[[]]◄ اللغة الشعرية بين القدماء والمحدثين ►[[]]
تمهيد :
غني عن البيان أن الشعر ظاهرة لغوية في وجودها ولا سبيل إلي التأتي إليها إلا من جهة اللغة التي تتمثل بها عبقرية الإنسان وتقوم بها ماهية الشعر أي أن الشعر فاعلية لغوية في المقام الأول ، فهي فن أدائه الكلمة لذا فجوهر الشعرية وسرها في اللغة ابتداء بالصوت ومرورواً بالمفردة وانتهاء بالتركيب ، وإذا كان الشعر تجربة فالكلام تجل لتلك التجربة ولعواطف الشاعر وأحاسيسه في تلك التجربة فالشاعر يعي العالم جمالياً ويعبر عن هذا الوعي تعبيراًُ جمالياً ومن هنا كان الشعر بنية لغوية معرفية جمالية وتحليل بنية اللغة الشعرية يسمح بالكشف عن حيازة الشاعر الجمالية للعالم أي يسمح بالربط بين اللغة والرؤيا .. وإذا كانت اللغة في النثر العادي ، أو العلمي وسيلة للتعبير المباشر عن مقولة ترغب في إيصالها أو توضيحها فإن اللغة في الشعر غاية فنية بقدر ما هي وسيلة تؤدي معني وتخلق فناً ، لذا يحرص الخطاب العلمي أو النثري العادي غاية الحرص علي التقيد بما تواضع عليه أهل اللغة في حين يقوم الخطاب الادبي عامة والشعري خاصة علي التخلي بعض الشئ عن هذه المواضعات متحولات بلغته إلي خلق جديد مغاير لما عليه أصول اللغة في النثر العادي ، وهذا ما يعرف لدي نقاد الحداثة وشعرائها بالعدول أو الانحراف أو الانزياح الذي يعد الشرط الضروري لكل شعر كما يقول جان كوهن .
بنية اللغة الشعرية عند المحدثين :
والمتبصر بما هو رائج عند نقاد الحداثة الشعرية العربية وشعرائها يدرك أن هذه المقولات انتشرت لديهم انتشار النار في الهشيم فمن قائل : إن الشعر يقوم علي خرق العادة اللغوية غلي ناقد يدعو في حداثته إلي تدمير أمور عدة وفي مقدمتها تدمير اللغة (4) .
ولا تعدم أن تجد من يحدثك عن قصيدة نثرية حداثية تقوم علي تكسير قواعد اللغة القديمة وتخريب علاقاتها المتداولة وقوانينها المعروفة (5) .
فجمال لغة الشعر كما يقول أدونيس يعود إلي نظام المفردات وعلاقاتها بعضها ببعض وهو نظام لا يتحكم فيه النحو وبل الانفعال والتجربة وهذه المقولات ونظائرها فيها من التعميم والمغالاة ما يجعل الانزياح في لغة الشعر دعوي مضللة ما لم تتوضح معالم هذا الانزياح وحدوده الكمية والنوعية وإلا تحول الشعر تنظيراً علي الأقل إلي عبث لغوي مقصود لذاته ولا يندر أن يكون ذلك بدوافع أيديولوجية مغرضة لها من الأهداف ما يرتضيه المخلصون للغتنا العربية أولاً ولدور الخطاب الشعري في المشهد الثقافي المعاصر ثانياً ، فالانزياح اللغوي في الشعر كما تصوره الطروح السابقة سلوك يجعل من اللغة الشعرية لغة مختلفة كل الاختلاف عن لغة الخطاب العادي أو العلمي وذلك بدعوي الحاجة الفنية إلي التوسع في بنية اللغة الشعرية ، وقد أشار إلي الخطر في غموض مفهوم مصطلح التوسع هذا أحد الدارسين قائلاً : ( أنه عند التأمل مصطلح رجب وغامض وقابل لأن يمتلئ بأي شئ ، ولعل هذا الغموض المضلل في دلالة هذا المصطلح هو الذي نبه كمال أبوديب علي خطورة اندياح دلالة مصطلح الانزياح في اللغة الشعرية فأكد أن هذا الانزياح لا يصل إلي تحديد الشعرية في إطار الانحراف بلغة الشعر إلي لغة مختلفة مغايرة لها قواعد نحوها الخاصة ، وغني عن البيان أن الغرض من هذا التحفظ الذي أبداه أبو ديب إنما هو الإبقاء علي التواصل بين المبدع والمتلقي وهذا ما يفرض وجود عناصر لغوية مشتركة بين لغة الخطاب النثري العادي وبين لغة الخطاب الشعري إضافة إلي وجود عناصر منزاحة في الخطاب الشعري عما هي عليه في العرف اللغوي فالخطاب الشعري خطاب لغويب يفزع في قالب نظام اصطلاحي يشكل بالضرورة عملية اتصال ولي سهناك من رسالة لا تتضمن عناصر مرجعية مهما كانت الرسالة مشحونة بالقوة التعبيرية ، وهذه العناصر المرجعية تتألف والعناصر المنزاحة الباثة للدفق الشعري إلي عناصر أخري في النص يسميها بعض النقاد عناصر لغوية محايدة فنياً حيادً إيجابياً ، يمكنها من استقبال الدفق الجمالي أو الشعري وبثه في المتلقي فاللغة الفنية كما يقول أحد النقاد مزيج من الطاقتين التعبيرتين بين المباشرة والإيحائية وهذا ما يمكن أن نلمحه في قول الشاعر سعد الدين كليب .
