الاقترابات والمناهج المعاصرة في علم السياسة
مقدمة
لم يظهر حقل العلوم السياسية كحقل معرفي منفصل إلا في أواخر القرن التاسع عشر عندما أنشئت كراسي للعلوم السياسية في الجامعات. وقد أنشئ أول قسم للعلوم السياسية في جامعة كولومبيا بالولايات المتحدة الأمريكية في عام 1888م وحتى بعد أن أعترف به رسميا كحقل مستقل ظل علم السياسة يدّرس لعدة سنوات في أقسام التاريخ وفي أقسام الاقتصاد تحت مسمى "الاقتصاد السياسي". ولذا فقد تطور علم السياسة كحقل تبادلي حقيقي، واستمر هذا التوجه حتى القرن العشرين عندما أثرت التطورات في حقول علم الاجتماع، الانثربولوجيا وعلم النفس، الأحياء، الفيزياء، والاقتصاد على تفكير علماء السياسة.
ويشار إلى أن عدد من الجيل الأول من علماء السياسة الأمريكية مثل هارولد لازويل وتشارلز ميريام قد حبذوا توظيف المنهجية العلمية (التجريبية) في دراسة علم السياسة، وفي نفس الوقت استمر التقليد الأوربي لدراسة السياسة في أمريكا من خلال المهاجرين الأوروبيين المتعلمين مثل كارل فريدريك وغيره ممن تلقوا تعليمهم وفقاً للمنهج الأوربي القائم على البحث الفلسفي بمنهجيته التاريخية التقليدية( ). وقد اتحد هذان الإقترابان في دراسة السياسة ليشكلا قاعدة علم السياسة الحديث كما هو قائم الآن.
وفي عقود الثلاثينات والأربعينات والخمسينات اتخذ علم السياسة منحى جديد عندما بدأ علماء السياسة يدرسون وبشكل متزايد السلوك السياسي الإنساني الملاحظ في ضوء النظريات التي استعيرت من العلوم الاجتماعية الأخرى. ونظراً لأن العلوم الاجتماعية قد تطورت وفقاً لنماذج بيولوجية أصبح مفهوم النظام السياسي ككائن سياسي يحظى بقبول واسع مرة أخرى وخاصة فيما يتعلق بدراسة موضوعات مثل التحليل السياسي.
وفي مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية اعتمد علم السياسة بشكل متزايد على حقول الرياضيات والإحصاء للمساعدة في تحليل البيانات السياسية مما جعل علم السياسة أكثر تداخلاً. إلا أن دراسة الفلسفة لم تفقد بريقها، فهناك كما يقول لوسيان باي شعورا بأن علم السياسة الحديث كحقل معرفي يحتاج إلى أن يكون إنسانياً وعلمياً في نفس الوقت( ).
الاقترابات النظرية لدراسة السياسة :
طور علماء السياسة عدداً من الاقترابات لكي يتم تلافي التجميع العشوائي للحقائق أو الاعتماد فقط على نظرية واحدة عندما لا يكون هناك أي نظرية يتحقق فيها شرطة الاختبار الكامل للصحة العلمية. والاقتراب يعني اتجاه معين يتبناه الباحث عندما يتناول موضوع الدراسة إذ أن هناك ميلاً لتبني اطاراً مفهومياً محدداً ولاكتشاف افتراضات محددة من أجل التوصل إلى نظرية( ). والاقتراب يمكن أن يكون ضمنياً أو صريحاً، لكن يجب أن يكون واضحاً لأنه يحدد الأسئلة، والمنظورات، والإجراءات والمنهجية التي سوف يستخدمها الباحث في دراسته.
ويميل العلماء في أبحاثهم في علم السياسة إلى استعارة إقترابات ومنهجية الدراسة من حقول أخرى، ولذا فإن علم السياسة يعتبر حقلاً متداخلاً فضلاً عن أن أجيال مختلفة من العلماء قد طوروا اقترابات انطلاقاً من اهتماماتهم وقيّمهم ومنهجياتهم الخاصة. ولذا تغيرت اقترابات دراسة علم السياسة عبر الزمن بحيث كان الإقتراب الأفضل يتغير من وقت لآخر طبقاً لما كان ملحاً أو في بعض الأحيان أنيقاً أو عصرياً.
