مكة.. نموذج الحراك الثقافي
كلمة ثقافة حديثة الاستعمال نسبيا كمصطلح، ولا ينفي وصفها بالمصطلح تعدّد المفاهيم المطروحة لهذه الكلمة، ولا نخوض فيها، إنّما يطرح السؤال نفسه: ما الذي يربط مكة المكرّمة ونموذجها في العهد النبوي، بالثقافة الحديثة النشأة مصطلحا وما بلغتْه من انتشار وتأثير في عالمنا المعاصر؟..
على أنّ الكلام يدور عن المضمون لا التسمية، فتكوين الأمّة صادر كما نفهمه عن عقيدة مشتركة، أو مع التوسّع بالمعنى عن قيم حضارية صاغتها العقيدة في أرض مشتركة لأمّة تضمُّ معتنقي تلك العقيدة ومن يعيش معهم، ولكنّ صياغة العلاقات بين أطياف الأمة، وبينها وبين سواها، هي من إنتاج مبادئ تُعلِّم وتربية تُرسِّخ وتعامل ينطوي على تغيير ما لا يتفق معها، ويُبدِع -استعارةً من المصطلحات الحديثة- عناصر جديدة تتفق مع العقيدة والمبادئ.
ليس أمر الثقافة أمر الوسائل والأشكال، فهذه تتبدّل بتبدّل المكان وتقلّب الزمان، ولكن هو أمر الأسس والمضامين.
بهذا المعنى كان الحراك الثقافي في مكة المكرمة في فترة الدعوة الأولى أكبر حجما، وأعمق أثرا، ممّا شهده التاريخ في أي مكان آخر، إذا أخذنا الفترة الزمنية القصيرة التي استغرقها ذلك الحراك الثقافي بعين الاعتبار، وقارنّاه مثلا بحقبةٍ شهدتها أوروبا بعد قرون، ووُصفت بحقبة الفلسفة الإنسانية مقدّمة لعصر التنوير.
إنّ الآيات المكية، والأحاديث النبوية الأولى المرافقة لها، من قبل الوحي المدني وما فيه من آيات التشريع التقنيني، هي التي صاغت الأرضية الثقافية الأولى للبناء الإسلامي، مجتمعا ودولة وحضارةً إنسانية مترامية الأطراف زمنا ومكانا.
الأخوّة وعصبياتها، العلاقة بين العبودية والحرية، المعاملات اليومية والتجارية، القيمة الذاتية للإنسان، العلاقة بين الذكر والأنثى، التعامل بين الحاكم والمحكوم، التضامن لنصرة الضعيف، اللهو المباح والمحرّم، جميع هذه المفاهيم وأمثالها، كان لها موقعها في بيئة قريش والعرب من حولها ثقافيا، وجميعها تناولته الآيات والأحاديث والمعاملات اليومية، فصحّحت مضامينه، ورسّخت تطبيقاته الأولية، وأوجدت التوازن والتكامل بينه، حتى إذا توافرت شروط التطبيق تشريعا كان التشريع وتطبيقه نتيجة، وكان ميسّرا، وحتى إذا توافرت شروط الانطلاق حضاريا تحرّكت الفتوحات في أنحاء المعمورة خلال فترة زمنية أشبه بالمعجزات تاريخيا.
هل يمكن أن توضع الآن البذورُ الأولى لثقافة الأمّة والأسرة البشرية كما ننشدها، انطلاقا من الواقع الذي نعايشه، لبناء المستقبل الذي نتطلّع إليه؟.. هذا هدفٌ في محور ما نأمل تحقيقه عبر نموذج مكة المكرمة، وعلى أيدي جيل المستقبل تخصيصا.
الثقافة تبدأ بمفاهيمها الأساسية، والوعيُ بسلامتها مرتبط بالمخزون المعرفي الذاتي القائم على العلم بمصدرها ومضامينها وتأثيرها، والهويةُ المميِّزة لكلّ أمة لن تتوافر في هذه الدائرة الحضارية الإسلامية، إلا عبر ثقافة إسلامية عقدية وحضارية، وجميع ذلك يتطلّب النقلة العملية بين واقع قائم وواقع نصنعه بأنفسنا، عبر النقلة المرجوّة بصورة ثقافية سليمة بين الحقبة التي نعيش فيها والحقبة التي يصنعها جيل المستقبل معنا ومن بعدنا.