مكة.. في واقع حراكنا الثقافي
في الوقت الحاضر نجد لمكّة المكرّمة والعهد المكي النبوي، مكانة متقدّمة نسبيا في معظم الألوان الثقافية أدبا وشعرا وقصة ومقالة ونقدا، وألوان الفنون من عالم الصور إلى الكتابات المسرحية، ولو دخلنا سوقا من أسواق أي مدينة إسلامية، فلن نفتقد وجود مكة والمسجد الحرام في الإبداعات المختلفة، نحتا ونسيجا ورسما ومجسّماتٍ وغير ذلك، وحتى في الأناشيد والغناء أخذ ذكر مكّة المكرمة طريقه إلى عالمها أيضا.
رغم ذلك يمكن القول: مكة المكرّمة غائبة -كنموذج تاريخي- منطلقا لانتشار النموذج الثقافي الذي نحتاج إليه في عصرنا الحاضر، لأنّ التعبير المنتشر المشار إليه ثقافي شكلي، لا يمسّ الأسس والمعايير المطلوبة.
في عالم الأدب عدد كبير من المؤلّفات تتحدّث عن مكة المكرمة، كيف نشأت وتطوّر وضعها عبر التاريخ، وحول مراحل توسعة المسجد الحرام فيها، وفيها ذكر أحداث كثيرة ممّا شهدته، إنّما بقي التأريخ غالبا على العنصر الإبداعي في معظم العطاءات الأدبية.
حتى ما أبدعه شعراء محدثون نسبيا، غلب عليه تكرار صور أبدعها الشعراء الأقدمون، وإن ظهر تفاعل جديد مع أحداث وقعت في مكة المكرّمة، كان -إلا في حالات نادرة- تفاعلا تأريخيا منفصلا عمّا يجب أن يترك أثره في التعامل مع الأحداث الآنية.
هذا ما يعبّر عنه بعض الناقدين بتعبير العودة العاطفية إلى أمجاد الماضي، وموضع النقد هو عدم صياغته لمعالم المستقبل.
ولا نجهل بالمقابل أنّ بعض من يعتبرون أنفسهم هم النخب الثقافية دون سواهم، لا يهمّهم أصلا أمر مكّة المكرمة نموذجا ثقافيا تاريخيا لحراك ثقافي معاصر. فلا نكاد نجد منهم بميزان التوعية الثقافية سوى ربطنا بثقافات نشأت خارج دائرتنا الحضارية، وتفاعلت في حينه مع أهلها ومع أحداث تاريخية عايشوها، وإن أطلقت أقلام الناقلين على ذلك وصفَ الثقافة الإنسانية، فلا يخفى أنّه وصف غير صحيح بحدّ ذاته، ومخطئ من حيث استهدافُه تسويغَ نشر تلك الثقافات في دائرتنا الحضارية، ونحن لا نعاصر وجود ثقافة.. بل ثقافاتٍ إنسانيةً متعدّدة، ومتباينة ما بين اليابان وأوروبا والبرازيل، بل وما بين البلدان المتجاورة في القارة الأوروبية الواحدة.
الثقافات الإنسانية الأخرى تستدعي الاحتكاك بها والتفاعل معها، ولكن لا يوجد فيها ما يمكن وصفه بالثقافة الإنسانية الشاملة، بمعنى الصالحة للنشر في كل أرض، وعند كل شعب، كي تصنع دون سواها القيم والأخلاق والأذواق والجماليات والسلوك والعلاقات البشرية. لم يحدث هذا في تاريخ العالم من قبل، ولا يمكن أن يحدث الآن أو في المستقبل، بل وكان من أهمّ ميزات الثقافة المنتشرة مع انتشار الإسلام وحضارته، ميزةُ عدم إلغائه ثقافات الآخرين، فبقي المسلمون الصينيون والهنود والمالاويون والباكستانيون والإندونيسيون وسواهم على ثقافاتهم، مع تلقيحها بالضوابط الإسلامية، وهو ما كان مع العرب أيضا.
مكة المكرمة كنموذج ثقافي إنساني شامل غائبة في إبداعات تلك النخب الثقافية التي تكاد تحتكر وصف النخبة ووصف الثقافة لنفسها، وقد يكون اسم مكة المكرمة وأحداثها حاضرا في نسبة كبيرة من إبداعات النخب ذات المنطلقات والتوجّهات الإسلامية، ولكن مكّة المكرمة كنموذج حراك ثقافي غائبة عنها أيضا.