أما المبدأ الأساسي لكل تلك الاقترابات لدراسة السياسة فيتمثل في أن علماء السياسة ينبغي أن يهتموا بالتحليل والمقارنة وأن يتجنبوا التعميمات استناداً على ملاحظة عرضية وسواء كان البحث مستنداً إلى التجارب، الاحصاء، أو دراسات الحالة فينبغي أن ينظم وأن يكون صريحاً حول القواعد المستخدمة لوصف وتحليل السياسة.
1- الاقتراب التقليدي التاريخي :
هيمن الاقتراب التقليدي التاريخي على علم السياسة الحديث في سنواته الأولى عندما كانت الدراسات السياسية مركزه بشكل أساسي على الوصف الشكلي القانوني للحكومات، كذلك استفاد معظم علماء السياسة من التاريخ إلا أن التقليديين منهم ركزوا بشكل كامل تقريباً على التطور التاريخي لبناءات ومؤسسات الحكومة.
وبحلول أواخر الخمسينات كان الاقتراب التقليدي يواجه هجوماً عنيفاً. حيث أتهم اتباع هذا الاقتراب بأنهم كانوا في الأساس ضيقوا الافق (متحيزون تجاه الفكر الغربي) وشكلانيون قانونيون (مهتمون أساساً بالدساتير وعمل المؤسسات مثل السلطة التنفيذية والتشريعية والمحاكم والبيروقراطيات) ويفتقرون للبعد المقارن (يركزون أساساً على الدراسة المتكاملة لبلد واحد بعينه) وغير علميون (مفاهيمهم، نماذجهم ونظرياتهم كانت بدائية هذا إذا لم تكن موجودة أصلاً) فضلاً عن ذلك زعم المنتقدون بأن هذا الاقتراب يتجاهل السياسة غير الرسمية ولذلك يتجاهل مصدراً كبيراً وهاماً للمعلومات. وبينما كان عدداً من هذه الانتقادات مبالغاً فيها إلا أنها أشارت إلى الحقيقة الواضحة في أن هذا الاقتراب محدود الفائدة في الدراسات المقارنة لأن دور المؤسسات الحكومية الرسمية يختلف بشكل كبير من بلد لآخر. ففي بعض المجتمعات يمكن أن يكون المشرعون أقل أهمية بكثير من المؤسسات أو العملياتية نفسها. فعلى سبيل المثال، يحتكر الجيش في بعض البلدان وظائف كل من الحكومة والسلطة التشريعية، وفي أخرى يمكن أن تكون السلطة التشريعية ليست أكثر من مجرد أسرة ممتدة.
2- الاقتراب العلمي / السلوكي :
برز الاقتراب السلوكي إلى واجهة الحقل في الستينات( ). وكان هدفه تصحيح العيوب المفترضة في الاقتراب التقليدي لدراسة السياسة. ومن خلال التركيز على الجانب غير الرسمي من السياسة حاول السلوكيون أن يفهموا كيف يتصرف الأفراد ضمن المؤسسات السياسية وكيف يسهم السلوك غير الرسمي في عملية صنع السياسة. كذلك فقد كانوا أكثر اهتماماً بالنظرية الأمبريقية (التي تهتم بالعالم الملاحظ) بدلاً من النظرية المعيارية (التي تهتم بالأحكام القيّمية) التي يستخدمها الفلاسفة السياسيون أو المنظرون السياسيون التقليديون.
وقد جاء الاقتراب العلمي للسلوكيين بمفردات جديدة لدراسة السياسة والتي لابد من الإلمام بها لفهم معظم علم السياسة المعاصر. فقد وضع السلوكيون عددا من القواعد أو المنهجية (طريقة جمع المعلومات السياسية وقياسها وتفسيرها) في حقل السياسة والتي كانت ضمنية في الاقترابات التقليدية. وكما في العلوم الطبيعية بدأ هؤلاء الباحثون بالفضول حول بعض المتغيرات (أو بعض الظواهر المتغيرة التي يحاولون فهمها). والمتغير: هو خاصية لموقف اجتماعي أو لمؤسسة يمكن أن تظهر في أشكال مختلفة في مواقف ومؤسسات أخرى. وتؤكد حقول العلوم الاجتماعية على استخدام متغيرات مختلفة لاختبارها. فعلم النفس مثلاً يركز بشكل أساسي على السلوك الفردي، بينما يركز الاقتصاد على الندرة أما موضوع الاهتمام الرئيس لعلماء السياسة فهو قوة وسلطة الحكومة – كيف يتم الحصول عليها وكيف تستخدم.
وبما أن علم السياسة اليوم يعتبر علماً فإنه لابد أن يهدف إلى توفير تفسيرات معقولة ومقبولة للظاهرة السياسية. وفقاً لذلك فإن علماء السياسة يطورون افتراضات تقدم تفسيرات للظاهرة السياسية ثم يختبرونها من خلال الأدلة الامبريقية. والافتراض هو مقولة أو تعميم يقدم بمعايير تجريبية مؤقتة وحدسية. وتستخدم هذه الافتراضات للتخمين حول الأسباب أو التأثيرات من خلال ربط متغير واحد أو أكثر بغيرها( ). فمثلاً يمكن الافتراض بأن مستويات الاستقرار السياسي تزداد أو تتناقص بناء على احتمال التهديد الخارجي بالهجوم على الدولة المعنية، وبعد ذلك نصمم دراسة للتحقق مما إذا كان ذلك التفسير صحيحاً عبر الزمن وفي بيئات مختلفة. وإذا كان بالإمكان لتلك المتغيرات أن تحدد اجرائياً operationalized وأن تقاس بشكل مناسب فإنه يمكننا أن نجد علاقات ارتباطيه تؤكد أو تنفي افتراضنا.
وغالباً ما يجمع علماء السياسة بين عدة افتراضات للتوصل إلى نظرية. ومفهوم النظرية مشتق من كلمة يونانية تعني تأمل أو تفكر. والنظريات هي اختراع إنساني وحدس قوي عن الإجراءات في العالم الحقيقي. أنها بمثابة "مصائد" فكرية تستخدم لاصطياد أو تفسير العالم الحقيقي. ووفقاً للمعايير العلمية/السلوكية فإن النظريات تعّرف على أنها "سلسلة من الافتراضات المترابطة التي تصف ما نعتقد أننا نعرفه من العلاقات المتبادلة بين مجموعة من المتغيرات( ).
وتتضمن النظرية ثلاثة عناصر : تعميمات، ملاحظات جديدة، قابلية للاختبار( ). وقد أشار البرت انشتاين إلى النظرية على أنها "تتضمن افتراض وجود مشاكل، استخدام نظرية تجريبية وقتية، التخلص من الخطأ، والمضي قدماً نحو مشكلة جديدة.
ويجتهد السلوكيون لاستخدام منهجيات علمية لتفسير ظاهرة سياسية أو التنبؤ بحدوثها من خلال اكتشاف "التماثل في السلوك السياسي" أنهم يضعون افتراضات عن السياسة تؤكد المعلومات التجريبية أو تكذبها. وتشمل أدوات حرفتهم الاحصاء والحاسوب. وقد كانت أبرز دراسات هذا النوع نجاحاً تلك المتعلقة بموضوعات السلوك الانتخابي، التنظيم الحربي، ودراسات المواقف والمعتقدات. باختصار يتضمن التوجه العلمي السلوكي الآتي :
1 – التعرف على موقف او مشكلة مهمة وتحديدها.
2- ابتكار افتراض قابل للتصديق Plausible لاستكشاف الظاهرة.
3- إيجاد دليل موثوق واستخدامه لاختبار صحة الافتراض.
4- تحري النتائج.
5- استكشاف كيف يمكن جمع النتائج مع تفسيرات علمية أخرى لتشكيل نظرية.