إيه فليبدأ الحلم من حيث شاء فللحلم إزميله العبقري
فشعرية هذا التركيب فيما توحي به الذائقة تكمن في إسناد كلمة (إزميل ) إلي الحلم وإحلال كلمة أخري محل هذه الكلمة في التركيب يزيد ما فيه من شعرية، أو علي الأقل يغيرالبعد الجمالي والدفق الشعري لهذا التركيب فلو قيل للحلم أسلوبه العبقري أو أدواته العبقرية أو أي شئ من هذه البدائل المألوفة في الكلام العادي لأفتقد التركيب ما يوحي به الآن من التمرد علي ما لا يرتضيه الشاعر من معطيات حياته ، ومن الرغبة في تغيير هذه المعطيات بأداة الشعر المعهودة وهي الحلم ولكنه حلم ثوري مصر ، وفي كلمة (إزميل) ما يؤيد هذا الذي نذهب إليه فهو الأداة الحادة المؤثرة في المواد الصلبة القادرة علي التغيير المؤكدة لثورية حلم الشاعر وإصراره علي التمرد والتغيير وعدم الاستسلام ولعل في اكتناه البنية الصونية لهذه الكلمة ما يساعد علي كشف ما نسبناه إليها من شاعرية وجمالية فمقطعها الأول (إز) بهمزته وزايه يوحي بالشدة والإصرار والإزعاج علي نحو يذكر بالإزعاج والشدة الكامنين في ( تؤزهم أزاً ) من قوله تعالي ( ألم ترنا أرسلنا الشياطين علي الكافرين تؤزهم أزاً ) وكل ذلك يوحي بأن جمالية قول الشاعر : فللحلم إزميله العبقري تكمن في الاستخدام غير العادي وغير المألوف المتمثل بإسناد الأزميل إلي الحلم الذي اعتدنا أن ينسب إليه الرهافة والعطف واللين والتغضن والانكسار ، وأما سائر الوحدات اللغوية في هذا التركيب فعناصر عادية حيادية فنياً قد تخلو من جماليتها وشاعريتها أو قد يتغير أفق ذلك إذا ما استبدلنا بكلمة (إزميل) غيرها .
التحفظ الآخر الذي يحس به الدارس حيال ما يعرف بالانزياح لدي نقاد الحداثة وشعرائها يتمثل بالتوقف لدي حديثهم عن الانزياح علي المستوي النحوي والصرفي والمستوي الدلالي وضروراته الفنية فكثيراً ما يكتنف خطابهم النقدي في هذا الصدد التعميم وعدم التمييز بين مستويات الانزياح اللغوي في الشعر .
فالقصيدة التي تنحتب بالجوع كما يقول الدكتور لطفي عبدالبديع لا يرتجي لها أن تكون منظومة كحبات العقد فالمجاعة التي تعصف بالأحياء ليست إلا
مهلكة تصرفهم من موت إلي موت فلا وصف لها إلا بلغة تساوق حقيقته المقلوبة الماحقة .
والذي يمثل إليه المرء أن في هذا المقولة حرصاً غير مقنع علي مطابقة الشكل للمضمون إذ ليس من الضروري أن يعبر عن واقع مضطرب أو مختل بلغة مضطربة أو مختلفة حتي يكون التعبير عن هذا الواقع أميناً صادقاً علي أننا إذا كنا نسلم بأن حرص المقولة السابقة علي مساوقة لغة القصيدة للواقع الذي تعبر عن واقع مضطرب أو مختل بلغة مضطربة أو مختلة حتي يكون التعبير عن هذا الواقع أميناً صادقاً علي أننا إذا كنا نسلم بأن حرص المقولة السابقة علي مساوقة لغة القصيدة للواقع الذي تعبر عنه نابع عن دوافع فنية فإنه لمن السذاجة ألا نعزو إلي دواع أيديولوجية فخر بعض أنصار الحداثة الشعرية بأن يخطئ في اللغة العربية (15) ، والجدير بالذكر أن الدكتور صلاح فضل أشار إلي أهمية العلاقات النحوية في تحديد معالم الرؤيا الشعرية فقال ندرك أهمية فكرة توظيف العلاقات النحوية علي المستوي الدلالي لخلق نماذج الرؤيا الشعرية للعالم ،وهذا يكشف خطأ النظرة الأحادية التي تحصر الشعرية في الخواص التصويرية والرمزية للنص متجاهلة بقية الأبنية المؤسسة للدلالة الكلية ومن أنشطها البنية النحوي (16) يشير ناقد آخر إلي أهمية تعرف البنية النحوية في التعبير عن الرؤيا الشعرية وفي تعرف معالم هذه الرؤية بقوله ( لابد من تعانق النحو مع النص الأدبي والانطلاق من النحو في تفسير النص الشعري إذ أن النص لا يمكن أن يتنصص إلا بفتل جديلة من البنية النحوية والمفردات .
وهذه الجديلة هي التي تخلق سياقاً لغوياً خاصاً بالنص نفسه ، وعند محاولة فهم النص وتحليله لابد من فهم بنائه النحوي علي مستوي الجملة أولاً وعلي مستوي النص كله ثانياً .
واللافت أن رفض القواعد النحوية هو أحد المفاهيم التي دارت حولها علي استحياء الحداثة العربية الاولي ، وأوغلت فيه الحداثة الثانية ، ثم دفعت هذا المفهوم إلي أقصي درجة تجارب الكتابة الجديدة كما يقول الدكتور نعيم اليافي ، أما الدكتور كمال خير بك أحد نقاد الحداثة العربية وروادها فيشير إلي الأهمال الذي يبديه شعراء الحداثة لقواعد النحو وغلي أن هذا الأهمال ناجم عن الجهل بهذه القواعد وأحياناً عن قصد وغصرار بدعوي أن هذا الأهمال شكل من أشكال الهدم وإعادة البناء الذي يطمح الشاعر الحديث إلي تحريكه في اللغة العربية ، لذا ربما وجدت من يدعو إلي التنصل من قواعد هذه اللغة وإلي التحدث بلغة العامة اليومية رغبة في أن تكون لغة الشعر لغة الحياة النابضة التي يعبر عنها هذا الشعر .
وكل ذلك مقولات لا تقوي علي الصمود أمام المناقشة وخير دليل علي ذلك أن رأس المنظرين لها في مرحلة من هذا القرن وهو يوسف الخال تراجع فيما بعد ما لاحظه من القطيعة بين المبدع والمتلقي نتيجة التخلي عن القواعد المتواضع عليها لذلك ينصح الخال نفسه الشاعر الأصيل فأن يعترف بقواعد لغته وأصولها ، وبمبادئ الأساليب الشعرية المتأثرة بهذه اللغة المتوارثة حتي تاريخها الأدبي ، وفي الوقت ذاته يأخذ لنفسه قدراً كافياً من الحرية لتطويع هذه القواعد والأساليب ونفخ شخصيته فيها ، والجدير بالذكر أن اضطراب العوالم الداخلية و الخارجية التي يصدر عنها الشاعر في تجربته لا يعني بالضرورة أن تكون لغة مضطربة اضطراب هذه العوالم إذا ما كان شاعراً مطبوعاً ممتلكاً لأدوات فنه ، فالشاعر المطبوع كما يقول المبرد (385 هـ) أشد علي الكلام اقتداراً وأكثر تسمحاً وأقل معاناة ، وأبطأ معاسرة ، ذلك أنه يعتمد علي طبعه وحدسه الفني الذي يمكنه من المضي إلي مراده ويرشده إلي تشكيل المادة اللغوية وليس من الضروري كما قلنا أن يكون هذا التشكيل مضطرباً اضطراب العوالم المادية والنفسية التي يصدر عنمها الشاعر فاللغة كما يري المعنيون بعلم النفس اللغوي لا تشكل شرط التنظيم الإدراكي ولكنها تنفي هذا التنظيم وتضخمه ، وهذا يؤنس بما يروي من أن بشار بن برد سئل ( بم فقت أهل عمرك ، وسبقت أهل عصرك في حسن معاني الشعر وتهذيب ألفاظه ؟ فقال : لأني لم أقل كل ما تورده علي قريحتي ويناجيني به طبعي ويبعثه فكري ونظرت إلي مغارس الفطن ومعادن الحقائق ولطائف التشبيهات فسرت إليها بفهم جيد ، وغريزة قوية فأحكمت سبرها وانتقيت سرها وكشفت عن حقائقها واحترزت من متكلفها ولا والله ما ملك قيادي قط الإعجاب بشئ مما آتي به ، وهذا يعني أن يتعهد الشاعر خطابه الشعري بضرب من الصيانة اللغوية العقوية المتمثلة بتكوينه المعرفي اللغوي الثقافي العام الذي يصدر عنه فالصرخة ينطلق بها الصوت اندهاشاً وطرباً وبينها وبين الشعر وشيجة نسب وثقي ، وترجمتها إلي كلام بدلاً من الاكتفاء بها هو الأصل الذي ينبجس منه الشعر علي أن هذا لا ينفي أن الشاعر الحق المكون تكويناً لغوياً وثقافياً ناضجاً لا يتلقي اللغة كمادة يتصرف فيها وكأنها معطاة من قبل ، بل إنه هو الذي يبدأ يجعلها ممكنة لأنه أمير الكلام وإمارته هذه ناجمة عن امتلاكه ناصية لغته وتمثله لأسرارها ولطاقاتها التعبيرية بفعل الدربة المؤازرة للطبع فالطبع مجرد طاقة كامنة تتجلي في شكل تهيؤ للإبداع وتبقي هذه القدرة مستسرة ما لم تسعفها الدربة التي تمكن الشاعر من النفاذ إلي القوانين التوليدية التي ينهض عليها الخطاب الشعري وإذا كان الطبع يمكن الشاعر من التهيؤ للنفاذ إلي ما في صلب النظام اللغوي من قوانين فإن الدربة هي التي تضع الطبع علي عتبات تلك القوانين .
ولا تقف الدربة عند هذه الحدود بل تتجاوزها وتؤدي إلي نتيجة أخري غاية في الاهمية إنها تولد ملكة جديدة ترفد الطبع وتبلوره ، وتتجلي هذه الملكة بالقدرة علي الكتابة الواعية مما يجعل الشاعر حاضراً في نتاجه أنه قادر علي تعديل ذلك النتاج غبان عملية الخلق ذاتها . فالشعر فعل واع ، ولو لم يكن كذلك لكان هذيان المجانين وكلام الحمقي شعراً والشاعر الحق هو الذي يدرك أن للغة قوانين ونظماً لا تكون اللغة إلا بها ولا يتمكن من التواصل مع الآخر إلا من خلالها ولكنه يفطن في الوقت نفسه إلي أن اللغة تسمح من حيث تشمس وتبيح من حيث تحجر وتحرم فالنفاذ من الممنوع إلي المباح به يتميز الشاعر عن الشاعر .
وفي ضوء ذلك كله يمكن أن نفهم دعوة غير واحد من نقاد الحداثة الشعرية إلي لغة شعرية متزنة أصيلة مخلصة للعربية بقدر إخلاصها للخطاب الشعري في المشهد الثقافي فعلي ، الشاعر كما يري الدكتور وهب روميه أن يخلق علاقات لغوية جديدة دون أن يخل بقوانين اللغة وأنظمتها ، وأن يزلزل التقاليد الأدبية أو يعدلها وفق الحاجة (28) ، وفي هذا الصدد يقول الدكتور نعيم اليافي أنا مع التطور والتجديد والحداثة الشعرية إلي آخر مدي شريطة أن يتم ذلك ضمن خصوصيتي القومية وتراثي الثقافي ولغتي العربية (29) أما نازك الملائكة فتقول: نحن نرفض بقوة وصراحة أن يبيح الشاعر لنفسه أن يلعب بقواعد النحو ، إن كل خروج علي القواعد المعتبرة ينقص تعبيرية الشعر (30) وقريب من ذلك ما سيأتي فيما بعد عن الدكتور محمد غنيمي هلال .
واللافت في الحديث عن لغة الشعر الحديث تصور أدونيس لعلاقة الألفاظ بدلالتها فمن المسلم به ما يتردد لدي نقاد الحداثة الشعرية وشعرائها من أن دور الكلمة في القصيدة هو البوح والإيحاء الكلي الاحتمالي وغير المحدد وأنها أي الكلمة ليست مطالبة دائماً بالدلالة الواضحة المحددة الأحادية الاتجاه فاللغة الشعرية ذات طبيعة خاصة تعتمد أعتماداً كبيراً علي الألوان والظلال المختلفة التي تثيرها الكلمات وهذا كله مقبول مستساغ علي إلا تثبت الكلمات كلياً عما يربطها بما لها من الدلالات الثقافية والاجتماعية العرفية العامة والمتنوعة التي اختلفت عليها في تاريخ تطورها الطويل ، إلا صارت كلمة ذات دلالة حادثة كلياً قائمة علي الاصطلاح مع الذات علماً أن اللغة منظومة اجتماعية قائمة علي المواضعة وأن التقييد بهذه المواضعة في الخطاب الأدبي عامة ، والشعري خاصة يضمر كما هو معروف وفي هذا السياق يشير أحمد عبدالمعطي حجازي إلي مستويين في لغة الإبداع الشعري ، المستوي العام المشترك والمستوي المكجازي فما دام الشاعر يلجأ إلي استخدام الألفاظ والتراكيب التي يستعملها البائع والصحفي فلابد أن تتضمن قصيده غناصر مشتركة بينه وبين لغة هؤلاء الناس وأما المستوي الآخر فهو الطبيعة المجازية للغة القصيدة (31) ، وغني عن البيان أن كلام حجازي هذا وغيره (32) ، ممن حرصوا علي تحقيق معادلة تلاحم التجاوزي والنمطي وفي قصيدة الحداثة قائم علي أن الشعر في نهاية المطاف فن أداته اللغة واللغة منظومة حدثت القطيعة وتعسر أو تعذر التواصل بين المبدع والمتلقي وما لم تكن للقصيدة دلالة ما كفت عن كونها قصيدة لأنها لم تعد لغة (33) ، فوجود ميثاق بين المبدع والمتلقي أو قسط مشترك من التقاليد الأدبية ومن المعاني ضروري لنجاح العملية التواصلية (24) ، فالشعر مؤسسة تستمد شرعيتها من التاريخ الثقافي ولا دلالة لأي نتاج شعري إلا ضمن تاريخ أدبي ثقافي محدد ، فالمعني كما يقول اصحاب نظرية التلقي إنما تحدده الأعراف والمواضعات التي تحيط بمتلقي النص وقارئه (35) والجدير بالذكر أنه بغياب هذه المواضعات أو ذلك القسط المشترك وذلك الميثاق يفسر جان كوهن الطلاق الذي يشكو منه الشعراء المعاصرون فيقول هناك درجة انزياح حرجة مختلفة دون شك من قارئ إلي آخر ولكننا نستطيع اعتماداً علي الإحصاء تعيين قيمة متوسطة بتجاوزها تكف القصيدة عن إنجاز وظيفتها باعتبارها لغة دالة وربما كان الطلاق الحاصل بين الشعر المعاصر والجمهور بسبب تجاوز الشعر هذه العتبة بسهولة ذلك الطلاق الذي يشكو منه الشعراء الشباب المعاصرون (36) ، فاللغة ليست ملك الشاعر ليست لغته إلا بقدر ما يغسلها من آثار غيره ، ويفرغها من ملك الذين امتلكوها في الماضي وبما أن المبدع يحدد بالرؤيا والاستباق فإن اللغة التي يستخدمها لا تكون لغته إلا بقدر ما يفرغها من ما فيها ويشحنها بالمستقبل .. اللغة الشعرية لا تتكلم إلا حين تنقطع عما تكلمته تتخلص من تعبها ، تقتلع نفسها من نفسها فاللغة دائماً ابتداء والكتابة دائماً ابتداء زمن الشعر وهذا يلاحظ في الشعر التجريدي الذي يقوم علي نزع الدلالات المعتادة للكلمات وإضفاء معان جديدة عليها دون أن يكون لهذه الدلالات مرجعية أخري سوي التجربة اللغوية الشعرية ذاتها (37) مما يعني أن الشعر التجريدي أدائه كلمات تتمتع بنكهة العربي كما هو الحال عند رأس هذا الاتجاه أدونيس (38) الذي يقوم أسلوبه كما يقول نقاده علي ( التحرر من جملة الانساق الأيديولوجية سواء أكانت تاريخية أم معاصرة والعمل علي تحضير اللغة بطريقة متميزة يفصلها عن ماضيها الجماعي قدر وسعه (39) ، يقول أدونيس : أول ما أعمله أفرغ هذه اللغة من محتواها وأحاول أن أشحنها بدلالات جديدة تخرج عن معناها الأصلي (40) .
وكلام أدونيس هذا يذكر بتأكيد الناقد يوسف سامي اليوسف غير مرة أن تنظيرات أدونيس مفتعلة لأنها تقوم علي المبالغة وعلي التطرف (41) ، وأن من مواقف أدونيس المفتعلة قوله : إن اللغة التي يريدها لغة بنوة لا أبوة ، لغة آت لا ماض (42) ، يُضاف إلي ما قاله هذا الناقد أن أدونيس مفرط التفاءل في تنظيره هذا بقدرة الشاعر علي التحكم بدلالة ألفاظه وشحنها بالرسالة التي يبغي إيصالها
( فالكتاب يصوغ النص حسب معجمه الألسني وكل كلمة في هذا المعجم تحمل ممعها تاريخاً مديداً ومتنوعاً وعي الكاتب بعضه وغاب عنه بعضه الآخر ولكن هذا الغائب إنما غاب عن ذهن الكاتب ، ولم يغب عن الكلمة التي تظل حبلي بكل تاريخياتها والقارئ حينما يستقبل النص فإنه يتلقاه حسب معجمه وقد يمده هذا المعجم بتواريخ للكلمات مختلفة عن تلك التي وعاها الكاتب حين أبدع نصه ، من هنا تتنوع الدلالة وتتضاعف ويتمكن النص من اكتساب قيم جديدة علي يد القارئ وتختلف هذه القيم وتتنوع بين قارئ وآخر ، بل عند قارئ واحد في أزمنة متفاوتة)(43) ، وكل هذا يؤيد أنه ليس للشاعر قدرة علي التحكم بدلالات ألفاظه علي النحو الذي تصوره مقولة أدونيس الآنفة الذكر التي يصدر فيها كما يتراءي للدكتور صلاح فضل عن خلاصة رؤيته الخاصة للشعر والحياة القائمة علي التجريد لا علي التعبير (44) ، وهو ما يدل عليه قول أدونيس نفسه العالم فنياً إشارة العالم فنياً إذن ليس موجوداً في العالم بل فيما وراءه وهو بالضرورة نوع من التجري كل مبدع بالكلمة أو بالخط لا يعني بما يراه إلا بوصفه عتبة لما لا يراه ولا تكمن أهمية الصورة في سطحها المرئي ، بل في كونها عتبة لمعني ما وباباً يقود الناظر إلي ما وراء الغيب أو المجرد سواء أكان في الذات أو في الطبيعة (45) . ولا شك أن هذا النزوع الصوفي السوريالي المغالي هو الذي أفضي بأدونيس إلي التعامل مع الكلمة الشعرية تعاملاً إلغازياً قريباً من الإصطلاح مع الذات إن لم يكن كذلك تماماً ، مما جعله يُغلق باب عالمه الشعري في انتظار قارئ المستقبل الذي قد يجئ كما يقول أحد النقاد (46) ، وكل ذلك جعل من أدونيس مؤسس نسق معرفي رؤيوي تجريدي تائه فيما هو حدسي وغرائبي وميتافيزيقي عن وعي الحداثة في نظر صاحب وعي الحداثة (47) ، وقد يكون الأمر كذلك أن الغرض الأساسي من الحداثة غرض تنويري لذا كانت دعوة أدونيس إلي الرؤيا الحدسية والميتفيزقية والعمل بهذه الدعوة الحدسية والميتفيزيقية من النقاد والشعراء ولاسيما القائلين بالواقعية كما يقول الدكتور سعد الدين كليب (48) ، فقد رفض هؤلاء هذا الطرح لمفهوم الرؤيا معتبرين أن الرؤيا الاجتماعية الثورية التي تتناغم وحركة الواقع هي الرؤياء الحقيقية التي علي شعر الحداثة إن يُصدر عنها وأن يعمقها في الواقع والنص معاً . فليس ثمة رؤيا يمكن أن تنفصل عن الرؤية ، لهذا فدعوي التجاوز والتخطي التي يدعيها شعراء الرؤيا ليست في حقيقتها سوي مقولة وهمية ، لا أساس لها من الصحة (49) في نظر الدكتور كليب في السياق يقول ناقد آخر : لا يدفعني الخطاب الشعري عند أدونيس تنظيراً علي الأقل للتعاطف مع قضية الغموض التي تقودنا للوقوف عندما نسمع شاعراً مثل أدونيس يعترف بأنه يعتمد الإكثار من الإنزياحات اللغوية وأنه يدخل خطابه الشعري إلي الغموض مُحملاً القارئ أو الملتقي مسؤولية عدم الارتقاء لمستوي الوصول إلي الدلالات المطلوبة في النص (50) .
بنية اللغة الشعرية عند القدماء
والذي أود أن أعرض له فيما سيأتي من هذا البحث هو أن ما لاحظناه في الحداثة الشعرية العربية المعاصرة من الدعوة إلي خصوصية اللغة الشعرية المتمثلة بالانزياح دعوي حديثة وافدة قد يكون لها من المعطيات التي اكتنفت ظروف نشأتها في مواطنها ما قد يفسر هذا التطرف وتلك المغالاة المتمثلين بعدم رعاية حرمة قواعد اللغة بقصد أو بغير قصد علي اختلاف مستوياتها ،وحداثة هذه العدوي ، ووفادتها فيما أقصد تتمثلان بهذا التطرف ، وتلك المغالاة فقط فخصوصية اللغة الشعرية من انفعالية ،وتوليد وتجديد وما لذلك من أثر في بنية اللغة أمر مألوف عند القدماء ممارسة وتنظيراً لذلك تجد من يحدثك عما للأقسام العروضية في الوزن السداسي من أثر في البنية المورفولوجية لكلمات البيت في إلياذة هو ميروس (51) ، وتقف علي شئ من ذلك في الفكر اللغوي عند العرب ، فهذا حمزة بن الحسن الأصبهاني (350 هـ) يري أن الشعراء (لابد أن يدفعهم استيفاء حقوق الصنعة إلي عَسف اللغة بفنون الحيلة لما يدخلونه من الحذف عنها أو الزيادة فيها ومرة بتوليد الألفاظ علي حسب ما تسمو إليه هممهم عند قرض الأشعار (52) .
وأما ابن السراج (316هـ) فيري أنه ربما وجدت الشاعر من القدماء الفصحاء يحوجه الوزن إلي قلب البناء أو يحتاج إلي المعني فيشتق له لفظاً يلتئم به شعره (53) . ويخبرنا ابن جني (392هـ) أن أصحابه كانوا يتعقبون رؤية وأباه ويقولون تهضماً اللغة ، وولداها وتصرفاً فيها غير تصرف الأقحاح فيها يُضاف إلي ذلك أن الضرورة الشعرية في تراثنا مع ما للباحث من تحفظات (55)، علي دواعي نشأتها وعلي أصول عمل معظمهم بها تمثل عند بعض أئمة العربية خصيصة من خصائص اللغة الشعرية فهي ليست دائماً أمراً معيباً ، بل ربما كانت مظهراً من مظاهر الاقتدار الفني (56) ، وهي نزوع لغوي موظف خاص بالشعر ، ولعل هذا ما يفهم من قول سيبويه (187هـ) وليس شئ يضطرون إليه إلا وهم يحاولون به وجهاً (57) ، وربما اتضحت معالم الوجه الذي يحاوله الشاعر في الضرورة أكثر عند ابن جني (392هـ) حيث يقول :
( متي رأيت الشاعر قد ارتكب مثل هذه الضرورات علي قبحها وانخراق الأصول بها فاعلم أن ذلك علي ما جشعه منه ، وإن دل علي جوره وتعسفه فإنه من وجه آخر مؤذن بصياله وتخمطه ، وليس يقاطع دليل علي ضعف لغته ، ولا قصوره عن اختيار الوجه الناطق بفصاحته بل مثله في ذلك عندي مثال مجري الجموح بلا لجام و وارد الحرب الضرورس حارساً من غير احتشام فهو وإن كان ملوماً في عنفه ، وتهالكه فإنه مشهود له بشجاعته ،وفيض منته ألا تراه لا يجهل أن لو تكفر في سلاحه أو اعتصم بلجام جواده لكان أقرب إلي النجاة وأبعد عن الملحاة ، لكن جشم ما جشمه علي علمه بما يعقب اقتحام مثله إدلالاً بقوة طبعه ، ودلالة علي شهامة نفسه ، ومثله سواء ما يحكي عن بعض الأجواد أنه قال : أيري البخلاء أننا لا نجد بأموالنا ما يجدون بأموالهم ، إننا نري في الثناء بإنفاقها عوضاً منحفظها بإمساكها (58) ، فأبن جني في هذا النص لا يري إتيان الشاعر بما يسمي ضرورة معلماً من معالم الضعف اللغوي بل يري ارتكاب الشاعر للضرورة مغامرة لغوية تصوره ثائراً منفعلاً بما يعتمل في نفسه غير عابي بما تمنعه أصول اللغة وما تبيحه إذا ما كان في ذلك ما يوحي بصدق تجربته وعميق تأزمه النفسي ، فالمغامرة اللغوية الممثلة بالضرورة الشعرية كما تتراءي لابن جني تجلو ملابسات التجربة وتحمل أبعادها النفسيه وتشبع نوازع هذه الأبعاد عند الشاعر كما تشبع المغامرة الحربية نوازع الفارس الشجاع إلي الظهور والإدلال بالشجاعة والقوة ، وكما يشبع الجود بالمال رغبة الجواد في المدح والثناء وكل أولئك لا يندر أن يتجاوزا الحدود المرعية فيما يمارسونه بغية نوازع نفسية خاصة بكل منهم ، ولم يربط ابن جني المغامرة اللغوية المتمثلة بالضرورة الشعرية بإنجازها النفسي فحسب بل وظفها في خدمة المعني ، وتوضيح المراد . لذا تراه بعد أن عرض ما عرض في هذا الصدد يقول : ( فاعرف بما ذكرنا حال ما يرد في معناه وأن الشاعر إذا أورد منه شيئاً فكأنه لأنسه بعلم غرضه وسفور مراده لم يرتكب صعباً ولا جشم إلا أمما ، وافق ذلك قابلاً له ، أو صادف غير أنس به إلا أنه قد استرسل واثقاً وبني الأمر علي أنه لس ملتبساً (59) ، فابن جني يري أن الشاعر في الضرورة يأتي بما يوحي بالمعني المراد إيصاله سواء أجاء هذا المعني بقالب يرضي المعنيين باللغة ، أم لم يجئ وكأني بابن جني في موقفه هذا يمهد الطريق لظهور مذهب في تراثنا لا يسفر الضرورة بالحاجة إلي المحافظة علي الوزن والقافية ، بل بما يتطلبه المعني المراد التعبير عنه وفي ذلك يقول الإمام الشاطبي (790 هـ ) قد يكون للمعني عبارتان أو أكثر واحدة تلزم فيها الضرورة إلا أنها مطابقة لمقتضي الحال ، ولا شك أنهم في هذه الحال يرجعون إلي الضرورة لأن اعتناءهم بالمعني أشد من اعتناءهم باللفظ (60) ويبدو بوضوح ما أشرنا إليه قبل من أن الضرورة الشعرية عند بعضهم ضرب من الاقتدار الفني فيما يراه بهاء الدين السبكي (763هـ) من أن الضعف في الكلام نسبي فالسبكي يري أن ( الضعف ربما كان في النثر دون الشعر ، لأن ضرورة الشعر كما تجيز ما ليس بجائز قد تقوي ما هو ضعيف ، فعلي البياني أن يعتبر ذلك فربما كان الشئ فصيحاً في الشعر غير فصيح في النثر (61) .
