الجنس : العمر : 37 المدينة المنورة التسجيل : 11/03/2012عدد المساهمات : 24
موضوع: ||ioi|| العدل والإنصاف في التعامل ||ioi|| السبت 17 مارس 2012, 12:33 am
||ioi|| العدل والإنصاف في التعامل ||ioi||
العدل شيء جميل ومعنى عظيم، ورغم أن الجميع يتمنونه ويطمحون إليه ويرفضون الظلم بكل ألوانه وأشكاله، إلا أنه يقع بين الناس، والجَوْر أصبح سمةً في كثيرٍ من تعاملاتهم.
والعدل هو الإنصاف، وإعطاء المرء ما له وأخذ ما عليه. وقد جاءت آيات كثيرة في القرآن الكريم تأمر بالعدل وتحثُّ عليه، وتدعو إلى التمسك به.
يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى﴾ (النحل: من الآية 90).
ويقول تعالى: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ (النساء: من الآية 58).
والعدل اسم من أسماء الله الحسنى وصفة من صفاته سبحانه.
والعدل له قدره ومنزلته عند الله تعالى؛ فأهل العدل والقسط يحبهم ويودهم ﴿وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (الحجرات: من الآية 9)، وإذا تحقق العدل والإنصاف بين الناس شاع الأمان وانتشرت الطمأنينة بينهم؛ فالعدل والإنصاف يوفران الأمن والأمان للضعفاء والفقراء الذين لا ناصرَ لهم إلا الله، وتُشعرهم بالعزة والفخر، وتزيل من نفوسهم الإحساس بالنقص.
والعدل والإنصاف يمنعان الظالم عن ظلمه، ويُحيلان بين الطمَّاع وجشعه، ويحفظان حقوق الناس وأموالهم وأعراضهم فتظل مُصانةً محفوظةً.
الإنصاف لغة:
مصدر قولهم: أنصف ينصف، وهو مأخوذ من مادّة «ن ص ف» الّتي تدلّ على معنيين: أحدهما: شطر الشّيء، والآخر: على جنس من الخدمة والاستعمال، فالأوّل: نصف الشّيء ونصيفه شطره، وفي الحديث: «ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه». ومن ذلك الإنصاف في المعاملة، وكأنّه الرّضا بالنّصف، والنّصف: الإنصاف أيضا [مقاييس اللغة لابن فارس (5/ 431- 432) ] .
والنّصف أحد شقّي الشّيء، والنّصف أيضا: النّصفة، وهي الاسم من الإنصاف، قال الفرزدق:
ولكنّ نصفا لو سببت وسبّني *** بنو عبد شمس من مناف وهاشم
يقال: أنصف النّهار: أي انتصف، وأنصف (الشّخص) إذا عدل، ويقال: أنصفه من نفسه، وانتصفت أنا منه، وتناصف القوم: أي أنصف بعضهم بعضا من نفسه [الصحاح (4/ 1432- 1434) ] . وقيل: إذا تعاطوا الحقّ بينهم [الجمهرة لابن دريد (3/ 82)] . وأنصفت الرّجل إنصافا: عاملته بالعدل والقسط [المصباح المنير (835) ] . وقيل: إذا أعطيته الحقّ [الجمهرة (3/ 82) ] .
وقال الفيروز اباديّ: يقال: نصفهم ينصفهم وينصفهم نصافا ونصافة إذا خدمهم، والنّصف والنّصفة: الاسم من الإنصاف، أي العدل، وتناصفوا:
أنصف بعضهم بعضا، قال ابن هرمة:
من ذا رسول ناصح فمبلّغ *** عنّي عليّه غير قيل الكاذب
أنّى غرضت إلى تناصف وجهها *** غرض المحبّ إلى الحبيب الغائب
يعني استواء المحاسن كأنّ بعض أجزاء الوجه أنصف بعضا في أخذ قسطه من الجمال [باختصار وتصرف يسير عن بصائر ذوي التمييز (5/ 71- 72)] .وقال في القاموس: انتصف منه: استوفى حقّه منه كاملا حتّى صار كلّ على النّصف سواء، كاستنصف منه، وتنصّف السّلطان سأله أن ينصفه [القاموس المحيط (1107) ط. بيروت] .
وفي لسان العرب: النّصف: أحد شقّي الشّيء، وقيل أحد جزأي الكمال، ونصف الشّيء، وانتصفه، وتنصّفه ونصّفه: أخذ نصفه ونصف الشّيء الشّيء ينصفه: بلغ نصفه، وقيل: كلّ ما بلغ نصفه في ذاته فقد أنصف، وكلّ ما بلغ نصفه في غيره فقد نصف.
ومنصف الشّيء: وسطه، والمنصف: نصف الطّريق، وفي الحديث: حتّى إذا كان بالمنصف أي الموضع الوسط بين الموضعين، ومنتصف اللّيل والنّهار وسطه، ونصّفت الشّيء: إذا أخذت نصفه، وتنصيف الشّيء جعله نصفين. والنّصف والنّصفة والإنصاف: إعطاء الحقّ، وقد انتصف منه (أخذ حقّه)، وأنصف الرّجل صاحبه إنصافا، وقد أعطاه النّصفة وقال بعضهم: أنصف إذا أخذ الحقّ وأعطى الحقّ، وتفسير ذلك أن تعطي لغيرك من نفسك النّصف أي تعطيه من الحقّ كالّذي تستحقّ لنفسك، يقال: انتصفت من فلان: أي أخذت حقّي كملا حتّى صرت أنا وهو على النّصف سواء [لسان العرب (9/ 332) ط. بيروت]، وفي حديث عمر- رضي اللّه عنه- مع زنباع بن روح:
متى ألق زنباع بن روح ببلدة *** لي النّصف منها، يقرع السّنّ من ندم النّصف بالكسر، الانتصاف، ومن ذلك أيضا قول عليّ- رضي اللّه عنه- «ولا جعلوا بيني وبينهم نصفا» أي إنصافا [النهاية لابن الأثير (5/ 66) ] . ويأتي النّصف والإنصاف والنّصافة بمعنى الخدمة، يقال نصفه ينصفه وينصفه نصفا ونصافة ونصافا ونصافا وأنصفه وتنصّفه كلّه: خدمه [لسان العرب (9/ 333) ط. بيروت ] . وأنشد الجوهريّ للّتنصّف بمعنى الخدمة قول حرقة بنت النّعمان:
فبينا نسوس النّاس والأمر أمرنا *** إذا نحن فيهم سوقة نتنصّف [الصحاح للجوهري (4/ 1433) ] .
وقد يأتي التّنصّف بمعنى العبادة، وأنشد ابن برّيّ شاهدا على ذلك قول الشّاعر:
فإنّ الإله تنصّفته *** بألّا أعقّ وألّا أحوبا
وقد يأتي التنصّف بمعنى طلب المعروف [لسان العرب (9/ 333) ط. بيروت] .
الإنصاف اصطلاحا:
قال المناويّ: الإنصاف: هو العدل في المعاملة بأن لا يأخذ من صاحبه من المنافع إلّا ما يعطيه، ولا ينيله من المضارّ إلّا كما ينيله [التوقيف على مهمات التعاريف (64) ] . وأضاف الرّاغب إلى ذلك: الإنصاف في الخدمة وهو أن يعطي صاحبه ما عليه بإزاء ما يأخذ من النّفع [المفردات (475) تحقيق محمد أحمد خلف اللّه] .
وقيل: هو استيفاء الحقوق لأربابها واستخراجها بالأيدي العادلة والسّياسات الفاضلة.
ويؤخذ من كلام اللّغويّين والمفسّرين وشرّاح الحديث أنّه يمكن تعريف الإنصاف أيضا بأنّه: أن تعطي غيرك من الحقّ مثل الّذي تحبّ أن تأخذه منه لو كنت مكانه ويكون ذلك بالأقوال والأفعال، في الرّضا والغضب، مع من نحبّ ومع من نكره.
1- عن أنس- رضي اللّه عنه- قال: اشتكى ابن لأبي طلحة، فخرج أبو طلحة إلى المسجد فتوفّي الغلام، فهيّأت أمّ سليم الميّت، وقالت لأهلها: لا يخبرنّ أحد منكم أبا طلحة بوفاة ابنه، فرجع إلى أهله، ومعه ناس من أهل المسجد من أصحابه، قال: ما فعل الغلام؟ قالت: خير ما كان، فقرّبت إليهم عشاءهم فتعشّوا، وخرج القوم، وقامت المرأة إلى ما تقوم إليه المرأة، فلمّا كان آخر الّليل قالت: يا أبا طلحة، ألم تر إلى آل فلان، استعاروا عاريّة فتمتّعوا بها، فلمّا طلبت كأنّهم كرهوا ذاك، قال: ما أنصفوا قالت: فإنّ ابنك كان عاريّة من اللّه تبارك وتعالى، وإنّ اللّه قبضه، فاسترجع وحمد اللّه، فلمّا أصبح غدا على رسول اللّه فلمّا رآه قال: "بارك اللّه لكما في ليلتكما"، فحملت بعبد اللّه، فولدته ليلا، وكرهت أن تحنّكه حتّى يحنّكه رسول اللّه فحملته ومعي تمرات عجوة، فوجدته يهنأ أباعر له أو يسمها ، قال: فقلت: يا رسول اللّه، إنّ أمّ سليم ولدت الّليلة فكرهت أن تحنّكه ، حتّى يحنّكه رسول اللّه فقال: " أمعك شيء" ، قلت: تمرات عجوة، فأخذ بعضهنّ فمضغهنّ، ثمّ جمع بزاقه فأوجره إيّاه، فجعل يتلمّظ فقال: "حبّ الأنصار التّمر"، قال:قلت يا رسول اللّه، سمّه قال: "هو عبد اللّه " [رواه أحمد في المسند (3 / 105)(12047) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين ] .
2- عن أنس بن مالك- رضي اللّه عنه-:أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار، ورجلين من قريش، فلمّا رهقوه قال: " من يردّهم عنّا وله الجنّة، أو هو رفيقي في الجنّة؟ " فتقدّم رجل من الأنصار، فقاتل حتّى قتل، ثمّ رهقوه أيضا. فقال: " من يردّهم عنّا وله الجنّة، أو هو رفيقي في الجنّة؟" فتقدّم رجل من الأنصار، فقاتل حتّى قتل.فلم يزل كذلك حتّى قتل السّبعة. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: " ما أنصفنا أصحابنا"[ رواه مسلم (1789) ] .
3- عن قتادة عن أنس عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: " لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه"[ رواه البخاري- الفتح (1/ 13)، ومسلم (71) ] .
4- عن المعرور قال: لقيت أبا ذرّ بالرّبذة وعليه حلّة، وعلى غلامه حلّة، فسألته عن ذلك فقال:إنّي ساببت رجلا فعيّرته بأمّه ، فقال لي النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: " يا أبا ذرّ، أعيّرته بأمّه؟ إنّك امرؤ فيك جاهليّة.إخوانكم خولكم، جعلهم اللّه تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه ممّا يأكل، وليلبسه ممّا يلبس، ولا تكلّفوهم ما يغلبهم، فإن كلّفتموهم فأعينوهم" [رواه البخاري- الفتح( 1 /30) ] .
5- عن عبد اللّه بن بريدة عن أبيه قال:«... فجاءت الغامديّة فقالت يا رسول اللّه، إنّي قد زنيت فطهّرني، وإنّه ردّها. فلمّا كان الغد قالت: يا رسول اللّه، لم تردّني؟ لعلّك أن تردّني كما رددت ماعزا.فو اللّه إنّي لحبلى. قال: " إمّا لا، فاذهبي حتّى تلدي" ، فلمّا ولدت أتته بالصّبيّ في خرقة. قالت: هذا قد ولدته. قال: " اذهبي فأرضعيه حتّى تفطميه". فلمّا فطمته أتته بالصّبيّ في يده كسرة خبز، فقالت: هذا، يا نبيّ اللّه، قد فطمته، وقد أكل الطّعام، فدفع الصّبيّ إلى رجل من المسلمين، ثمّ أمر بها فحفر لها إلى صدرها، وأمر النّاس فرجموها. فيقبل خالد بن الوليد بحجر، فرمى رأسها، فتنضّح الدّم على وجه خالد، فسبّها، فسمع نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سبّه إيّاها، فقال:"مهلا يا خالد! فوالّذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له" [رواه مسلم (1695) ] .
6- جاء في حديث الإفك قول عائشة- رضي اللّه عنها-: وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يسأل زينب بنت جحش عن أمري فقال: "يا زينب، ماذا علمت أو رأيت؟" فقالت يا رسول اللّه، أحمي سمعي وبصري، ما علمت إلّا خيرا، قالت (عائشة)، وهي (أي زينب) الّتي كانت تساميني من أزواج النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فعصمها اللّه بالورع.[جزء من حديث رواه البخاري- الفتح 8 (4750)، ومسلم (2770) ] .
لماذا الإنصاف من أخلاق الكبار؟
لأن النفس قد تميل إلى الهوى والظلم، وتحتاج إلى قوةٍ كبيرةٍ لمنعها من ذلك، ولا يقدر على ذلك إلا الكبار أصحاب النفوس الكبيرة الذين ملكوا أنفسهم وتحكَّموا فيها.
ولأن الإنصاف في بعض الأحيان قد يكون مطلوبًا من نفسك التي قد تُضيِّع حقوق الآخرين أو تجور على ممتلكاتهم، وهذا أيضًا ما لا يقدر عليه إلا الكبار الذين يمتلكون الشجاعة والقوة أن ينصفوا الناس من أنفسهم.
ولأن للإنصاف والعدل منزلة عظيمة ودرجة عالية لا يُرتقى إليها بسهولة؛ فالعادل في ظل الله يوم لا ظلَّ إلا ظله، وهذه المنزلة بالتأكيد لا يصل إليها إلا الكبار الذين أقاموا العدل والإنصاف على نفوسهم، وأخذوا أنفسهم بالعزيمة.
قال عمّار بن ياسر- رضي اللّه عنهما- ثلاث من جمعهنّ فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السّلام للعالم والإنفاق من الإقتار.[رواه البخاري- الفتح (1/ 103) ] .
سمعت عائشة- رضي اللّه عنها- عروة ابن الزّبير يسبّ حسّان بن ثابت، وكان ممّن خاض في حديث الإفك .. فقالت- رضي اللّه عنها-: يا ابن أختي دعه، فإنّه كان ينافح عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. مسلم (2487) ] .
عن عبد الرحمن بن شماسة قال: دخلت على عائشة، فقالت: ممّن أنت؟ قلت: من أهل مصر، قالت: كيف وجدتم ابن حديج في غزاتكم هذه؟ قلت: خير أمير، ما يقف لرجل منّا فرس ولا بعير إلّا أبدله مكانه بعيرا، ولا غلام إلّا أبدل مكانه غلاما، قالت: إنّه لا يمنعني قتله أخي أن أحدّثكم ما سمعت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، إنّي سمعته يقول: اللّهمّ من ولي من أمر أمّتي شيئا فرفق بهم فارفق به، ومن شقّ عليهم فاشقق عليه.[نزهة الفضلاء 1/ 215] .
عن عروة بن الزّبير أنّه سأل عائشة عن قول اللّه تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ ... )،[النساء: 3] قالت: يا ابن أختي، هي اليتيمة تكون في حجر وليّها تشاركه في ماله، فيعجبه مالها وجمالها، فيريد وليّها أن يتزوّجها بغير أن يقسط في صداقها ، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهنّ إلّا أن يقسطوا لهنّ، ويبلغوا بهنّ أعلى سنّتهنّ من الصّداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النّساء سواهنّ.قال عروة: قالت عائشة: ثمّ إنّ النّاس استفتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعد هذه الآية فيهنّ فأنزل اللّه- عزّ وجلّ-: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ)، [النساء: 127].قالت: والّذي ذكر اللّه تعالى، أنّه يتلى عليكم في الكتاب، الآية الأولى الّتي قال اللّه فيها: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ).قالت عائشة: وقول اللّه في الآية الأخرى: (وترغبون أن تنكحوهنّ)، رغبة أحدكم عن اليتيمة الّتي تكون في حجره، حين تكون قليلة المال والجمال. فنهوا أن ينكحوا ما رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النّساء إلّا بالقسط من أجل رغبتهم عنهنّ.[ رواه مسلم (3018) ] .
خطب عمّار بن ياسر- رضي اللّه عنهما- في أهل العراق- قبل وقعة الجمل- ليكفّهم عن الخروج مع أمّ المؤمنين عائشة- رضي اللّه عنها- فقال: واللّه إنّها لزوجة نبيّكم صلّى اللّه عليه وسلّم في الدّنيا والآخرة، ولكنّ اللّه تبارك وتعالى ابتلاكم ليعلم إيّاه تطيعون أم هي. ومعلوم أن عمّارا كان في صفّ عليّ- رضي اللّه عنهما- قال ابن هبيرة: في هذا الحديث أنّ عمّارا كان صادق اللّهجة، وكان لا تستخفّه الخصومة إلى أن ينتقص خصمه، فإنّه شهد لعائشة بالفضل التّام مع ما بينهما من الحرب.
وقال ابن حجر: مراد عمّار بذلك أنّ الصّواب في تلك القصّة كان مع عليّ، وأنّ عائشة مع ذلك لم تخرج عن الإسلام ولا أن تكون زوجة النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في الجنّة، فكان ذلك يعدّ من إنصاف عمّار وشدّة ورعه وتحرّيه قول الحقّ.[ فتح الباري (13/ 58، 59) ] .
إنصاف النفس وظلمها
الكبار أول ما يُعطون من حقوق ويؤدون من أمانات تكون تجاه نفوسهم، والإنصاف من النفس هو المحافظة عليها طائعةً لله، ملتزمةً بأوامره منتهيةً عن نواهيه؛ ذلك أن الكبار يعلمون أن ظلم النفس يورد المهالك ويَحرِمها الجنة ﴿وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (البقرة: من الآية 57).
الكبار يعلمون أن ظلم النفس قد يصل بالإنسان إلى غضب الله ومقته وإنزال العقوبة واستحقاقها والتعجيل بها في الدنيا ﴿فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (العنكبوت: 40).
1- قال شوقي مخاطبا المصطفى صلّى اللّه عليه وسلّم:
أنصفت أهل الفقر من أهل الغنى *** فالكلّ في حقّ الحياة سواء [ديوان شوقي (1/ 39) ] .
2- قال ابن وكيع:
لاق بالبشر من لقيت من النـاس *** وعاشر بأحسن الإنصــاف لا تخالف وإن أتوا بـخـــلافٍ *** تستدم ودهم بترك الـخـلاف وإذا خفت فرط غيظك فانهض *** مسرعاً عنهم إلى الإنصــراف إنما الناس إن تـأمـلت داءٌ *** ماله غير أن تداويه شافـي
العدل في الغضب والرضا
الكبار تستوي أحكامهم حال الرضا وحال السخط؛ فالرضا لا يدفعهم إلى المجاملة، والسخط لا يدفعهم إلى الانتقام أو الظلم، وتلك هي أعلى مراتب العدل؛ لأنها اختبار حقيقي للنفس وقدرتها على كبح جماحها؛ لأن الإنسان قلَّما يقدر على التحكم في نفسه، خاصةً إذا تمكَّن من خصمه؛ ولهذا كان العدل في ذلك الوقت من المنجيات، فقد أخبر- صلى الله عليه وسلم- أن من المنجيات "العدل في الغضب والرضا" (سلسلة الأحاديث 4/416 الحديث 1802 "حسن").
1- قال ابن القيّم: كيف ينصف الخلق من لم ينصف الخالق؟ جاء في أثر إلهيّ يقول اللّه عزّ وجلّ:«ابن آدم ما أنصفتني، خيري إليك نازل، وشرّك إليّ صاعد، كم أتحبّب إليك بالنّعم وأنا غنيّ عنك وكم تتبغّض إليّ بالمعاصي وأنت فقير إليّ، ولا يزال الملك الكريم يعرج إليّ منك بعمل قبيح» [زاد المعاد (2/ 409) ] .
2- قال الإمام الشّافعيّ في الإمام أحمد رحمهما اللّه-: خرجت من بغداد وما خلّفت بها أحدا أورع ولا أتقى ولا أفقه ولا أعلم من أحمد بن حنبل.[ غذاء الألباب شرح منظومة الآداب 1/ 299] .
3- قال محمّد بن سيرين: ظلم لأخيك أن تذكر منه أسوأ ما رأيت وتكتم خيره.[ البداية والنهاية لابن كثير 9/ 275] .
4- قال الإمام الذّهبيّ في ترجمته لقتادة بن دعامة: وكان من أوعية العلم، وممّن يضرب به المثل في قوّة الحفظ، وهو حجّة بالإجماع إذا بيّن السّماع، فإنّه مدلّس معروف بذلك، وكان يرى القدر- نسأل اللّه العفو- ومع هذا فما توقّف أحد في صدقه، وعدالته وحفظه، ولعلّ اللّه يعذر أمثاله ممّن تلبّس ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنزيهه، وبذل وسعه، واللّه حكم عدل لطيف بعباده، ولا يسأل عمّا يفعل. ثمّ إنّ الكبير من أئمّة العلم إذا كثر صوابه، وعلم تحرّيه للحقّ، واتّسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعرف صلاحه وورعه واتّباعه، يغفر له زللّه، ولا نضلّله ونطرحه وننسى محاسنه. نعم ولا نقتدي به في بدعته وخطئه ونرجو له التّوبة من ذلك.[ نزهة الفضلاء 1/ 489] .
5- قال ابن تيميّة- رحمه اللّه- في تفسيره لقوله تعالى: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى .. )قال: فنهى أن يحمل المؤمنين بغضهم للكفّار على ألّا يعدلوا، فكيف إذا كان البغض لفاسق أو مبتدع أو متأوّل من أهل الإيمان؟ فهو أولى أن يجب عليه ألّا يحمله ذلك على ألّا يعدل على مؤمن وإن كان ظالما له.[ الاستقامة (1/ 38) تحقيق د/ محمد رشاد سالم] .
6- قال ابن كثير في قوله تعالى: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ... )أي: لا يحملنّكم بغض قوم على ترك العدل، فإنّ العدل واجب على كلّ أحد، في كلّ حال، وقد قال بعض السّلف: ما عاملت من عصى اللّه فيك بمثل أن تطيع اللّه فيه.[ تفسير ابن كثير (2/ 7) ] .
7- قال القرطبيّ في قوله تعالى: (قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً)،[النمل: 34] أهانوا شرفاءها لتستقيم لهم الأمور. فصدّق اللّه قولها (وكذلك يفعلون). قال ابن الأنباريّ: قوله تعالى: (وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً) هذا وقف تامّ. فقال اللّه عزّ وجلّ تحقيقا لقولها (وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) ، قال الشّيخ ابن غازي: فعلى هذا يكون قوله تعالى: (وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) من تصديق اللّه تعالى لقول ملكة سبأ وهي كافرة. وهذا غاية العدل والإنصاف.[ الإنصاف (18) ] .
8- قال القاسميّ في قوله تعالى: (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ...)، قال: في الآية بيان وجوب الحكم بالحقّ، وألّا يميل إلى أحد الخصمين لقرابة أو رجاء أو سبب يقتضي الميل.[ محاسن التأويل (14/ 5095) ] .
الإنصاف حتى مع العدو
البعض يظنون أن العدل لا يُقام إلا مع الصديق دون العدو، ومع القريب دون الغريب، أو المسلم دون غيره، فيستحلوِّن أموال غير المُسلمين أو الجَوْر عليهم أو التعدي على خصوصياتهم بحجة أنهم أهل كفر، بل إن البعض من المتدينين الملتزمين قد يظلم بوقوفه بجوار أخيه على الطريق، ولو كان ظالمًا على الرجل العادي بحجة عدم التدين أو الفجور لدى الطرف الآخر.
أما الكبار فيُقيمون العدل والإنصاف على العدو قبل الصديق، ويعدلون بينهما كما يعدلون حال الرضا والسخط، مسترشدين في ذلك بالتوجيه القرآني ﴿وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ (المائدة من الآية: .
النصر والعدل
الكبار على يقين بأن النصر لا يمكن تحقيقه على أرض الواقع ما لم يواكب السعي إليه تحقيق العدل والإنصاف في الصف المسلم، تحقيق العدل فكرًا وسلوكًا، شعارًا وواقعًا؛ فالأمة لن يشفع لها إسلامها في تحقيق المعية الإلهية إذا كان الظلم سائدًا بين أفرادها وفي مؤسساتها.
خوف الكبار
الكبار لا يترددون في تطبيق العدل وإقامة الحق؛ لأن رغبتهم في نيل ثواب إقامة العدل يوازي خوفهم من الوقوع في عقاب الظالمين أو الاصطدام بدعوة المظلومين؛ فمَن له طاقة حتى يتجرَّأ على معاداة الله بظلمه للناس "اتَّقُوا دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ؛ فَإِنَّهَا تُحْمَلُ عَلَى الْغَمَامِ، يَقُولُ اللهُ جَلَّ جَلالُهُ: وَعِزَّتِي وَجَلالِي لأَنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ" .
بيد أن التحذير من عاقبة الظلم ومصير الظالمين والانتقام الإلهي منهم كان حائلاً وسدًّا منيعًا يحول بين الكبار وظلمهم للآخرين، وكيف لا وقد جاءت الأحاديث تؤكد على ذلك؟!.
يقول- صلى الله عليه وسلم-: "إن الله لُيملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفلته" ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ (هود: 102).
الواسطة
الكبار لا يعترفون بالواسطة إذا كانت ستُجير على حقوق الآخرين وتقضي على أحلام الطامحين الذين يعتمدون على أنفسهم وقدراتهم لا نفوذهم وسلطانهم.. الواسطة التي مَنعت البعض من دخول الكليات التي يرغبون بها، والتي حرمت الأكْفاء من تولي الوظائف التي يستحقونها.. الواسطة التي استشرت في المجتمعات وباتت تؤرقه وتنشر الضغينة، وتبثُّ الكراهية في النفوس.
جاء أسامة بن زيد يستشفع في المرأة المخزومية التي سرقت وعزم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على قطع يدها، فقال له:"أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ"، ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ ثُمَّ قَالَ: "إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ.. وَايْمُ اللهِ.. لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا" .
ضياع الأمانة
الكبار يحفظون الأمانة ويُراعون الله فيما ائتمنوا عليه، ومن صور ذلك أنهم يضعون الرجل المناسب في المكان المناسب؛ فمن أكبر الظلم أن يُسند إلى الضعيف إمارة، أو غير الكفء مسئولية؛ فأحيانًا ما يُولَّى الرجل لكونه أحد أقارب من بيده القرار وهو غير مؤهل، فيظلم الناس بجهله، ويضيِّع حقوقهم بعدم كفاءته، أما الكبار فهم يصارحون الضعفاء ولا يُجاملونهم خوفًا عليهم من المساءلة، وحفظًا للأمانة من الضياع.
الكبار يعدلون بين أبنائهم ولا يُفرِّقون بينهم في العطايا والهبات؛ حتى لا يكره أحدهم الآخر، وحتى لا توقد بينهم نار العداوة والبغضاء كما حدث بين يوسف وإخوته.
الكبار يعدلون في ميزانهم ويدققون المكيال ولا يبخسون الناس أشياءهم، إن الناس قد لا يُلقون بالاً عندما يُطففون ميزانهم ويُنقصون حقوق الناس، أما الكبار فلا يأخذون أكثر من حقهم إذا اشتروا، ولا يُنقصون الناس إذا باعوا لهم؛ فهم يسمعون قول ربهم ويُرددونه﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾ (المطففين) وقوله تعالى ﴿وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾ (الرحمن: 9).
الإنصاف في الحكم على الآخرين
إن من أشد الظلم الذي يحدث أحيانًا بين الناس هو عدم إنصاف بعضهم البعض عند الحكم؛ فالمتنازعان قلَّما يذكر أحدهما محاسن خصمه، بل تكون المعائب متصدرة لأحاديث كلا الطرفين.
إن تدخُّل الهوى والميل القلبي أثناء الحكم على الناس أو تقييمهم، أو إبداء الآراء حولهم لَمِن أشد الأشياء التي تُفسد الحكم وتخرجه عن نزاهته وحيادته.
الكبار ينطلقون في حكمهم على الناس من فهْم راقٍ يعكس نضوجهم الفكري والفقهي؛ فالكبار متيقنون أنه قلَّما يسلم إنسان من خطأٍ صغيرٍ كان أم كبيرًا، ومن هذا المنطلق فالخطأ لا يمحو الإحسان السابق أو المعروف الذي مضى.
فيهم وفيهم
الكبار لا يصدرون أحكامًا عامةً على الآخرين أو حتى على شخصٍ واحد بالكلية؛ فكل مجموعةٍ من الأفراد أو أي تجمِّعٍ إنساني فيه وفيه؛ فيه الحسن وفيه القبيح، فيه الظالم وفيه العادل.
لذا فالكبار ينأون عن التعميم في أحكامهم؛ خشيةَ أن يُلحقوا النقيصة بالأبرياء الشرفاء، وعلى هذا كان القرآن يُربِّي أفراد هذه الأمة.
انظر معي أخي القارئ إلى قوله تعالى في معرض حديثه عن أهل الكتاب، وهم قوم على غير الملة، ويمكننا وصفهم بالأعداء.. انظر معي كيف وصفهم القرآن: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ (آل عمران: 75).
إن القرآن لم ينفِ أن منهم الأوفياء الأمناء كما أن منهم المماطلون، وهكذا يجب أن نكون منصفين في حكمنا على الآخرين، ولا يحملنا الاختلاف معهم أو حتى عداوتهم أن ننقصهم حقَّهم أو ننعتهم بما هم منه براء، فإذا كان هذا- أخي القارئ- مع الأعداء والمخالفين لنا في العقيدة، فماذا عن حكمنا على مَن اختلف معنا في الرأي أو الفكر من بني جلدتنا؟!.
إنه لا بد من الإنصاف وألا تُعمينا أنفسنا عن العدل وقول الحق ﴿وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ (المائدة: من الآية .