أما الانتقاد الرئيس لهذا الاقتراب فيتمثل في أنه يتجاهل القيم. كما يزعم البعض أنه ومن خلال تركيز هذا الاقتراب على المنهجية والإحصاء فإنه، في بعض الأحيان، يتوصل إلى أجوبة دقيقة جداً لمسائل تافهة. كذلك فنظراً إلى أن علم السياسة يدرس البشر وليس موضوعات جامدة، فإنه نادراً، ما يستطيع التوصل إلى قواعد للسلوك السياسي قابلة للتكرار شبيهة بتلك الموجودة في العلوم البحتة. وبشكل عام، لا يستطيع علم السياسة التنبؤ بالمستقبل بناء على ماضي السلوك، وبالنظر إلى العدد الهائل من المتغيرات التي لابد من أخذها في الاعتبار، فإنه من المستحيل أن يتم التوصل إلى نفس الدقة الممكنة في العلوم الطبيعية. فهذه العلوم كما زعم ديفيد ايستن، تتميز بأنها تتعامل مع موضوعات جامدة "فالذرة ليس لها شعور أو نبات حتى تكون غير متوقعة أو غير قابلة للملاحظة أو التنبؤ". وبرغم ذلك فإنه حتى في العلوم البحتة هناك مجال للاستثناء وعدم القدرة على التيقن. وبالفعل فإن الفيزيائيين المعاصرين يشيرون إلى "نظرية الفوضى" كطريقة لدراسة كيف يمكن لحالات عدم التيقن الصغيرة جداً في الحالة الأولية لنسق ما أن تؤدي إلى عدم يقين كامل، حتى في أفضل التوقعات الممكنة، لمستقبل تلك الانساق.
ولذا فإن عدداً من علماء السياسة يعتمدون اليوم على مجموعة من طرائق البحث مشتقة من كل من المدارس التقليدية والسلوكية نظرا لان موضوعات البحث المختلفة تتطلب اقترابات مختلفة. باختصار يمكن القوال بأن كلا المدرستين قدمتا إسهامات هامة لعلم السياسة وهناك جهود تبذل لجمع جوانب كلا الاقترابين والتوفيق بينهما للتأكيد على أهمية القيّم مع استخدام أفضل التقنيات المناسبة للإجابة على أسئلة معينة. وهذا الاقتراب التوفيقي يعرف في بعض الأحيان (ما بعد السلوكية Post-behavioralism).
3- اقتراب النظرية العامة :
يستند عدد من الاقترابات الحديثة لدراسة علم السياسة على الاعتقاد بأن دراسات السياسة يجب أن توظف نظرية عامة للمجتمع السياسي، أي أنه يجب التعرف على كل البناءات والعمليات الهامة في المجتمع وتفسير علاقاتها التبادلية مع السياسة والتنبؤ بمجموعة واسعة من النتائج الحكومية. ومثل هذه النظرية، كما يزعم البعض، ستمكن العلماء من التوصل إلى تعميمات علمية – شبيهة بالقوانين- عن السياسة.
وهناك مثالان يلخصان جوهر هذا الجدل حول مكانة النظرية العامة في علم السياسة( ). الأول أن السياسة تشبه أشكال السحب المتغيرة باستمرار أما الآخر فيشبه السياسة بالساعة من حيث الدقة والعلاقة السببية الميكانيكية. وقد توصل الموند وجينكو إلى أن "المأزق الحالي في علم السياسة يمكن إرجاعه وبدرجة كبيرة إلى حقيقة أن افتراضات نموذج الساعة نفسها غير ملائمة للتعامل مع جوهر الظاهرة السياسية"( ).
وجاء هذا الاستنتاج من الاعتقاد بأن كل نظريات السياسة يجب أن تتضمن بالضرورة ظاهرة سريعة الزوال. ويؤكد الموند وجينكو على أن السياسة ليست متوقعة بالكامل وذلك لأنها تتعلق بالسلوك الإنساني حيث ليس هناك علاقة مباشرة بين السبب والنتيجة بين كل المتغيرات. فالحقيقة السياسية "لها مزاياها الخاصة التي تجعلها صعبة الانقياد لنماذج التفسير المستخدمة في العلوم الطبيعية(3). ولذا فإنه السياسة كلمة لا ينبغي أن ينظر إليها كمجموعة من الطرق المنهجية بنظرية محددة سلفاً ولكن وكما لاحظ الموند وجينكو "كالتزام لاكتشاف ومحاولة فهم جزءاً محدداً من الحقيقة التجريبية"(4).
4- الاقتراب النسقي أو النظمي :
يستند هذا الاقتراب على نظرية عامة تقدم لعلماء السياسة إطارا محدوداً لكنه مفيد للتحليل. وقد اكتسب هذا الاقتراب الشهرة في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين وبقي اقتراباً ضمنياً في عدد من الطرق الأخرى لتفسير السياسية. أما جوهر نظرية النظم فهو أن سياسة أي بلد يمكن تصورها بواسطة التفاعل بين البيئة المجتمعية والنسق السياسي المجرد الذي يحول المطالب والدعم إلى مخرجات منتجاً استقراراً كاملاً أو اتزاناً، وقد وضع ديفيد ايستن الخطوط العريضة لأول نظرية انساق شاملة في علم السياسة( ). وتتطلب دراسة الأنساق البحث عن عمليات دائرية تحكم البناءات السياسية.
وطبقاً لايستن فإنه من المفيد أن ننظر للسياسة كنسق من العمليات والعلاقات بين عمليات التحويل والبيئة التي تعمل فيها. وينظر إلى الحياة السياسية كسلوك إنساني يعمل ضمن البيئة ويستجيب لها، وبالتالي يمكننا دراسة البناءات والوظائف السياسية في علاقتها مع الظروف الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في البيئة المحيطة.
والافتراض الرئيس لتحليل الانساق هو أن الحكومات هي مركز الانساق السياسية التي تتضمن ثلاث مراحل من العلم (أنظر إلى الشكل أ). فأولاً : تؤثر البيئة على النسق السياسي من خلال تقديم مطالب متعددة للنسق فضلاً عن توفيرها للدعم الأساسي له. وهذه المطالب يمكن أن تشمل مساكن أفضل أو خدمات صحية أو خفضاً للضرائب، أما الدعم فيتضمن أشياء غير محسوسة مثلاً "حب الوطن" أو الوطنية. وهذه هي المدخلات وفقاً لنموذج ايستن.
وفي المرحلة الثانية تقوم الأحزاب السياسية أو غيرها من المؤسسات بتجميع المطالب وصياغتها في صورة برامج. وأخيراً يقوم النسق السياسي (الذي يشمل السياسيون، والبيروقراطيون، والتنفيذيون، والمشرعون، والمحاكم... إلخ) بصناعة استجابات سلطوية. وتكون هذه الاستجابات السلطوية في صورة قرارات، قوانين وغيرها من التصرفات "كمخرجات" والتي بدورها تعود إلى البيئة "كتعذية استرجاعية". ويتم التفاعل بين أجزاء النسق السياسي بمثل ما يحدث في نسق الدورة الدموية للجسم.
وقد تعرض التحليل النظمي أو النسقي لكثير من الانتقادات فهناك من زعم بأن النموذج الذي يستند عليه لا يساعد في إيضاح أي أجزاء النسق السياسي يعتبر اساسياً أو مؤثراً. وزعم البعض بأنه يمكن تعلم الكثير عن جوانب مختلفة من السياسة من خلال دراسة أجزاء محددة من النسق السياسي. بينما يقول آخرون أنه يستحيل التنبؤ بكيف، أو حتى ماذا كان، التغير في أحد أجزاء النسق سيؤثر على الجزء الآخر. فضلاً عن ذلك هناك زعما بأن الانساق السياسية ليست على علاقات متبادلة بشكل وثيق كما يصورها النموذج( )، كما أنها ليست ساكنة كما يتضمن النموذج. وينتقد الاقتراب النسقي في كونه ركز على المحافظة على النسق إلى الدرجة التي تجعل الرغبة في البقاء خاصية لكل الانساق السياسية وقد فسر البعض هذا الأمر على أنه يمثل تحيزاً محافظاً( ).
