●●|[☆]◄ الانقلاب السياسي ►[☆]|●●
الانقلاب السياسي Coup d'Etat عمل من أعمال العنف، خُطط له سرّاً، ونفّذ بتنظيم دقيق، على نحو خارج على القانون السّائد، مناهض للنظام القائم، دبّره على الأغلب نفر قليل من القوّات المسلّحة، أو من المدنيّين المشتغلين بالسياسة بمؤازرة عناصر من الجيش النظامي، أو قوّات الأمن، أو التنظيمات المسلّحة أو منها جميعاً ، بهدف تغيير شكل الحكم القائم، جزئياً أو كلياً، أو زحزحة القائمين على الحكم، جزءاً منهم أو جميعهم، واستبدال آخرين بهم، أفراداً كانوا أو منتسبين إلى منظمات سياسية، نظاميّة أو سرّيّة، وبالاعتماد على عنصري التخطيط الدقيق المسبق، والمفاجأة التي تأخذ أجهزة الدولة على غرّة وتعطّل إمكان تدخلها الناجح السريع. وقد توسّع أفق هذا المصطلح لغويّاً حتى شمل، على سبيل الرّمز، وصف كلّ تغيير عميق مفاجئ في أوضاع الدولة أو المجتمع، يتجاوز الطرق النظامية المألوفة.
ومصطلح الانقلاب السياسي بالعربية يراعي سياق المصطلح الفرنسي Coup d'Etat الذي انتشر وتبنّته لغات عدّة فأصبح شبه مصطلح دولي، وكلمة Coup يُراد بها الضربة المفاجئة، وكلمة Etat، أي الدولة، تبينان أنّ الضربة موجّهة إلى الدولة القائمة. ولعلّ كون أوّل انقلاب سياسي في العصور الحديثة قد جرى في فرنسة هو الذي أعطى هذا الانتشار للمصطلح الفرنسي، إذ أقدم نابليون بونابرت، في التاسع من تشرين الثاني سنة 1799ـ وكان قد عيّن قائداً لقوات الجيش في باريس العاصمة ـ على استدراج أعضاء مجلس القدماء الخمسمئة، أي ما يعادل اليوم مجلس النّواب، إلى ضاحية باريس، سان كلو، وهناك بعثر شملهم بالاستعانة بحرس المجلس، وبأخيه لوسيان رئيس المجلس، وكان من قبل قد دبّر استقالة أكثر أعضاء مجلس المديرين Le Directoire الذي كانت بيده السلطة التنفيذية، وبذلك مهّد لإعلان «دستور السنة الثامنة» الذي أدّى في نهاية الأمر إلى دكتاتورية نابليون، وتسميته قنصلاً أوّل مدى الحياة، ثم إلى تسنّمه عرش الامبراطورية الفرنسية.
و لا يمكن أن يحيط تعريف شامل للانقلاب السياسي بكلّ ما يطرح من جوانب البحث فيه فلقد صار الانقلاب اليوم حقيقة واقعة في الحياة السياسية، كما يقول غريغور فيرغوسون في كتابه «الانقلاب السياسي ـ بحث عملي» Coup D'Etat -a practical manual وأحصى هذا الباحث حتى ظهور كتابه سنة 1987 ثلاثمئة وإحدى عشرة محاولة انقلاب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في تسعة وسبعين بلداً، نجح منها مئة وسبعون انقلاباً؛ وضربت الأرجنتين، بين هذه البلاد، الرقم القياسي إذ شهدت في هذه المدة مثل هذه الهزات بين محاولة انقلاب وانقلاب ما لا يقل عن ثلاث عشرة مرة.
وقد أدى هذا التواتر في الانقلابات إلى ظهور أبحاث في هذه الظاهرة تتناول أبواباً لها، كمسببات الانقلاب واستراتيجيته والتخطيط له، وتنفيذه، والمراحل التي تعقبه ممّا يحتم معالجتها ولو بإيجاز لتتبين ماهية الانقلاب وليمكن تمييزه من الانتفاضات الأخرى في الدولة والمجتمع.
المسبّبات
لا يكفي القول إن السبب الكامن وراء الانقلاب هو الطمع باستلام السلطة، فمن المهم معرفة العوامل التي أدت إلى إغراء مدبّر الانقلاب وأتباعه بسرعة التحرك للاستيلاء على السلطة، فهل وراء ذلك عزم على إنشاء نظام جديد لا يمكن التوصّل إليه بالطرق الدستورية، أم أنّ الحكم القائم بلغ من فقدان التأييد الشعبي ما جعل الانقلابيين يرجحون أن يكون ردّ الفعل على الانقلاب فاتراً أو أنه سيلقى ترحيباً؟ وإذا كان للانقلاب أن يتم على يد عصبة من القوات المسلحة فغالباً ما يكون السبب الحقيقي ـ أو السبب المعلن على الأقل ـ إنقاذ البلاد من الفساد والانحدار ومباذل السياسة وجَوْر الحكّام. بيد أنّ قيام قوات مسلحة بالانقلاب قد يكون الدافع إليه مصلحة فردية خاصة، فالانقلاب الذي قام به الحرس الوطني في نيكاراغوة سنة 1947، لم يكن سببه سوى عدم رضى الرئيس المتنفذ السابق الجنرال آناستازيو ساموزا عن تولي الرئيس ليوناردو آرونلّو منصب الرئاسة.
وقد تكون تلك المصلحة الخاصة، مصلحة مجمل المؤسسة العسكرية، كأن تقتطع الحكومة القائمة قسماً من ميزانية تلك المؤسسة لتدارك عجز أو تحويل الأموال لأغراض التنمية، أو استخدامها في الدعاية السياسية، فتشعر القطعات المسلحة، عن صدق أو عن توهم بأن في ذلك زعزعة للقدرة الدفاعية للبلاد، أو انتقاصاً من الشرف الوطني، فتقوم نواة منظمة من هذه القوات بانقلاب لإصلاح الوضع، لا تلقى معارضة فعلية من الجيش النظامي. وقد لا يلقى الانقلاب معارضة ـ ولو اسميّة بمجرد الكلام ـ من أوساط التجارة والأعمال، فباسم القضاء على الفساد والرشوة وفقدان الانضباط المسلكي في صفوف البيروقراطية قام جنرال من جيش نيجيرية، في آخر ليلة من سنة 1983 بإنشاء «مجلس عسكري أعلى» كلّفه حكم البلاد عوضاً عن وزارة الرئيس المنتخب، فأفلحت الأسباب التي ذكرها زعيم الانقلاب بإسكات أي مقاومة مدنية للانقلاب، إذ كان لها مصداقية في واقع الحال السائدة إبّان الحكم المدني.
وخلاصة القول إنه لا يمكن الحكم على انقلاب ما بأنه انقلاب ملائم للصالح العام أو مناف له إلا حين تتبين أهدافه ومن بعد عواقبه، أهو يبتغي إصلاحاً اقتصادياً، أم تعديلاً دستورياً؟ أهو ردّ فعل، ظلّ مكبوتاً، إلى أن انفجر احتجاجاً على امتهان حقوق الإنسان؟ أم هو استعادة بعض الطبقات أو الفئات امتيازاتها التي فقدتها، أو إبراز لمصالح كان الحكم السابق يتجاهلها؟ ذلك أنّه فيما تقف بعض الانقلابات عند تغيير رموز النظام القائم، فقد تؤدي انقلابات أخرى إذا كتب لها النجاح إلى تغيرات جذرية في السياسة والاقتصاد والمجتمع.
استراتيجية الانقلاب
ليس من السهل قلب الحكومة القائمة إن كانت تمتلك أجهزة دفاعيّة مدرّبة من قوات مسلحة وشرطة وإدارات أمن قادرة، ربما كانت تعضدها قوى سياسية. وفي المجتمعات المتقدمة في بنيتها الديمقراطية يقوم نوع من التوازن بين أحزاب سياسية ثنائية أو متعددة ومصالح اقتصادية فئوية ونزعات محلّية وعرقية، فتمثل الحكومة على الأغلب هذا التنوع والتوازن، ويصبح تصوّر الانقلاب صعباً وعقباه إن حدث مشكوكاً في نجاحها أو دوامها. أمّا في المجتمعات التي لم تتنوع مؤسساتها الديمقراطية فالحكومات غالباً ما تمثل الفريق الأقوى نسبياً وقد تساندها جماعات يهمها الحفاظ على الوضع الراهن، وبذلك تضطرّ الأقلية الراغبة في التغيير إلى ولوج العمل السري، الذي هو خميرة التحضير لإطاحة الوضع الراهن. وأبرز ما يكون هذا العمل في التسلل إلى