☸❤☸ علم السياسة Politics ☸❤☸
يُعنى علم السياسة political science بأشكال التصرف الإنساني في مواجهة شؤون الحياة الاجتماعية، إن على صعيد الفرد أو الأسرة أو الجماعات أو بما هو أهم من ذلك في العصور الحديثة على صعيد الدّول في علاقاتها فيما بينها وتشابك مصالحها وتنوع انتماءاتها. فرصدّ ظواهر هذا السلوك الإنساني وبواعثه أضحى من مهمات قسم حديث من المعرفة يكتسب المزيد من صفات العلوم الدقيقة، كالفيزياء والكيمياء، التي تخضع للتجربة والبرهان والمعادلة الكميّة والرياضية، ويدعم استقلاله، كما استقلت قبله علوم النفس عن الفلسفة والأنتروبولوجية عن الدين وميادين ما بعد الطبيعة، ولو أن بقية من الأحكام الأمرية والأخلاقية ما تزال تتصل بنظرته ومبتغاه.
ولئن لم يكن من السهل إخضاع السلوك الإنساني، وهو في طبيعته، على عكس المادة الثابتة، دائم التموج، إلى معادلات صارمة، وبديهيات لا تحتمل الرد، فإن استعانة علم السياسة بمجموعة من المعارف الأخرى كالتاريخ والجغرافية والإنسانيات وخوضه في النظريات الأخلاقية والاجتماعية والمقارنة فيما بينها، وانخراطه في تفرعات وسائل العيش وتوزيع الثروة وأساليب الحكم وأشكاله، كل ذلك مهد له السبيل لتحديد نماذج ومناحٍ للسلوك، استقاها من الواقع الإنساني فأسبغ عليها مسحة من الحقائق العلمية الثابتة مما أتاح له ارتداء لباس العلم.
وقد كان أرسطو يشير إلى هذه الصفة الجامعة لعلم السياسة عندما وصف هذا العلم، في مطلع كتابه في «الأخلاق» بأنه علم ذو تصميم جامع تتفرع عنه معارف اختصاصية جمة، ويتفوق على العلوم الأخرى من حيث اتساع مجال أبحاثه في الاستراتيجية والفنون العسكرية والظواهر الاقتصادية وحتى في أصول البلاغة والخطابة والصحافة وما شابه. ذلك أن موضوع السياسة بحد ذاته تعبير عام شامل يعني بالعربية «القيام على الشيء بما يصلحه»، حتى ليقال إن الراعي يسوس رعيته، كما توصف السياسة بالصائبة أو الخرقاء تعبيراً عن ملاءمتها للأوضاع التي تعالجها أو تنافرها معها، في خضم الجماعة التي تمارس فيها أو المدينة polis التي تحاول السياسة ضبط أمورها وتنظيم مقوماتها وإشاعة الرخاء والعدل في أرجائها.
وباتساع رقعة المجتمعات بشراً ومساحة أصبح علم السياسة يركز على الأخص على أصول الدول وتطوراتها، فيصف دساتيرها ويحلل أوضاعها ويحدد أساليبها ويفسر قواعدها القانونية، والتنظيمات التي تفرضها على الأفراد والجماعات بما فيها تنظيمات العمل والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية والتعليم وآليات التقانة ومؤسسات السهر على تطبيق القوانين وتفصيل أحكامها. ولا يخرج عن حلقات هذا التنظيم منشأ الأحزاب السياسية وجماعات الضغط[ر]، والتأثير، وتيارات الرأي العام، عدا عن أن من أهم ما أصبح يخصه علم السياسة بالعناية العلاقات الدولية في مجتمع دولي متنام متشابك العلاقات متعدد المنظمات متداخل المصالح والسمات، مستمداً من هذه الممارسة الميل إلى إثبات مبادئ عامة تدير المجال لدراسات مستجدة متقدمة.