وقد عرض فلاسفة الحضارة العربية الإسلامية إلي خصوصية اللغة الشعرية ، فقد قسم أبو النصر الفارابي اللغة قسمين : اللغة النمطية ،وهي لغة البرهان أو العلم واللغة التجاوزية وهي لغة الخطابة أولاً ثم الشعر (62) ، ويرد ابن سينا الحيل في لغة الشعر إلي نسب بين الأجزاء (63) ، فاللغة ذات الألفاظ الحقيقية المستولية تخالف اللغة الشعرية ، إذ أن لغة الشعر ليست للتفهيم ، بل للتعجيب كما يقول ابن سينا ، أما ابن رشد فيري أن فضيلة القول الشعري العفيفي أن يكون مؤلفاً من الأسماء المستولية ومن تلك الأنواع الأخر المنقولة الغربية والمغيرة والشاعر حيث يريد الإيضاح يأتي بالأسماء المستولية وحيث يريد التعجب والإلذاذ يأتي بالصنف الآخر من الأسماء وكأن الشاعر يجب ألا يفرط في الأسماء غير المستولية فيخرج إلي حد الرمز ولا يفرط في الأسماء المستولية فيخرج عن طريق الشعر إلي الكلام المتعارف (64) .
وبعد فلا بد من الإشارة إلي أن خصوصية اللغة الشعرية أو مغايرتها مألوف الكلام المنثور العادي سواء أأسميناها ضرورة أو أنزياحاً ، أو عدولاً أو انحرافاً ( مظهر واضح تتجلي فيه الفردية الفنية بشكل بارز (65) ، ومهمة النقد الكشف عن البعد الجمالي ، أو الفني لهذه المغايرة التي إذا لم يكن لها فاعلية فنية ما عدت قصوراً في تمثل الشاعر للغته ، وفي قدرته علي توظيفها وحسن استثمارها فنياً وجمالياً .
نماذج تطبيقية
وهذا يقتضينا أن نحسن الظن ما أمكن بالشعراء المتمرسين وإلآ ننظرهم إليهم دائماً بمنظار التصويب والتخطئة بل نحاول استكشاف أسرار تراكيبهم التي تبدو من وجهة نظرنا مخالفة لما هو مألوف فربما عمدوا إلي هذه التراكيب سعياً وراء معني متساوق مع المعني الشعري للقصيدة (66) وقد يكون من ذلك ما نقف عليه أحياناً عند الشعراء من حذف للفاعل مع أنه عمدة لا تقوم الجملة الفعلية إلا به ومع ذلك حذفوه وهذا الحذف يُفسر أحياناً بعدم تعلق غرض الشاعر بذكر من قام بالفعل الذي يخبرنا به ، فيري البلاغة في حذف ما لاغض له في ذكره ورب حذف أبلغ من ذكر كما يقول عبدالقاهر الجرجاني (67) .
وهذا ما يمكن أن نلمسه في قول النابغة الذبياني (68) :
يا دار مية بالعلياء فالسند
أقوت وطال عليها سالف الأبد
وقفت فيها اصيلا كي اسائلها
عيت جواباً وما بالربع من أحد
إلا أواري لأياما أبيينها
والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد
ردت عليه أقاصيه وليده
ضرب الوليدة بالمسحاة في الثأد
ففي البيت الأخير روي (ردت) (69) بالمبني للمعلوم ، ونصب اقاصيه بفتحة مقدرة ، وفي ذلك محظوران من حيث النحو أولهما إسكان حرف الاعراب المفتوح وهو الياء في (أقاصيه) وهذه ضرورة ، وثانيهما إضمار فاعل (ردت) وجعله ضميراً غير مفسر باسم ظاهر متقدم ، وهذا فيما أميل إليه حذف للفاعل لا إضمار له ، وجعله ضميراً مستتراً مفسراً باسم ظاهر مقدراً احتيال من النحاة لأنهم لا يجيزون حذف الفاعل لأن الجملة صناعياً لا تقوم إلا به ، لذا يرون أن فاعل ردت هنا ضمير تقديره هي تعود علي الأمة المحذوفة لأنها معروفة والذي أميل إليه أن الفاعل لم يحذفه في هذا البيت لأنه معروف ، بل لأن الشاعر معني هنا بالحدث لا بمن قام به ، أي معني بالرد ، لا بالراد ، لأنه معني بوصف حال هذه الآثار ، ومال آل إليه أمرها ، لا بمن آل بها إلي ذلك ، لذا حذف الراد لكي ينصرف اهتمام السامع إلي ما يهتم به الشاعر وهو الرد فحذف الشاعر الفاعل لأن عرضه لا يتعلق به فذكره فضول ، لذا آثر بلاغة الحذف والإيجاز ، يؤيد صحة هذا التسويغ لحذف الفاعل في هذا البيت روايته الأخري (ردت عليه أقاصيه ) بالمبني للمجهول فمعروف أن أحد الأسباب الرئيسة لاستعمال المبني للمجهول هو هدم تعلق غرض المتكلم بالفاعل المحدث بل بالحدث نفسه ، وهو ما يعبر عنه بالمبني للمجهول .