صفوف القوات المسلحة لتعرف مواطن الضعف فيها والاتصال بالعناصر الناقمة التي لديها استعداد للخروج على النظام السائد، وتهيئة الانقضاض عليه في الوقت الملائم، وتحييد ردود فعل القوى العسكرية والتجمعات المدنية على انقلاب محتمل. وبهذا تكون استراتيجية الانقلاب مختلفة عن استراتيجية الثورة من حيث إن الثورة تبتغي القضاء على قوى سياسية سائدة، ولو أدى ذلك إلى مجابهة دموية طويلة الأمد، واستبدال أيديولوجية ما بأيديولوجية أخرى ونظام جديد بنظام آخر؛ فيما يبتغي الانقلاب الاستيلاء السريع على مراكز القوى الحساسة داخل النظام نفسه، وبأقل مجابهة ممكنة، ليشلّ مقدماً أي مقاومة ممكنة، فيختار بدقة الساعة الملائمة للضربة السريعة في المكان المناسب الذي يفترض أن تصدر عنه أوامر المواجهة، فيعطل آلية الهجوم المضاد للانقلاب، كالاستيلاء الخاطف المحكم على رئاسة الأركان ورئاسة الحكومة ودور الإذاعة والتلفزيون، ومباني السلطة الرئيسة، وإدارة السكك الحديدية ومفاصل القوى الجوية والمواصلات البرّية، مع تحديد مهمة كل وحدة من وحدات الانقلاب بالتفصيل، وإسناد المهمات بأقصى العناية والدقة إلى القادرين على تنفيذها وتزويدهم بالخبراء والفنيين الذين يؤلفون الذكاء المحرك، وتجهيز كلّ وحدة بالعتاد الذي تقتضيه مهمتها، والتأكد من أن جميع الوحدات تُتِم عملها بالتزامن لا بالتتالي مع معرفة تامة ببنية الهدف ومداخله ومخارجه بعثرةً لجهود القوى المضادة وإرباكها في صفوفها والتضاد في أوامرها. فالمفاجأة والسرعة وشلّ أي ردّ فعل ناجع ومهارة القيادة هي من أوائل عناصر استراتيجية الانقلاب.
التحضير للانقلاب
قد يكون اختيار المخطط الرئيسي للانقلاب وإيجاد العناصر البشرية لتنفيذه والقوة النارية الكافية لإنجاحه من أهم مراحل التحضير للانقلاب، ومع ذلك فالتخطيط المفصل ضروري لمعرفة ما يلزم من القوى البشرية والعتاد. وأول ما يجابه المخطط أو المخططين ضرورة وضع الأولويات: أيّ هدف أوّل وأيّ هدف ثان تخصصه قيادة الانقلاب لمرحلة الهجوم. إنّ هذا يتطلب خبرة سياسية وعسكرية معاً. فمن اللازم أولاً معرفة آلية الحكم معرفة تامة حتى يمكن معرفة من يجب تحييده، فمثلاً إذا كان بعض أعضاء الحكومة على اتفاق مع الانقلابيّين فقد يكتفى بتوقيف الرئيس، أو رئيس الوزارة أو الملك أو الحاكم الفرد بحسب الحال؛ وإذا كان هدف الانقلاب تغيير النظام بأكمله تعددت الأهداف والمهام مما يستدعي تخيّرها وتصنيفها، فبعد التخطيط لتعطيل أي ردّ فعل عسكري، عادة يُحتجز كل مسؤول أو سياسي له القدرة على المقاومة، سواء بسبب منصبه أو بما يملك من نفوذ لدى المؤسسات الحكومية أو الاجتماعية. ومثل ذلك التخطيط للأهداف ينطبق على المباني والمنشآت الرئيسية.
ويكتسب التخطيط لتعطيل وسائل الاتصال، سواء بين الأجهزة العسكرية، أو بين المصالح المدنية المهمة، بعداً خاصاً إذ من دون وسائل اتصال لإعطاء الأوامر وكيفية تنفيذها، يتعطل أي تنسيق بين الدوائر العسكرية والمدنية، وبالنظر إلى السرعة القصوى التي تصطبغ بها ضربات الانقلاب، تشل أيضاً حركة الاتصالات عن طريق الأشخاص والأوامر الشفهية.
لقد أخفقت محاولة الانقلاب التي قام بها في الثالث والعشرين من نيسان سنة 1961 الجنرالات الفرنسيّون في الجزائر العاصمة شالّ وزيلّر وجوهو وسالان لأنها اكتفت بالتخطيط للاستيلاء على القيادة العسكرية المركزية في الجزائر وأهملت التخطيط لتحييد القوى المدنية والسياسية في فرنسة.
تنفيذ الانقلاب
المرحلة الناشطة من مراحل الانقلاب هي مشابهة لعملية حربية خاطفة، تستعمل القوة فيها في الوقت المناسب والمكان المناسب، فكأنها عملية جراحية بالغة الدقة تضرب في قلب منظمة الدولة برمتها. وكما أن السرعة مهمة في العملية الحربية فإنها حاسمة في عملية الانقلاب، بيد أن الانقلاب يختلف في وجه آخر عن العملية الحربية من حيث أن هذه الأخيرة تحتفظ بقوة احتياطية كبيرة تدعى للخدمة في مراحل لاحقة من العملية، في حين يستخدم الانقلابيون معظم قواتهم استخداماً كاملاً في أقصر وقت ممكن في مجابهة حاسمة، لا محل فيها لأي خطأ.
في العملية الحربية قد تتغيّر الخطط وتتبدّل الأسلحة ويستفاد من تجارب المجابهة الأولى أما في الانقلاب فلا عودة: إمّا النجاح وإما الإحباط. فكلّ وحدة تنفيذية فيه قليلة العدد ما أمكن سريعة الحركة على الوجه الأفضل، على علم تام بمهمتها، أما القيادة فغير ثابتة في مكان واحد لتمد الوحدات بتوجيهات جديدة، كي لا تتعرض للخطر. وليس لديها احتياط كبير يرفدها، لأنّ مستلزماتها من الرجال والعتاد قد قررت من قبل، وضمن لها التخطيط المسبق والتنفيذ الصحيح كل أسباب النجاح.
ما بعد الانقلاب
تواجه الانقلابيين بعد استيلائهم على مفاتيح السلطة مشكلة تسويغ الانقلاب في أعين الجماهير، وتهدئة الأحوال ليعود الأمن والنظام إلى سياقهما، وتتقبل الفئات الأخرى الأمر الواقع، ويعود الاستقرار لصفوف الجيش، وتظل لحمة الانقلابيين على ترابطها فلا يتسرب الشقاق إليها سريعاً. ومهما يكن شكل الانقلاب أو نوع القائمين به فإن حكم الدولة لا يقوم به شخص واحد، وأكثر الانقلابات تسفر عن قيام حكومة جديدة يكون فيها للعسكريين شأن كبير أو صغير من دون استغناء عن المدنيين من سياسيين وخبراء وبيروقراطيين، وما لم يكن الحكم الجديد على درجة من التلاحم والتنسيق ويلقى قدراً من التأييد والشعبية، ورضىً من أكثرية القوات المسلحة، فقد يؤدي الانقلاب الذي جاء به إلى انقلاب معاكس، يطرح البحث فيه ما يطرحه البحث في الانقلاب الأصلي من موضوعات.
الفرق بين الانقلاب والثورة، من حيث الغاية والوسيلة
إن طبيعة الانقلاب كما بُيّنت أوصافه العامة الآنفة الذكر، مختلفة عن طبيعة الثورة، والانتفاضات الشعبية، فهو ليس هجمة من خارج النظام بقدر ما هو استيلاء على السلطة من الداخل، وهو يكاد يكون حيادياً سياسياً إذا صح القول من حيث إن هدفه هو إبدال فريق حاكم بفريق آخر، تاركاً تقرير اتجاهات السياسة إلى الحكم الذي يعقبه؛ وهو يفترق عن الثورة من حيث أداته وطريقة تنفيذه فهو لا يعتمد على مجابهة الخصم مجابهة شاملة أو التغلب عليه جملة وتفصيلاً بتفوق كاسح للقوة، وإنما يتكون من تسرب قطاع صغير من جهاز الدولة، عسكرياً كان أو خليطاً من عسكري ومدني، إلى حيث يستطيع بفعاليته انتزاع سيطرة الحكومة القائمة على بقية القطاعات. كما تمتاز الثورة من الانقلاب بأن لها هدفاً أعمّ هو تغيير البنية الاجتماعية والسياسية للبلاد لا تغيير الفئة الحاكمة فحسب. وقد يكون الانقلاب ممهداً لإحداث الثورة، وقد يكون من الانقلابات ما هو في الأصل ثوري، لكنّ الثورة تعتمد على الجماهير الشعبية لا على نفر صغير من مدبري انقلاب ما. ولهذا فقد تأخذ عملية تغيير البنية وقتاً طويلاً. وقد تهرق إبانها دماء غزيرة، وتتقلب في مراحل متعددة من الانتصارات والنكسات، فليس فيها آنيّة الانقلاب، وحتمية نتائجه في ساعات عدة، مع تحاشي سفك الكثير من الدماء.