انصر أخاك
للكبار فهْم عميق في كيفية تحقيق النصر لإخوانهم على الطريق؛ فهم أبدًا ينصرونهم في الحق والباطل؛ ينصرونهم إذا كانوا ظالمين كما ينصرونهم إذا كانوا مظلومين، ولكن كيف؟.
وعلى هذا يُجيب المصطفى- صلى الله عليه وسلم- ويُربِّي الكبار كيف ينصرون أخاهم ظالمًا "انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا". فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ.. أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟. قَالَ: "تَحْجُزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ مِنْ الظُّلْمِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ" .
هكذا تكون النصرة أن تأخذ على يد أخيك إذا ظلم، فتمنعه من ظلمه حتى لا يقع في الحرام، وهو فهْم راقٍ يزرع في النفس الإنصاف، ويُقيم على الأرض العدل.
السلام والعدل
السلام لا يمكن تحقيقه إلا تحت مظلة العدل والإنصاف، ونهوض الأمم وتقدُّمها مرهون بتحقيقهما؛ فمتى أصبح العدل قائمًا بين الناس والإنصاف بات سمةً من سماتهم ترقَّب النصر في أي وقت كان.
وأعظم العدل درجةً ومكانةً أن تنصف الناس من نفسك، وأن تكون معهم عليها حتى إن لم يكونوا مسلمين؛ فالمجتمع الذي يتحقق فيه العدل والإنصاف هو المجتمع القادر على تحقيق التقدم والازدهار؛ ذلك أن العدل والإنصاف متى ساد في مجتمع ستتكافأ فيه الفرص، ويأخذ كل ذي حقٍّ حقه، فتنتهي الأحقاد ويزول الحسد ويُقضَى فيه على الضغائن.
ومتى تحقق العدل والإنصاف بين الدول ساد الهدوء وتحقَّق السلام وحدث الاستقرار، أما عندما تستطيل الأمم بعضها على بعض، وتستحلُّ لنفسها خيراتِ البلاد المجاورة فتحتلها وتستولي على مقدراتها، وتعبث في مقدساتها دون أن تجد رادعًا عادلاً يحكم بالحق وبه يعدل، أو إذا لم يجد المظلوم من يُنصفه ويُساعده على استرداد حقه المغصوب وأرضه المسلوبة، فإن الفوضى ستكون هي الحل، ودوافع الانتقام ستزداد وحدوث الفُرْقة والاختلاف.
ففي غياب العدل سيحاول المظلوم الانتقام والتشفي، ليس فقط من ظالمه، ولكن أيضًا من كل مَن سانده.
منزلة عظيمة
الكبار يطمحون دائمًا أن يكونوا في الصدارة والمقدمة؛ فقد جعلوا الجنة هدفًا لهم؛ لذا فهم لا يألون جهدًا في تحقيقه والاقتراب منه، ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ (المائدة: من الآية .
يقول الأستاذ سيد قطب- رحمه الله-: "ومن الميثاق الذي واثق الله به الأمة المسلمة القوامة على البشرية بالعدل؛ العدل المطلق الذي لا يميل ميزانه مع المودة والشنآن، ولا يتأثَّر بالقرابة أو المصلحة أو الهوى في حالٍ من الأحوال؛ العدل المنبثق من القيام لله وحده بمنجاة من سائر المؤثرات، والشعور برقابة الله وعلمه بخفايا الصدور..".
والكبار يسمعون حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الذي وضح فيه منزلة المقسطين العادلين المنصفين فتقوى عزائمهم، وتُشحذ هممهم، فلا تهدأ نفوسهم ولا يرتاح بالهم؛ حتى يكون لهم حظ من تطبيق طرف منه إن لم يكن كله.
وهذان الحديثان يبينان الفضل الكبير والمنزلة العظيمة لكل عادل منصف في حكمه.
حقًّا.. إنها أخلاق الكبار
حُقَّ لنا- نحن المسلمين- أن نرفع رءوسنا فخرًا وشرفًا بهذه الشريعة العادلة المنصفة، ولكن لا تعجب؛ تلك هي الأخلاق التي يتربَّى عليها الكبار؛ شريعة لا تُفرِّق بين مسلم وغير مسلم، شريعة تزن الناس بميزان واحد.. إنه ميزان الحق والعدل، لقد نزل قرآنًا يُتلى من فوق سبع سماوات ليحكم في قضيةٍ كاد يهوديٌّ أن يُؤخذ فيها ظلمًا وعدوانًا.. تخيل أن القرآن نزل ليبرِّئ اليهودي ويُدين المسلم الأنصاري.