الجنس : العمر : 30 مكة المكرمة التسجيل : 12/03/2012عدد المساهمات : 27
موضوع: الخشوع .. ذوبان القلب الجمعة 16 مارس 2012, 9:15 pm
الحمد لله نحمد ونستعينه، ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله، فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة فصلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه وسلم قال سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾[ آل عمران:102], ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾[النساء :1 ], ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيما﴾[ الأحزاب:70 - 71 ].
لا شك أن الأعمال الصالحات التي يتقرب بها العبد إلى ربه تعالى في حياته الدنيا كثيرة من أعمال القلوب والجوارح فللقلب أعمال من خلالها يتقرب العبد المسلم لربه كالتوكل عليه، والإنابة إليه، والمحبة، وإخلاص الدين له، والصدق، والتوبة والإخبات، والمراقبة ، والخوف منه -جل وعلا-، والرجاء، والخشوع بين يديه، وهو موضوع هذا البحث، ومنها أعمال الجوارح من الصلاة والجهاد والإحسان إلى الخلق وغيرها.
وعمل القلب هو الأساس، وعمل الجوارح ما هي إلا آثار ومشاهدات لعمل القلب، فإذا خلى القلب من هذه الأعمال كانت الجوارح والبدن كالجسد الميت بلا روح لا فائدة منها، ولا نفع لها, لأن المقصود الأصلي هو صلاح القلب وسلامته، فهو كالرأس للجسد.
ومن هذه أعني أعمال القلوب الخشوع والتذلل والسكون بين يدي الرب تبارك وتعالى، عند القيام ببعض الأعمال الصالحات من صلاة، وقيام لليل، وتلاوة القرآن الكريم، والتضرع بين يدي الله- عز وجل-بالدعاء، والاستغاثة وغيرها من الأعمال الصالحات، والخشوع أيضا أصل من أصول الأخلاق المحمودة، التي ينبغي على المسلم مراعاتها.
وأعمال القلوب سواء الواجب منها أو المستحب هي عبودية القلب فيجب الاهتمام بها، فمن عطلها فقد عطل عبودية القلب وإن قام بعبودية الجوارح، فلا بد أن يكون ملك الأعضاء وهو القلب قائما بعبوديته لله سبحانه هو ورعيته.
ومجرد القيام بأعمال الجوارح من غير حضور ولا مراقبة ولا إقبال على الله يجعل هذه الأعمال تفقد روحها ومعناها من القيام بالعبودية لله تبارك وتعالى(1).
وفي هذا البحث نتحدث إن شاء الله تعالى عن الخشوع ومعناه في لغة العرب، وعند أهل الاصطلاح ودرجاته، وفضله وأهميته، والخشوع في الصلاة وهي أهم العبادات، والثمار والفوائد التي يجنيها المسلم في الدنيا والاخرة من الخشوع، مبتدئين الحديث كما هي العادة بالتعريف.
تعريف الخشوع:
مادة خ ش ع تأتي في لغة العرب على جملة من المعاني نعرض لها بنوع من الإيجاز:
فالخشوع: يطلق على غض البصر يقال: خَشَع يَخْشَعُ خُشوعاً واخْتَشَع وتَخَشَّعَ رمى ببصره نحو الأَرض وغَضَّه، ويأتي بمعنى الانخفاض وخفض الصوت، وهو قريب من الأول.
والخشوع: الخضوع، وقيل قريب من الخضوع، وبعضهم يفرق بينهما فالخشوع يطلق على الخشوع في البدن والصوت، والخضوع يكون في البدن فقط، فالخشوع السكون والتذلل، يقول ابن الأَثير-رحمه الله-: والخُشوع في الصوت، والبصَر كالخُضوع في البدَن.
والخشوع السكون والتذلل ومنه قوله تعالى:﴿ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ﴾ [ طه:108] أَي سكنت وكلُّ ساكنٍ خاضعٍ خاشعٌ، ومنه حديث جابر أَنه -صلى الله عليه وسلم-: " أَقبل علينا فقال أَيُّكم يُحِب أَن يُعْرِضَ الله عنه ؟ قال: فخَشَعْنا"(2) أَي خَشِينا وخضَعْنا.
والتخشُّع: نحو التضرُّعِ، والخشُوعُ الخضُوعُ والخاشع الراكع في بعض اللغات والتخشُّعُ تَكلُّف الخُشوع، والتخشُّعُ لله الإِخْباتُ والتذلُّلُ.
ومن معاني الخشوع السهولة واللين ومنه الخاشِعُ من الأَرض الذي تُثِيره الرّياح لسُهولته فتمحو آثارَه ومنه قوله تعالى:﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً﴾ [ فصلت:39]، قال الزجاج: الخاشِعة المتَغَبّرة(3).
فالخشوع في أصل اللغة الانخفاض والذل والسكون، والخشوع الخضوع في البدن، وفي الصوت والبصر السكون والتذلل، وفي الكوكب دنوه من الغروب، يقال خَشَعَت الكواكب إذا دنت من المغيب.
والخاشع المستكين والراكع، والخاشع من المكان هو المغبر الذي لا منزل به، والمكان لا يتهدى له(4).
فالخشوع: الضراعة وأكثر ما يستعمل في فيما يوجد على الجوارح، والضراعة أكثر ما تستعمل فيما يوجد في القلب ولذلك قيل فيما روي: إذا ضرع القلب خشعت الجوارح(5).
معنى الخشوع اصطلاحا:
والخشوع في الاصطلاح كثرة فيه عبارات أهل العلم وكلها معاني متقاربة تدور حول خشوع القلب وخضوعه بين يدي ربه تبارك وتعالى ففي اصطلاح أهل الحقيقة الخشوع والانقياد للحق، وقيل هو الخوف الدائم في القلب، وقيل من علامات الخشوع أن العبد إذا غضب أو خولف أو رد عليه استقبل ذلك بالقبول(6).
ونذكر هنا طائفة من أقوال أهل العلم في الحديث عن الخشوع ومعناه، والمعاني كلها متقاربة كما ذكرنا، فقد قيل في معنى الخشوع: ذبول يرد على القلب عند اطلاع الرب.
ويقال: الخشوع، ذوبان القلب وانخناسه عند سلطان الحقيقة. ويقال: الخشوع، مقدمات غلبات الهيبة، وقيل في تعريف الخشوع: هو الانقياد للحق. ويقال: الخشوع: قشعريرة ترد على القلب بغتة عند مفاجأة كشف الحقيقة، وهو قريب من الأول.
وقال الحسن البصري: الخشوع: الخوف الدائم اللازم للقلب.
وسئل الجنيد عن الخشوع، فقال: تذلل القلوب لعلام الغيوب.
وسئل بعضم عن الخشوع، فقال: الخشوع: قيام القلب بين يدي الحق، سبحانه، بهم مجموع.
ويحتمل أن يقال: الخشوع، إطراق السريرة بشرط الأدب بمشهد الحق سبحانه وتعالى. (7)
ويقول ابن القيم-رحمه الله-: الخشوع قيام القلب بين يدي الرب بالخضوع والذل والجمعية عليه، وقيل الخشوع: الانقياد للحق، وهذا من موجبات الخشوع فمن علاماته: أن العبد إذا خولف ورد عليه بالحق استقبل ذلك بالقبول والانقياد
وقيل الخشوع: خمود نيران الشهوة وسكون دخان الصدور وإشراق نور التعظيم في القلب.
وقال صاحب المنازل: الخشوع: خمود النفس وهمود الطباع لمتعاظم أو مفزع يعنى : انقباض النفس والطبع وهو خمود قوى النفس عن الانبساط لمن له في القلوب عظمة ومهابة أو لما يفزع منه القلب، والحق : أن الخشوع معنى يلتئم من التعظيم والمحبة والذل والانكسار (.
ولعل أشمل التعاريف له قاله بعضهم بأنه معنى يقوم بالنفس يظهر عنه سكون في الأطراف يلائم مقصود العبادة(9).
والحاصل أن الخشوع هو تذلل القلب وخوفه من الحق تبارك وتعالى، وإذا حصل التذلل والخوف للقلب خشعت الجوارح فهي تبع للقلب.
ومن خلال ما سبق أيضا نعرف أن مكان الخشوع هو القلب فمحله القلب وتظهر آثاره على الجوارح يقول العلامة ابن القيم-رحمه الله-: وأجمع العارفون على أن الخشوع محله القلب وثمرته على الجوارح وهي تظهره(10).
وعليه فالخشوع محله القلب فإذا قام في القلب ظهرت آثاره على الجوارح لا كما يتصور بعض الناس أن الخشوع بتنكيس الرؤوس، والرقاب، والمناكب.
لذلك رأى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- رجلا طأطأ رقبته في الصلاة فقال يا صاحب الرقبة ارفع رقبتك ليس الخشوع في الرقاب إنما الخشوع في القلوب(11).
ورأى بعضهم رجلاً منقبض الظاهر، منكسر الشاهد، قد زوى منكبيه، فقال له: يا فلان، الخشوع هاهنا، وأشار إلى صدره، لا هاهنا وأشار إلى منكبيه.
وروي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأي رجلاً يعبث في صلاته بلحية، فقال: " لو خشع قلب هذه لخشعت جوارحه"(12).
وقال الفضيل بن عياض: كان يكره أن يرى على الرجل من الخشوع أكثر مما في قلبه(13).
ورأت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- شباباً يمشون ويتماوتون في مشيتهم فقالت لأصحابها: من هؤلاء فقالوا: نساك فقالت: كان عمر بن الخطاب إذا مشى أسرع وإذا قال: أسمع وإذا ضرب: أوجع وإذا أطعم: أشبع وكان هو الناسك حقا.
وهذا حذيفة- رضي الله عنه- يحذر من خشوع النفاق إياكم وخشوع النفاق فقيل له: وما خشوع النفاق قال: أن ترى الجسد خاشعا، والقلب ليس بخاشع(14).
فمحل الخشوع القلب التي هي محل نظر المولى -جل وعلا- وما الجوارح إلا تبع له فيجب الاهتمام به، ومن هذا نعلم أن الخشوع من أهم أعمال القلوب، كالخوف والرهبة، ومن العلماء من جعله من أفعال الجوارح كالسكون وترك الالتفات والعبث(15).
والصواب أنه من أعمال القلوب، وما يظهر على الجوارح من السكون وترك العبث هو من آثاره، لذلك يقول ابن رجب –رحمه الله- فأصل الخشوع: هو خشوع القلب، وهو انكساره لله،وخضوعه وسكونه عن التفاته إلى غير من هو بين يديه ، فإذا خشع القلب خشعت الجوارح كلها تبعا لخشوعه(16)؛ ولهذا كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يقول في ركوعه: " خشع لك سمعي، وبصري، ومخي، وعظامي، وما استقل به قدمي." (17)
ومما يدل على أنه من عمل القلوب ما ورد من حديث على بن أبي طالب-رضي الله عنه-: "الخشوع في القلب، وأن تلين كتفك للمرء المسلم، وأن لا تلتفت في صلاتك "(18).
وعن إبراهيم النخعي-رحمه الله- قال: الخشوع في القلب(19), وما ذكرنا سابقاً من أقوال أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم تؤيد ذلك.
درجات الخشوع:
والخشوع عند العارفين على ثلاث درجات كما يقول العلامة الهروي –رحمه الله- نذكرها مع نوع من الإيجاز.
الدرجة الأولى: التذلل للأمر، والاستسلام للحكم، والاتضاع لنظر الحق.
وقصد بالتذلل للأمر هو القبول والانقياد والامتثال ومواطأة الظاهر الباطن مع إظهار الضعف والافتقار إلى الهداية للأمر قبل الفعل والإعانة عليه حال الفعل، وقبوله بعد الفعل.
وأما الاستسلام للحكم: فيجوز أن يريد به: الحكم الديني الشرعي فيكون المقصود: عدم معارضته برأي أو شهوة، ويجوز أن يريد به: الاستسلام للحكم القدري وهو عدم تلقيه بالتسخط والكراهة والاعتراض، والخشوع هو الاستسلام للحكمين، وهو الانقياد بالمسكنة والذل لأمر الله.
أما الاتضاع لنظر الحق: فهو اتضاع القلب والجوارح وانكسارها لنظر الرب إليها واطلاعه على تفاصيل ما في القلب والجوارح(20).
الدرجة الثانية: ترقب آفات النفس والعمل، ورؤية فضل كل ذي فضل عليك، وتنسم نسيم الفناء.
ومعناه كما يقول ابن القيم-رحمه الله: انتظار ظهور نقائص نفسك وعملك وعيوبهما من فإنه يجعل القلب خاشعا لا محالة لمطالعة عيوب نفسه وأعماله ونقائصهما: من الكبر والعجب والرياء وضعف الصدق وقلة اليقين.
وأما رؤية فضل كل ذي فضل عليك : فهو أن تراعي حقوق الناس فتؤديها ولا ترى أن ما فعلوه من حقوقك عليهم فلا تعاوضهم عليها فإن هذا من رعونات النفس وحماقاتها.
وأما تنسم نسيم الفناء: فلما كان الفناء عنده غاية جعل هذه الدرجة كالنسيم لرقته وعبر عنها بالنسيم للطف موقعه من الروح وشدة تشبثها به، ولا ريب أن الخشوع سبب موصل إلى الفناء فاضلة ومفضولة(21).
الدرجة الثالثة: حفظ الحرمة عند المكاشفة، وتصفية الوقت من مراءاة الخلق، وتجريد رؤية الفضل.
فحفظ الحرمة هو ضبط النفس بالذل والانكسار عن البسط والإدلال، وتصفية الوقت من مراءاة الخلق: أنه يخفي أحواله عن الخلق جهده كخشوعه وذله وانكساره لئلا يراها الناس فيعجبه اطلاعهم عليها ورؤيتهم لها فيفسد عليه وقته وقلبه وحاله مع الله, فلا شيء أنفع للصادق من التحقق بالمسكنة والفاقة والذل وأنه لا شيء وأنه ممن لم يصح له بعد الإسلام حتى يدعي الشرف فيه ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- من ذلك أمرا لم أشاهده من غيره، وكان يقول كثيرا: ما لي شيء ولا مني شيء ولا في شيء، وكان كثيرا ما يتمثل بهذا البيت: أنا المكدي وابن المكدي وهكذا كان أبي وجدي.
وأما تجريد رؤية الفضل: فهو أن لا يرى الفضل والإحسان إلا من الله فهو المان به بلا سبب منك ولا شفيع لك تقدم إليه بالشفاعة ولا وسيلة سبقت منك توسلت بها إلى إحسانه(22).
فضل الخشوع وأهميته:
وللخشوع فضائل تدل على أهميته فأهل الخشوع هم أهل الفلاح والفوز في الدنيا والآخرة قال الله تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ [المؤمنون:1-2].
فالخشوع في الصلاة من أسباب فلاح أهل الإيمان، الذين هم في صلاتهم إذا قاموا فيها خاشعون وخشوعهم فيها تذللهم لله فيها بطاعته وقيامهم فيها بما أمرهم بالقيام به(23).
والخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فرغ قلبه لها واشتغل بها عما سواها، وآثرها على غيرها وحينئذ تكون راحة له وقرة عين، فيحصل له فيها الفوز والفلاح، فهي أهم الشعائر في الإسلام.
وقال الشاعر:
ألا في الصلاة الخير والفضل أجمع ... لأن بها الرقاب لله تخضع
وأول فرض من شريعة ديننا ... وآخر ما يبقى إذا الدين يرفع
فمن قام للتكبير لاقته رحمة ... وكان كعبد باب مولاه يقرع
وصار لرب العرش حين صلاته ... نجيا فيا طوباه لو كان يخشع(24)
وقد مدح الله – عز وجل- الخاشعين بقوله: ﴿ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ [البقرة: 45].
- والخشوع قد أمر به الحق -تبارك وتعالى- بقوله: ﴿ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ ﴾[الأعراف: 205]، وقال الله تعالى: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾ [طه:14]، وقال الله تعالى وقد استبطأ الخشوع من المؤمنين فعاتبهم بقوله:﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ﴾ [الحديد: 16],
قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ﴾ إلا أربع سنين(25).
وقال ابن عباس- رضي الله عنه-: إن الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن(26) .
ففي هذه الآية حث الحق تبارك وتعالى أهل الإيمان بالرقة والخشوع عند سماع وتلاوة الذكر.
قال الزجاج: نزلت هذه الآية في طائفة من المؤمنين حثوا على الرقة والخشوع(27).
فقوله تعالى:﴿ وَأَنتُمْ سُكَارَى﴾ أي سكارى من كثرة الهم، وقيل من حب الدنيا، وقال وهب: المراد به ظاهره ففيه تنبيه على سكر الدنيا إذ بين فيه العلة فقال ﴿حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ ﴾ وكم من مصل لم يشرب خمراً وهو لا يعلم ما يقول في صلاته(28).