والانحراف اللغوي الآخر اللافت في رواية هذا البيت بالمبني للمعلوم هو إسكان حرف الإعراب المنصوب وهو ( ياء ) أقاصيه وهذا الإسكان استجابة لغرض فني يتمثل بالانسجام الموسيقي للبت الناجم عن وزنه علماً أن الإسكان هنا لا يخل بالمعني ، لأن المعني مفهوم من السياق عامة لا من الحركة الإعرابية يؤنس بذلك أن المعني في اللغة العربية لا يتوقف دائماً علي ظهور الحركة الإعرابية وفي هذه الحال تتمثل وظيفة الإعراب بالمحافظة علي سلاسة البنية الإيقاعية للجملة العربية (70) ،وانسجامها فقط ، وإذا كان هذا الانسجام يتحقق في سياق تركيبي ما كما في البيت السابق بإسكان حرف الإعراب ضحي الشاعر بالحركة الإعرابية في سبيل هذا الانسجام الصوتي الفني خاصة إذا لم يترتب علي هذا الإسكان غموض في دلالة التركيب وربما كان حذف الفاعل علي النحو السابق ناجماَ عن وضوح المعني كان تدل عليه قرينة ما مما يجعل التصريح به فضول قول لا يليق بالنص الشعري فيعدل إلي بلاغة الحذف إيجازاً وإعجازاً وذلك نحو قول الشاعرة (71) :
لقد علم الضيف والمرملون
إذا أغبر أفق وهبت شمالاً
ففاعل (هبت) هي الريح ولم يجر لها ذكر ولكن ذكر الهبوب وجهته واغبرار الأفق قرائن استعمالية كفيلة بالبوح بالفاعل وكأنه مصرح به ، لذا كان حذفه هنا متفقاً وطبيعة لغة الشعر القائمة علي البوح والإيحاء .. ومن الانزياحات النحوية الموظفة ما عيب علي المتنبي من إثبات هاء السكت وتحريكها وصلا في قوله (72):
واخر قلباه من قلبه شبم ومن بجسمي وحالي عنده سقم فقد (73) عيب علي المتبني إثبات هاء السكت وتحريكها في ( واحر قلباه ) فهذه الهاء عند البصريين لا تثبت إلا في الوقف ثم إن ثبتت فهي ساكنة دائماً لذا عابوا علي المتنبي إثباتها وصلا وتحريكها والجدير بالذكرا إن إلقاء الضوء علي الموقف الانفعالي الذي قيلت فيه قصيدة هذا البيت يوحي بملائمة هذا الانزياح لانفعالية الموقف كما يوحي بقدرته علي التعبير عن مشاعر الغضب اللاهية وعن الألم النفسي الحاد الذي عاشه المتنبي نتيجة إيقاع خصومه بينه وبين سيف الدولة ، فكان أن عاتب المتنبي سيف الدولة بقصيدته هذه محملاً إياها عتاباً له ، فجاءت قصيدة لاهبة حارة ، وذلك في موقف انفعالي مضي يتصاعد بالتصادم بين المتنبي وخصومه ، وقد مثل ذروة هذا الموقف الانفعالي (74) ، قول المتنبي : واحر قلبها ذلك التشكيل النحوي الذي أعطي به ال شاعر ما لا سبيل إلي إعطائه بصياغة أخري ترضي النقاد اللغويين (75) ، يؤذن بذلك النظر إلي هذا التشكيل النحوي في ضوء إحساس المتنبي العميق بالألم والذبول والجفاف تلك المشاعر التي تتضح بها بعمق واسي شديدتين هاء (قلباه) العميقة في المخرج والمسبوقة بألف بلغت مداها في المد ، إنه مقطع يتصف باندياح في الصوت وعمق في المخرج يناسبان عمق أحاسيس الألم والغضب واندياحها ، أنه التفجير المبدع لطاقات البنية اللغوية المنجزة لهذه التجربة ومن الانزياحات اللغوية الموظفة فنياً في لغة الشعر إشباع الفتحة وجعلها ألفاً في قول سعد الدين كليب (76) :
قد كان يعرفني الطل
تعرف خطوي الأزقة
والياسمين وتلك الملاك
تمر كمر الندي
يلفح القلب منها اشتهاء
تغمغم : ( دعنا نراك )
فاللافت في هذا النص قول الشاعر : ( دعنا نراك ) باطلاً ألف (نراك) والظاهر نحوياً حذف هذه الألف فالفعل مجزوم بكونه جواب الطلب ويمكن أن يفسر عدم حذف الألف بالضرورة الشعرية كما يمكن أن يوجه التركيب علي غير وجه والمناسب أن يفسر هذا الانزياح بما للألف من القدرة علي البوح بالمشاعر والأحاسيس العميقة المعتملة في نفس هذه الملاك التائقة لرؤية من تحب ، نقول ذلك لما لاحظه النقاد من أن شعرنا الحديث حافل بتوظيف الحركات الطويلة في حمل المشاعر الممتدة والأحاسيس العميقة (77) .
خاتمة المطاف
وبعد فما أو أن أختم به حديثي هذا هو أن خصوصية اللغة الشعرية التي تترك معالمها الواضحة علي نتاج هذا الشاعر أو ذلك الجيل من الشعراء مهما بالغنا في بيان معالمها وفي بيان أثرها وأهميتها تبقي استعمالات فردية تمثل خصوصية الشاعر الفنية واللغوية ، ولكنها لا تقوي علي إحداث تغيير ذي بال في بنية اللغة المشتركة النحوية والعرفية خاصة ، لأن التغيير اللغوي المجتمعي نتاج فعل المجتمع لا الفرد ، فاللغة ظاهرة مجتمعية أولاً وآخراً علي أن ذلك كله لا ينفي أن يترك هذا الشاعر أو ذلك بصمات لغوية في شعر شاعر أو جيل من الشعراء مما يوجد أحياناً تقاليد أدبية لغوية تطغي في عصر دون آخر .( فقد احتفظت لغة الشعر كما يقول الدكتور محمد غنيمي هلال علي مر العصور بمقومات فنية ما زالت تنمو بفضل عباقرة الشعراء والنقاد في مختلف الآداب وانتهت إلي العصر الحديث وأثرت في أدبنا نحن في صياغته ومعانيه ولا ينال هذا التأثير في شئ من اللغة ألفاظها ، وقواعدها فهذا ما لم يقل به أحد من المجددين الذين يعتد بهم في أدبنا العربي أو في الآداب العالمية الأخري ولم يدر في خلد هؤلاء المجددين أن ينالوا من اللغة أو يهونوا من شأن المعرفة الدقيقة لأسالبيها ومعانيها .