تطور النظرة إلى الانقلاب
مع تطور الحقوق الدستورية في الأكثرية العظمى من بلاد العالم، واعتماد الانتخابات الحرة العامة مقياساً لصحة تمثيل الحكومات والأنظمة لإرادة الشعوب، واعتماد المناهج الديمقراطية البرلمانية في تغيير القوانين لتأتلف مع الصالح العام، ومع انتشار مبدأ فصل السلطات إلى تشريع وتنفيذ وقضاء، وتوزيع الاختصاصات في كل سلطة على عدد من المؤسسات ومنها العسكرية، لكل منها صلاحياتها وحدودها، أصبحت مقولة الانقلاب تبدو إجراء يخالف الدستور والتشريع، وعلى الأخص إن شابتها ظنون أو وقائع بوجود تدخل أجنبي سافر أو مستتر فيها. ومع ذلك فإنّ ما بقي من نزرٍ قليل من نظم دكتاتورية تتنكر لحقوق الإنسان وتقمع بالقوة حرية التعبير عن الإرادة الشعبية، تبقي لهذه الظاهرة شيئاً من صفات الضرورة التي لا مناص منها لتقويم الاعوجاج. على أن هذه الصفات ذاتها تُنْتَقَص مسوّغاتُها إذا حامت الشكوك حول الدوافع الحقيقية للانقلاب، حين يكون من تدبير قوى خارجية قد تأخذ من مظاهر الغيرة على حقوق الإنسان والإسهام في مكافحة المخدرات والرشوة والفساد والقضاء على الجريمة حججاً للتدخل في شؤون الآخرين مع أنّ المحرك الرئيسي للتدخل هو بسط الهيمنة خارج الحدود.
الآثار القانونية المترتبة على الانقلاب
ما وضع الدولة الدولي بعد نجاح الانقلاب؟ هل تحتاج إلى اعتراف جديد بها من الدول الأخرى؟ هل تحتاج إلى طلب جديد للانتساب إلى الأمم المتحدة أم تكتفي بإعلام أمينها العام بهوية وفدها الجديد إن غيرت الوفد السابق؟ كان من جراء اختلاف فقهاء القانون الدولي في قيمة الاعتراف، هل هو منشئ لحق لا يصح التعامل مع الدولة الجديدة من دونه، أم مجرد إعلان لواقع لا فائدة في تجاهله؟ كان من جراء ذلك أن أصبح التعامل الدولي السائد هو الانتقال من النظريات إلى المعايير العملية: هل استوى الأمر للكيان الجديد؟ وهل سُيطر على أراضي الدولة أو أكثرها على الأقل؟ وهل حلّ الاستقرار فيه؟ وهل صدر عنه ما يدل على احترامه للمعاهدات والاتفاقات الدولية التي انضم إليها النظام السابق؟ فإذا تمت هذه الشروط، ولم تقم في البلاد حالة من نزاع مسلح يحشر السكان في أتون حرب أهلية لها أحكامها الدولية الخاصة، فإن التعامل الدولي اليوم يميل إلى عد الانقلاب حدثاً داخلياً، وعد السلطة في المرحلة الانتقالية أمراً واقعاً de Facto ثم يكفي عند مضي المرحلة الانتقالية، وقد لا تتجاوز أياماً، وقيام النظام الجديد، الاعتراف بالرئيس أو الحاكم الجديد حتى يصبح الاعتراف قانونياً كاملاً De Jure، وآخر مراحل هذا التطور في التعامل أنه يكفي مثلاً أن ترسل برقية أو كتاب أو يرسل مبعوث للتهنئة حتى يعد ذلك اعترافاً كاملاً من الدولة المرسلة بهذا النظام الجديد والاستعداد للتعامل معه ضمن أحكام القانون الدولي.
وقد حدث مثل هذا التطور في النظرة إلى ما يتصل بالتعامل داخل الدولة، فإن إبطال ما أبرمته الحكومة السابقة من عقود وما أصدرته من قرارات وتنظيمات يجرّ إلى تعقيدات عملية وقانونية لا نهاية لها، وإلى تعطيل للمصالح العامة، ولذلك فإن النظام الجديد لا يقدم على مثل هذا الإبطال، وإذا شاء التغيير في هذه التعهدات أو إبطال مفعولها فإنما يتبع الأساليب التي نص عليها القانون العام كأنه لم يكن هناك أي انفصام زمني بين عهد سابق وعهد لاحق. ولئن كان الكثير من الانقلابات يلجأ في الواقع إلى توقيف بعض الأشخاص أو يأمر مثلاً بنفي بعض الضباط، إنه من المفروض أن يكون هذا التدبير مؤقتاً ريثما يخضع فيما بعد لأحكام القضاء، وإلا يكون النظام الجديد قد أخل بشطر مهم من الإعلان والمواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان.