سيف الدين
عضو جديد
الجنس : العمر : 37 المدينة المنورة التسجيل : 11/03/2012 عدد المساهمات : 23
| موضوع: الخوف من الله الجمعة 16 مارس 2012, 10:00 pm | |
|
الحمد لله الكريم المنان، أحمده –تعالى- عظيم الشان، القائل في محكم القرآن، ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن:46] ، لك الحمد إلهي في كل وقتٍ وآن، والصلاة والسلام على النبي المصطفى العدنان، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان.
سبق أن بحثنا عن بعضٍ من أعمال القلوب، وما نتكلم عنه في بحثنا هذا هو الخوف كعمل من أعمال القلوب التي يتقرب بها العبد إلى الله- سبحانه وتعالى-.
أولا: تعريف الخوف لغة وشرعاً:
1- الخوف في لغة العرب:
الخَوْفُ: الفَزَعُ، خافَه يخافُه خَوْفاً وخِيفةً، وإنما صارت الواو أَلفاً في يَخافُ؛ لأَنه على بناء عمِلَ يَعْمَلُ فاستثقلوا الواو فأَلقَوْها وفيها ثلاثة أَشياء: الحَرْفُ والصَّرْفُ والصوتُ وربما أَلقوا الحَرْفَ بصرفها وأَبقوا منها الصوت وقالوا يَخافُ وكان حدّه يَخْوَفُ بالواو منصوبة فأَلقوا الواو واعتمد الصوت على صرف الواو وقالوا خافَ وكان حدّه خوِف بالواو مكسورة فأَلقوا الواو بصرفها وأَبقوا الصوت واعتمد الصوت على فتحة الخاء فصار معها أَلفاً ليِّنة ومنه التَّخْويفُ والإخافةُ والتَّخَوّف والنعت خائفٌ وهو الفَزِعُ(1).
وقال القرطبي- رحمه الله-: «والخوف في كلام العرب: الذعر، وخاوفني فلان فخفته أي : كنت أشد خوفاً منه، والخوفاء: المفازة لا ماء بها، ويقال : ناقة خوفاء وهي الجرباء (2).
قال الجرجاني: الخوف: توقع حلول مكروه أو فوات محبوب»(3).
وقد ورد في القرآن الخوف على خمسة وجوه:
الأَوّل: بمعنى القتل والهزيمة ﴿وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ﴾ [النساء:83], ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ﴾ [ البقرة:155] أي: القتل.
الثاني: بمعنى الحرب والقتال ﴿فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ﴾ [الأحزاب:19] أي: إِذا انجلى الحرب ﴿فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ﴾ [الأحزاب:19] أي: الحرب.
الثالث: بمعنى العلم والدّراية ﴿فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً﴾ [البقرة:182] أي: عِلم ﴿إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ ﴾ [البقرة:229] أي: يعلما ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى﴾ [النساء:3] أي: علمتم.
الرّابع: بمعنى النقص ﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ﴾[النحل:47] أي: تنقُّص.
الخامس: بعني الرُّعب والخشية من العذاب والعقوبة: ﴿ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾ [السجدة:16](4).
2- الخوف شرعاً:
وقال المناوي- رحمه الله-: الخوف توقع مكروه أو فوت محبوب، ذكره ابن الكمال، وقال الحرالي : حذر النفس من أمور ظاهرها يضره، وقال التفتازاني: غمٌ يلحق الإنسان مما يتوقعه من السوء، وقال الراغب: توقع مكروه عن إمارة مظنونة أو معلومة كما أن الرجاء توقع محبوب كذلك وضده الأمن ويستعمل في الأمور الدنيوية والأخروية(5).
قال الراغب في المفردات: والخوف من الله لا يراد به ما يخطر بالبال من الرعب كاستشعار الخوف من الأسد بل إنما يراد به الكف عن المعاصي واختيار الطاعات ولذلك قيل: لا يعد خائفا من لم يكن للذنوب تاركا . والتخويف من الله تعالى: هو الحث على التحرز وعلى ذلك قوله تعالى: ذلك يخوف الله به عباده(6).
ثانياً: الفرق بين الخوف والخشية والرهبة والوجل والهيبة والإجلال:
الخوف والخشية والرهبة ألفاظ متقاربة غير مترادفة، قال أبو القاسم الجنيد: الخوف توقع العقوبة على مجارى الأنفاس، وقيل: الخوف اضطراب القلب وحركته من تذكر المخوف، وقيل: الخوف هرب القلب من حلول المكروه عند استشعاره، والخشية أخص من الخوف فإن الخشية للعلماء بالله فهي خوف مقرون، والخوف حركة والخشية انجماع وانقباض وسكون، وأما الرهبة فهي الإمعان في الهرب من المكروه وهي ضد الرغبة التي هي سفر القلب في طلب المرغوب فيه، وبين الرهب والهرب تناسب في اللفظ والمعنى يجمعهما الاشتقاق الأوسط الذي هو عقد تقاليب الكلمة على معنى جامع، وأما الوجل: فرجفان القلب وانصداعه لذكر من يخاف سلطانه وعقوبته أو لرؤيته، وأما الهيبة: فخوف مقارن للتعظيم والإجلال وأكثر ما يكون مع المحبة والمعرفة، والإجلال: تعظيم مقرون بالحب، فالخوف: لعامة المؤمنين، والخشية: للعلماء العارفين، والهيبة: للمحبين، والإجلال: للمقربين(7).
ثالثاً: حكم الخوف.
الخوف غريزةٌ فطرت عليها النفوس البشرية، قال الله-تعالى- حاكياً عن موسى وهارون – عليهما السلام-: ﴿قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى﴾ [طه:45]
فالنفس تخافُ مما يضرها وتخشاه، ولكن قد يكون الخوف واجباً وهو الخوف من الله الدافع لفعل الواجب، قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران:175]
وهو أمرٌ يدل على الوجوب، وقد يكون الخوف محرماً، كالخوف من غير الله كخيفة الله- عز وجل- أو أشد خيفة، فهذا شركٌ مع الله وهو مثل حب غير الله كحب الله أو أشد حباً، قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾ [البقرة:165] وعدم مخافة الملامة في الله من صفات المؤمنين الجيل الذين يحبهم الله ويحبونه قال الله –تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [ الشمس:54] ومن يخاف الملامة في الله فقد جانب الصواب ووقع في المكروه، أو الحرام إذا كان خوف الناس يؤدي إلى ترك واجب أو وقوع في محرم، قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾ [النساء:77].
قال ابن رجب الحنبلي- رحمه الله-: «والقدر الواجب من الخوف ما حمل على أداء الفرائض واجتناب المحارم، فإن زاد على ذلك بحيث صار باعثاً للنفوس على التشمير في نوافل الطاعات و الانكفاف عن دقائق المكروهات والتبسط في فضول المباحات كان ذلك فضلاً محموداً، فإن تزايد على ذلك بأن أورث مرضاً أو موتاً أو هماً لازماً بحيث يقطع عن السعي في اكتساب الفضائل المطلوبة المحبوبة لله -عز و جل- لم يكن محموداً؛ ولهذا كان السلف يخافون على عطاء السلمي من شدة خوفه الذي أنساه القرآن وصار صاحب فراش، وهذا لأن خوف العقاب ليس مقصوداً لذاته، إنما هو سوط يساق به المتواني عن الطاعة إليها ومن هنا كانت النار من جملة نعم الله على عباده الذين خافوه و اتقوه، ولهذا المعنى عدها الله سبحانه من جملة آلائه على الثقلين في سورة الرحمن»(.
وقال ابن القيم- رحمه الله-: «ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الخوف وهى من أجل منازل الطريق وأنفعها للقلب، وهي فرض على كل أحدٍ، قال الله تعالى: ﴿فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران:175] وقال تعالى: ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ [البقرة:40] ﴿فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [البقرة:150].
رابعاً: منزلة الخوف في القرآن والسنة.
1- الخوف من الله من أعظم النعم على الإنسان، قال الله-تعالى-: ﴿قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [الشمس:23], قال الطبري- رحمه الله-: قيل إن معنى ذلك: أنعم الله عليهما بالخوف(9).
2- الخوف من الله يمنع الإنسان من الوقوع في الكبائر والإصرار على الصغائر قال تعالى: ﴿لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الشمس:28] حين تغلي النفس البشرية وتهيج غضباً فإنها تلجأ إلى الانتقام والعداوة المفرطة، ومن يخاف الله- عز وجل- تجده وقافاً عند حدود الله- سبحانه وتعالى- لا يتجاوزها، فأثمر هذا العمل القلبي- الخوف من الله- ورعاً وتقوى وبعداً عن الحرام، قال تعالى: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ [يونس:15] وقد كلف الله البشرية بتكاليف عظيمةٍ لا يعمل بها إلا من يخاف الله ويخشاه بالغيب قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [المائدة:94]
قال الشوكاني- رحمه الله-: «ليعلم الله من يخافه بالغيب أي: ليتميز عند الله من يخافه منكم بسبب عقابه الأخروي فإنه غائب عنكم غير حاضر»(10).
3- الخائفون هم الذين يتدبرون آياتِ الله ويتعظون بها قال الله –تعالى-:﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ﴾ [هود:103]
وقال تعالى: ﴿ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ﴾ [ق:45], وقال تعالى ﴿وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴾ [الذاريات:37]
وقال تعالى: ﴿وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [الأنعام:51] قال ابن القيم: «والله تعالى أخبر أنه إنما تنفع الآيات والنذر لمن صدق بالوعيد وخاف عذاب الآخرة فهؤلاء هم المقصودون بالإنذار والمنتفعون بالآيات دون من عداهم »(11).
4- الخائفون هم الذين يسكنهم الله الأرض من بعد القوم الظالمين، ﴿وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ﴾ [إبراهيم:14].
5- الخوف من صفات المؤمنين الموحدين، قال تعالى: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [النحل:50], وقال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً﴾ [الإسراء:57].
6- الخائفون لا يتأخرون عن المسارعة إلى الخيرات، ولا تلهيهم المغريات، بل يسارعون إلى الطاعات، ويؤدون الواجبات، قال الله –تعالى-: ﴿رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾ [النور:37] .
قال البيضاوي: ﴿يَخَافُونَ يَوْماً﴾ مع ما هم عليه من الذكر والطاعة: ﴿تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾ تضطرب وتتغير من الهول أو تتقلب أحوالها فتفقه القلوب ما لم تكن تفقه وتبصر الأبصار ما لم تكن تبصره أو تتقلب القلوب مع توقع النجاة وخوف الهلاك والأبصار من أي ناحية يؤخذ بهم ويؤتى كتبهم(12), قال تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ [البقرة:45], قال البغوي: ﴿ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ يعني: المؤمنين، وقال الحسن: الخائفين (13).
وقال تعالى: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً﴾ [الإنسان:7], وقال تعالى: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ ﴾ [الرعد:21]
قالت عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم-: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن هذه الآية: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾ [المؤمنون:60], قالت عائشة: هم الذين يشربون الخمر ويسرقون قال: "لا يا بنت الصديق ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم أولئك الذين يسارعون في الخيرات"(14).
8- الخائفون موعودون بالجنان، ونيل رضى الرحمن، قال - تعالى-: ﴿جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾ [البينة:8] وقال تعالى: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن:46] قال أبو هريرة: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة"(15).
9- الخائفون يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، عن أبي هريرة: عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "سبعة يظلهم الله في ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجلٌ قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله، ورجل تصدق حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه"(16).
قال المباركفوري: «الظاهر أنه يقول ذلك بلسانه أما ليزجرها عن الفاحشة أو ليعتذر إليها ويحتمل أن يقوله بقلبه قاله عياض قال القرطبي: إنما يصدر ذلك عن شدة خوف من الله تعالى ومتين تقوى وحياء»(17).
10- الخائفون هم الذين يستجيب الله دعاءهم، قال تعالى: ﴿وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف:56] وقال تعالى: ﴿يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [السجدة:16] ﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ﴾ [الأعراف:205]وقال سهل بن عبد الله التستري: «شروط الدعاء سبعة: أولها التضرع والخوف والرجاء والمدوامة والخشوع والعموم وأكل الحلال»(18).
وقال الشوكاني: « ﴿تَضَرُّعاً وَخِيفَةً﴾ وفيه أنه يشرع للداعي أن يكون عند دعائه خائفاً وجلاً طامعاً في إجابة الله لدعائه، فإنه إذا كان عند الدعاء جامعاً بين الخوف والرجاء ظفر بمطلوبه»(19).
سادساً: أقوال أهل العلم في الخوف.
قال أبو حفص: الخوف سوط الله يقوم به الشاردين عن بابه وقال: الخوف سراج في القلب به يبصر ما فيه من الخير والشر.
قال أبو سليمان: ما فارق الخوف قلباً إلا خرب.
وقال إبراهيم بن سفيان: إذا سكن الخوف القلوب أحرق مواضع الشهوات منها وطرد الدنيا عنها.
وقال ذو النون: الناس على الطريق ما لم يزل عنهم الخوف، فإذا زال عنهم الخوف ضلوا عن الطريق(20).
قال ابن حمدان وقرأت بخط أبي سمعت أبا عثمان يقول: الخوف من الله يوصلك إليه، والعجب يقطعك عنه، واحتقار الناس في نفسك مرض لا يداوى(21).
وقال أبو سليمان الداراني إن النفس إذا جاعت وعطشت صفا القلب ورق وإذا شبعت ورويت عمي القلب وقال مفتاح الدنيا الشبع ومفتاح الآخرة الجوع، وأصل كل خير في الدنيا والآخرة الخوف من الله -عز وجل-(22) .
قال ابن الجوزي- رحمه الله-: «تأملت حالة أزعجتني وهو أن الرجل قد يفعل مع امرأته كل جميل وهي لا تحبه وكذا يفعل مع صديقه والصديق يبغضه، وقد يتقرب إلى السلطان بكل ما يقدر عليه والسلطان لا يؤثره فيبقى متحيرا يقول: ما حيلتي ؟ فخفت أن تكون هذه حالتي مع الخالق سبحانه أتقرب إليه وهو لا يريدني وربما يكون قد كتبني شقياً في الأزل، ومن هذا خاف الحسن فقال: أخاف أن يكون اطلع على بعض ذنوبي فقال: لا غفرت لك»(23).
ومن أقوال المفسرين: وقال ابن كثير- رحمه الله – في قوله تعالى: ﴿َالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ﴾ [الأحزاب:35]الخشوع: السكون والطمأنينة والتؤدة والوقار والتواضع والحامل عليه الخوف من الله تعالى ومراقبته(24).
وقال ابن عاشور: «وكأن المراد بالخاشعين هنا الخائفون الناظرون في العواقب فتخف عليهم الاستعانة بالصبر والصلاة مع ما في الصبر من القمع للنفس وما في الصلاة من التزام أوقات معينة وطهارة في أوقات قد يكون للعبد فيها اشتغال بما يهوي أو بما يحصل منه مالا أو لذة»(25).
وقال القرطبي- رحمه الله- في قوله تعالى: ﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [الحجرات:3]طهرهم من كل قبيح وجعل في قلوبهم الخوف من الله(26).
وللشعراء في هذا الباب مقال:
يقول عبد الله بن المبارك -رحمه الله تعالى-:
إذا ما الليل أظلم كابدوه فيسفر عنهم وهم ركوع
أطار الخوف نومهم فقاموا وأهل الأمن في الدنيا هجوع
وقال ابن المبارك أيضا :
وما فرشهم إلا أيا من أزرهم وما وسدهم إلا ملاء وأذرع
وما ليلهم فيهن إلا تخوف وما نومهم إلا عشاش مروع
وألوانهم صفر كأن وجوههم عليا جساد هي بالورس مشبع
نواحل قد أزرى بها الجهد والسرى إلى الله في الظلماء والناس هجع
ويبكون أحيانا كأن عجيجهم إذا نوم الناس الحنين المرجع
ومجلس ذكر فيهم قد شهدته وأعينهم من رهبة الله تدمع
كان عباد بن زياد التيمي له إخوة متعبدون فجاء الطاعون فاخترمهم فقال يرثاهم :
فتية يعرف التخشع فيهم كلهم أحكم القرآن غلاما
قد برى جلده التهجد حتى عاد جلدا مصفرا و عظاما
تتحافى عن الفراش من الخوف إذا الجاهلون باتوا نياما
بأنين وعبرة ونحيــب ويظلون بالنهار صياما
يقرؤون القرآن لا ريب فيه ويبيتون سجدا وقياما (27)
سابعاً: الأسباب التي تورث الخوف من الله -عز و جل-.
1 - إجلال الله وتعظيمه ومعرفة حقارة النفس، قال تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [الزمر:67 2]
2- الإيمان بالله- عز وجل-: ﴿وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران:175] قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال:2]
قال الشوكاني- رحمه الله-: «الوجل: الخوف والفزع، والمراد أن حصول الخوف من الله والفزع منه عند ذكره هو شأن المؤمنين الكاملي الإيمان المخلصين لله»(28).
3- التفكر في أطوار خلق الإنسان وما بث في الكون من آياتٍ بيناتٍ، قال تعالى: ﴿ مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً* وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً* أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً* وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً* وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً* ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً﴾ [نوح: 13-18] قال القرطبي- رحمه الله-: ﴿مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً﴾ قيل: الرجاء هنا بمعنى الخوف أي: ما لكم لا تخافون لله عظمةً وقدرةً على أحدكم بالعقوبة، أي: عذرٍ لكم في ترك الخوف من الله، وقال سعيد بن جبير و أبو العالية و عطاء بن أبي رباح: ما لكم لا ترجعون لله ثواباً ولا تخافون له عقاباً»(29).
4 - زيارة المرضى و المصابين و المقابر، فإن النبي- صلى الله عليه وسلم- حين ندب إلى زيارة المقابر إنما هو لما يحصل لدى الإنسان من الخوف الذي يذكره بالآخرة، عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكر الآخرة، ونهيتكم عن نبيذ الجر فانتبذوا في كل وعاءٍ، واجتنبوا كل مسكر ، ونهيتكم عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاثٍ فكلوا وتزودوا وادخروا"(30).
قال هانئٌ مولى عثمان قال: كان عثمان إذا وقفه على قبر بكى حتى يبل لحية فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي وتبكي من هذا ؟ فقال إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن القبر أول منازل الآخرة فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه"(31).
5 - تذكر أن الله شديد العقاب وما أعده لأصحاب النار من الحميم والعذاب المقيم، قال تعالى: ﴿لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ ﴾ [الزمر:16] قال أسد بن وداعة: كان شداد بن أوس إذا أوى إلى فراشه كأنه حبة على مقلى فيقول: اللهم إن ذكر جهنم لا يدعني أنام فيقوم إلى مصلاه.
وقال أبو سليمان الداراني: كان طاووس يفترش فراشه ثم يضطجع عليه فيتقلى كما تقلى الحبة على المقلى ثم يثب فيدرجه ويستقبل القبلة حتى الصباح ويقول: طير ذكر جهنم نوم العابدين.
وقال مالك بن دينار: قالت ابنة الربيع بن خيثم: يا أبت مالك لا تنام والناس ينامون ؟ فقال : إن النار لا تدع أباك ينام
وكان صفوان بن محرز إذا جنه الليل يخور كما يخور الثور ويقول: منع خوف النار مني الرقاد.
وقال الحر بن حصين الفزاري: رأيت شيخا من بني فزارة أمر له خالد بن عبد الله بمائة ألف فأبى أن يقبلها وقال: أذهب ذكر جهنم حلاوة الدنيا من قلبي قال: وكان يقوم إذا نام الناس فيصيح: النار النار النار.
وكان رجل من الموالي يقال له صهيب وكان يسهر الليل ويبكي فعوتب على ذلك وقالت له مولاته: أفسدت على نفسك فقال إن صهيبا إذا ذكر الجنة طال شوقه وإذا ذكر النار طال نومه.
وعن أبي مهدي قال: ما كان سفيان الثوري ينام إلا أول الليل ثم ينتفض فزعا مرعوبا ينادي: النار النار شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات ثم يتوضأ ويقول على أثر وضوئه: اللهم إنك عالم بحاجتي غير معلم و ما أطلب إلا فكاك رقبتي من النار(32).
6 - تذكر الموت و ما فيه من الألم والسكرات، فإنه مما يدفع إلى الخوف من الله.
7- مراقبة الله في السر والعلن، فمن عرف أن الله مطلعٌ عليه لا تخفى عليه خافيةٌ فإنه بلا ريبٍ سيكون خائفاً وجلاً من خالقه ومولاه، قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [المائدة:94]
8 - تدبر آيات القرآن الكريم، فمن تدبر الآيات العظام خاف الله وعلم أنه شديد الانتقام قال تعالى: ﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ﴾ [ق:45], وقال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ ﴾ [هود:103]
9 - مجالسة الصالحين و الاستماع لنصائحهم، فالجليس لا يخفى أثره سلباً أو إيجاباً على أحد، فمجالسة الخائفين تورث الخوف من الله، ومجالسة الغافلين تورث الغفلة عن الله.
