الشيطان - عليه لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة - يكثر التسلط والتعرض للعبد المسلم، إذا أناب إلى الله، وفرّ إليه بالعبادة، أو طلب العلم الشرعي الشريف بالوساوس والشبهات، ولذلك؛ يجد طلاب العلم والعُباد من الوساوس ما لا يجد غيرهم؛ ليصدهم اللعين عن شرع الله، بخلاف غيرهم من المعرضين عن شرع الله، والمقبلين على شهوات النفس.
وكلما كان الإنسان أعظم رغبة في العلم والعبادة، وأقدر على ذلك، كان ما يفتتن به - إن تمكن منه الشيطان - أعظم، والله المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا به.
إذ أن الشيطان حريص على الكيد لأهل الإيمان بالوسوسة لهم، والتلبيس عليهم، قال الله - تعالى - حاكيًا قول إبليس اللعين -: ﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ* ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 16،17].
ولم ينج أحد من كيد الشيطان، إلا من عصمه الله – تعالى - حتى خير القرون، قد شَكَوْا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يجدون من وسوسته، فأرشدهم - صلى الله عليه وسلم - إلى كيفية رده.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والمؤمن يبتلى بوساوس الشيطان، وبوساوس الكفر التي يضيق بها صدره؛ كما قالت الصحابة: يا رسول الله، إن أحدنا ليجد في نفسه ما لئن يخر من السماء إلى الأرض أحبُّ إليه من أن يتكلم به، فقال: ((ذاك صريح الإيمان))، وفي رواية: ما يَتعاظَم أن يَتكلمَ به، قال: ((الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة))؛ أي: حصول هذا الوسواس، مع هذه الكراهة العظيمة له، ودفعه عن القلب، هو من صريح الإيمان؛ كالمجاهد الذي جاءه العدو فدافعه حتى غلبه؛ فهذا أعظم الجهاد، و"الصريح": الخالص، كاللبن الصريح.
وإنما صار صريحًا؛ لما كرهوا تلك الوساوس الشيطانية، ودفعوها؛ فخلص الإيمان، فصار صريحًا.
ولا بد لعامة الخلق، من هذه الوساوس، فمن الناس من يجيبها؛ فيصير كافرًا أو منافقًا، ومنهم من قد غمر قلبه الشهوات والذنوب، فلا يحس بها، إلا إذا طلب الدين؛ فإما أن يصير مؤمنًا، وإما أن يصير منافقًا، ولهذا؛ يعرض للناس من الوساوس في الصلاة ما لا يعرض لهم إذا لم يصلوا؛ لأن الشيطان يكثر تعرضه للعبد إذا أراد الإنابة إلى ربه، والتقرب إليه، والاتصال به، فلهذا؛ يَعرِض للمصلين ما لا يَعرِض لغيرهم، ويَعرِض لخاصة أهل العلم والدين أكثر مما يعرض للعامة، ولهذا؛ يوجد عند طلاب العلم والعبادة من الوساوس والشبهات ما ليس عند غيرهم؛ لأنه لم يسلك شرع الله ومنهاجه؛ بل هو مقبل على هواه، في غفلة عن ذكر ربه. وهذا مطلوب الشيطان، بخلاف المتوجهين إلى ربهم بالعلم والعبادة، فإنه عدوهم، يطلب صدهم عن الله. قال - تعالى -: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ ﴾[فاطر: 6]، ولهذا؛ أُمر قارئُ القرآن أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم؛ فإن قراءة القرآن على الوجه المأمور به، تورث القلب الإيمان العظيم، وتزيده يقينًا وطمأنينةً وشفاءً.
وقال - تعالى -: ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ﴾[الإسراء: 82]، وقال - تعالى -: ﴿ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 138]، وقال - تعالى -: ﴿ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 2]، وقال - تعالى -: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾ [التوبة: 124].
وهذا مما يجده كل مؤمن من نفسه؛ فالشيطان يريد بوساوسه أن يشغل القلب عن الانتفاع بالقرآن؛ فأمر الله القارئ إذا قرأ القرآن أن يستعيذ منه؛ قال - تعالى -: ﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ﴾ [النحل: 98،99،100]؛ فإن المستعيذ بالله مستجير به لاجئ إليه مستغيث به من الشيطان؛ فالعائذ بغيره مستجير به؛ فإذا عاذ العبد بربه، كان مستجيرًا به متوكلًا عليه؛ فيعيذه الله من الشيطان ويجيره منه، ولذلك؛ قال الله - تعالى -: ﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [فصلت: 34، 35، 36].
وفي "الصحيحين" عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إني لأعلم كلمة لو قالها، لذهب عنه ما يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم))؛ فأمر سبحانه بالاستعاذة عند طلب العبد الخير؛ لئلا يَعُوقَه الشيطان عنه، وعند ما يعرض عليه من الشر ليدفعه عنه عند إرادة العبد للحسنات، وعند ما يأمره الشيطان بالسيئات، ولهذا؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يزال الشيطان يأتي أحدكم، فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق اللهَ؟ فمن وجد ذلك، فلْيستعذْ بالله ولْينتهِ))؛ فأمر بالاستعاذة عندما يطلب الشيطان أن يوقعه في شر، أو يمنعه من خير؛ كما يفعل العدو مع عدوه.
وكلما كان الإنسان أعظمَ رغبة في العلم والعبادة، وأقدر على ذلك من غيره، بحيث تكون قوته على ذلك أقوى، ورغبته وإرادته في ذلك أتم؛ كان ما يحصل له - إن سلمه الله من الشيطان – أعظم، وكان ما يفتتن به إن تمكن منه الشيطان أعظم، ولهذا؛ قال الشعبي: "كل أمة علماؤها شرارها، إلا المسلمين فإن علماءهم خيارُهم". اهـ. مختصرًا من "مجموع الفتاوى" [7 /282-285].
أما وسائل النجاة غير ما ذكرنا: فمن أهمها طلبُ العلم الشرعي؛ قال القاضي عياض في "ترتيب المدارك وتقريب المسالك": "قال ابن وهب: "كان أول أمري في العبادة قبل طلب العلم، فولع بي الشيطان في ذكر عيسى - عليه السلام - وكيف خلقه الله، فشكوت ذلك إلى شيخ، فقال لي: اطلب العلم؛ فكان سبب طلبي".
ومنها: اتخاذُ رفقة صالحة من طلاب العلم النافع؛ فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، وقد قال الله – تعالى -: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ﴾ [الكهف: 28].
ومنها: إدمانُ الذكر وجعل أوراد يومية من كتاب الله؛ قال الله – تعالى -: ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا ﴾ [الإسراء: 82]، مع المحافظة على أذكار الصباح والمساء، وأدبارِ الصلوات المكتوبات، وأذكارِ النوم.