التاريخ الأموي بين الإجحاف والإنصاف
لا يُعَدُّ البحثُ في حقيقة التاريخ الأموي ترفًا ثقافيًّا، بل يستمد أهمية علمية وتربوية قصوى في ضوء ما نلمسه من فوارق جمَّة - كما تصوِّر كتب التاريخ - بين نقاء عهد النبوة والراشدين وقتامة عصر الأمويين.
هذه النقلة المفتعلة قُصِدَ منها ـ إلى حدٍّ كبير ـ تقليص سنوات المجد والوَضَاءَة في التاريخ الإسلامي لأغراض يعرفها من يُقَدِّرُون دور التاريخ في صياغة الأمم والدفع بها إلى آفاق أرحب.
إن قبول التاريخ الأموي كما يُعرَض علينا في جُلِّ كتابات القدماء والمحدثين يضعنا أمام تساؤلات ملحة تفرضها عدة تناقضات حادة:
فنحن أمام دولة حققت إنجازات كبرى في مجال الفتوح ونشر الإسلام، وقدمت شخصيات فذة تركت آثارًا ضخمة في ميادين السياسة والحرب والإدارة، واستمرت تقود المسلمين ـ آنذاك ـ على اختلاف أجناسهم وألوانهم وأديانهم وطموحاتهم أكثر من تسعين عامًا في دولة واحدة، امتدت من حدود الصين إلى جنوبي فرنسا.
غير أن كثيرًا مما وصلنا من تاريخ تلك الدولة لا يتفق مع عظمة منجزاتها سالفة الذكر؛ فقد ذاع عن ذلك العصر أنه كان عصر مؤامرات سياسية، ورِدَّةٍ خُلُقية، واضطراب اجتماعي، وخلل اقتصادي، واستهانة بمقدسات المسلمين؛ فتولدت عن ذلك ثورات كثيرة، وسالت دماء غزيرة، وهو العصر الذي شهد - كما استقر في أذهان كثير من المسلمين - توارث الحكم بعد أن كان شورى، وتبديد أموال الدولة على هوى حكامها بعد أن كانت مصونة، وهو العصر الذي شهد قتل الحسين رضي الله عنه، وصلب ابن الزبير رضي الله عنهما، وضرب الكعبة بالمنجنيق، وانتهاك حرمة المدينة المنورة، وظلم الموالي، إلى آخر ما يشيع عن بني أمية، وما أصبح يشكل في وعي الكثيرين صورة عن عصر قاتم. أما الإنجازات الكبرى التي سبقت الإشارة إليها فيثور حولها لغط كبير وغبش وجدال، تصعب معه الرؤية الصافية والنظرة المتسقة.
*التحريف و الكذب في تاريخ بني أمية
تعرَّضَ التاريخ الأموي لكثير من التشويه والتحريف، واتسعت هذه الظاهرة لتشمل جُلَّ مصادر التاريخ الأموي، وامتدت لتترك بصماتها على بعض كتب التفسير والحديث التي تشكل مصدرًا خصبًا من مصادر التاريخ الإسلامي في تلك الحقبة. وإذا كان الله تعالى قد قيض للحديث الشريف من يكشف صحيحه من ضعيفه وموضوعه، لما له من أهمية تشريعية خاصة، فإن طبيعة علم التاريخ واتساع مجاله وتعدد عصوره وفيض رواياته قد وقفت حائلاً دون تتبع كل محاولات التحريف والكذب فيه على اتساع مصادره وتنوعها.
*الدلائل والبراهين على ثبوت التحريف
وتتعدد الأدلة على حدوث الكذب والتحريف في كتابة التاريخ الأموي؛ فقد أثبت بعض المؤرخين القدماء ذلك وحذروا منه، رغم أنهم لم يجدوا بُدًّا من ذكر هذه الأخبار الموضوعة لشيوعها أحيانًا، ولكيلا يتهمهم أحد بجهل شيء ذكره آخرون، أو لأنهم كانوا يعتبرون من الأمانة العلمية أن يذكر أحدهم كل ما يُروَى له، واتجه فريق آخر منهم إلى الانتقاء من هذا الركام الكبير، فاختار ما صَحَّ عنده، ونبه إلى زيف كثير مما عداه.
ابن جرير الطبري
يقول شيخ مؤرخينا القدماء ابن جرير الطبري في مقدمة كتابه "تاريخ الرسل والملوك": "فما في كتابي هذا من خبر يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه من أجل أنه لم يعرف له وجهًا في الصحة، فليعلم أنه لم يأتِ ذلك من قبلنا، وإنما أتى من قبل بعض ناقليه إلينا، وإنما أدينا ذلك على نحو ما أُدِّيَ إلينا". ويروي أبو الفرج الأصفهاني ما يعتبره من أكاذيب بعض الرواة، وينبه إليه أحيانًا فيقول: "وهذا من أكاذيب ابن الكلبي، وإنما ذكرته على ما فيه لئلا يسقط من الكتاب شيء قد رواه الناس وتداولوه".
ابن الأثير وابن العربي
هذا بينما ينتقي ابن الأثير بعض الروايات ويهمل بعضها، ويقول في سبب ذلك: "فإن الناس قد حشدوا تواريخهم بمقتضى الأهواء". ويشنُّ ابن العربي حملة عنيفة على أهل الأهواء من المؤرخين، ولا يثق إلا برواية أهل الحديث الذين يتفحصون رواياتهم ويميزون بين غثها وسمينها، يقول: "وغير ذلك هو الموت الأحمر والخطر الأكبر؛ فإنهم ينشئون أحاديث احتقار الصحابة والسلف والاستخفاف بهم، واختراع الاسترسال في الأقوال والأفعال عنهم. فإذا قاطعتم أهل الباطل، واقتصرتم على رواية العدول سَلِمتم من هذه الحبائل".
ولكنِّنا في روايتنا لقصة الأمويين نسعى إلى الوصول – بإذن الله – إلى أصح القصص، وتحليلها لكي نتمكن من رؤية الدولة الأموية على حقيقتها، ولا نتأثر بروايات المزورين الكاذبين