10- طلب العلم مما يدفع الإنسان إلى خشية الله ومراقبته، قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ [فاطر:28]
وعن أبي ذر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضعٌ جبهته ساجداً لله، لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله لوددت أني كنت شجرة تعضد"(33).
قال ابن القيم: «فصاحب الخوف: يلتجئ إلى الهرب والإمساك، وصاحب الخشية : يلتجئ إلى الاعتصام بالعلم ومثلهما مثل من لا علم له بالطب ومثل الطبيب الحاذق، فالأول يلتجئ إلى الحمية والهرب، والطبيب يلتجئ إلى معرفته بالأدوية والأدواء»(34).
عن عائشة أن ناساً كانوا يتعبدون عبادة شديدة فنهاهم النبي -صلى الله عليه وسلم -فقال: "والله إني لأعلمكم بالله -عز وجل- وأخشاكم له وكان يقول عليكم من العمل ما تطيقون فان الله -عز وجل- لا يمل حتى تملوا"(35), قال ابن القيم: وعلى قدر العلم والمعرفة يكون الخوف والخشية(36).
وقال: «فكلما كان العبد بالله أعلم كان له أخوف، قال ابن مسعود: وكفى بخشية الله علماً، ونقصان الخوف من الله إنما هو لنقصان معرفة العبد به، فأعرف الناس أخشاهم لله، ومن عرف الله اشتد حياؤه منه وخوفه له وحبه له، وكلما ازداد معرفةً ازداد حياءً وخوفاً وحباً، فالخوف من أجل منازل الطريق وخوف الخاصة أعظم من خوف العامة وهم إليه أحوج وهم بهم أليق ولهم ألزم»(37).
11- الشعور بالتفريط في جنب الله، والخوف من عدم قبول التوبة ،قال ابن القيم: «العبد إما أن يكون مستقيماًً أو مائلاًً عن الاستقامة، فإن كان مائلاً عن الاستقامة فخوفه من العقوبة على ميله ولا يصح الإيمان إلا بهذا الخوف، وهو ينشأ من ثلاثة أمر أحدها: معرفته بالجناية وقبحها: والثاني: تصديق الوعيد وأن الله رتب على المعصية عقوبتها، والثالث: أنه لا يعلم لعله يمنع من التوبة ويحال بينه وبينها إذا ارتكب الذنب فبهذه الأمور الثلاثة يتم له الخوف وبحسب قوتها وضعفها تكون قوة الخوف وضعفه، فإن الحامل على الذنب إما أن يكون عدم علمه بقبحه، وإما عدم علمه بسوء عاقبته، وإما أن يجتمع له الأمران لكن يحمله عليه اتكاله على التوبة وهو الغالب من ذنوب أهل الإيمان فإذا علم قبح الذنب وعلم سوء مغبته وخاف أن لا يفتح له باب التوبة بل يمنعها ويحال بينه وبينها اشتد خوفه هذا قبل الذنب فإذا عمله كان خوفه أشد»(38).
وقال الغزالي- رحمه الله-: «الخوف من الله تعالى تارةً يكون لمعرفة الله –تعالى- ومعرفة صفاته وأنه لو أهلك العالمين لم يبال ولم يمنعه مانع، وتارة يكون لكثرة الجناية من العبد بمقارفة المعاصي، وتارة يكون بهما جميعاً، وبحسب معرفته بعيوب نفسه ومعرفته بجلال الله –تعالى- واستغنائه، وأنه لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون، فتكون قوة خوفه فأخوف الناس لربه أعرفهم بنفسه وبربه»(39).
وقال بن بطال: «ينبغي أن يكون المؤمن عظيم الخوف من الله تعالى من كل ذنب صغيراً كان أو كبيراً لأن الله تعالى قد يعذب على القليل فإنه لا يسأل عما يفعل سبحانه وتعالى»(40) .
نسأل الله أن يجعلنا من الخائفين القانتين، وأن يوفقنا لما فيه خير الدنبا والآخرة، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وإمام المرسلين. | |
|