أشكال الدولة عبر التاريخ أو مراحل تطورها
بالرغم من الجدل المشار إليه أعلاه حول تاريخ وجود الدولة ، إلا انه من المتفق عليه ، أن التأريخ للدولة أصبح يتجاوز منعطف عصر النهضة ، ويرجع بها على بداية انتقال المجتمعات من مرحلة التنقل والترحال إلى مرحلة المدنية – نسبة إلى المدينة- دون تجاهل الاختلافات العميقة ما بين الدولة القديمة والدولة الحديثة ثم المعاصرة .وهكذا يمكن القول إن الدولة عرفت خلال تطورها عدة أشكال إلى أن وصلت إلى ما هي عليه، وقد وضع علماء السياسة نظريات – وبالأدق فرضيات -حاولوا من خلالها تصور المراحل التي مرت بها الدولة خلال تاريخها الطويل وقد تصوروا عدة مراحل أو أشكال مرت بها الدولة وهي:
المطلب الأول: المجتمع القبلي
حين اتسعت الأسرة وتكاثر أفرادها، اتحدت مجموعة من الأسر وكونت العشيرة وباتحاد مجموعة عشائر تكونت القبيلة، والقبيلة أول صور المجتمع الدائم أو المجتمعات الإجمالية . فالقبيلة إذن سابقة في وجودها على وجود الدولة بمفهومها الحديث وفي القبيلة تقوم العلاقات الاجتماعية على أساس القرابة، ويحكمها رئيس القبيلة الذي له سلطات قضائية ودينية وحربية، ويستمد رئيس القبيلة سلطته إما من قوته المادية كشجاعته وكثرة عدد أفراد أسرته أو من قوته المعنوية كحنكته ودهائه، أو من مكانته الدينية حيث كان للديانات مكانة مهمة ومرهوبة لدى الأفراد.
ويعرف موريس ديفرجيه القبيلة كأول شكل من أشكال الدولة، بالقول: "إن الشكل الأول للمجتمع الكلي هو القبيلة، والمقصود هنا جماعة صغيرة الحجم ذات سمات ريفية، والمدن لم تكن موجودة بعد، العلاقات العائلية مهمة جداً فيها، إذ أن القبيلة تضم عدداً صغيراً من العائلات، تقنيات الإنتاج فيها قديمة والمردود ضعيف، تقسيم العمل محدود والملكية جماعية، ليس ثمة طبقات اجتماعية، ويتحدثون في هذا الصدد عن شيوعية بدائية" .
ويرجع فوستيل دي كولانج أصل سلطة رئيس القبيلة وأصل كل سلطة أو تجمع اجتماعي إلى العامل الديني، فرئيس القبيلة هو الكاهن والقائد، وخضوع الأفراد لسلطته راجع إلى دوره ككاهن ومحافظ على عبادة الأسلاف wor-Aneestor ship وكما سبق فإن القبيلة سابقة في وجودها على اكتشاف الزراعة والمجتمع الزراعي الرعوي، إلا أن اكتشاف الزراعة ساعد أفراد القبيلة على الاستقرار وتأسيس الحواضر والمدن.
المطلب الثاني: الحاضرة أو دولة – المدينة state – City
وهي الطور الثاني في سيرورة تشكل الدولة، ومن أشهر نماذج الحواضر، بابل وسومر في بلاد الرافدين، ودول المدن في بلاد اليونان القديمة، وقد تشكلت المدن مع اكتشاف الزراعة واستقرار الإنسان على أرض محددة، حيث عملت الزراعة على تكوين فائض إنتاجي، وعلى توزيع للعمل أكثر تقدماً وفي هذه المرحلة بدأت البنى السياسية تنفصل عن البنى الاقتصادية وتبلورت الطبقية وتعززت الملكية الفردية، ويرى لويس ممفورد أن المدن كانت ثمرة زواج بين المجتمع الرعوي الفظ ومجتمع القرية من الفلاحين وإذا كان هذا الزواج زواج مصلحة فإنه أيضاً زواج إكراه، حيث مارس الرعاة سلطة القمع والسيطرة على الفلاحين .
وفي نفس الموضوع، ويرى فوستيل دي كولانج أن المدينة تكونت باتحاد عدة قبائل مع بعضها البعض، فالمدينة بهذا المعنى هي حلف بين عدة قبائل تتفق على احترام حقوق كل منها، وخصوصاً الديانة الخاصة لكل قبيلة، أما سبب اتحاد هذه القبائل، فأحياناً يكون اختيارياً وأحياناً يكون مفروضاً من طرف قبيلة مسيطرة أو رجل قوي.
يميل العديد من الكتاب الغربيين إلى القول بأن المدن اليونانية التي انتشرت حوالي القرن السادس قبل الميلاد، مثل أثينا وإسبرطة، هي أول المدن وأول الحواضر التي عرفتها البشرية، إلا أن التنقيبات التي أجراها الأثريون دلت على أن مدينة أريحا في فلسطين تعد من أقدم المدن، حيث ترجع إلى حوالي عشرة آلاف سنة، وكانت أريحا محاطة بسور مما يدلل على أنها مدينة، حيث أن السور هو ما يميز المدينة عن القرية، ومع ذلك فإن هناك من يرى أن المدينة أو الدولة – المدينة لم تتبلور إلا في العصر الحجري الحديث حوالي عام 3000 ق.م ففي هذه الفترة عرفت المدن: "تقدماً إنتاجياً زراعياً ساعد على خلق الفنانين وعمال التعدين والمهندسين والكتاب والمحاسبين والبيروقراطيين والأطباء والعلماء والمتخصصين وفي تنظيم مهاراتهم وإنجازاتهم" .
كانت المدن اليونانية تملك كل مواصفات الدولة من حيث توزيع السلط وحقوق الأفراد ونظام الحكم والقضاء. كما أن العلاقات الاجتماعية كانت تقوم على أساس الانتماء إلى الأرض وإلى طبقة اجتماعية، حيث سادت طبقية صارمة في دولة – المدينة. ويرى علماء السياسة أن دولة – المدينة هي مرحلة عابرة في تاريخ تطور المجتمعات نحو الشمولية والكلية، حيث تعرضت دولة – المدينة اليونانية لانتقادات صارمة وخصوصاً من طرف الرواقيين الذين دعوا إلى العالمية
المطلب الثالث: الإمبراطورية Empire
ظهرت الإمبراطورية بتجاوز حدود دولة-المدينة، حيث تُخضع الإمبراطورية لسيطرتها مجموعة من المدن، وهذا الإخضاع غالباً ما يتم بالقوة والفتح، فتتولى جيوش الإمبراطورية عملية الإخضاع لهذه المدن ولا يراعى في تشكيل الإمبراطورية أن تكون الشعوب الخاضعة لها من جنسية واحدة بل غالباً ما ينضوي تحت لوائها شعوب متعددة الجنسيات.
ولعل من أشهر الإمبراطوريات التي عرفها التاريخ، الإمبراطورية الرومانية التي قامت في القرن الثاني قبل الميلاد، واتسعت لتشمل حوض البحر المتوسط ولتدوم حوالي 1300 عام – إلا أن قيام الإمبراطوريات على الغزو والإخضاع واتساع رقعة الأرض التي تسيطر عليها وتعدد شعوبها، كل هذا ساعد على سقوط الإمبراطوريات، وظهور شكل جديد من الدول وهي الإمارة الإقطاعية
المطلب الرابع: الإمارة الإقطاعية Feudal Principality
ظهر هذا النموذج بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية، فحيث ان الإمبراطوريات ألغت الكيانات السياسية لدول المدن وأزالت الحدود وخلقت وضعا جديا على مر السنين ، فانه لم يعد من الممكن ، بعد سقوط الإمبراطوريات ،الرجوع إلى الوضع السابق لوجودها ، فمع انهيار الإمبراطورية أصبحت الأرض في ملكية الملاك الكبار، يستغلونها بتسخير الأرقاء التابعين لهم، وفي النظام الإقطاعي هذا يصبح الملاك هم أصحاب السلطة السياسية والعسكرية والقانونية، فالإقطاعي صاحب الأرض وما عليها.
ويرى هالفان بأن الإمارة الإقطاعية مرحلة تراجع بالنسبة لدولة المدينة، فالمجتمع الإقطاعي مجتمع يرفض كل تدخل في شؤونه من طرف سلطة خارجة عنه، وفكرة الدولة ومفهوم السلطة العامة التي تعمل باسم المصلحة العامة والتي تمارس نوعاً من الإكراه على الأفراد، هي فكرة بعيدة عنه، وفي نفس الاتجاه يذهب مارك بلوش Marc Bloch حيث يقول "تتطابق الإقطاعية مع الضعف العميق للدول وخصوصاً في وظيفتها الحمائية"
ومما لا شك فيه أن غياب سلطة الدولة الإكراهية والحمائية تجعل العلاقة بين أفراد المجتمع علاقة سيد وتابع، وعلاقة تقوم على أساس القرابة أو الجوار، كما يصبح للعلاقات الشخصية دور أساسي في النظام الإقطاعي.
وقد سادت الإمارات الإقطاعية كل أوروبا تقريباً حوالي القرنين الحادي عشر والثاني عشر ولم ينهار هذا النظام إلا مع بداية ظهور النزعة القومية، وظهور فكرة سيادة الشعب والدولة القومية ابتداء من القرن السادس عشر.
المطلب : الدولة – الأمة nation – State
وهي آخر نموذج للمجتمع الإجمالي، وظهرت ابتداء من القرن السادس عشر على أثر تفكك الممالك الكبرى وانهيار النظام الإقطاعي ويرجع الفضل في التنظير للدولة الأمة لمجموعة من المفكرين أمثال مكيافلي، وروسو، ولوك ومونتيسكيو، وهيغل – الخ.
تقوم الدولة – الأمة على انضواء جميع الأفراد الذين ينتمون لقومية واحدة – وحدة لغة وتقاليد وعادات وتاريخ وإقامة على أرض مشتركة – تحت سلطة سياسية واحدة على أرض محددة. والدولة – الأمة مرتبطة بظهور الفكر القومي. ولكن هذا لا يعني أن كل الدول الحديثة والمعاصرة تأخذ شكلاً واحداً في وجودها. فهناك نموذج الدولة الليبرالية، ونماذج خاصة بدول العالم الثالث حيث أن تأسيس الدولة في العديد من دول العالم الثالث لم يحدث اعتماداً على التسلسل المشار إليه سابقاً، وبالتالي لم يحدث اعتماداً على تطور ونضج في البنى والمؤسسات الداخلية، بل غالباً كان تأسيساً نتيجة تدخل الاستعمار وفرضه قسراً على هذه المجتمعات، نظماً وهياكل ومؤسسات الدولة، دون أن تكون بنية المجتمع مهيأة للتعامل مع هذه المؤسسات، الأمر الذي أدى إلى انفصال ما بين المجتمع والدولة وبالتالي حالة الصراع والعداء بين الطرفين والتي تتمظهر في عدم الاستقرار والحروب الأهلية والانقلابات والثورات...الخ. بالإضافة إلى ذلك فليس جميع الدول تتكون من أفراد ينتمون لقومية واحدة، بل هناك دول تتكون من عدة قوميات كروسيا الاتحادية، إيران، الهند، وهناك قوميات موزعة على عدة دول، كالأمة العربية، بالإضافة إلى وجود قوميات لم تؤسس لنفسها دول خاصة بها. هذا ويبلغ عدد الجماعات العرقية في العالم حوالي 5350 جماعة.
وبغض النظر عن التطور التاريخي للدولة، تعرف الدولة عدة أشكال، فهناك دول بسيطة وأخرى مركبة.
- الدولة البسيطة: هي التي ينفرد بإدارة شؤونها الخارجية والداخلية هيئة واحدة. مثل: المغرب، فرنسا، وغالبية دول العالم.
- الدولة المركبة، وتتكون من اجتماع أكثر من دولة أو ولاية قائمة بذاتها تحت سلطة حكومية مشتركة أو تحت حكم رئيس أعلى واحد.
وهذه تشتمل ثلاث فئات:
1- دولة الاتحاد الشخصي: وتقوم باجتماع دولتين تحت عرش واحد مع احتفاظ كل منهما باستقلالها الداخلي والخارجي.
2- دولة الاتحاد الفعلي: وهي اتحاد دولتين اتحاداً دائماً تحت حكم رئيس وخضوعها لهيئة واحدة فيما يتعلق بشؤونها الخارجية مع احتفاظ كل منهما بإدارة شؤونها الداخلية وهذا الاتحاد وسابقه أصبحا في حكم التاريخ، فلا توجد نماذج معاصرة لهما.
3- دولة الاتحاد ألتفاهمي: تتكون من انضمام عدة دول بعضها إلى بعض بمقتضى معاهدة أو اتفاق في شكل اتحاد أو تعاهد ورعاية المصالح المشتركة بينهما. ومن أمثلتها الولاية المتحدة الأمريكية سويسرا، ومشروع أوروبا الموحدة.
أيضاً تتباين أنظمة حكم الدول، وقد عرفت المجتمعات أنماطاً مختلفة من أنظمة حكم الدول: ديمقراطية، اوليغارشية، أرستقراطية، عسكرية، فاشية، نازية، ملكية، جمهورية، الخ.
نخلص إلى القول إن مراحل تطور الدولة المشار إليها هي تقسيم نموذجي أو مثالي، أي يقوم على أساس النموذج الغالب أو النمط السائد، حيث أن هذه الأشكال من الدول كانت تتداخل مع بعضها البعض وكانت تتعايش مع أنماط أخرى من المجتمعات الإنسانية قد تقترب، أو تبتعد عن مفهوم الدولة إلا أنها في جميع الحالات تشكل مرحلة في مسار تطور المجتمعات الإنسانية من شريعة الغاب إلى دول القانون.
إن كانت نظرية الدولة القومية هي النظرية الأكثر تفسيراً لواقع الدولة في النظام الدولي المعاصر، إلا أن هذا لا يعني أنها تشكل النهاية أو خاتمة المطاف بالنسبة للتنظير حول الدولة أو المجتمع الشمولي، حيث أن هذه الدولة القومية التي تعبر عنها النظرية السياسية المعاصرة تتعايش مع أشكال أخرى من المجتمعات الإنسانية قد تكون سابقة على مرحلة الدولة القومية، وقد تكون في مرحلة تخطي وتجاوز للدولة القومية، وخصوصاً أن التوجه الحالي في النظام الدولي يسعى إلى إقامة التكتلات الكبيرة التي تتجاوز المفهوم الضيق للسيادة القومية. ويبقى تطور نظرية الدولة كنظام سياسي أو كمجتمع بشري أو كمؤسسة اجتماعية مرتبط بالتطور العام للمجتمعات الإنسانية وللحضارة الإنسانية عموماً، ومرتبط بالظروف السياسية لكل بلد، حيث تكشف لنا التحولات الأخيرة في أوروبا الشرقية عن بداية تفكك دول وظهور دول جديدة لم يكن لها وجود سابقً أو كانت قد فقدت استقلالها خلال نزاعات سابقة، كما أن هناك شعوب مازالت تناضل من أجل حقها في إقامة دولتها التي فقدتها بفعل الغزو الاستيطاني ، وأهم حالة الشعب العربي الفلسطيني الذي يناضل ضد الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في أرضه فلسطين. فهذا الاحتلال لم يلغ الدولة الفلسطينية كوجود تاريخي ولكنه أفقدها عنصر السيادة فتحولت إلى ارض محتلة، واليوم الشعب الفلسطيني يناضل من أجل إعادة بناء دولته .