البدائي (المجتمع-) Primitive society Société primitive
يستخدم الباحثون في العلوم الاجتماعية، ولاسيما علوم الاجتماع والأنتروبولوجية تعبير المجتمع البدائي Société Primitif للدلالة على معان متقاربة في وجوه، ومتباعدة في وجوه أخرى. فيلاحظ استخدام هذا التعبير للدلالة على المجتمعات الإنسانية التي لم تعرف الثقافة المكتوبة، أو الحضارة التي لم يستخدم أبناؤها اللغة المكتوبة، فتنتقل التقاليد والأعراف والقيم والاعتقادات من الأجيال السابقة إلى الأجيال اللاحقة بالطرق الشفوية، فيحتفظ الأبناء في ذاكرتهم بالصور العقلية والتصورات الذهنية التي يشرحها الآباء لهم خلال مسيرة حياتهم، فتأخذ منهم موقع الصدارة في الحكم على الأشياء وفي القدرة على التمييز بين أشكال السلوك الاجتماعي، ومعرفة ما هو مضر منها وما هو مفيد.
كما يُستخدم تعبير المجتمع البدائي للدلالة على المجتمع الإنساني الذي ينعدم فيه استخدام القواعد الفنية والمنجزات التقنية في شتى المجالات بسبب تخلف الوسائل الفنية وعدم المقدرة على تطوير الأدوات، وخاصة في مجال إنتاج الطعام، والمأكل والملبس، حيث تسهم درجة التطور في هذه الأدوات بمعرفة درجة التطور الاقتصادي والاجتماعي للسكان والمجموعات البشرية.
ويرى كثير من علماء الاجتماع والأنتروبولوجية (وخاصة التطوريون منهم مثل تايلر، ومورغان وغيرهم) أن السبب الرئيس في تخلف هذه المجتمعات يعود إلى أنها عاشت أمداً طويلاً بمعزل عن التيارات الحضارية الكبرى، وعن المجتمعات المتطورة، كالسكان الأصليين في أمريكة وأسترالية، وأن هذا الانعزال قد جعل تطورهم بطيئاً أو معدوماً. كما يعتقد التطوريون أن تلك المجتمعات تمر بمرحلة انتقالية سبق أن مرت بها المجتمعات الأكثر تطوراً.
وبتحليل واقع المجتمعات البدائية يلاحظ فعلاً أن العوامل الثلاثة المشار إليها تسهم في تحديد ملامح الواقع، فغياب التواصل الحضاري مع الأمم والشعوب الأخرى يؤثر بشكل فعال في ضعف القدرة على الإبداع، وإنتاج الأدوات والتقانات يسهم في زيادة الإنتاج وتوفير الخدمات، كما أن غياب الأدوات وانعدام التواصل مع الآخر يسهمان بدورهما في جعل الثقافة مغلقة، وغير قابلة للتجدد، وخاصة إذا كانت الأحوال البيئية لا تساعد على ذلك.
البنية الاقتصادية للمجتمع البدائي
يعتمد المجتمع البدائي نشاطاً اقتصادياً واحداً على الأغلب أو مجموعة من النشاطات المترابطة بعضها ببعض، (كالجمع والالتقاط، والصيد، والرعي، والزراعة البدائية). وقد يلاحظ بعض مظاهر تقسيم العمل بين أفراد الجماعة الواحدة، وخاصة بين الذكور والإناث.
ويعد القنص والجمع من أقدم الحرف التي عرفها الإنسان منذ العصر الحجري القديم، وكانت حتى عهد قريب جداً سائدة في جنوبي إفريقية وشرقيها، وماتزال موجودة في مناطق العزلة حيث يمارسها أقوام وشعوب متخلفة لا تزيد أعدادها على بضع مئات من الآلاف، وأشهر هذه الشعوب البوشمن في صحراء كلهاري، والأقزام في غابات الكونغو الديمقراطية (زائير سابقاً) الاستوائية. كما تحترف مهنة الجمع والقنص أيضاً جماعات صغيرة مثل قبيلة السانداوي في تنزانية، وقبيلة الماجو Majo في جنوبي أثيوبية، وقبيلة الدوروبو Dorobo في شرقي إفريقية، وجماعة الدايم Dime وساني Sanye في كينية.
وللأحوال البيئية يعيش سكان المجتمع البدائي حياة التنقل والترحال، ونادراً ما تقيم المجموعة في مكان ما أكثر من 4أشهر، تنتقل بعدها بحثاً عن الثمار والصيد، تبعاً لأهمية موارد المنطقة وحجمها، وتتوزع في مجموعات قليلة ومبعثرة، يرتبط حجم كل منها بغنى المنطقة بثمار الغابات أو بالحيوانات التي يمكن اصطيادها.
وتأتي مهنة الرعي في مرحلة أكثر تطوراً من مرحلة الجمع والقنص، ذلك أن السكان في هذه المرحلة يميلون إلى استثمار الحيوان بشكل تام تقريباً بعد أن عرفوا إمكانية الاستفادة منه، ومع ذلك تختلف المجتمعات البدائية التي تمتهن الرعي عن البدو مع تشابههما في الكثير من العناصر.
وتنتشر التجمعات السكانية البدائية القائمة على رعي الحيوان في مناطق عديدة من العالم، تأتي في مقدمتها مناطق القبائل الإفريقية، ومراعي السافانا في أمريكة الجنوبية. ويعتمد الرعاة على التنقل من مكان إلى آخر بحسب المرعى، وهم لا يتقيدون بالحدود السياسية بين الدول، الأمر الذي يسبب في كثير من الأحيان الحروب والمشكلات السياسية. كما ينتقل الرعاة من أعالي الجبال إلى أسفلها، وتوجد قبائل تجمع بين الزراعة والرعي.
وتعد مرحلة الزراعة أكثر تطوراً من المرحلتين السابقتين، بوصفها مرحلة استقرار. غير أن المجتمعات البدائية، كما هي الحال في غابات شبه جزيرة الملايو، وجزر إندونيسية، وجزر الفيليبين، وتايلند، ومينمار (بورمة سابقاً)، حيث تنتشر الزراعات البدائية، ويعتمد السكان على الأمطار الموسمية، لا يعرف السكان الدورات الزراعية، وإذا ضعفت التربة غالباً ما تترك الأرض ليبحث المزارعون عن مناطق أخرى ما زالت توصف بالحيوية لاستغلالها زراعياً.
البنية الاجتماعية وعناصر التنظيم في المجتمع البدائي
المجتمع البدائي شديد التعقيد من الناحية الاجتماعية، فالعلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية يمتزج بعضها ببعض حتى يصعب فيها فصل أي جانب عن غيره. وتكشف دراسات «مارسيل موس» لنظام البوتلاتش وغيره عن هذه الارتباطات بقوة، فهو يقوم على مفهوم «الهدية» أو العطاء، إذ تُتبادل الهدايا في حفل ديني مقدس تدعى إليه القبائل المعنية به، فتقام الولائم والذبائح، وتقدم الهدايا طبقاً للمستوى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للأفراد، وفي هذا اللقاء تعقد حفلات الزواج، وتبدأ حفلات التكريس، وتقام الطقوس والشعائر الدينية وتقدم القرابين لأرواح الأجداد، وتمارس عبادة الأسلاف، وتقرع الطبول، وتطلق العطور، بين دخان البخور ووهج النيران. في الوقت الذي يمارس السحرة فيه أعمالهم المتوجبة عليهم في هذا الحفل.
وفي هذا اللقاء تبدأ عمليات تبادل الهدايا، فتنتقل السلع والخدمات والثروات تبعاً للمواقع التي يشغلها الناس في سلم الترتيب الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ويعد رئيس القبيلة من أكثر الأشخاص المعنيين بتقديم الهدايا (البوتلاتشات) عن نفسه وبنيه وزوجته وذويه، وكذلك عن أجداده وأسلافه وموتاه، طلباً لعطف الآلهة، وتقرباً منها. فهذه هي الوسيلة الأكثر فعالية للمحافظة على موقعه في التنظيم الاجتماعي، وفي هذه العطايا شكل من أشكال الاعتراف بفضل الآلهة عليه.
وفي الوقت الذي تحظى به عملية تقديم الهدايا بمكانة اجتماعية بين العشائر والقبائل، يعد قبول الهدية واجباً اجتماعياً أيضاً، ولا يجوز لمن تقدم له هدية رفضها، لأن في ذلك دلالة على الرغبة في الانفلات من قيود الجماعة، والرغبة بالتفرد، أو الرغبة بالتحرر من العقد الجماعي الذي يربط أفراد الجماعة بعضهم ببعض، والذي يجعل منهم كلاً موحداً، مترابطاً، ولهذا يأخذ قبول الهدية طابعاً إلزامياً في بنية التنظيم الاجتماعي القائم على التبادل، كما يعد رد الهدية شكلاً آخر من أشكال الواجبات التي يفرضها النظام الاجتماعي، فهو واجبٌ تقتضيه عملية التكامل في تبادل المنافع.
ويشكل الإحساس بمراقبة الآلهة للممارسات الاجتماعية التي يقدم عليها الأفراد الأحياء بمثابة الحصن الذي يحمي النظام الاجتماعي من الضعف والتشتت، فعدم تقديم الهدايا يسبب غضب الآلهة التي يمكن أن تحرم القادرين على العطاء من الخيرات المتاحة بين أيديهم، وقد يصبحون بسبب بخلهم في حاجة قوية إليها، ولهذا السبب فإن البخل والشح هما من أكبر الكبائر في بنية هذا التنظيم.
كما تبدأ في الحفلات الدينية عمليات التكريس بالنسبة إلى الشباب الذين هم في مرحلة الانتقال إلى الرجولة، حيث يبدأ الشاب الاعتماد على نفسه، ويشعر بحاجته إلى الاستقلال، وعليه أن يمر بعمليات قاسية يمارس فيها مجموعة من الشعائر الدينية والاجتماعية لكي يصبح في عداد الرجال الذي يعتمد عليهم في حياة الجماعة، فيحرم الشاب نفسه من الطعام والشراب، ويترك وحيداً في الغابة، ولفترات طويلة، وقد يتعرض خلالها للصراع مع الحيوانات. ويضاف إلى ذلك ضرورة خضوعه لبعض العمليات القاسية الخاصة، كنزع أسنانه، وتشويه أنفه، وجبهته، بغية قياس قدرته على احتماله للصعاب، ودرجة استعداده لتحمل المخاطر ومواجهة أهوال الحياة الصعبة، وغالباً ما تطالبه القبيلة بالإقدام على إثبات جدارته، كأن يقوم بالسيطرة على حيوان أو قتله بطعنة واحدة، أو القيام بعمل آخر تثبت من خلاله جدارة الشاب وكفاءته.
التوزع الجغرافي للمجتمعات البدائية
يتوزع سكان المجتمعات البدائية في مواقع عديدة من العالم، وخاصة في أمريكا الجنوبية وإفريقية وآسيا، وأغلب وجودهم هو في الأقاليم الطبيعية النادرة السكان، التي تقل فيها الكثافة السكانية عن شخص واحد في كل كم2، وهذه الأقاليم غير صالحة أساساً للعمران البشري، كالمناطق الصحراوية مثل الصحراء الكبرى، والصحراء الإفريقية، وصحراء كلهاري في إفريقية، والصحراء العربية، والصحراء الإيرانية وصحاري أسترالية، وأريزونة في الولايات المتحدة، والصحاري الباردة في أتاكامة (أمريكة الجنوبية) وغوبي والتركستان وشمالي سيبيرية وكل من كندا والدائرة القطبية الشمالية والجنوبية. وتشمل كذلك حوض الأمازون والمرتفعات الجبلية في هيمالايا والألب والبيرينه والأنديز، وغيرها. وتنتشر في جميع هذه المناطق حرف الرعي والصيد والجمع والالتقاط، وتصعب فيها الزراعة لقصر فصل النمو والإنبات، كما هو الحال في المناطق الباردة، وبسبب ارتفاع درجة الحرارة وغزارة الأمطار الدائمة والحشرات التي تعيق التقدم البشري مثل المناطق المدارية والاستوائية وكذلك بسبب فقر التربة والجفاف كما هي الحال في المناطق الصحراوية.
كما تنتشر المجتمعات البدائية أيضاً في المناطق القليلة السكان، التي قد تزيد فيها الكثافة على الشخص الواحد، وقد تصل إلى نحو 25 شخصاً في الكم2 الواحد. وتظهر هذه الأقاليم في المناطق الباردة من شمالي آسيا والمناطق الجافة من وسط آسيا أيضاً ووسط إفريقية المدارية ذات المناطق الملائمة للسكن. ويعتمد القاطنون في هذه المناطق من إفريقية بعيشهم على الصيد والجمع والالتقاط والرعي والزراعة البدائية المتنقلة، أو الزراعة المعيشية التي ينتجها المزارعون للاستهلاك المحلي.
وتؤدي غزارة المطر في إقليمي اللانوس وكامبوس في أمريكة الجنوبية إلى ابتعاد الرعاة من عدة مناطق، وخاصة تلك التي تغمرها المياه، فيضطرون إلى الانتقال نحو المناطق الأكثر ارتفاعاً. كذلك يؤدي فصل الجفاف إلى استحالة الرعي بسبب ندرة المياه الصالحة للشرب وجفاف الأعشاب، ومع ذلك يعتبر رعاة منطقة اللانوس إنتاجهم الحيواني سلعة تجارية لحاجة بعض الدول في أمريكة الوسطى للحيوانات الحية وللحوم والجلود.