فالصحيح حمل الآية على الظاهر، وخاصة مع ظهور العلة.
وحث النبي الكريم- صلى الله عليه وسلم- على الخشوع فعن أبي هريرة- رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "هل ترون قبلتي ها هنا والله ما يخفى علي ركوعكم ولا خشوعكم، وإني لأراكم وراء ظهري" (29).
ففي هذا الحديث الحث منه– صلى الله عليه وسلم- على الخشوع في الصلاة، والمحافظة عليها بأداء أركانها وشروطها.
يقول العلامة النووي-رحمه الله-: وفي الحديث الأمر بإحسان الصلاة، والخشوع، وإتمام الركوع والسجود(30).
وعن ابن عمر-رضي الله عنهما- قال قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا ترفعوا أبصاركم إلى السماء أن تلتمع"(31) يعني في الصلاة.
يقول محمد بن سيرين-رحمه الله-: كانوا يلتفتون في صلاتهم حتى نزلت ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾[المؤمنون:1-2] فأقبلوا على صلاتهم ونظروا أمامهم وكانوا يستحبون أن لا يجاوز بصر أحدهم موضع سجوده(32).
وحذر من عدم الخشوع في الصلاة فعن أنس بن مالك –رضي الله عنه-قال: "صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوما بأصحابه فلما قضى الصلاة أقبل على القوم بوجهه فقال: ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء حتى اشتد قوله في ذلك لينتهن عن ذلك أو ليخطفن الله أبصارهم"(33).
وقد ورد في القرآن الكريم التحذير لأصحاب القلوب القاسية عموماً فقال سبحانه: ﴿ أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾[الزمر: 22].
- الخشوع من أسباب دخول الجنة:
والخشوع والسكينة والتذلل بين يدي الرب تبارك وتعالى من أسباب دخول الجنة ففي الصحيح من أبي هريرة-رضي الله عنه-: عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله... وذكر منهم" ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه"(34).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "عينان لا تسمهما النار عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله"(35).
- الخشوع من صفات الأنبياء الكرام عليهم -الصلاة والسلام- ومن صفات عباد الله الصالحين:
وأثنى على المؤمنين من أهل الكتاب ومدحهم بخشوعهم لله تبارك وتعالى فقال – عز وجل- ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾[آل عمران:199].
- والخشوع من أسباب قبول الأعمال ومغفرة الذنوب:
فعن عثمان -رضي الله عنه-قال -: "من توضأ وضوئي هذا ثم يصلي ركعتين لا يحدث نفسه فيهما بشيء إلا غفر له ما تقدم من ذنبه"(36).
وقد قال تعالى بعد أن ذكر جملة من صفات أهل الإيمان التي منها الخشوع: ﴿ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً﴾[الأحزاب: 35], فالأجر العظيم حاصل لهم بما يقومون به من أعمال صالحات والتي من أهمها الخشوع.
وفي الصحيح عن عثمان بن عفان-رضي الله عنه- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من امريء مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها، إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب، ما لم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله"(37).
- الخشوع من أسباب نزول الملائكة والسكينة:
فالسكينة والخشوع في تلاوة القرآن الكريم من أسباب نزول الملائكة الكرام مصداق ذلك ما ورد في الصحيح من حديث أسيد بن حضير-رضي الله عنه-: بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة وفرسه مربوط عنده إذ جالت الفرس فسكت فسكتت فقرأ فجالت الفرس فسكت وسكتت الفرس ثم قرأ فجالت الفرس فانصرف وكان ابنه يحيى قريبا منها فأشفق أن تصيبه فلما اجتره رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها فلما أصبح حدث النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أن قال- قال: وتدري ما ذاك. قال لا قال: "تلك الملائكة دنت لصوتك ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم"(38).
يقول ابن حجر -رحمه الله-: وفي الحديث منقبة لأسيد بن حضير ، وفضل قراءة سورة البقرة في صلاة الليل، وفضل الخشوع في الصلاة، وأن التشاغل بشيء من أمور الدنيا ولو كان من المباح قد يفوت الخير الكثير فكيف لو كان بغير الأمر المباح(39).
الخشوع في الصلاة:
وعند الحديث عن الخشوع لابد من الحديث عن الخشوع في الصلاة فالعلاقة وثيقة فإذا أطلق الخشوع يتبادر إلى الذهن الخشوع في الصلاة، كيف لا هو روح العبادة ولبها، وعنوان الباطن، خاصة في الصلاة التي هي من أهم القربات والأعمال الصالحات.
ومما ينبغي أن يعلم أن الصلاة التي تقر بها العين ويستريح بها القلب هي التي تجمع ستة مشاهد ذكرها العلامة ابن القيم –رحمه الله- من هذه المشاهد مشهد الصدق والنصح وهو أن يفرغ قلبه لله فيها ويستفرغ جهده في إقباله فيها على الله، وجمع قلبه عليها وإيقاعها على أحسن الوجوه، وأكملها ظاهرا وباطنا فإن الصلاة لها ظاهر وباطن فظاهرها الأفعال المشاهدة، والأقوال المسموعة، وباطنها الخشوع والمراقبة وتفريغ القلب لله، والإقبال بكليته على الله فيها بحيث لا يلتفت قلبه عنه إلى غيره فهذا بمنزلة الروح لها والأفعال بمنزلة البدن فإذا خلت من الروح كانت كبدن لا روح فيه أفلا يستحي العبد أن يواجه سيده بمثل ذلك(40).
وقد اختلف الناس في الخشوع هل هو من فرائض الصلاة أو من فضائلها ؟ على قولين ليس هذه محل بسطها والحديث عنها، وقد أطال الحديث عن هذه المسألة العلامة ابن القيم-رحمه الله-(41) والغزالي وغيرهم فتنظر هناك(42).
وقد حكى النووي-رحمه الله- الإجماع على أن الخشوع ليس بواجب(43).
وقد سئل ذو النون عن الخشوع في الصلاة فقال: إجماع الهم في الصلاة للصلاة حتى لا يكون له شغل سواه(44).
وعن مجاهد، قال كان ابن الزبير إذا قام في الصلاة كأنه عود، وحدث أن أبا بكر كان كذلك، قال وكان يقال : ذلك الخشوع في الصلاة(45).
وعنه الخشوع هو خفض الجناح وغض البصر، وكان المسلمون إذا قام أحدهم في الصلاة خاف ربه أن يلتفت عن يمينه وشماله،(46) وهذا من خشوع الجوارح.
وسئل الأوزاعي-رحمه الله - عن الخشوع في الصلاة فقال: غض البصر، وخفض الجناح، وأنين القلب وهو الحزن(47). والحديث في هذا يطول فحياة السلف الصالح مليئة بذلك.
والخشوع هو أساس الصلاة وجوهرها فعن الفضل بن العباس –رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الصلاة مثنى مثنى تشهد في كل ركعتين، وتخشع وتضرع، وتمسكن وتذرع وتقنع يديك يقول ترفعهما إلى ربك مستقبلا ببطونهما وجهك وتقول يا رب يا رب ومن لم يفعل ذلك فهو كذا وكذا" وفي رواية: "من لم يفعل ذلك فهي خداج"(48).
والخشوع شرط حضور القلب في الصلاة، وفوت الخشوع في الصلاة يفقد معناها ويذهب بروحها ويجعلها كالجسد بلا روح، وكيف يكون الحال عندما تقبل على المولى – جل وعلا- بصلاة لا روح فيها.
يقول العلامة ابن القيم –رحمه الله-: «وفوت الخشوع في الصلاة وحضور القلب فيها بين يدي الرب تبارك وتعالى الذي هو روحها ولبها فصلاة بلا خشوع ولا حضور كبدن ميت لا روح فيه أفلا يستحي العبد أن يهدي إلى مخلوق مثله عبدا ميتا أو جارية ميتة ؟ فما ظن هذا العبد أن تقع تلك الهدية ممن قصده بها من ملك أو من أمير أو غيره ؟ فهكذا سواء الصلاة الخيالية عن الخشوع والحضور وجمع الهمة على الله تعالى فيها بمنزلة هذا العبد ـ أو الأمة ـ الميت الذي يريد إهداءه إلى بعض الملوك ولهذا لا يقبلها الله تعالى منه وإن أسقطت الفرض في أحكام الدنيا ولا يثبه عليها فإنه ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها»(49).
وأعلم أن الخشوع في الصلاة على ثلاث مراتب المرتبة الأولى: خشوع خوف وانكسار وإذلال وهو للعباد والزهاد، المرتبة الثانية: خشوع تعظيم وهيبة وإجلال وهو للمريدين السالكين، المرتبة الثالثة: خشوع فرح وسرور وإقبال وهو للواصلين من العارفين ويسمى هذا المقام قرة العين (50).
فوائد وثمار الخشوع:
وللخشوع فوئد وثمار في الدنيا والآخرة يتحصل عليها الخاشع وتظهر عليه آثاره من هذه الثمار والفوائد.
-يورث الخوف والرهبة من المولى -جل وعلا-، فالخشية من ثماره.
-الخشوع مظهر من مظاهر الإيمان تظهر آثاره على الجوارح.
-الخشوع دليل وعلامة على صلاح العبد واستقامته.
-الخشوع من أسبات تكفير الذنوب وتكثير الأجر ومضاعفته.
-من أسباب النجاة من العقوبة والعذاب الأليم.
-الخشوع من أسباب الفوز بالجنة.
-الخشوع يؤدي إلى خفض الجناح، وغض البصر.
-الخشوع في الصلاة من أسباب قبولها والفلاح فيها.
-والخشوع يبعد القسوة عن القلب، ويرفع صاحبه يوم القيامة.
-بالخشوع يتصف الإنسان ببعض صفات الأنبياء الكرام(51).
فالخشوع من أهم أعمال القلوب التي ينبغي للمسلم الاهتمام والعناية بها لمن أراد الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة، خاصة وأن هذه العبادة، والعمل القلبي من أول العبادات التي ترفع عن هذه الأمة،
فهذا حذيفة –رضي الله عنه- يقول: أول ما تفقدون من دينكم الخشوع، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة ورب مصل لا خير فيه، ويوشك أن تدخل مسجد الجماعة فلا ترى فيهم خاشعا(52).
فالخشوع من أول ما تفقد الأمة من دينها حتى لا تكاد تجد فيها خاشعاً، وحالنا اليوم خير مثال وشاهد على ذلك إلا من رحم ربك، وقد كان السلف -رضي الله عنهم- من أكثر الناس اهتماما بهذه العبادة فقد روي عن مسلم بن يسار-رحمه الله- أنه كان إذا أراد الصلاة قال لأهله: تحدثوا أنتم فإني لست أسمعكم، ويروى عنه أنه كان يصلي يوماً في جامع البصرة فسقطت ناحية من المسجد فاجتمع الناس لذلك فلم يشعر به حتى انصرف من الصلاة.
وهذا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- كان إذا حضر وقت الصلاة يتزلزل ويتلون وجهه فقيل له: ما لك يا أمير المؤمنين؟ فيقول: جاء وقت أمانة عرضها الله على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملتها.
ويروى عن علي بن الحسين-رضي الله عنه- أنه كان إذا توضأ اصفر لونه فيقول له أهله: ما هذا الذي يعتريك عند الوضوء؟ فيقول: أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم؟.(53)، والنماذج والأمثلة في حياتهم كثيرة فهم خير مثال يقتدى به بعد سيد الخاشعين محمد- صلى الله عليه وسلم-.
وهناك أسباب تؤدي إلى السكينة والخشوع من المراقبة لله –عز وجل- وإخلاص العمل له سبحانه وغض البصر، والتذكر الدائم لنعم المولى -جل وعلا عليك-، وجمع القلب من هموم الدنيا وملذاتها وشهواتها وغيرها فينبغي على المسلم العناية والاهتمام بهذه العمل القلبي الهام حتى ينعم في الدنيا ويفوز في الآخرة، ويقوم بوجبات العبودية نحو ربه وخالق - جل وعلا-.
والله نسأل أن يجعلنا من الخاشعين، المخبتين، المنيبين له، إنه على ما يشاء قدير، وأن يلهمنا الرشد والصواب والتوفيق والسداد، والحمد لله رب العالمين، والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب، وله الحمد والنعمة، وبه التوفيق والعصمة، وصلى الله وسلم على إمام الخاشعين، وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.