〣闦〣 خطورة الوهن على الفرد والمجتمع 〣闦〣
الوهن لغة:
الوهن مأخوذ من مادّة (وه ن) الّتي تدلّ على الضّعف. تقول منه: وهن الشّيء يهن وهنا: ضعف، وأوهنته أنا (أي أضعفته) [المقاييس (6/ 149) ] .
والوهن: الضّعف في العمل وفي الأشياء، وكذلك في العظم ونحوه. وقد وهن العظم يهن وهنا، وأوهنه يوهنه، ورجل واهن في الأمر والعمل، وموهون في العظم والبدن، وقد يثقّل [العين (4/ 92) ] .
يقول الرّاغب: الوهن ضعف من حيث الخلق أو الخلق، قال تعالى: قالَ (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) [مريم: 4] وقال: (فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ) [آل عمران: 146] وقال: (وَهْناً عَلى وَهْنٍ) [لقمان: 14] أي كلّما عظم في بطنها زادها ضعفا على ضعف [المفردات (572) ] . أي لزمها بحملها إيّاه أن تضعف مرّة بعد مرّة، وقيل: وهنا على وهن، أي جهدا على جهد، وفي حديث الطّواف: وقد وهنتهم حمّى يثرب: أي أضعفتهم، وفي حديث عليّ- رضي اللّه عنه-: «ولا واهنا في عزم» أي ضعيفا في رأي. ورجل واهن: ضعيف لا بطش عنده، والأنثى واهنة. وقوله- عزّ وجلّ-: (فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي ما فتروا وما جبنوا عن قتال عدوّهم. ويقال للطّائر إذا أثقل من أكل الجيف فلم يقدر على النّهوض قد توهّن توهّنا. والوهنانة من النّساء الكسلى عن العمل تنعّما، والوهنانة الّتي فيها فترة [اللسان (6/ 4935) ] .
وقال ابن الأثير: وفي حديث عمران بن حصين: «أنّ فلانا دخل عليه وفي عضده حلقة من صفر (نحاس) فقال: ما هذا؟ قال: هذا من الواهنة.
قال: أما إنّها لا تزيدك إلّا وهنا، الواهنة: عرق يأخذ في المنكب وفي اليد كلّها فيرقى منها، وقيل: هو مرض يأخذ في العضد وربّما علّق عليها جنس من الخرز يقال لها: خرز الواهنة وهي تأخذ الرّجال دون النّساء، وإنّما نهاه عنها لأنّه إنّما اتّخذها على أنّها تعصمه من الألم فكان عنده في معنى التّمائم المنهيّ عنها [النهاية (5/ 243) ] .
وقال الفيروزاباديّ: يقال: الوهن والوهن (محرّكة): والفعل منه: وهن يهن كوعد يعد، ووهن يهن كورث يرث، ووهن يوهن كوجل يوجل، وأوهنه ووهّنه: أضعفه، وهو واهن وموهون: لا بطش عنده، وهي واهنة، والجمع: وهن [بصائر ذوي التمييز (5/ 287) ] .
الوهن اصطلاحا:
قال الفيروز اباديّ: الوهن (والوهن): الضّعف في العمل.
وقيل: الضّعف في الخلق والخلق [بصائر ذوي التمييز (5/ 287) ] .
وقال القرطبيّ: الوهن انكسار الجدّ بالخوف وقال في تفسير قوله تعالى: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا) [آل عمران: 139] أي لا تضعفوا ولا تجبنوا يا أصحاب محمّد عن جهاد أعدائكم لما أصابكم [تفسير القرطبي (4/ 230) ] . ويؤخذ من ذلك أنّ: الوهن: هو الضّعف والجبن عن جهاد الأعداء عند ما ينزل بالمؤمن نازلة من أعدائه.
قوله تعالى : { قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } [آل عمران: 137- 143] .
قوله تعالى : { وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ * فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [آل عمران: 146- 148] .
قوله تعالى : { وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } [النساء: 104] .
قوله تعالى : { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ *فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ * إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ } [الأنفال: 15- 19] .
قوله تعالى : { مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ * إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُون } [العنكبوت: 41- 43] .
قوله تعالى : { وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } [لقمان: 14] .
قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ * فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ } [محمد: 34- 35] .
قوله تعالى : { كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا * قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا } [مريم: 1- 6] .
عن ثوبان- رضي اللّه عنه- قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم: «يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلّة نحن يومئذ؟. قال: «بل أنتم يومئذ كثير، ولكنّكم غثاء كغثاء السّيل، ولينزعنّ اللّه من صدور عدوّكم المهابة منكم وليقذفنّ اللّه في قلوبكم الوهن»، فقال قائل: يا رسول اللّه، وما الوهن؟. قال: «حبّ الدّنيا وكراهية الموت» [أبو داود (4297) واللفظ له، أحمد (5/ 278)، وذكره في جامع الأصول، وقال محققه (10/ 28): سنده قوي. وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة (2/ 683) رقم (958)، وقال: الحديث بمجموع طرقه صحيح عندي، وهو في صحيح الجامع أيضا (6/ 264) رقم (8035) ] .
عن ابن عمر- رضي اللّه عنهما- أنّه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزّرع، وتركتم الجهاد، سلّط اللّه عليكم ذلّا لا ينزعه حتّى ترجعوا إلى دينكم»[ أبو داود (3462) واللفظ له، أحمد (2/ 28)، وكذا في (2/ 42) وذكره في جامع الأصول، وقال مخرجه (11/ 765): صحيح. وذكره الألباني في الصحيحة (1/ 15- 17) رقم (11)، وقال: صحيح بمجموع طرقه، وهو في صحيح الجامع أيضا (1/ 175) رقم (416) ] .
عن ابن عمر- رضي اللّه عنهما- قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم: «بعثت بالسّيف حتّى يعبد اللّه لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظلّ رمحي، وجعل الذّلّة والصّغار على من خالف أمري، ومن تشبّه بقوم فهو منهم» [أحمد (2/ 50) وقال الشيخ أحمد شاكر (7/ 121) حديث (5114): إسناده صحيح] .
عن حذيفة- رضي اللّه عنه- قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم: «لا تكونوا إمّعة تقولون: إن أحسن النّاس أحسنّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطّنوا أنفسكم. إن أحسن النّاس أن تحسنوا. وإن أساءوا فلا تظلموا» [الترمذي (2007) واللفظ له، وقال: حسن غريب. وقال محقق جامع الأصول: إسناده حسن (11/ 699) وضعفه الألباني وصحح وقفه على ابن مسعود مشكاة المصابيح(5129) ] .
عن أبي أمامة الباهليّ- رضي اللّه عنه- قال: ورأى سكّة «1» وشيئا من آلة الحرث- فقال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم- يقول: «لا يدخل هذا بيت قوم إلّا أدخله اللّه الذّلّ» [البخاري- الفتح 5 (2321) ] .
عن أبي هريرة- رضي اللّه عنه- قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم: «المؤمن القويّ خير وأحبّ إلى اللّه من المؤمن الضّعيف، وفي كلّ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن باللّه ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أنّي فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر اللّه وما شاء فعل؛ فإنّ لو تفتح عمل الشّيطان» [مسلم (2664) ] .
قال خالد بن برمك: من استطاع أن يمنع نفسه من أربعة أشياء فهو خليق أن لا ينزل به كبير مكروه. العجلة، والّلجاجة، والعجب، والتّواني، فثمرة العجلة النّدامة، وثمرة الّلجاجة الحيرة، وثمرة العجب البغضة، وثمرة التّواني الذّلّ.[ روضة العقلاء (217) ] .
لقد مرّ على الأمّة أزمنة وهنت قوّتها وضاعت عزّتها، فهانت على أعدائها، وتسلّطوا عليها. وما حدث للمسلمين من تسلّط التّتار من أوضح الأدلّة الواردة على ذلك ما حدث في سنة ثنتين وتسعين وأربعمائة، حيث أخذت الفرنج- لعنهم اللّه- بيت المقدس- شرّفه اللّه-، وقتلوا في وسطه أزيد من ستّين ألف قتيل من المسلمين (فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ) [الإسراء: 5] (وتبّروا ما عَلَوْا تَتْبِيراً) [الإسراء: 7].
قال ابن الجوزيّ: وأخذوا من حول الصّخرة اثنين وأربعين قنديلا من فضّة، زنة كلّ واحد منها ثلاثة آلاف وستّمائة درهم، وأخذوا تنّورا من فضّة زنته أربعون رطلا بالشّاميّ، وثلاثة وعشرين قنديلا من ذهب، وذهب النّاس على وجوههم هاربين من الشّام إلى العراق، مستغيثين على الفرنج إلى الخليفة والسّلطان، منهم القاضي أبو سعد الهرويّ، فلمّا سمع النّاس ببغداد هذا الأمر الفظيع هالهم ذلك وتباكوا، وقد نظم أبو سعد الهرويّ كلاما قرأ في الدّيوان وعلى المنابر، فارتفع بكاء النّاس، وندب الخليفة الفقهاء إلى الخروج إلى البلاد ليحرّضوا الملوك على الجهاد، فخرج ابن عقيل- واحد من أعيان الفقهاء- فساروا في النّاس فلم يفد ذلك شيئا، فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون، فقال في ذلك أبو المظفّر الأبيورديّ شعرا:
مزجنا دمانا بالدّموع السّواجم *** فلم يبق منّا عرضة للمراحم
وشرّ سلاح المرء دمع يريقه *** إذا الحرب شبّت نارها بالصّوارم
فإيها بني الإسلام إنّ وراءكم *** وقائع يلحقن الذّرى بالمناسم
وكيف تنام العين ملء جفونها *** على هفوات أيقظت كلّ نائم
وإخوانكم بالشّام يضحي مقيلهم *** ظهور المذاكي أو بطون القشاعم
تسومهم الرّوم الهوان وأنتم *** تجرّون ذيل الخفض فعل المسالم
ومنها قوله:
وبين اختلاس الطّعن والضّرب وقفة *** تظلّ لها الولدان شيب القوادم
وتلك حروب من يغب عن غمارها *** ليسلم يقرع بعدها سنّ نادم
سللن بأيدي المشركين قواضبا *** ستغمد منهم في الكلى والجماجم
يكاد لهنّ المستجير بطيبة *** ينادي بأعلى الصّوت يا آل هاشم
أرى أمّتي لا يشرعون إلى العدا *** رماحهم والدّين واهي الدّعائم
ويجتنبون النّار خوفا من الرّدى *** ولا يحسبون العار ضربة لازم
أيرضى صناديد الأعاريب بالأذى *** ويغضي على ذلّ كماة الأعاجم
فليتهمو إذ لم يذودوا حميّة *** عن الدّين ضنّوا غيرة بالمحارم
وإن زهدوا في الأجر إذ حمي الوغى *** فهلّا أتوه رغبة في المغانم
[البداية والنهاية (12/ 156- 157). وانظر بصائر ذوي التمييز (5/ 287) ] .
قصص
1- ثمّ دخلت سنة ستّ وخمسين وستّمائة. فيها أخذت التّتار بغداد وقتلوا أكثر أهلها حتّى الخليفة، وانقضت دولة بني العبّاس منها. استهلّت هذه السّنة وجنود التّتار قد نازلت بغداد صحبة الأميرين اللّذين على مقدّمة عساكر سلطان التّتار، هولاكو خان، وجاءت إليهم أمدد صاحب الموصل يساعدونهم على البغاددة وميرته وهداياه وتحفه، وكلّ ذلك خوفا على نفسه من التّتار، ومصانعة لهم- قبّحهم اللّه تعالى-، وقد سترت بغداد ونصبت المجانيق والعرّادات وغيرها من آلات الممانعة الّتي لا تردّ من قدر اللّه- سبحانه وتعالى- شيئا، كما ورد في الأثر (لن يغني حذر عن قدر)، وكما قال تعالى: (إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ) [نوح: 4]، وقال تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) [الرعد: 11]، وأحاطت التّتار بدار الخلافة يرشقونها بالنّبال من كلّ جانب حتّى أصيبت جارية كانت تلعب بين يدي الخليفة وتضحكه، وكانت من جملة حظاياه، وكانت مولّدة تسمّى عرفة، جاءها سهم من بعض الشّبابيك فقتلها وهي ترقص بين يدي الخليفة، فانزعج الخليفة من ذلك وفزع فزعا شديدا، وأحضر السّهم الّذي أصابها بين يديه فإذا عليه مكتوب، إذا أراد اللّه إنفاذ قضائه وقدره أذهب من ذوي العقول عقولهم. ومالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرّجال والنّساء والولدان والمشايخ والكهول والشّبّان، ودخل كثير من النّاس في الآبار وأماكن الحشوش، وقنى الوسخ، وكمنوا كذلك أيّاما لا يظهرون، وكان الجماعة من النّاس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم الأبواب فتفتحها التّتار إمّا بالكسر وإمّا بالنّار، ثمّ يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة فيقتلونهم بالأسطحة، حتّى تجري الميازيب من الدّماء في الأزقّة، فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون. وكذلك المساجد والجوامع والرّبط، ولم ينج منهم أحد سوى أهل الذّمّة من اليهود والنّصارى ومن التجأ إليهم وإلى دار الوزير ابن العلقميّ الرّافضيّ وطائفة من التّجّار أخذوا لهم أمانا بذلوا عليه أموالا جزيلة حتّى سلموا وسلمت أموالهم. وعادت بغداد بعد ما كانت آنس المدن كلّها كأنّها خراب ليس فيها إلّا القليل من النّاس، وهم في خوف وجوع وذلّة وقلّة، وكان الوزير العلقميّ قبل هذه الحادثة يجتهد في صرف الجيوش وإسقاط أسهمهم من الدّيوان، فكانت العساكر في آخر أيّام المستنصر قريبا من مائة ألف مقاتل، منهم من الأمراء من هو كالملوك الأكابر الأكاسر، فلم يزل يجتهد في تقليلهم إلى أن لم يبق سوى عشرة آلاف، ثمّ كاتب التّتار وأطمعهم في أخذ البلاد، وسهّل عليهم ذلك، وحكى لهم حقيقة الحال، وكشف لهم ضعف الرّجال، وذلك كلّه طمعا منه أن يزيل السّنّة بالكلّيّة، وأن يظهر البدعة الرّافضة وأن يقيم خليفة من الفاطميّين، وأن يبيد العلماء والمفتين، واللّه غالب على أمره، وقد ردّ كيده في نحره، وأذلّه بعد العزّة القعساء، وجعله (حوشكاشا) للتّتار بعد ما كان وزيرا للخلفاء، واكتسب إثم من قتل ببغداد من الرّجال والنّساء والأطفال، فالحكم للّه العليّ الكبير، ربّ الأرض والسّماء. وقد جرى على بني إسرائيل ببيت المقدس قريب ممّا جرى على أهل بغداد كما قصّ اللّه تعالى علينا ذلك في كتابه العزيز، حيث يقول: (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً * فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا) [الإسراء: 4- 5] الآيات. وقد قتل من بني إسرائيل خلق من الصّلحاء وأسر جماعة من أولاد الأنبياء، وخرّب بيت المقدس بعدما كان معمورا بالعبّاد والزّهّاد والأحبار والأنبياء، فصار خاويا على عروشه واهي البناء. وقد اختلف النّاس في كمّيّة من قتل ببغداد من المسلمين في هذه الوقعة، فقيل ثمانمائة ألف، وقيل ألف ألف وثمانمائة ألف، وقيل بلغت القتلى ألفي ألف نفس، فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون، ولا حول ولا قوّة إلّا باللّه العليّ العظيم. وكان دخولهم إلى بغداد في أواخر المحرّم، وما زال السّيف يقتل أهلها أربعين يوما، وكان قتل الخليفة المستعصم باللّه أمير المؤمنين يوم الأربعاء، رابع عشر صفر وعفّي قبره، وكان عمره يومئذ ستّا وأربعين سنة وأربعة أشهر، ومدّة خلافته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وأيّام، وقتل معه ولده الأكبر أبو العبّاس أحمد، وله خمس وعشرون سنة، ثمّ قتل ولده الأوسط أبو الفضل عبد الرّحمن وله ثلاث وعشرون سنة، وأسر ولده الأصغر مبارك، وأسرت أخواته الثّلاث: فاطمة وخديجة ومريم، وأسر من دار الخلافة من الأبكار ما يقارب ألف بكر فيما قيل، واللّه أعلم، فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون. وقتل أستاذ دار الخلافة الشّيخ محيي الدّين يوسف ابن الشّيخ أبي الفرج ابن الجوزيّ، وكان عدوّ الوزير، وقتل أولاده الثّلاثة: عبد اللّه، وعبد الرّحمن، وعبد الكريم، وأكابر الدّولة واحدا بعد واحد، منهم الدّيودار الصّغير مجاهد الدّين أيبك، وشهاب الدّين سليمان شاه، وجماعة من أمراء السّنّة وأكابر البلد. وكان الرّجل يستدعى به من دار الخلافة من بني العبّاس فيخرج بأولاده ونسائه فيذهب به إلى مقبرة الخلال، تجاه المنظرة فيذبح كما تذبح الشّاة، ويؤسر من يختارون من بناته وجواريه. وقتل شيخ الشّيوخ مؤدّب الخليفة صدر الدّين عليّ بن النّيّار، وقتل الخطباء والأئمّة، وحملة القرآن، وتعطّلت المساجد والجمعات والمدارس والرّبط مدّة شهور ببغداد، وأراد الوزير ابن العلقميّ قبّحه اللّه- ولعنه، أن يعطّل المساجد والمدارس والرّبط ببغداد، ويستمرّ بالمشاهد ومحالّ الرّفض، وأن يبني للرّافضة مدرسة هائلة ينشرون علمهم وعلمهم بها وعليها، فلم يقدره اللّه تعالى على ذلك بل أزال نعمته عنه وقصف عمره بعد شهور يسيرة من هذه الحادثة، وأتبعه بولده فاجتمعا- واللّه أعلم- بالدّرك الأسفل من النّار. ولمّا انقضى الأمر المقدّر وانقضت الأربعون يوما بقيت بغداد خاوية على عروشها ليس بها أحد إلّا الشّاذّ من النّاس، والقتلى كأنّها التّلول، وقد سقط عليهم المطر فتغيّرت صورهم وأنتنت من جيفهم البلد، وتغيّر الهواء فحصل بسببه الوباء الشّديد حتّى تعدّى وسرى في الهواء إلى بلاد الشّام، فمات خلق كثير من تغيّر الجوّ وفساد الرّيح، فاجتمع على النّاس الغلاء والوباء والفناء والطّعن والطّاعون. [البداية والنهاية (200- 203) ] .