يعدّ مفهوم المجتمع society من أكثر المفاهيم غموضاً في دراسات علم الاجتماع، على الرغم من وضوحه في المعنى العام، وفي صيغ تداوله بين الدارسين والباحثين من غير المختصين، ذلك أن ما ينطوي عليه المفهوم من معاني ودلالات في دراسات علم الاجتماع لا ينطبق بالضرورة على المعنى الشائع له، فضلاً عن أن الباحثين في علم الاجتماع أنفسهم يستخدمون التعبير في كثير من الأحيان بمعاني مختلفة ترتبط برؤيتهم له، وبالخلفيات الثقافية والعلمية التي تميز بينهم، كما أن الاستخدام اللاتيني لتعبير society بالإنكليزية أو Société بالفرنسية ينطوي على معان لا تستخدم كثيراً في اللغة العربية، وخاصة عندما يحمل معنى المؤسسة أو الشركة أو الجمعية.
وغالباً ما يظهر التباين في المعاني التي ينطوي عليها التعبير في المضامين والأبعاد التي يضمرها المستخدم له، ذلك أن ما يتصوره القانوني عن المجتمع لا يتوافق بالضرورة مع ما يتصوره عالم النفس أو عالم الاجتماع، فكل منهم يستخدم التعبير ذاته، ولكن بتصورات مختلفة ومضامين متنوعة.
فمن وجهة النظر القانونية، المجتمع هو كل تآلف بين شخصين أو أكثر يربط بينهما اتفاق أو عقد شفوي أو كتابي، وقد يكون مضمراً أو معلناً، وتترتب عليه مسؤوليات متبادلة بين الأطراف المشتركة فيه، ولهذا يمكن أن يستخدم تعبير المجتمع باللغات الأجنبية للدلالة على المؤسسات والشركات، حتى إذا كان عدد أفرادها قليلاً، وعندما يستخدم التعبير ينصرف تفكير القانوني بسرعة إلى الالتزامات المتبادلة بين الأطراف المعنية، وارتباطها بأشكال التآلف بينها.
أما عالم النفس فيرى المجتمع مجموعة من العادات والتقاليد والقيم المؤثرة في السلوك الإنساني، وتعدّ عنصراً أساسياً من عناصر البيئة المحيطة بالفرد، وتحفزه إلى ممارسة استجابات سلوكية تختلف باختلاف خصائص الأفراد وسماتهم وطباعهم، والمجتمع وفق هذا التصور هو مجموعة العوامل التي تسهم في تكوين الفرد منذ ولادته حتى مماته، وبما أن الأفراد يخضعون لشروط اجتماعية مختلفة لا تتطابق حتى في حالات التوائم، فإن علماء النفس يهتمون كثيراً بموضوع التنشئة التي يراد بها مجموعة العوامل الاجتماعية المؤثرة في تكوين الفرد.
ويختلف الأمر عند الباحث في علم الاجتماع الذي يجد نفسه معنياً بالدلالات والمعاني التي يضمرها القانوني في تصوره للمجتمع، وبتلك التي يضمرها عالم النفس وعالم الاقتصاد والسياسي وعالم الدين وغيرهم، مع أن رؤيته ليست مطابقة بالضرورة لرؤية أي من هؤلاء، ذلك أن تفكير الباحث الاجتماعي يذهب في الحال إلى الأشكال التي تنتظم من خلالها علاقات الناس مع بعضهم بعضاً، ضمن المجموعات البشرية التي ينتمون إليها، وبين المجموعات البشرية الأوسع، وغالباً ما تظهر هذه الأشكال في العادات والتقاليد والقيم التي تنظم العلاقات القانونية بين الأفراد، وتؤثر في تنشئتهم، وفي منظومة العلاقات التجارية والاقتصادية والسياسية السائدة بينهم.
وتحفل أدبيات علم الاجتماع بتعريفات عدّة لمفهوم المجتمع تتقارب في وجوه، وتتباعد في أخرى، فهو نسيج العلاقات الاجتماعية التي تقوم بين الأفراد، وتهدف إلى سدّ حاجاتهم وتحقيق طموحاتهم وأهدافهم القريبة والبعيدة، ذلك أن لكل إنسان طموحات وأهدافاً يرمي إلى تحقيقها، ويجد في الجماعات القريبة منه ما يساعده على تحقيقها وتلبيتها، حتى أصبحت أهداف الجماعات هي ذاتها أهداف الأفراد الذين ينتمون إليها، وكلما كان التطابق بين أهداف الجماعة وأهداف الأفراد المكونين لها كبيراً كلما كانت الجماعة أكثر قوة وترابطاً، وينطبق الأمر ذاته على المجتمع الأكبر الذي تؤلفه في الغالب مجموعات عديدة من الجماعات، غير أن الجماعة الواحدة لا تتمكن من تحقيق أهدافها وأهداف الأفراد المكونين لها من دون تحقيق مستوى عال من التواصل على أساس التفاعل والتعاون، كما أن الاتصال والتفاعل مع الجماعات الأخرى يسهم في تلبية حاجات الجماعة وتوفير مطالبها وتحقيق آمالها وطموحاتها.
ويُعرّف المجتمع أيضاً بأنه مجموعة من الأفراد تسكن بقعة جغرافية محددة، تسود فيها مجموعة من المبادئ والمفاهيم والقيم والروابط الاجتماعية والأهداف المشتركة التي تميزها من غيرها من الجماعات، والمستمدة من خصوصياتها في اللغة والتاريخ والدين والشعور بالمصير المشترك، غير أن هذا التعريف ينطوي أيضاً على مجموعة من الملاحظات، منها أن أي بعد من الأبعاد المشار إليها لايمكن أن يكون عاملاً من عوامل التكوين الاجتماعي إلا بترابطه مع العوامل الأخرى، إضافة إلى عوامل عديدة أخرى يصعب حصرها، فعلى الرغم من انتماء أبناء العشيرة الواحدة في المجتمع التقليدي إلى مجتمع واحد، غير أنهم لا يستقرون في مكان واحد، ويتوزّعون في بقاع شتى، وقد يتحدّث أبناء العقيدة الواحدة لغات مختلفة على الرغم من وحدة مشاعرهم وأحاسيسهم في كثير من الأحيان.
وتبدو المشكلة شديدة التعقيد أيضاً حتى عند الباحثين في علم الاجتماع، ذلك أن الاختلاف الواسع في التصورات المطروحة لمفهوم العلم وموضوعه، يحمل في مضمونه الاختلاف الأكثر عمقاً لمفهوم المجتمع نفسه، الأمر الذي دعا ريمون آرون Raymond Aron، وهو واحد من أكثر علماء الاجتماع المعاصرين شهرة، إلى القول إن المسألة التي تكاد تكون الوحيدة التي اتفق بشأنها علماء الاجتماع هي صعوبة تحديد موضوع هذا العلم، وفي ذلك ما يدل على أن المشكلة ليست في علم الاجتماع بقدر ما هي في التصورات المطروحة لمفهوم المجتمع.
إن المجتمع الذي يتصوره عالم الاجتماع الماركسي، ويبني على أساسه فهمه لصراع الطبقات والتغير الاجتماعي ليس هو المجتمع ذاته الذي يتصوره عالم الاجتماع الليبرالي في مدرسة التحليل الوظيفي، أو في المدرسة البنيوية، أو في مدارس أخرى، كما أن مفهوم المجتمع في أي مدرسة من هذه المدارس لا يتطابق مع ما هو عليه في المدارس المتبقية، وإن تشابهت عناصر عديدة بين هذه المدارس.
ففي الوقت الذي يقيم فيه التحليل الماركسي تصوراته للمجتمع على أساس مكوناته الطبقية، ويتم التمييز بين المجتمعات تبعاً للتشكيلات الطبقية الإقطاعية والرأسمالية والاشتراكية، يأخذ دوركهايم [ر] Durkheim بدراسة المجتمع على أساس الترابط العضوي لمكوناته، فيميز بين المجتمعات القائمة على التماسك الآلي، وبين تلك القائمة على التماسك العضوي، وتعد نظريته في التعاضد الاجتماعي أو التماسك الأساس الذي بنى عليه دراسة الظواهر الاجتماعية، كما ينظر ماكس ڤيبر [ر] M.Weber إلى المجتمع بوصفه منظومة قيم تحدد أوجه التفاعل بين الأفراد، وتبنى على أساسها أشكال السلوك الإنساني ذي المعنى الذي يمارسه الفاعلون، وهو السلوك الهادف، أما تالكوت بارسونز[ر] T.Parsons (عالم الاجتماع الأمريكي المعاصر) فيرى المجتمع من خلال مفهومه للبنية التي تتكامل فيها المنظومات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والشخصية في نسق وظيفي، والتي تُكوّن في مجموعها الأسس التي يبنى عليها الفعل الاجتماعي.
وغالباً ما تترتب على الاختلاف في المعاني التي ينطوي عليها تعبير «المجتمع» نتائج تتصل بكيفية فهم القضايا الاجتماعية، ففي حين ينصرف الفكر إلى العادات والتقاليد الاجتماعية عند ورود تعبير «التخلف» لدى طائفة من الباحثين الاجتماعيين، ينصرف الذهن لدى طائفة أخرى إلى الفقر وانخفاض مستوى المعيشة، وقد ينصرف الفكر أيضاً إلى مظاهر عدم التوافق بين مكونات التنظيم الاجتماعي لدى فريق ثالث، الأمر الذي يفسر تعدد المعاني والدلالات التي لا ينطوي عليها تعبير المجتمع فحسب، بل معظم المفاهيم المرتبطة به على نحو ما.
وفيما يتعلق بغياب إمكان تحديد المفهوم تحديداً دقيقاً، يمكن تلمس خصائصه في المجتمعات الإنسانية المتنوعة. غالباً ما يصار إلى تحديده بالتوصيف، فـ «المجتمع» بمعناه العام غير قابل للتعيين إلا إذا ألحق بصفة تحدده، كأن يقال المجتمع العربي، أو المجتمع الإسلامي، أو المجتمع الحضري، أو الريفي أو غير ذلك، وعندما ينصرف الذهن إلى واحد من هذه المجتمعات، فإنه ينصرف إلى مجموعة من الخصائص التي تميزه من غيره، في الوقت الذي يستبعد كل الخصائص التي يمكن أن تكون مميزة لمجتمع آخر.
إن كل مجتمع من المجتمعات المتعددة، التي يمكن التمييز بينها على أسس ثقافية أو اجتماعية أو دينية أو إثنية، أو اقتصادية، لا يتميز من غيره بمكوناته فحسب، والتي يمكن أن تكون مظهراً من مظاهر الخصوصية، إنما يتميز من غيره بالشكل الذي تنتظم فيه هذه المكونات، والتي تحدد أشكال التفاعل، وطبيعة الحقوق والواجبات المترتبة على الأفراد في سياق التنظيم العام، فالأسرة في المجتمع الريفي لا تختلف عن الأسرة في المجتمع الصناعي، من حيث مكوناتها فقط (والتي قد تتشابه في كثير من الأحيان)، إنما في منظومة العلاقات التي تحدد أوجه التفاعل بين الآباء والأبناء، وبين الذكور والإناث، وبين الكبار والصغار، وبين الزوج والزوجة، وغيرها، وبذلك تختلف الأسرة الريفية عن الأسرة الحضرية، وينطبق الأمر على اختلاف المجتمع الحضري عن المجتمع الريفي، وكذلك الحال المجتمع العربي عن المجتمع الغربي، وغيره.