مكة.. في العطاء الثقافي المطلوب
استحضار نموذج مكة المكرمة في العطاء والإبداع ثقافيا في عصرنا هذا، لا يعني الاستغراق في عملية تقليد محض لِما كان من حراك ثقافي قبل ألف وأربعمائة عام، فمثل هذا التقليد هو ما وقع فيه -ولكن بمنطلقات أخرى-الفريق الذي اعتبر الثقافة الإنسانية القويمة هي ما يؤتى به كما هو ممّا انتشر في الغرب ولو رُبط بما نشأ فيه قبل ألوف السنين، في عصر فيلسوف المثالية أفلاطون، وفيلسوف الواقعية أرسطو، وفيلسوف المتعة أبيقور، ومن سبقهم وتلاهم، ككاتب الإلياذة على خلفية تعدّد الآلهة الإغريقية، ودعاة فلسفة لوجوس على خطى من جعل الكلمة رمزا يميّع مفهوم الألوهية الربانية، لصالح مفهوم فلسفي مبتكر في ذلك العهد، وهو ما انزلق إلى الأخذ به فلاسفةٌ كنسيون ساهموا في ترسيخ التثليث لاحقا.
وقد تكرّر خطأ التقليد بصورة أشدّ عبر محاولة انتساب التنويريين والحداثيين في بلادنا إلى التنويريين والحداثيين في أوروبا قبل قرون، فنقلوا مضامين فلسفاتهم، وتفرّعاتها الثقافية، ولم ينقلوا جوهر أساليبهم، أي معايير تعاملهم مع أحداث عصرهم هم ومعطياته في البيئة التي عايشوها، ليطرحوا هم الجديد فلسفيا حسبما رأوه مناسبا لإصلاحها في حينه.
إنّ الدعوة إلى حراك ثقافي معاصر يستلهم الحراك الثقافي في مكة المكرّمة، تعني الدعوة إلى الأسلوب والثوابت والمعايير والقواعد الأساسية، ممّا تميّزت به الدعوة النبوية في العهد المكي، للتعامل مع معطيات ذلك العصر، تعاملا يوجب علينا أن نتعامل مع معطيات عالمنا وعصرنا تعاملا جديدا، وفق تلك الثوابت والمعايير.
الحراك الثقافي اليوم، لا يتحقق بنشر قصائد شعراء العهد النبوي، أو تقليدها، إلا من باب التأريخ والعبرة والاستفادة. ولكن أسلوب تفاعل حسان بن ثابت شعرا مع الإساءة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك العصر، يمكن أن يفيد في تفاعل جديد، منه الإبداع الشعري المعاصر مع الإساءات المعاصرة إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، أو بأشكال جديدة الإخراج، كما يُطرح مثلا تحت عناوين مواقع شبكية. ويسري شبيه ذلك على التعامل الإسلامي المكّي مع ثقافة الممارسات الطبقية بين سادة ورقيق في تلك الحقبة، فهو يعني في حراكنا الثقافي المعاصر المطلوب، إبداعا جديدا في التعامل مع الممارسات الطبقية التي تنشرها على المستويات الوطنية والعالمية رأسمالية متشدّدة وليبرالية جديدة.
ليس المبدعون مَن ينقلون ما أبدع غيرهم صياغة وتعبيرا وعطاء فنيا، بترجمته، أو بتقليده في وسط مكاني أو زماني أو بيئي غير الوسط الذي تفاعل معه لحظة إبداعه، إنّما المبدع من يأتي بالجديد صياغة وتعبيرا وعطاء فنيا، لإحياء قيم كريمة جرى تغييبها، وأفكار قويمة نفتقد نشرها، سيّان هل كانت نشأتها قديمة أو حديثة.
كلمة نموذج مكة المكرمة ثقافيا، لا تعني إذن تقليد صور تطبيقية ما، بل اتباع أسلوب، كانت أركانه قائمة على ثوابت لا تتغيّر، وعطاءات تتغيّر، كي تتلاءم مع احتياجات آنية.
قد تتشابه عناصر بعض الصور كالتعذيب الهمجي في بطحاء مكة والتعذيب الهمجي في جوانتانامو وأبو غريب وسواهما، ولكنّ العطاء الإبداعي الثقافي، لا يتمثّل هنا في واقعة شراء الرقيق وعتقهم، بل يتمثّل في مكافحة التعذيب والعبودية بوسائل مناسبة للعصر، قد يكون منها نشر ما يوصف بثقافة الصمود والمقاومة والمقاطعة والحملات الاحتجاجية عبر ما يُعرف بالمجتمع الأهلي أو المدني.
إنّ مهمة إحياء الحراك الثقافي المكّي، هي إيجاد الوسائل المناسبة للعصر لمكافحة ما فيه الآن، وفيه الكثير الذي ينتظر من المبدعين في مختلف الميادين، عطاء متجدّدا متواصلا، فاعلا ومتنوّعا ومؤثرا، كما كان آنذاك. وقد كان في كل خطوة من خطواته، وشكل من أشكاله، والوسائل الملائمة لعالمه وعصره، جزءا من تكوين الإنسان القادر على بناء الصرح الحضاري الإسلامي الإنساني من بعد. هذا الإنسان في حاضنة العهد النبوي، حقق النصر على الهيمنة الامبراطورية في عصره، وكم ذا نتساءل اليوم كيف يتحقق النصر على الهيمنة العدوانية في عصرنا الحاضر.
وهذا الإنسان هو الذي سلك طريق البحث العلمي والتقني ونشر المصنوعات والمزروعات في كل أرض وصل إليها ما بين الصين والأندلس، على طريق ابتكار الجديد باستمرار، فنشأ آنذاك ما لم يكن معروفا من قبل، وتواصلت مسيرة التقدم العلمي والتقني البشرية المشتركة، في حاضنة القيم الحضارية التي طرحها الإنسان المكي والمدني المسلم عالميا، وهذا الإنسان هو الذي نحتاج إليه اليوم ليمضي على طريق البحث العلمي والتقني والصناعة والزراعة في أي أرض نوجد فيها، على طريق ابتكار الجديد، لمواصلة ما بلغته المسيرة التقنية والعلمية للبشرية في عالمنا وعصرنا.
ليس التحدي الثقافي الذي نواجهه هو تحدي الإنتاج الثقافي الآخر وانتشاره وتأثيره، ودفع أضراره، ولا محاولة سدّ الأبواب غير القابلة للإغلاق المحكم في وجهه، بعد أن بلغت تقنيات الاتصال الحديثة والتواصل وتشابك المصالح واستقواء المطامع ما بلغته، إنّما التحدّي الثقافي الحقيقي كامن في نوعية الأسلوب الذي نطرحه، وأن يتضمّن معايير القيم الأصلح للإنسان والبشرية، وإبداعَ كل وسيلة جديدة مؤثرة ثقافيا في تكوين الإنسان في عالمنا المعاصر.
هنا بالذات لا يمكن الاستغناء عن الأخذ بالنموذج المكي، مصدرا لتثبيت أركان الأسلوب المطلوب من أجل عطاء جديد، يؤكّد ما نعلمه من الأصل أنّ الإسلام يصلح لكل زمان ومكان، فهذا ما يتمثّل في صياغة الإنسان، المنضبط بضوابط الإسلام، والقادر على التصرّف الأقوم والعطاء الأفضل، في كل زمان ومكان، وهذا ما نتطلّع إليه أساسا لصياغة جيل المستقبل، بقدر متواضع يمكن أن نساهم فيه، وبقدرٍ أكبرَ بكثير يحققه الجهد الذي يبذله جيل المستقبل بنفسه لنفسه ولأمّته ولعالمه وعصره على هذا الطريق.