والمشروعية، فإن للسلطة السياسية موائل تستمد منها شرعيتها، وتعتمد عليها في ممارستها وتمرير خطابها، ويعتبر ماكس فيبر من أهم المفكرين المحدثين- سبقه إلى ذلك كل من أفلاطون وأرسطو وابن خلدون ولكن دون توسع- الذين تناولوا مصادر شرعية السلطة بالتحليل، وعلى منواله سار بقية الباحثين في مصادر شرعية السلطة، وقد وضع ماكس فيبر ثلاثة مصادر لشرعية السلطة، وهي الشرعية التقليدية والشرعية الكارزماتية والشرعية العقلانية أو القانونية.

وقبل التفصيل في هذه الشرعيات لابد من الإشارة إلى أن ماكس فيبر وظف منهجه المفضل – منهج الأنماط المثالية - وهذا معناه أن هذه النماذج ليس بالضرورة متطابقة كلياً مع حالات واقعية للسلطة فهي نماذج مثالية أو تشييد ذهني، إن كانت مستمدة من الواقع، فليست هي الواقع، فالنموذج قد يقترب قليلاً من حالة واقعية ما ولكنه نادرا ما يتطابق معها، وكلما توفرت في سلطة ما أكبر قدر من العناصر المكونة للنموذج المثالي لشرعية ما نسبت هذه الشرعية إلى هذه السلطة المقصودة، فيقال أنها شرعية تقليدية أو عقلانية أو كارزماتية.

في دراسته حول السلطة يرى ماكس فيبر أن السلطة تستمد مشروعيتها من مصادر ثلاث أو تقوم على مصادر ثلاثة وهي:

1: السلطة العقلانية Rational authority
وهي أفضل أنواع السلطة، وهي النموذج السائد في الأنظمة الرأسمالية المؤسسة على البيروقراطية والديمقراطية، وفي هذا النموذج نجد نسقاً من القواعد التي تطبق قانونياً وإدارياً وفقاً لمجموعة من المبادئ المؤكدة والثابتة بين كل أعضاء الجماعة. وهدف السلطة هو إقامة نمط من العلاقات بالنظر إلى مبادئ العقل والمعقولية، دون ربطها بأشخاص محددين أو بزمن محدد.
2: السلطة التقليدية Traditional authority
وهي تقوم على الاعتقاد بقدسية التقاليد الراسخة وفي حق أولئك الذين يتولون السلطة في ممارستها. فالسلطة هنا تكتسب مشروعيتها إما من التاريخ أو من قدسية الأشخاص المؤسسين لها.
3: السلطة الكاريزمية Charismatic authority
وتعتمد على ولاء الناس أو الأتباع لفرد معين يتمتع بإمتيازات وقدرات نادرة وخصائص شخصية يندر أن تتوفر لغيره. ويعتقد فيبر أن معظم التغيرات الكبرى في تاريخ المجتمع الإنساني كانت نتيجة لأفراد ذوي إمكانيات كاريزمية. كما يرى أن السلطة الكاريزمية ارتبطت أولاً بالدين ثم أصبحت تميل في العصر الحديث إلى أخذ طابع سياسي.
من الملاحظ ان مصادر الشرعية الثلاث المشار إليها ما زالت متواجدة في الأنظمة السياسية المعاصرة ، ولكن بدرجات متفاوتة وبتداخل في بعض الحالات ، حيث يلاحظ أن الشرعيتين التقليدية والكارزماتية أخذتا تتراجعان لصالح الشرعية العقلانية ، شرعية صناديق الانتخابات . بالإضافة إلى ذلك ومع تطور وتعقد الحياة السياسية والاقتصادية ، وتراجع اهتمام الناس بالشأن السياسية لصالح الاهتمام الأكبر لتوفير متطلبات الحياة ، ظهر نوع جديد من الشرعية ، وهي شرعية الإنجاز ، فالناس أصبحوا يمنحون ثقتهم للقادة الذين ينجزون أكثر ويتكلمون اقل ، بل يمكنهم تجاهل مصدر الشرعية ومدى التزام الحكام بالقانون سواء الداخلي أو الدولي ، ما دام هؤلاء الحكام يخدمون المصلحة الوطنية التي تعود بالفائدة على المواطنين ، وليس مصلحة حكام تسمى زورا بالمصلحة الوطنية.
المقاربة أعلاه حول السلطة ، ترتبط بالسلطة السياسية في الدول المستقلة ، أي بالسلطة كركن من أركان الدولة ، ولكن هناك سلطة سياسية على شعب ولشعب يفتقر إلى دولة أو تكون دولته خاضعة للاستعمار ، كما هو شأن السلطة السياسية لحركات التحرر.فوجود شعب تحت الاحتلال لا يعنى استسلامه لسلطة المحتل ، بل عليه أن يوجد لنفسه سلطته الوطنية التي تحمل مشروع التحرر وتناضل ضد الاحتلال ، وحيث أن الظروف لا تسمح بإجراء انتخابات ، أو تكون القيادة المنتخبة تعيش في المنفى او في السجن ، فهذا لا يسقط الشرعية عن سلطة حركة التحرر ، وشرعية السلطة في هذه الحال تستمد من التفاف الشعب حول القيادة وتمسك هذه الأخيرة بالحقوق الوطنية وعدم التفريط بها ، فالشرعية هي شرعية ثورية ، وهذا ما كانت عليه سلطة حركات التحرر عبر العالم ومنها الشعب الفلسطيني .
إلا أن الشرعية التاريخية والثورية التي يتمتع بها قادة حركات التحرر ، قد تتآكل وتضعف مع طول أمد النضال وتقدم القادة في العمر دون تحقيق هدف الاستقلال ، وهذا يتطلب من القيادة خلق آلية لتجديد القيادات والنخب السياسية والعمل على مأسسة القيادة . ومن جهة أخرى ،في حالة تحول الثورة إلى دولة أو بداية تأسيس دولة ، فالأمر يحتاج إلى الانتقال من الشرعية الثورية والتاريخية التي محورها الرموز والقيادات الثورية ، إلى شرعية مؤسساتية وديمقراطية وشرعية الإنجاز ، والشعب الفلسطيني يمر بهذه الحالة الأخيرة ، ومن نلمس وجود أزمة على مستوى السلطة السياسية ، وحالة تنازع ما بين الشرعية الثورية والشرعية الدستورية والمؤسساتية.
وأخيرا ، يجب الإشارة إلى علاقة الشرعية الوطنية للسلطة والشرعية الدولية ، فالوضع الطبيعي يفترض توافق الشرعيتين ، فكل نظام شرعي داخليا يفترض أن يحضا بقبول ورضا المجتمع الدولي وغالبا ما يُعبر عن هذا الرضا بكثافة شبكة العلاقات التي يقيمها النظام السياسي الشرعي مع دول العالم في شتى المجالات ، ويكون المجتمع الدولي ملزما بالتعامل مع السلطة القائمة ما دام الشعب يقبل بها ، فيما النظم السياسية ذات الشرعية المأزومة ، تكون مأزومة أيضا في علاقاتها الخارجية .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
النظرية السياسية
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» ►[₪]◄ النظرية السياسية التحليلية ►[₪]◄
» التعريفات والمفاهيم السياسية
» مجالات العلوم السياسية
» [•.*.•]™[ الشرعية السياسية ]™[•.*.•]
»  «~㊣~» الأنظمة السياسية «~㊣~»

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
۞ منتديات كنوز الإبداع ۞ :: ۞ المنتديات العلمية ۞ ::  ₪ القانون والسياسة ₪-
انتقل الى: