أظن أن أهمية التحليل السياسي باتت واضحة, وتؤكد ضرورتها الأحداث, بعد أن لفتت الانتباه إليها النصوص الشرعية إما بالتصريح, أو بالاقتضاء؛ فلا يستطيع المسلمون إدارة الصراع, واتخاذ المواقف التي يفرضها الدين إلا بالبناء على رؤية ذاتية عن الأحداث والمستجدات السياسية.
وهذا يتطلب متابعة دائمة, ويقظة وتنبها, فضلا عما يتطلبه من قدرة على مقاربة الواقع السياسي, وفهم أبعاده ودوافعه والجهات التي تقف وراءه, والأهداف التي تبتغيها منه, وحجم تلك الأهداف من مصالح تلك الدول, أو أولوياتها, وما يرافق ذلك من معرفة طبيعة الدولة التي تؤثر في صنع الأحداث على المسرح الدولي, أو الدول الفاعلة فيه. ولا يمكن الزعم بمعرفة تلك الدول دون فهم البعد الفكري, أو الأيديولوجي الذي يوجه منطلقاتها, ولا يتم ذلك أيضا دون فهم الخريطة السياسية للقوى والأحزاب الحاكمة أو المؤثرة في القرار السياسي, هذا, ومتطلبات التحليل السياسي تتسع لِتُلِمَّ بكل المعارف والثقافات وحتى المزاج والطباع التي تطبع شعوبا, هي في دولها ذات تأثير في استبقاء الطبقة الحاكمة, أو استبدالها.
ولسنا هنا في معرض التصدي للتحليل السياسي ومتطلباته, ولكننا نذكر منها بعضها للدلالة على أن مطلب التحليل السياسي في معظمه يقوم على التعاطي مع الواقع كما هو؛ لتوصيفه, وتفسيره, وتحليل أبعاده ومقاصده ودوافعه وحظوظه من بلوغها, وعلى هذا فإن التحليل السياسي قد يتفق عليه المسلم المنطلق في مواقفه من عقيدة الإسلام ومصلحة الأمة الإسلامية, وغير المسلم المنطلق من غير العقيدة والمراعي غير المصلحة, يحدث هذا ما دام الأمر توصيفيا وتحليليا.
بيد أن الإسلام يضيء حتى قواعد في التحليل السياسي, يتضح هذا حين نلحظ أنه يزودنا بحكم عن تلك الدول الفاعلة اليوم, كأمريكا ودول أوروبا, وروسيا, أنها تقوم على عقائد باطلة, وأنها ما دامت كذلك فهي لا تبغي للمسلمين في أفعالها وفي سائر نشاطاتها خيرا, وإن بدا في الظاهر عكس ذلك؛ فلا بد من أن يكون ذلك لمصلحة تتوخاها, هي في الغالب تتناقض مع مصالحنا, فمثل هذه الإضاءة مهمة وثمينة, ويجب تفعيلها في التحليل السياسي لفهم دوافع تلك الدول وحملها على المحمل السليم.
وخذ مثلا على ذلك موقف تلك الدول والأحزاب السياسية مما يسمى بالصراع العربي "الإسرائيلي" أو قضية فلسطين؛ فإنك لا تكاد تلحظ فرقا جوهريا بين أمريكا والدول الأوروبية, وإن وجدت فهو في الخطاب والأسلوب, فترى في الخطاب الأوروبي أحيانا اعترافا بالظلم الواقع على أهل غزة مثلا, بسبب الحصار الصهيوني الظالم. لكن تلك الدول الأوروبية نفسها قد اعتبرت حركة كحماس, مثلا, إرهابية؛ لأنها تقوم بأعمال مقاومة تقرها الشرائع والقوانين الدولية!! وما يصدق على أوروبا يصدق أيضا على روسيا التي لنا معها, نحن المسلمين, صراع فعلي, وليست المسألة الشيشانية إلا شاهدا حيا على تلك العدوانية التي تنطوي عليها روسيا تجاه المسلمين والإسلام.
فالمسلم يتميز عن غيره حتى في التحليل السياسي, نظرا للأحكام التي يقتبسها من الإسلام ومن نصوصه الواضحة الثابتة, ومن ذلك على سبيل المثال قوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ" [آل عمران: 118].
وبغض النظر عن الجهة التي كانت مقصودة في الآية, وقت نزولها؛ فإنها كشفت عن فوائد عامة في التعاطي مع الدول التي تقوم على عقائد الكفر والضلال,ومن الفوائد التي تضمنتها الآية, بحسب ما بينها الطبري:
-حرمت الآية اتخاذ المؤمنين أولياء وأصدقاء لهم من دونهم, يعني من غير المؤمنين.
-عرفت المؤمنين ما ينطوي عليه أولئك من الغش والخيانة , وبغيهم للمسلمين الغوائل.
- بينت أنهم لا يَدَعُون جهدهم فيما أورث المسلمين الفساد.
- كشفت عن حقيقة ميولهم القلبية فهم "ودوا عنتكم, أي أنهم يتمنون للمسلمين العنت والشر في دينهم وما يسوءهم ولا يسرهم."
وذكر القرطبي في تفسيرها: "بين تعالى المعنى الذي لأجله نهى عن المواصلة فقال: "لا يألونكم خبالا" يقول فسادا. يعني لا يتركون الجهد في فسادكم , يعني أنهم وإن لم يقاتلوكم في الظاهر فإنهم لا يتركون الجهد في المكر والخديعة".
ومما يدل على شمول الآية الكفار, ما بينته الآية الكريمة في السبب الذي يقف وراء تلك الصفات والأفعال التي يمارسونها؛ إذ هو الكفر, قال الطبري:" القول في تأويل قوله تعالى: {قد بدت البغضاء من أفواههم} يعني بذلك جل ثناؤه: قد بدت بغضاء هؤلاء الذين نهيتكم أيها المؤمنون أن تتخذوهم بطانة من دونكم لكم بأفواههم , يعني بألسنتهم. والذي بدا لهم منهم بألسنتهم إقامتهم على كفرهم , وعداوتهم من خالف ما هم عليه مقيمون من الضلالة , فذلك من أوكد الأسباب من معاداتهم أهل الإيمان , لأن ذلك عداوة على الدين , والعداوة على الدين , العداوة التي لا زوال لها إلا بانتقال أحد المتعاديين إلى ملة الآخر منهما , وذلك انتقال من هدى إلا ضلالة كانت عند المنتقل إليها ضلالة قبل ذلك , فكان في إبدائهم ذلك للمؤمنين ومقامهم عليه أبين الدلالة لأهل الإيمان على ما هم عليه من البغضاء والعداوة."
هل السياسة الشرعية تجعلنا في حرب شاملة مع العالم؟
وقد يقول قائل إنك بهذا تضع المسلمين في مواجهة شاملة مع العالم كله, وليس هذا الاستنتاج دقيقا؛ لأن الموقف الشرعي والتصور الفكري عن تلك الدول لا يفرض علينا دوما الدخول في حرب معها, ولم تكن من سياسته -صلى الله عليه وسلم- أن يفتح حربا شاملة مع كل الكيانات المعادية, أو المخالفة, وفوق هذا فإن هذه الدول ليست في درجة عدائها متساوية, أو في تلبسها بالشر والعدوان كذلك, فليست أمريكا مثلا كالسويد, أو فنلندا, وإن كانت حمى الحرب على الإسلام والاعتداء على مقدساته ورسوله الأكرم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم قد توسعت حتى لم تكد تنجو منها دولة من دولهم.