5- الاقتراب البنائي الوظيفي :
غالباً ما يرتبط هذا الاقتراب باسم جبرائيل الموند الذي طوره ليجعل نظرية النظم أكثر ملائمة لاحتمالية التغير أساسي أو تنموي( ). ويتمثل جوهر البنائية- الوظيفية في تحديد الوظائف التي يقوم بها النسق السياسي وكيف يجب أن تنفذ تلك الوظائف لضمان استقرار النسق السياسي، وذلك لأنه إذا كان المجتمع السياسي غير قادر على أداء تلك الوظائف فسوف ينهار. وقد استخدم الموند وغيره هذا الاقتراب لدراسة التغير في مستوى التنمية السياسية من النظم التقليدية إلى الحديثة( ).
وتتضمن الوظائف المحددة للنسق السياسي وظائف مدخلات مثل الإفصاح عن المطالب وتجميعها، والتنشئة الاجتماعية، والاتصالات. أما وظائف المخرجات فتشمل صنع القرار، وتطبيق القرار، وتحكيم القرار. وطبقاً للبنائيين – الوظيفيين فإن دور المفكر يتمثل في البحث عن "البناءات" التي تستخدمها دول مختلفة للقيام بهذه الوظائف. ففي بعض المجتمعات يتم أداء وظائف صيغ القرار، وتطبيقه وتحكيمه من قبل نفس البناء. وفيما يتعلق بجانب المدخلات فيمكن مثلاً للزعيم أن يباشر كل تلك الوظائف. أما في النظم الأكثر تقدماً وتعقيداً مثل الولايات المتحدة فإن تلك الوظائف تباشر من خلال البناءات التشريعية والتنفيذية والقضائية كل في مجال اختصاصه.
أما إحدى نقاط الضعف لاقتراب البنائية – الوظيفية فتتمثل في أنه لا يتلاءم جيداً مع الدولة ككيان ديناميكي نشط. أنه يحدد دوراً آلياً للدولة للقيام بالوظائف إلا أن الأفراد الذين يباشرون تلك الوظائف يمكن أن يكون لهم مصالحهم وأولوياتهم الخاصة بهم. ولذا يزعم بعض المنتقدون أن اقتراب البنائية الوظيفية قد وثق بشكل أكبر بكثير مما ينبغي، بالتقنية والإجراءات العقلانية وبأن العلاقة بين البناءات والوظائف غامضة وغير واضحة( ).
كما أن مفهوم "مستويات التنمية" لالموند قد فتح المجال لاتهامه بالتحيز لأنه اعتبر الديموقراطية وخاصة الليبرالية الغربية منها عاملاً أساسياً لتحقيق استجابة للنسق السياسي، وبالتالي للاستقرار السياسي. ويبدو أنه مقتنع بأنه يجب على كل الانساق السياسية أن تتطور بنفس طريقة واتجاه الديموقراطيات الانجلوسكسونية إذا أرادت أن تتطور إلى مراحل سياسية أعلى.
6- اقتراب الاقتصاد السياسي :
أكتسب هذا الاقتراب شعبية كبيرة بين علماء السياسة في ثمانينات القرن الماضي. وتهتم دراسات الاقتصاد السياسي بالعلاقة بين الحكومة والاقتصاد. فالسياسة والاقتصاد لم يكونا اطلاقاً منفصلين تماماً عن بعضهما : فالطريقة التي يكسب بها الناس عيشهم كمحترفين ورجال أعمال وعمال وحتى العاطلين منهم تؤثر دائماً في السياسة. ويهتم الاقتصاد بالخلاف حول الموارد النادية بينما تهتم السياسة بشكل عام بالقرارات حول من سيدفع ومن سينتفع من إنتاج وتوزيع الموارد بشتى أنواعها بدء من الطرقات ودوراً بالصحة ووصولاً إلى التسلح. وتستطيع الحكومات أن تؤثر على كمية الموارد المتاحة لدى الشرائح الأكثر فقراً والأكثر غنىً في المجتمع. كما أن هناك علاقة تبادلية وثيقة بين الاقتصاد والحكومة في عدد من المواضيع المهمة مثل سياسة الضرائب والرفاه الاجتماعي وغيرها، فالحكومات تتخذ سياسات لحماية وتعزيز وتنظيم الاقتصاد لكنها نفسها توجه بالاقتصاد نفسه.
وقد اكتسب اقتراب الاقتصاد السياسي أهمية خاصة في دراسة السياسة العامة أي الدراسات المتعلقة بماذا تعمل الحكومات. وهناك صراعاً بين إيديولوجيات ومعتقدات سياسية مختلفة حول حدود الدور الذي ينبغي أن تلعبه الحكومة والسياسة في الاقتصاد. وأهم نقطة في ذلك النزاع تتعلق بالسؤال التالي : "ما هو دور الحكومة فيما يتعلق بالتنظيم، والدعم أو التدخل في الشئون الاقتصادية والاجتماعية؟ فهؤلاء الذين يعتنقون قيم مثل القطاع الخاص، والحرية والفردية يمكن أن يجيبوا على هذا السؤال بطريقة تختلف عن إجابة أولئك الذين يؤمنون بأن العلاقات الاجتماعية والسياسية تحدد أو تقيد بشكل كبير بواسطة القاعدة الاقتصادية للمجتمع.
ولذلك فهناك وجهتا نظر متعارضتان في دراسات الاقتصاد السياسي، أولها وأحدثها نسبياً هي مدرسة الاختيار العام والتي تعرف أحياناً "الاقتصاد السياسي الليبرالي" لأنها تميل لاتباع منطق العقلانية الاقتصادية الكلاسيكية والأخرى هي مدرسة الماركسية المحدثة NeoMarxism التي تستند على أفكار كارل ماركس فيما يتعلق بالعلاقة بين البناءات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وقد زعم ماركس أن الوظيفة الأساسية للدولة في المجتمع الرأسمالي هي خدمة مصالح الرأسماليين، وبالتالي فإنها تنشئ شروطاً تحبذ التراكم الرأسمالي المربح وتحافظ عليها من خلال تركيز الثروة في أيدي قليلة. ولكن، وعلى الأمد الطويل، يزعم ماركس لا تستطيع الرأسمالية مقاومة هجوم العمال الذين سيصبحون في النهاية سادة وسائل الإنتاج والتبادل في مجتمع مشترك. ولابد للفرد أن يقبل عدداً من مقدمات الماركسية ليتفق مع النتائج المشتقة من التحليل الماركسي المحدث. ولا يزال كلاً من اقترابي الاختيار العام والماركسية المحدثة في طور بدائي نسبياً ويحتاجان إلى مزيد من الجهد في مجالي التنظير والتجريب حتى يمكن لنظرية شاملة للسياسة أن تظهر من أي منها.
أن المشكلة الأساسية في اقترابات تحليل الانساق، والبنائية الوظيفية والاقتصاد السياسي تتمثل في أنها تعاني من مستوى عال من التجريد مما يجعلها بمنأى عن كثير من البحث الامبريقي، أي أنها تهدف للتوصل إلى نظريات عامة وليس "ملاحظة أو تجربة". وتصف تلك الاقترابات المجتمع السياسي بمعايير واسعة إلى درجة تجعلها غير قادرة على توليد افتراضات قابلة للاختبار ولا تسهم بشكل كبير في فهم مشاكل سياسية واقعية وملموسة. فضلاً عن ذلك فقد فشلت النظريات أيضاً إلى حد الآن في مهمتها الأساسية للتعرف على كل البناءات والعمليات النظرية للنسق السياسي وشرح العلاقات بينها – بمعنى آخر أنه لا يمكن القول بأنها قد قدمت نظرية شاملة وتنبؤية للسياسة ولذلك ظلت مجرد اقترابات للحقل. ولذا يجب على طالب السياسة أن يكون واعياً بتلك الاقترابات المختلفة لكل يفهم مزايا كل منها وعيوبه في دراسة السياسة.
---------------------------------------------------