التنظير في علم السياسة
على الرغم من كون النمو الشاسع الذي بلاه علم السياسة ظاهرة حديثة، كان التنظير السياسي يعود إلى قديم العصور، قبل نصف قرن سبق الميلاد، وقد سمي أفلاطون آنذاك بأب النظرية السياسية، كما لقب أرسطاطاليس بأب علم السياسة وكلاهما نظر في كيان الدولة تنظير الفلاسفة ذوي الأفق الشامل في البحث. فمثلاً ابتدع أرسطو تقسيماً مثلثاً للعلوم مثلت السياسة فيه الوجه العملي متميزة بذلك عن العلوم النظرية وفنون الصناعة والإنتاج. فعكف على درس الحكومات القائمة وبنى النتائج العامة التي توصل إليها على المشاهدات العملية الواقعية. أما أستاذه أفلاطون فخلص إلى أن جمهوريته يجب أن يسوسها فلاسفة حكماء يتحلون بفضيلة العدالة، دونما إلحاح على فكرة الديموقراطية كما تطور مفهومها فيما بعد، ولا تمسك بفكرة المساواة كما تنامت من بعد. وقد عدل أرسطو بعض الشيء من خيارات أستاذه الصارمة فجعل الحكم بيد مزيج من الطليعة المتمتعة بالثروة وطبقة تمثيلية نوعاً ما للجمهور الواعي ـ دون العامة التي كان ينظر إليها كل من الأستاذ وتلميذه بازدراء ـ فغدت الطبقة الوسطى في نظر أرسطو هي التي تأخذ مكان نخبة الفلاسفة التي اقترحها أفلاطون لتسيير دفة السياسة. وكان من جراء افتقاد الديمقراطيات الحقة والشعور بالمساواة في دويلات أثينة أن انعدم فيها الاستقرار ثم حلت الفوضى والاستبداد.
أما تراث روما القديمة في إغناء علم السياسة فيتجلى في ميدان القانون والاجتهاد والإدارة العامة، متصفاً بنزعة إنسانية واحترام لمبدأ المساواة والإخاء الإنساني، ونما في تنظير روما مفهوم الديمقراطيات وحكم العقل ورجاحة الأخلاق وكان ميراث سيشرون في الحقوق الطبيعية الأساسية فذاً غنياً أثر في الفكر الإنساني والغربي منه على الأخص تأثيراً كبيراً.
ولئن تأثرت القرون الوسطى نظرياً بالتعاليم الدينية ومؤسساتها أكثر من تأثرها بما كان ينتظر للدولة من تطور واتساع، فإن هذا النفوذ الديني ـ الخلقي في المجتمعات لم يعدم في النهاية ظهور التفريق بين الروحي والزمني والدولة والمجتمع، وامتداد أفق المدينة إلى رحاب مفاهيم «الامبراطورية»، و«دار الإسلام»[ر]، و«سلام الخالق»، وتفوق «القانون الأخلاقي» على القوانين الوضعية، وظهور المناحي العملية في السياسة الاجتماعية القائمة على العدالة والمساواة كمفهوم «الأجر العادل» و«الأمانة في التعامل» و«مسؤولية الراعي عن رعيته» وإن عدّل عهد الإصلاح الديني من هذا التوجه إلى الشمولية وبذر بذور القومية، وقاد إلى الثورة الفرنسية وثورات التحرر الأخرى، واستواء الدولة على عرش الحكم والسيطرة والقرار، وأصبحت أصولها ومبررات قيامها، وحدودها ووظائفها وسلطاتها وأيديولوجيتها وأشكال حكمها، وتوزيع صلاحياتها الشغل الشاغل الأكبر لعلم السياسة. كما غدت العلاقات بين الدول في مجتمع دولي متكاثر العضوية، متشابك المصالح، شهد في قرن واحد حربين عالميتين كادتا تطيح بالإنسانية، النقطة البارزة في أبحاث علم السياسة الذي أصبح يرمز إليه بالجمع فيسمى «بالعلوم السياسية» لتكاثر أوجه المعرفة التي أضحت في صلب اهتمامه.
طرائق البحث في العلوم السياسية
كان من المؤكد أن تتطور طرائق البحث في علم السياسة الذي تفتح إلى «علوم سياسية» في عصرنا، إذ تأثر علماء السياسة بالمكتشفات الكبرى التي غدت تفتح آفاقاً جديدة في المعرفة والعمل والتصور والتصميم. وعلى ذلك لم يكن إسهام أمثال نيوتون وديكارت مقتصراً على الفيزياء والرياضيات بل خاضا في علوم السياسة أيضاً.. فبرزت نظريات «فصل السلطات» و«توازن القوى» في أجهزة الحكم، فكانت انعكاساً لتطبيق البرهان الرقمي والدليل الفيزيائي والمعادلة الرياضية على بنية الحكم والمجتمع، وأضحى الاعتماد متزايداً على الطريقة التجريبية، ولو أن زمرة من حقائق ظلت تتمتع بصفة الخلود كالحق والعدل والحرية بقيت، على صعيد التصور الفكري على الأقل، بمنأى عن التغيير الجذري.
وفي منتصف القرن التاسع عشر أحدثت نظريات التطور الجديدة (داروين وأشباهه) تأثيراً كبيراً في مناهج علوم السياسة ائتلافاً مع التطورات شبه العضوية التي كشفت عنها دراسات علم البيولوجية المتقدمة متآزرة مع الظواهر التاريخية، مما حفز علم الاجتماع على التعمق في استقصاء تأثير القوى الاجتماعية في مسيرة الحكم واتجاهاته. وكان من جراء قيام الثورة الصناعية[ر]، وما تبعها من تصادم المدارس الكلاسيكية والماركسية، أن تكثف البحث في وقائع الاقتصاد واتجاهاته والقوى المحركة لمقوماته، على اعتبار أنها كلها في منزلة المحرك للسياسة والمحرضة لأشكال السلوك. كما اشتد الانتباه إلى التأثير الجغرافي في أحداث السياسة والاقتصاد geopolitics وتمخض عن ذلك ولادة اختصاص جديد يمزج في صدد التأثير الجغرافي بين السياسة والاقتصاد، فيطبق في معالجة مشكلات الدول الخارجية دروس الجغرافية السياسية والاقتصادية ويمدّ الباحثين بطرق مستحدثة في دراسة هذا الفرع الصاعد الشأن: العلاقات الدولية.
حوافز البحث السياسي
تميز القرن العشرون، وخاصة في نصفه الثاني، بازدهار طرق التجربة العلمية وتنوعها، ومزيد اعتمادها على المقاييس الكمية يساعد على ذلك النمو المتسارع لعلم الإحصاء، واغتناء الأنتروبولوجية وعلم النفس بمعطيات جديدة أخاذّة قابلة للتعبير الكمي، ولو أن لهذه الطفرة في الأرقام حدوداً تفرضها مزالق النظرية السياسية إذ هي تتعامل مع نوازع نفسية في السلوك السياسي. لا تدرك تقلباتها دوماً كنوايا التصويت الانتخابي وميول الناخبين والتأثيرات المختلفة ـ وقد تكون غير متوقعة في خياراتهم، ومن جراء ذلك ظهرت مقولة هوامش الخطأ ودرجات الدقة والتقدير. فالمعادلات والإحصاءات ليست بمنجاة عن الزلات، والإنسان معقد الأهواء، متعدد النزعات، قد يستهويه حب السلطة، وتستأثر باهتمامه المنافع المادية. وقد يكون حكم العقل وحس الغيرية معدلاً لنزواته المعيقة للوئام الاجتماعي، وعلى هذا فلكل طريقة في البحث مزاياها ونواقصها وإنما يميز علم السياسة أنه ينهل من كل المعارف ويجمع ما بين العديد من طرق البحث ولا يهمل العوامل الحركية التي تجعل من المجتمع ميداناً ينبض بالحياة والتطور، ويقابل هذه الحيوية التنوع الذي أصبح يغني موضوعات هذا العلم الجامع.
تعدد موضوعات علم السياسة
كما سلف، أصبح من الدارج إطلاق نعت العلوم السياسية على علم السياسة لما طرأ عليها من شمولية وتعدد، فالإسهاب في تحليل نظريات السياسة، والإمعان في تتبع مظاهر السياسة الحركية من مؤسسات وأحزاب ومعاهد بحث ورصد واستشارة، وتفرعات أبحاث القانون العام بأقسامه الإدارية والدستورية، وتشريعاته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وفنون الإدارة العامة وما أصبحت تطرحه من ترشيد الموارد البشرية، ورعاية مصادر العمل والمال والاستثمار، والخوض في العلاقات الدولية وأبحاثها المستفيضة في التقنين والتنظيم، ومسائل الحرب وقواعد السلم وما أصبح يتيح كل ذلك من مقارنة بين نظم الحكم والقانون والتشريع. كل ذلك أضفى على علم السياسة، بل مجموعة هذه العلوم، صفات الشمول والحيوية واستجماع المعارف التي لا بد منها لدوام المجتمع الإنساني وحضارته وازدهاره.