وعلى العموم ليس مَنْ قاد الحرب على أفغانستان والعراق وما زال يمعن في دعم الكيان الغاصب في فلسطين, كمن انسحب من تلك الحرب, أو لم يشارك فيها أصلا, وليس من يملك القدرة المادية, والدافعية العدوانية والاستعمارية الطاغية, كمن هو دونه فيها, فالضرر من الأول أعظم ودفعه والتصدي له ولمشاريعه ولأدواته أَوْلى وأوجب, غير أن هذا التفاوت في درجة الخطورة لا يجوز أن يوهمنا بصداقة بين المسلمين, أو بعضهم من جهة, وبين تلك الدول كأوروبا وروسيا من جهة ثانية, ولا يجوز أن تدفعنا قلةُ النصير إلى توهمهم أنصارا, ومحاولة التقاطع معهم؛ لأن تلك الدول متفقة -كما أسلفت- مع أمريكا في المواقف الجوهرية من قضايا المسلمين, كما أن المنفعة والمصلحة لا تفارقها, ومصالحها تبنيها على وجهة نظرها وعلى مرتكزاتها واستراتيجياتها التي من أهمها- فيما يتعلق بقضية فلسطين, مثلا- الحفاظ على " إسرائيل", فهي تمارس نشاطها وتحركاتها وفي أذهان ساستها تثبيت هذا الهدف وتعميمه على كل من يتعامل معها, أو يتحاور.
الموقف السياسي:
وإذا كان التحليل السياسي يستفيد من عقيدة الإسلام وقواعده ونصوصه؛ فإن الموقف السياسي يتحكم به الحكم الشرعي, ومصلحة الأمة تحكما تاما؛ ذلك أن الموقف السياسي يعني قبول المسلم بحدث أو مشروع, أو خطة أو قرار, أو رفضها ومحاربتها. ولا يصح من المسلم السياسي أن يرتضي لموقفه محددات أخرى, من مثل القطرية الضيقة, كمثل ما شاع منذ فترة من شعارات على غرار "الأردن أولا" مثلا, بالمعنى السلبي الذي يقضي بالوقوف على الحياد, من قضايا عربية وإسلامية, وحتى مجاورة كالعراق وفلسطين؛ بحجة الحفاظ على مصالح الأردن, وهذا المنطلق فوق كونه يتنافى مع الإخوة الإسلامية ومقتضياتها؛ فإنه يضر بمصالح البلد الذي يرفعه ويعزله عن بعده وينتزعه من عمقه الإسلامي, وهو بعد ذلك مخالف لطبيعة المنطقة العربية والإسلامية التي تتشابك مصالحها وتتداخل, وتنعكس أحوال البلد على مجاوريه, استقرارا أو تهديدا وتشرذما.
وفي الموقف السياسي ينبغي الحذر من خدع المفاضلة, على نحو ينسينا الحقائق الشرعية والسياسية, ويجري هذا في العلاقات مع الدول المعتدية الاستعمارية, كما أسلفت من مثل تفضيل فرنسا أو روسيا على أمريكا, مثلا, ولا سيما حين يجرُّ ذلك إلى التعاطي مع مشاريع تلك الدول؛ فنكون, حينها, كمجير أم عامر. وكما يجري في أوقات انتخابات الدول المعتدية, كانتخابات الرئاسة الأمريكية؛ وهو مرفوض, إن قصد منه توقع الخير من أحد المتنافسين على البيت الأبيض؛ لأن العبرة هي بالنظام السياسي وطبيعة الدولة الأمريكية الرأسمالية وفكرة الاستعمار , ثم المواقف من القضايا الإسلامية, غير البريئة ولا الموضوعية. ولا يجادل مَنْ يقع في تلك المفاضلات في تلك الأمور لوضوحها, ولكنه ربما قصد بيان الأشد ضررا والأكبر خطرا على الأمة.
وكثيرا ما يمزج المحللون الغربيون ومن على شاكلتهم من أبناء جلدتنا- وعن قصد غالبا- بين التحليل السياسي الوصفي, والرأي السياسي الذي ينبع من زاوية الرؤية الخاصة بهم؛ فيغلف موقفه ورأيه هو بغلاف التحليل, وقد يصرح بذلك؛ فينبغي التفريق بين التحليل السياسي الذي قد يأخذه المسلم من غير المسلم, إن رآه مطابقا للواقع السياسي, أو مقاربا له, وبين الرأي الذي يتشكل بحسب فكر المحلل وعقيدته.