الجنس : العمر : 36 كوكب الأشباح التسجيل : 06/09/2011عدد المساهمات : 512
موضوع: 【♣】◄ وعـــي الحــداثــة الشعرية ►【♣】 الجمعة 11 نوفمبر 2011, 6:18 pm
【】◄ وعـــي الحــداثــة الشعرية ►【】
( دراسات جمالية في الحداثة الشعرية )
كـلمة أولـى
لقد تمّ النظر إلى الحداثة الشعرية، في النقد المعاصر، ومن منظورات عدّة متباينة ، سواء أكان ذلك فيما يتعلق بتحديدماهو جوهري فيها. بحيث يخيل للمرء أن النقد المعاصر لم يكد يترك جانباً من جوانب الحداثة، من دون معالجة تحليلية أو تناول نقدي. وواقع الحال أن ذلك النقد قد أسهم إسهاماً فعّالاً في تحديد الحداثة الشعرية وبلورة أطروحاتها الفنية والجمالية . ولايرتبط الأمر بما هو نظري وحسب، بل بما هوتطبيقي تحليلي أيضاً. ولانبالغ إذا ماذهبنا إلى أن الحداثة قد أنجزها النقاد تنظيراً، مثلما أنجزها الشعراء إبداعاً. ومن حق النقد المعاصر أن يفخر بما أنجزه، ومن واجبه أيضاً أن يواصل التفكير والمعالجة والمراجعة لما أنجزه نقدياً، ولما ينجزه الشعراء إبداعياً.
غير أن ذلك لايؤدي إلى الزعم أن النقد قد قال كلمته الفصل في شأن الحداثة الشعرية. فليس ثمة كلمة فصل في الشعر ـ والفن عامة ـ كما أنه ليس ثمة كلمة فصل في العلوم الإنسانية، والنقد واحد منها . ومن ذلك فإن هناك شرعية مستمرة للمقاربات النقدية الجديدة جزئياً أوكلياً. ولعل هذا يكون سبباً وراء مقاربتنا النقدية هذه، التي لانزعم لها الجدّة. بل نزعم لها الاختلاف وبصرف النظر عن تقويم هذا الاختلاف إيجاباً أو سلباً، فإنه يعود أساساً إلى انطلاق هذه المقاربة من علم الجمال. وهو مالم تتم الإفادة منه في النقد المعاصر، إلا بشكل جزئي حيناً، وبشكل عرضي حيناً آخر. وذلك بخلاف هذه المقاربة التي تتأسس على علم الجمال، من دون أن تغفل ماأنجزه النقد الأدبي بشأن الحداثة الشعرية.
تقوم هذه المقاربة النقدية ـ الجمالية على مقولة محورية، مفادها أن الفن عامة هو نتاج الوعي الجمالي السائد والمشروط بالبنية المجتمعية العامة. وهو مايعني أن الفن لايمكنه أن يتبدّل، مالم يكن ثمة تبدّل في الوعي الجمالي. وهذا لايحدث بمعزل عن التبدلات الحاسمة في تلك البنية المجتمعية. أي أن الفن ليس انعكاساً مباشراً للواقع، بل هو انعكاس للوعي الجمالي المشخّص تاريخياً من جهة، والمشخّص فردياً من جهة ثانية.
إن الفن هو الأكثر قدرة على تبيان ذلك الوعي وتجسيده وتمثلّه. ولايتبدى ذلك في طبيعة المعالجة الجمالية للواقع فحسب. بل يتبدى أيضاً في التقنيات الفنية التي ليست ، في الحقيقة، سوى تمظهر حسي لما هو معنوي جمالي مجرّد. فثمة ، إذاً ، علاقة جدلية بين الوعي الجمالي والشكل الفني. ومن هنا فإن مقاربة ذلك الوعي لاتتمّ، على النحو الأمثل ، إلا من خلال مقاربة الشكل الذي هو الوعي متمظهراً. أو لنقل إن الشكل الفني هو شكل الوعي الجمالي . ولذلك فإن أي تبدّل في الوعي سوف ينعكس تبدلاً في الشكل. غير أن هذه المسألة لاتتمّ ميكانيكياً، أو بطريقة حتمية. فقد يتمكن الشكل من استيعاب تبدلات الوعي غير الجذرية أو الجوهرية.
وتأسيساًعلى ذلك، فقد نظرنا إلى الحداثة الشعرية على أنها حداثة في الوعي الجمالي أولاً. ولايمكن لنا فهم الاختلاف والتميّز بين النص الحداثي من جهة، والنص الكلاسيكي والتقليدي المعاصر من جهة أخرى، مالم نأخذ بالاعتبار الاختلاف والتميز بين الوعي الجمالي لكل منهما. ولكن إذا ما كان الوعي الجمالي هو المنطلق في تبيان الحداثة، فإن هذا لايؤدي بنا إلى إغفال الشكل الفني، ألم نقل إن هذا انعكاس لذاك. مما يعني أن حداثة الوعي تنعكس حداثة في النص.
لن نطيل في عرض منطلقات هذه المقاربة النقديةـ الجمالية، ففصول الكتاب كفيلة بذلك. ولكن مالابدّ من قوله هو أننا حاولنا أن نعي الحداثة بشكل نقدي. فإذا استطعنا ذلك نكون قد أسهمنا، قدر الطاقة، في بلورة الحداثة جمالياً، وإذا عجزنا أو أخفقنا، فليس أمامنا إلا أن نعيد القول في ما قلناه.
تمهيد:
على الرغم من أن الموضوع في الرواية العربية قد احتل مكانة خاصة، في النقد الأدبي العربي المعاصر ؛ غير أنه يمكن التوكيد أن موضوع الحداثة الشعرية هو الموضوع الأكثر إشكالية وحرارة ، في ذلك النقد. ولعل هذا ينهض من أهمية الشعر التاريخية ، في الذوق الجمالي العربي ، كما ينهض من أن الحداثة نفسها ، قد طرحت عدة إشكاليات فنية وجمالية ، بالنسبة إلى الذوق السائد ، من جهة ، وبالنسبة إلى مفهوم الشعرية POETICS من جهة أخرى . وقد لانبالغ إذا ماذهبنا إلى أن ما صاحب هذه الحداثة من مقاربات نقدية ، ومن خلاف بين مؤيد ومعارض ، كان له الأثر الكبير، في تطور النقد المعاصر ، وبلورة الكثير من مفاهيمه النقدية . ولكن ، في المقابل، لم يكن لهذه الحداثة أن تتعمق وتتبلور ، لولا ذلك النقد الذي كانت قضية التحديث الشعري إحدى قضاياه الأساسية . ونودُّ أن نسجل في هذا المجال، أن قضية التحديث الشعري قد شغلت النقد الأدبي الحديث ، منذ أوائل هذا القرن . أي منذ أن ظهرت مدرسة الديوان التي كانت لها المبادرة الأولى ، في الهجوم على كل ما هو تقليدي، في الشعر العربي . وإذا ماوضعنا في الاعتبار أن الأطروحات النقدية، لهذه المدرسة، أكثر أهمية من نتاجها الشعري ، ولاسيما في بداياتها الأولى ؛ فإن ذلك يعني أن قضية التحديث الشعري قد ظهرت بوصفها قضية نقدية ، أولاً . وقد يبدو من الطريف أن نشير إلى أن النقد الحديث ـ والمعاصر طبعاًـ بعكس النقد العربي القديم ، على هذا المستوى . فبينما كان هذا النقد مدافعاً عن عمود الشعر ، والأصول الجمالية المتوارثة ، وحذراً من أي تجديد ، يمكن أن يأتي به شاعر ، حتى فيما يخص الصورة الفنية والمعاني الشعرية ؛ فإن النقد العربي الحديث راح يضيق ذرعاً بما هو تقليدي ونمطي، في الشعر، مثلما راح يدعو إلى ضرورة التفرد والتميز، لاعلى صعيد موقع التحديث من التراث الشعري فحسب. بل على صعيد الشعراء المعاصرين فيما بينهم أيضاً. ولعل تقويم هذا النص أو ذاك بالتقليدية والنمطية يكون من أكثر التقويمات التي يستخدمها النقد الحديث والمعاصر سلبية.
إن قضية التحديث، إذاً، هي قضية النقد، بقدر ماهي قضية الشعر الحداثي. ولهذا لاغرابة في أن يتأثر كل منهما بالآخر، من حيث التعمق والبلورة؛ ولاغرابة أيضاً في أن تتعدد المقاربات النقدية حول الحداثة ومسوغاتها وأسباب نشوئها ومستوياتها وتياراتها. بحيث إن التعرض لكل ذلك يقتضي بحثاً مطولاً قائماً بذاته. وهو مالايستطيع هذا المبحث أن يقوم به، بشكل مسهب. ولهذا، لم يكن بدُّ من الإيجاز الذي لايخلّ بموضوعه.
النقد ونشأة الحداثة:
لقد ذهب النقد المعاصر، في تفسيره لنشأة الحداثة الشعرية، عدة مذاهب مختلفة فيما بينها. وهي التفسير التأثري التثاقفي، والتفسير الاجتماعي، والتفسير النفسي ـ الذوقي. وإن يكن التفسيران الأولان هما الأكثر شيوعاً، في هذا النقد.
أما من حيث التفسير التأثري التثاقفي. فقد تم النظر إلى المثاقفةacculturation مع الغرب الأوربي هي الأساس في نشأة الحداثة. وهي مثاقفة من طرف واحد. ولهذا فإن مستوى التأثر أوضح من مستوى التفاعل أو التبادل الثقافي، في هذه المثاقفة. وغالباً مايكون إليوت هو محور هذا التفسير. بمعنى أن لإليوت من التأثير في نشأة الحداثة، ما يمكن أن يصل إلى درجة الدافع الجوهري. يقول أسعد رزوق في ذلك" إن المثال الإليوتي كان منهجاً احتذى حذوه الكثيرون من شعرائنا وتأثروا به وساروا في خطواته"(1). وثمة من يذهب إلى " ان كل مذهب سياسي وفلسفي وأدبي يظهر في أوربا ينعكس بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على الواقع (المقصود: الواقع العربي المعاصر). حتى نرى تأثيره في الكتابة شعراً ونثراً، وفي طرق التفكير والسلوك"" (2). ومن ذلك فقد نشطت الدراسات النقدية التي تربط بين الحداثة العربية وأسسها الأدبية الغربية. وتستجلي مظاهر التأثر، ونقاط الاتفاق والاختلاف، وما إلى ذلك. مما يتعلق بمقولة المثاقفة بوصفها أساس الحداثة.
والحقيقة أن الناظر، في مثل هذه الدراسات، يكاد يخرج بأن مشروعية الحداثة لاتتأتى من بنية المجتمع العربي المعاصر، بقدر ماتتأتى من التأثر الثقافي النخبوي بالغرب الأوربي. سواء أكان ذلك، على صعيد التجديد الإيقاعي، أم التصوير الفني، أم التعامل الأسطوري، أم الموضوعات الشعرية. وقد يبدو من المفيد أن نشير إلى أن الدكتور عز الدين إسماعيل الذي يحترز من الأخذ بهذا التفسير، يجد نفسه مدفوعاً إلى ربط ظاهرة المدينة ، وظاهرة الحزن، في الشعر العربي المعاصر، بإليوت وقصيدته " الأرض اليباب". وذلك على الرغم من توكيده أن الواقع العربي هو الذي أفرز هاتين الظاهرتين(3).
ويذهب التفسير الاجتماعي إلى ربط ظاهرة الحداثة الشعرية بالأطروحات الإيديولوجية لطبقة البرجوازية العربية الصغيرة. بحيث تبدو الحداثة انعكاساًreflection لمجمل التغيرات الاقتصادية التي أصابت بنية المجتمع العربي المعاصر، مع بروز تلك الطبقة. فلا يمكن فهم الحداثة بحسب ذلك ، من دون فهم تلك التغيرات، ومن دون فهم الطبيعة الطبقية أيديولوجياً ونفسياً، للبرجوازية الصغيرة عامة، والعربية منها خاصة. وعلى الرغم من أن هذا التفسير يؤكد أن الصراع الاجتماعي" في التحليل الأخير لايكفي وحده لتفسير الفن، إلا أن هذا الصراع لايمكن إلا أن يتجلى في الفن، وبواسطته . بل إنه في بعض المراحل يغدو جوهرياً وحاسماً"(4).
نقول: على الرغم من ذلك، فإن هذا التفسير قد تعامل مع الحداثة على أنها إحدى الأطروحات الأيديولوجية للبرجوازية العربية الصغيرة. وبما أنها كذلك ، فإنها تتصف بما تتصف به هذه البرجوازية من ترجّح أيديولوجي ونفسي، ومن ثورية أو عدمية، وذلك بحسب موقعها من المشهد الاجتماعي. أي بما أن هذه البرجوازية ليست متبلورة أيديولوجياً، بشكل نهائي أو شبه نهائي، فإن اشتمال الحداثة على ماهو ثوري وعدمي، يغدو أمراً بديهياً. وبذلك فقد أعيدت مظاهر الحزن والقلق والضياع والعدمية والاغتراب والثورية والتوتر الانفعالي التي نواجهها في شعر الحداثة، إلى طبيعة الشاعر الحداثي، من حيث هو برجوازي صغير. يقول وفيق خنسة في شعراء الحداثة " إنهم يتمحورون حول مشجب البرجوازية الصغيرة، ثم يتوزعون على درجاتها ومستوياتها وألوانها، كما توزعوا عملياً على أحزابها وفئاتها وتنظيماتها" (5). ويقول، خنسة في محمد الماغوط، بعد أن تناول شعره بالنقد"هذا هو كشاعر، فمع من نصنفه؟ بمعنى هل ندرسه كشاعر؟ أعتقد أن ذلك ليس مهماً تماماً، ولكن الأكيد أنه ليس واقعياً اشتراكياً، ولارمانتيكياولابوهيمياً، ولارجعياً. إنه حصيلة هذه كلها. إنه نموذج صادق وصريح لمثقفي الريف الفقراء الذين هبطوا إلى المدينة، ولم يثروا، كما أنهم لم ينضموا إلى صف الثورة التي تمثلهم"(6). أي أن الماغوط برجوازي صغير، بكل مايعنيه المصطلح.
وعلى الرغم من أن جمال باروت يحترز من الربط الميكانيكي بين الشعر وأيديولوجية البرجوازية الصغيرة، إلا أنه يذهب، في حديثه عن شخصية الملعون، في شعر أنسي الحاج، إلا أنه "المثال الجمالي النموذجي للبرجوازي الصغير، الآبق، المارق، الذي لايحسّ المجتمع إلاخنقاً لفرديته، ومحقاً ولعناًله، في حين يرى مروقه ثورته الوحيدة"(7).
ولكن ماتجب الإشارة إليه. في هذا المجال، هو أن ثمة عدة مستويات من التفسير الاجتماعي، لنشأة الحداثة الشعرية. وتترجّح هذه المستويات بين جعل الحداثة انعكاساً مباشراً لأديولوجية البرجوازية الصغيرة، وبين النظر إلى الحداثة على أنها نتاج اجتماعي ـ أيديولوجي، من دون اعتبارها انعكاساً سلبياً لتلك البرجوازية. أي من دون ربطها المباشر بما هو اقتصادي، في الواقع العربي. وقد يبدو أن هذا التفسير، بتركيزه على ماهو اقتصادي وأيديولوجي، ينفي عملية المثاقفة مع الغرب الأوربي، غير أن الأمر ليس كذلك. إذ إنه يؤكد هذا المثاقفة، ولكن من خلال الضرورات الاجتماعية العربية. يقول الدكتور فؤاد المرعي في ذلك: إن "التأثر بالغرب لم يكن سبباً في التغيرات التي طرأت على أدبنا الحديث، بقدر ماكان نتيجة لتلك التطورات الاجتماعية"(. فلا يمكن، وهذه الحال، أن تكون ثمة مثاقفة مع الخارج، من دون أن تكون مفروضة من الضرورات الاجتماعية الداخلية ذات الطبيعة الأيديولوجية(9).
أما بالنسبة للتفسير النفسي ـ الذوقي، فإنه يربط بين الحداثة الشعرية والتغيرات التي أصابت كلاً من الطبيعة النفسية والذوقية العربية، تحت تأثير المستجدات التي جاء بها القرن العشرون. ولعل الدكتور محمد النويهي من أهم القائلين بهذا التفسير. حيث يرى أن التناظر أو السيمتريةSYMMETRY التي يتصف بها الشعر العربي التقليدي، لم تعد تتلائم والطبيعة النفسية والذوقية المعاصرة. إن "نوع الإيقاع الذي تعرفه القصيدة العربية التقليدية لم يعد صالحاً لحاجاتنا الفنية والنفسية والذوقية... وإن درجة الانتظام التي يتطلبها شكل القصيدة التقليدية زائدة الإسراف في السيمترية والرتوب"(10). ومن ذلك، فإن النويهي يذهب إلى أن " البحر العربي المأثور ذو موسيقى حادة بارزة، شديدةالجهر، عنيفة الوقع على طبلة الأذن، عظيمة الدرجة من التكرار والرتوب. وهذه طبيعة ينفر منها ذوقنا الحديث ولم تعد آذاننا تحتملها، وأصبحنا نراها شيئاً بدائياً لايعجب به إلا ذوو الأذواق الفجة التي لم تنضج"(11). ولكي يؤكد مايذهب إليه، فإنه يقارن بين الإنسان البدائي والطفل ، من جهة، وبين الإنسان المتحضر و الناضج، من جهة أخرى ،فيرى أن الإنسان البدائي والطفل لايعجبهما سوى الحاد والفاقع والعنيف من الروائح والألوان والأنغام ؛ على حين أنه كلما " نضج الإنسان وارتقت ثقافته ونما ذوقه وتهذّب حسه، صار أميل إلى الألوان الخافتة والروائح الخفيفة التي لاتشمّ إلاهوناً، والأنغام الدقيقة المختفية التي تحتاج إلى ذكاء وإرهاف سمع حتى تُلتقط وتتابع"(11)
وبشكل عام، فإن ثمة تغيراً ماقد طرأ على الطبيعة النفسية والذوقية العربية. وهو ماجعلها تنفر من كل مايتنافى معها، على صعيد الشكل الشعري الموروث، وعلى أصعدة أخرى مختلفة أيضاً. ومن ذلك، فإن الميل إلى انجاز التحديث الشعري هو، في أساسه، تعبير عن الاختلاف في تلك الطبيعة . أي أن شعر الحداثة هو الشعر الأوحد الذي يمثل النفسية والذوق المعاصرين، في حين أن الشكل القديم لم يعد" يصلح للنهوض بحاجاتنا الشعرية المعاصرة"(12).
تلك هي أهم التفسيرات التي اقترحها النقد الأدبي المعاصر، لنشأة الحداثة الشعرية. ولكن ماينبغي قوله ، هنا، هو أن ذلك الاختلاف في التفسيرات لايؤدي إلى نوع من القطيعة فيما بينها. إذ إن النقد المعاصر عامة يرى أن ثمة ضرورة حقيقية لوجود الحداثة الشعرية ، في المجتمع العربي. فسواء كانت المثاقفة هي الأساس أم كانت البنية الاجتماعية الاقتصادية، أم الطبيعة النفسية والذوقية؛ فإن ضرورة الحداثة تبقى هي المنطلق ، لتلك التفسيرات . وعلى الرغم من أن القول بالمثاقفة يربط الحداثة بماهو خارجي، فإنه يرى المثاقفة مع الغرب الأوربي هي ضرورة ثقافية وحضارية، للخروج من شرنقة الركود والجمود التي انحصرت فيها الثقافة العربية طويلاً. بمعنى أن ثمة حاجة في الثقافة العربية إلى الدخول في مثاقفة مع الغرب الأوربي.
الأنساق النقدية:
وإذا كان النقد المعاصر قد اشتمل على عدة تفسيرات مختلفة، لنشأة الحداثة؛ فإنه قد اشتمل أيضاً على عدة مقاربات نقدية، لما هو جوهري فيها . أي أن نقاد الحداثة يختلفون فيما بينهم حول المستوى الجوهري أو الأكثر أهمية ، في الحداثة الشعرية، والذي جعل منها نمطاً من الإبداع الشعري، مختلفاً عن الشعر الكلاسيكي. ويمكن أن نحصر هذه المقاربات بعدة أنساق. وهي: النسق الموسيقي، والنسق الأسطوري، والنسق الصوري، والنسق الرؤيوي . وهي، كما نلحظ، تكاد تشمل معظم الجوانب، في الحداثة الشعرية . وإذا كانت هذه المقاربة النقدية أو تلك ترى أن الجوهري أو الأهم في الحداثة ، يكمن في أحد هذه الأنساق، فإن ذلك لايعني عدم الأخذ بغيره. بل يعني أن غيره أقل أهمية منه في تحديد ماهو جوهري في الحداثة، مع الإشارة إلى أن بعض النقاد يميلون إلى الأخذ بعدة أنساق معاً، معتبرين إياها محددات أساسية للحداثة. وسوف نتوقف، بشكل موجز ، عند كل واحد من تلك الأنساق.
أما النسق الموسيقي، فيؤكد القائلون بجوهريته أن أهمية الحداثة الشعرية تكمن في خروجها على نظام البيت الشعري الكلاسيكي القائم على تفعيلات محددة سلفاً. هذا البيت الذي يشكل أساس القصيدة العربية موسيقياً، والذي يحيل على نمطية عروضية، لم تعد تتلاءم والذوق المعاصر من جهة، ولم تعد تتلاءم وطبيعة الانفعال الشعري من جهة ثانية. بحيث يصح التوكيد، بحسب هذا النسق، أن الخروج على ذلك النظام هو في ذاته دخول في الحرية التي تميز التجربة الشعرية، ومن دونه لن يتمكن الشاعر العربي من التعبير عن تجربته بالشكل الأمثل. ومن ذلك، فقد تمّ النظر إلى محاولات الرمانتيكية العربية، في تجاوز النمطية، من خلال بعض التنويعات والتلوينات الموسيقية، على أنها نوع من تجميل القيد. يقول النويهي في ذلك:"ومن العبث أن نظن أن إلغاء القافية والروي أو تنويعهما في القصيدة الواحدة مع الاحتفاظ بهذا الشكل الهندسي السيمتري الشديد الانتظام والرتوب يكفي لتخفيف حدة الجرس أو ضيق القيود الشكلية. وهذا شبيه بمايفعله المحكوم عليه بالإعدام شنقاً حين يطلب إلى "عشماوي" أن يوسع حول عنقه قليلاً حتى لايؤلمه"(13).وبهذا المعنى، فإن بقاء نظام البيت هو السائد لايؤدي إلا إلى بقاء القيد على رقاب الشعراء، ولن تنفع كل المحاولات الموسيقية الجزئية، لتجاوز النمطية، في وصول الشاعر إلى التعبير عن تجربته، بشكل حر وأصيل. إذ إن المشكلة الجوهرية تكمن أولاً في سميترية ذلك النظام. هذه السيمترية التي لم تعد تتلاءم، كما لاحظنا سابقاً، والطبيعة النفسية والذوقية المعاصرة.
إن مايذهب إليه النويهي، كانت نازك الملائكة قد ذهبت إليه من قبل، حين رأت أن ثمة أسباباً خمسة أوجبت وجود الشعر الحر، بحسب مصطلحها. وهي النزوع إلى الواقع، والحنين إلى الاستقلال، والنفور من النموذج، والهرب من التناظر، وإيثار المضمون(14). وقد يبدو أن بعض هذه الأسباب لاعلاقة له بالنسق الموسيقي، من مثل السببين الأول والأخير. غير أن كل هذه الأسباب تحيل، في نهاية المطاف، إلى ذلك النسق. إذ إن لها جميعاً منطلقاً واحداً وهو الإحساس بضيق نظام البيت الشعري. فالنزوع إلى الواقع لن يتيسر للشاعر، في إطار هذا النظام. تقول، تحت هذا السبب "أما القيود التي تضيّق آفاق الأوزان القديمة، فهي تلوح للفرد المعاصر ترفاً وتبديداً للطاقة الفكرية في شكليات لانفع لها، في وقت ينزع فيه هذا الفرد إلى البناء والإنشاء وإلى إعمال الذهن في موضوعات العصر"(15). وترى نازك الملائكة، تحت السبب نفسه، أن الشعر الحر يصلح للتعبير عن الحياة الواقعية، لأنه "يخلو من رصانة الأوزان القديمة"(16). وترى، تحت السبب الأخير"إيثار المضمون"، أن الشكل التقليدي يتحكم بالمضمون الشعري، لما فيه من دقة وتنظيم وتناظر، وهو مايجعل الشاعر يضحي بمعانيه من أجل الحفاظ على ذلك الشكل. أما الشعر الحر، فهو "في جوهره، ثورة على تحكيم الشكل في الشعر"(17)، في محاولة لجعل المضمون، لاالشكل، هو الأساس.
وبشكل عام ، فإن الميزة الجوهرية لشعر الحداثة تكمن، بحسب هذا النسق، في المستوى الموسيقي من النص الشعري. فالتحديث الموسيقي قد أتاح للشاعر أن يتخلّص من القيود التي تمنعه من التعبير عن تجربته الشعرية، وعن واقعه المعاصر تعبيراً حياً، ينبض بالحرية والجمال الفني.
وبما أن النسق الموسيقي هوالجوهري، في الحداثة، فلاغرابة في أن تتوالى الدراسات التي تتناول هذا النسق بالبحث والمعالجة، وأن تختلف فيما بينها حول الشكل النهائي الذي يمكن أن يأخذه شعر الحداثة، على الصعيد الموسيقي، ولن نتعرض، هنا، إلى الحديث عن ذلك ، إلا أنه لابأس من الإشارة إلى أن نازك الملائكة كانت من أكثر المتحمسين إلى "قنونة" هذا الشكل. وهو مايتنافى أساساً والمنطق الذي انطلقت منه في اعتبار الحرية شرطاً من شروط الشعر الجديد؛ وهو الذي جعلها تستخدم مصطلح "الشعر الحر" في وصف هذا النمط الشعري الجديد.
وإذا كانت الملائكة قد رأت أن التفعيلة هي الأساس الموسيقي، في هذا الشعر، فإن النويهي يرى أن التفعيلة هي المرحلة الأولى، من مراحل التجديد الموسيقي. إذ ينبغي على هذا الشعر أن يستكمل تجديده بالخروج من النظام الكمي إلى النظام النبري. أي بالخروج من نظام التفعيلة إلى نظام النبر(18). ولهذا لاينبغي أن نرى في " وحدة التفعيلة العروضية إلا كمرحلة انتقال ، كقنطرة يعبر عليها شعرنا إلى ميادين أعظم اتساعاً، وتطوير أبعد مدى وأعمق جذرية"(19). وعلى الرغم من إقرار النويهي بأن ثمة اختلافاً في القراءات على صعيد قواعد إيقاع النبر، وأن ثمة نوعاً من التطور فيها(20)، غير أنه لايرى حرجاً من توكيد الإمكانية في إنتاج الموسيقا الشعرية العربية، من خلال نظام النبر.
والحق أن ماافترضه النويهي قد وجد صدى كبيراً عند الكثير من النقاد، ممن يتبنون المنهج البنيوي، فراحوا ينظّرون لإمكانية إنشاء موسيقا شعرية خالية من التفعيلة، وقائمة على نظام النبر. وفاتهم في ذلك اختلاف مواقع النبر، بين اللهجات المحلية العربية(21). وغني عن البيان أن البنيويين العرب قد أعطوا النسق الموسيقي، من شعر الحداثة، أهمية خاصة تكاد تفوق أي نسق آخر. وذلك لطبيعة البنيوية التي تهتم بما هو لغوي وصوتي، في المقام الأول. ومن المعلوم أن البنيوية قد تابعت الشكلانيين الروس في معاملتهم للشعر "على أنه استخدام أدبي جوهري للغة: فهو كلام منظم في بنيته الصوتية الكلية. والإيقاعRHYTHM هو عامله الأساسي الأكثر أهمية"(22). أي أن البنيوية العربية قد تعاملت مع هذا النسق، بشكل نقدي ممنهج، يفترض أن الإيقاع أو الموسيقى مسألة جوهرية في الشعر. وبما أن معظم البنيويين العرب قد تحمسوا لنظام النبر، فلم يكن بدٌّ من أن يفترضوا أن الموسيقا الشعرية يمكن أن تكون داخلية لاخارجية، ومعنوية لاحسية. وهو ماجعل من مصطلح الموسيقا الداخلية يبدو وكأنه بدهي، في الدراسات النقدية المعاصرة.
ونرى أن هذا المصطلح من أشدّ المصطلحات التباساً وغموضاً في الوقت نفسه. إذ إن الموسيقا الشعرية لايمكنها إلا أن تكون حسية. ولأنها حسية، فهي خارجية بالضرورة. وذلك بصرف النظر عما إذا كانت حسية الموسيقا الشعرية سمعية أو بصرية أو كليهما معاً. أما السبب في هذا، فينهض من أن كل ما في الفن عامة، هو حسي بالضرورة. وحتى ماهو معنوي لايمكن إلا أن يتبدّى فنياً بشكل حسي. ولهذا فمن الطريف أن يذهب مروان فارس إلى أن "الإيقاع لايمكن أن يكون إلا داخلياً لأن علاقته بالصور والأفكار علاقة سببية لايمكن عزلها"(23). ولاندري ماالذي يجعل من الإيقاع داخلياً، إذا كانت له علاقة سببية بكل من الصور والأفكار؟. وهل الصور الفنية هي معنوية أو حسية، ثم هل تأتي الأفكار في شعر الحداثة إلا مصورة، بشكل حسي؟.
إن مالايمكن تظهيره حسياً، في الفن، لايمكن أن يكون مادة له. ولاغرابة في أن يضطر الشعر الصوفي، في تمثيله لما هو روحاني، إلى الإتكاء على الرموز ذات الطبيعة الحسية، من مثل المرأة والخمرة والكأس..إذ إن الشعر، والفن عامة. إما أن يكون حسياً، أو لايكون. ولاشك في أن ثمة فرقاً بين التمثيل الحسي، في الفن، وبين الوعي الحسي الذي هو مرحلة من مراحل الوعي البشري.
ويذهب النسق الأسطوري إلى " أن الشعر المعاصر قد تأسس منذ أن ولجت الأسطورة كبعد بنيوي شعوري إلى جسد القصيدة، أي منذ ظهور"أنشودة المطر" للسياب ، في أوساط الخمسينات، وليس مع كسر العمود الشعري التقليدي، أو الخليلي، في أواخر الأربعينات، وإن كان هذا الكسر هو الشرط القبلي الضروري لاتخاذ الأسطورة نهجاً شبه صوفي للرؤيا الشعرية"(24). وبهذا المعنى، فإن النسق الموسيقي ليس له تلك الأهمية التي مرت بنا سابقاً. بل الأهمية الكبرى يتصف بها التعامل الشعري الحداثي مع الواقع ، من منظور الأسطورة.
ويرى يوسف اليوسف أن الأسطورة لم تدخل إلى الشعر، لكي تكون "بمثابة عتلة رافعة للقصيدة. وإنما جاءت بوصفها الرؤيا الشعرية نفسها، وبوصفها جوهر التركيب البنيوي للقصيدة عينها"(25). ولكي يؤكد ذلك ، فإنه يذهب إلى تعداد المنافع الفنية التي قدمتها الأسطورة إلى الشعر، فيرى أنها خمسة. وهي: تعميق الكيف الدرامي للقصيدة، وإعطاء المفاهيم والتصورات بعداً شخصياً، وإعطاء المضمون بعداً كونياً، والتخلص من الزمن أو تعطيله، والتعبير عن رغبة الشاعر في التطهر والتجدد.(26).
أي أن الأسطورة لم تدخل في بنية النص الحداثي فحسب. بل دخلت أيضاً في بنية الوعي الشعري الحداثي. وبهذا، لم يعد بالإمكان عزل النص عن الأسطورة، أو عزل ذلك الوعي عن الوعي الأسطوري. وهذا مايقول به الدكتور اسماعيل، حين يؤكد أن الطريقة الأسطورية، أو مانسميه المنهج الأسطوري، هي التي تجعل للشعر طابعاً مميزاً في باب المعارف الإنسانية، يميزه عن الفلسفة وعن العلوم التجريبية ، ويجعله شعراً"(27).ومن ذلك، فإن اتباع" هذا المنهج في العصر الحاضر ليس مجرد طريقة لحل موقف إنساني، وإنما هو كذلك أسلوب شعري وفني من الطراز الأول"(28). ولهذا لاغرابة في أن يتم النظر إلى الصورة الفنية، في الشعر، على أنها من آثار الوعي الأسطوري القديم أو بقاياه. وهذا، كما هو معلوم، من أطروحات النقد الأسطوري myth criticism الذي كان نورثروب فراي من أهم ممثليه.
وعلى الرغم من أن إسماعيل لايميل عادة إلى الأخذ بنسق واحد. بل يأخذ بعدة أنساق معاً. غير أنه في تناوله لهذا النسق أو ذاك، غالباً ماينساق وراء التعميم الذي يؤدي إلى إعطاء ماهو جزئي أو جانبي بعداً عاماً أو جوهرياً لايحتمله، بحيث يبدو أن إسماعيل لايقول إلا بهذا النسق. غير أن الأمر ليس على هذا النحو، وإنما هي الحماسة لما هو مدروس وحسب. وقد ظهر ذلك، في مجمل فصول كتابه"الشعر العربي المعاصر".
وعلى أية حال، فإن القول بجوهرية الأسطورة، في شعر الحداثة، غالباً ماينهض من اعتبارها شكلاً من أشكال الوعي، وشكلاً من أشكال التصوير الفني. وإذا ماوضعنا في الاعتبار أن ثمة نوعاً من التوحيد بين الوعي الشعري الحداثي والوعي الأسطوري، وبين الصورة الفنية والأسطورة ، فإن ذلك يعني أن شعر الحداثة لايمكن عزله عن الأسطورة، حتى في تناوله للواقع. إذ إن الواقع ينبغي، بحسب ذلك، أن يبدو مؤسطراً في الشعر. والحقيقة أن شعر الحداثة كثيراً مارأى في الأسطورة حاملاً موضوعياً لتجاربه وتصوراته الشعرية، غير أن القول بذلك شيء، والقول بجوهرية الأسطورة شيء آخر تماماً.
لقد شاع هذا النسق شيوعاً كبيراً، في النقد المعاصر، منذ أن أطلق جبرا إبراهيم جبرا مصطلح"الشعراء التموزيين" سنة1958.وكان يقصد به أدونيس والسياب والخال وحاوي، بالإضافة إليه(29). وقد تابعه أسعد رزوق. في دراسة هؤلاء الشعراء الخمسة، من منظور الأسطورة التموزية التي تقوم أساسا على الانبعاث من الموت والجدب واليباب(30). وواقع الحال أن مجمل المقاربات النقدية لهذا النسق، تنهض أساساً من أسطورة الموت والإنبعاث التي بدت وكأنها المحور الذي يتمحور حوله شعر الحداثة، في علاقته بالواقع الاجتماعي والحضاري العربي المعاصر. بمعنى آخر: إن الحديث عن جوهرية الأسطورة ليس في حقيقته سوى حديث عن جوهرية أسطورة الموت والانبعاث أو الأسطورة التموزية حصراً. وهو ما خصصت له ريتا عوض كتاباً مستقلاً(31)، يدرس تجليات هذه الأسطورة، في شعر الحداثة.
وبشكل عام، يمكن التوكيد أن القائلين بهذا النسق، يذهبون إلى أن مأثرة الحداثة تكمن في تناولها الأسطوري للواقع، بحيث استطاعت أن ترتقي به إلى مستوى الأسطورة. وهي بذلك تكون قد تخلصت من النثرية والتقريرية اللتين تنشآن من التناول الواقعي المباشر. وتكون أيضاً قد ارتقت إلى الكلية من خلال الجزئية، أو كما يقول اليوسف" برهنت الأسطورة على أنها تشابك المتباينات واندماجها في وحدة عضوية.... وبذلك استطاع الشاعر المعاصر أن يعانق الكلية والجزئية، وأن ينجو من المباشرة في التعبير، أن ينجو من النثرية"(32).
أما النسق الصوري، فيرى أن دراسة الصورة الفنية، في شعر الحداثة، يمكنها أن تبين مدى الاختلاف بينه وبين الشعر العربي الكلاسيكي والتقليدي المعاصر. وذلك من منظور أن الصورة الفنية جوهرية في الشعر عامة. فيما أن الصورة، على هذا النحو من الأهمية، فإن تبيانها وتبيان علائقها، عبر المدارس الشعرية، يؤدي بالضرورة إلى تبيان الاختلاف الجوهري بين هذه المدارس ، مع الإشارة إلى أن الصورة لاتعني ماهو جزئي وحسب . بل تعني ماهو كلي أيضاً. بمعنى أن ثمة صوراً جزئية، كما أن ثمة صوراً كلية.
وبما أن الدكتور نعيم اليافي من أهم الدارسين لهذا النسق، فإن الوقوف عند أطروحاته أو بعضها، حول الصورة الحديثة، هو وقوف عند هذا النسق، بشكل أو بآخر.
ينطلق الدكتور اليافي من أن الأشكال البلاغية القديمة إنما هي "أبنية مهدمة استنفدت طاقاتها، وخلقت جدتها، وطال عليها الزمن"(33). وهي، لذلك، لم تعد ملائمة لهذا العصر بخلفيته الثقافية، مما يقتضي تعاملاً صورياً جديداً. وهو ماأنجزه الشعر الحديث.
أما الصفات التي تتصف بها الصورة الحداثية،أو المعاصرة، بحسب تعبير اليافي، فيمكن إجمالها بالأمور التالية:
آـ تعد الصورة الفنية أحد مكونين اثنين، في القصيدة المعاصرة، وقد عبرت عن تجارب الشعراء رؤية وبناء، أما المكون الثاني فهو الإيقاع.
ب ـ إن أساس الصورة الفنية يكمن في الخلق، لافي المحاكاة، كما كان سائداً في الشعر العربي، ومن ذلك ، فقد تخلت الصورة المعاصرة عن وظائف الصورة التقليدية في الشرح والتزيين.
ج ـ أضحت الصورة، في الشعر المعاصر، وسيلة الخلق والكشف والرؤيا وأداة التعبير الوحيدة عن العلاقة المتشابكة المعقدة مابين الأنا ـ الآخر، الداخل ـ الخارج.
د ـ تلاحمت الصورة بشكل أوضح وأقوى مع أنساقها الخارجية والداخلية.
هـ ـ من الصعوبة الحديث عن بنية عامة ثابتة للصورة، في القصيدة المعاصرة(34).
وذلك بالإضافة إلى أن هذه الصورة قد "ألغت ثنائية التعبير المعروفة فكرة+ صورة، وجعلت التعبير عن الفكرة يتم من خلال الصورة أو بالصورة"(35).
وإذا ماقابلنا هذه الصفات بصفات الصوررة التقليدية، فإن التطور في الصورة المعاصرة يغدو أكثر وضوحاً. أما هذه الصفات فهي : التعارض بين الفكرة والصورة، والتزينية، وطغيان الصور المفردةجاهزة ومكررة وثابتة، والتفكيك والتراكم والتناقض(36). وذلك علاوة على الثنائية التي تقوم عليها الصورة التقليدية التي هي محاكاة أولاً. وبهذا المعنى، فإن القفزة النوعية التي قام بها الشعر المعاصر، تجد صداها الأساسي، في الصورة الفنية، ولاغرابة في ذلك، إذ إن الصورة في الشعر هي "أداته الرئيسة في الخلق والتصوير"(37).
غير أن ماتنبغي الإشارة إليه، في هذا المجال، هو أن اليافي لايرى في الصورة وفي تطويرها مسألة فنية فحسب. بل إنه يرى فيهما أيضاً إحالة على الإطار المعرفي للعصر. أو كما يقول "يعد الإطار المعرفي الفلسفي والثقافي والاجتماعي والفني المهاد التي تأسست عليها تقنيات القصيدة عامة وتقنيات الصورة خاصة"(37). فتطور الصورة إذاً، لاينهض مما هو فني وحسب. بل ينهض أيضاً من كل ما ينطوي عليه العصر الحديث وبذلك، فإن الصورة الفنية تمثل المبدع ، بقدر ماتمثل عصره، على كل الأصعدة. ولاشك في أن هذه النظرة تتسم بالحيوية والجدلية. وذلك من خلال ربطها بالصورة الفنية بمجمل العلائق الداخلية والخارجية، وعدم النظر إلى الصورة على أنها ذات مستوى فني وحسب، ولكن اهتمامها الشديد بالصورة، يجعل منها ذات بعد جزئي، على الرغم من محاولة هذه النظرة توسيع مفهوم الصورة، ليشمل النص الشعري الحداثي عامة، في أحد مستوياته.
وهكذا نلحظ أن النسق الصوري يرى أن تطور القصيدة المعاصرة ينهض أساساً من تطور تقنيات الصورة الفنية. ولايمكن لأي تجديد، مهما يكن مستواه ، إلا أن ينعكس في الصورة، أو الأصح: لايمكن إلا أن يطال الصورة أولاً، وما ذلك إلا لأن الصورة هي الأداة الرئيسية أو الجوهرية في الشعر.
ويذهب النسق الرؤيوي أخيراً، إلى أن ماهو جوهري، في شعر الحداثة، يكمن أولاً في الرؤيا. فالرؤيا الحداثية هي التي تسوغ وجود الحداثة، وليس المستويات الفنية أو الشكلية. ويتم التوكيد في هذا النسق، أن الشعر العربي الكلاسيكي هو، في المقام الأول، شعر رؤية؛ على حين أن شعر الحداثة هو شعر رؤيا، ويؤكد الدكتور غالي شكري "أن كلمة الرؤيا ـ إذا شئنا الدقة في التعبير والتأريخ ـ لاتنطبق أبعادها إلا على هذا الشعر الحديث"(38). ويربط شكري بين الرؤيا المأساوية القاتمة وبين الغموض الذي يتسم به هذا الشعر، مؤكداً أن "ليس التلاعب بالأوزان أو اللغة أو الصور هو السر الكامن وراء هذا الغموض، وإنما هي الرؤيا المأساوية القاتمة في جوهرها العميق"(39). ومن ذلك فإن أهمية هذا الشعر وتميزه يقومان أولاً على تحوله من الرؤية إلى الرؤيا. ولعل هذا مادفع أدونيس إلى تعريف الشعر الحداثي بقوله:"إنه رؤيا. والرؤيا بطبيعتها قفزة خارج المفهومات السائدة. هي، إذن، تغيير في نظام الأشياء وفي نظام النظر إليها"(40). وبما أن الأمر على هذا النحو، فلاينبغي "أن نبحث في القصيدة الجديدة عن الصورة أو الفكرة بحد ذاتها. بل عن الكون الشعري فيها وعن صلتها بالإنسان ووضعه"(41).
ويختلف القائلون بهذا النسق حول طبيعة الرؤيا، في الحداثة الشعرية، وهل هي رؤيا مأساوية، أو ثورية، أو ميتافيزيقية. ومن دون أن ندخل في تفصيلات هذه الرؤى، يمكن القول إن شعراء مجلة "شعر" ونقادها يميلون إلى اعتبار أن الميتافيزيقا هي الأساس الأول في كل شعر عظيم(42). وغالباً ماتتم المزاوجة بين الرؤيا الميتافيزيقية والرؤيا المأساوية؛ على حين أن نقاد الواقعية كانوا يميلون إلى الرؤيا الثورية. مع الإشارة إلى أن هؤلاء يفضلون استخدام مصطلح "المضمون" على استخدام مصطلح "الرؤيا". ويؤكدون، في الوقت نفسه، أن الفن العظيم لايمكن إلا أن يكون ذا مضمون عظيم. وفي كلتا الحالتين، فإن هذا النسق يبحث عن الجوهري في شعر الحداثة، خارج المستويات الفنية، وإن يكن هذا الجوهري لايمكن إلا أن يظهر من خلال هذه المستويات بمعنى أن الحداثة هي موقف رؤيوي أولاً. ومن دون هذا الموقف تغدو الحداثة مجرد نقلة شكلية لاطائل منها.
ونودّ أن نتوقف، في هذا المجال، عند تحديد أدونيس لشعر الحداثة. إذ إنه يمثل وجهة النظر الرؤيوية، بشكل عام.
يرى أدونيس أن هذا الشعر يتخلى عن عدة أمور، تمنعه من أن يكون حداثياً. وهي:
آ ـ التخلي عن الحادثة، لأن ثمة تنافراً بين الحادثة والشعر.
ب ـ التخلي عن الواقعية التي تحيل على التعامل النثري العادي، واستخدام الكلمات وفقاً لدلالاتها المألوفة.
ج ـ التخلي عن الجزئية والميل إلى التعبير عن كلية التجربة الإنسانية.
د ـ التخلي عن الرؤية الأفقية، والميل إلى الغوص فيما وراء الظواهر والأشياء.
هـ ـ التخلي عن التفكك البنائي(43).
إن التخلي عن كل ذلك يعني الانطلاق من الرؤيا. مثلما يعني الدخول في عالم الشعر الحقيقي والخالد الذي هو كشف وارتياد للمجاهيل، أو كما يقول أدونيس " إن تحديد شعر جديد خاص بنا نحن، في هذا العصر، لايُبحث عنه، جوهرياً، في فوضى الشكل ولافي التخلي المتزايد عن شروط البيت، بل في وظيفة الممارسة الشعرية التي هي طاقة ارتياد وكشف"(44).
وقد يبدو أن تركيز أدونيس، ومن ورائه النسق الرؤيوي ، على الرؤيا بوصفها جوهرية، قد أدى إلى إهمال الشكل الفني لشعر الحداثة. غير أن واقع الحال عكس ذلك تماماً.
فقد تم إيلاء الشكل أهمية خاصة، في هذا النسق، أو الأصح أن نقول إنه قد تم النظر إلى الشكل والرؤيا بوصفها مضموناً على أنهما يشكلان وحدة لاانفصام فيها. يقول أدونيس، في ذلك "فالشكل والمضمون وحدة في كل أثر شعري حقيقي. وهي وحدة انصهار أصيل. ويأتي ضعف القصيدة من التفسخات والتشققات التي تُستَشف في هذه الوحدة"(45). فأهمية الرؤيا لاتلغي أهمية الشكل، وإنما تكمن المسألة في المنطلق الأول. أي هل الحداثة موقف أولاً، أو أنها شكل أولاً. ولقد أجاب هذا النسق عن ذلك، بأن الموقف أو الرؤيا هي الأساس الجوهري في الحداثة. وبما أنه كذلك، فلايمكن إلا أن يفرض شكله الخاص به. ومن المعلوم أن التجريبية الشكلانية هي أساس نتاج شعراء الرؤيا. وقد يبدو من الطريف، هنا، أن من يذهب إلى أن الرؤيا هي الجوهري في الحداثة، يقع في الاهتمام بما هو شكلاني؛ إلا أن الطرافة تتلاشى ، حين نؤكد أن قيام الرؤيا مما هو حدسي ميتافيزيقي غرائبي، بالنسبة إلى أولئك الشعراء، يتكامل والبحث عن أشكال غرائبية.
ونرى لزاماً علينا أن نشير إلى أنه إذا كان أدونيس ـ وشعراء الرؤيا أيضاً ـ قد ذهب إلى ضرورة أن تكون الرؤيا، بوصفها مضموناً، حدسية وميتافيزيقية، فإن الكثيرين من النقاد والشعراء ـ ولاسيما القائلين بالواقعية ـ قد رفضوا هذا الطرح لمفهوم الرؤيا، معتبرين أن الرؤيا الاجتماعية الثورية التي تتناغم وحركة الواقع هي الرؤيا الحقيقية التي على شعر الحداثة أن يصدر منها، وأن يعمقها في الواقع والنص معاً. يقول أحمد يوسف داود، في معرض رده على أدونيس "فالإبداع لايكون بالرؤيا/الإلهام/حسّ النبوّة وإنما بالرؤية/المعرفة. وهكذا لاتنفصل اللغة عن أصولها إلا بمقدار أنفصال الممكن عن الراهن"(46). أو بمعنى آخر: ليس ثمة رؤيا يمكن أن تنفصل عن الرؤية. ولهذا فدعوى التجاوز والتخطي التي يدعيها شعراء الرؤيا ليست في حقيقتها، سوى مقولة وهمية، لاأساس لها من الصحة.
تلك هي الأنساق التي سادت النقد المعاصر، في مقاربته لما هو جوهري في الحداثة الشعرية. حيث اهتم كل نسق بأحد جوانب الحداثة، وجعل منه جوهرياً، بالنسبة إلى الجوانب الأخرى.
وإذا ما كنا قد أوجزنا القول في هذه الأنساق، فإننا قد حاولنا أن نعطي، قدر الإمكان، صورة كلية عامة عنها. ونرجو أن نكون قد استطعنا ذلك. ويبقى السؤال ماالإشكالية التي تعانيها هذه الأنساق منفردة ومجتمعة؟.
إن أولى تبديات هذه الإشكالية تكمن في النظرة الجزئية إلى الحداثة، حيث يتم التركيز على جانب واحد، في أغلب الأحيان، ويتم النظر إليه على أنه الجوهري، وأن ماسواه ثانوي. وكأن الحداثة ليست كلاً موحداً، يصعب تجزيئه، أو توزيعه على وحدات مستقلة. ولاشك في أن ثمة جوهرياً وثانوياً في كل ظاهرة فنية أو ثقافية أو اجتماعية. ولكن أن نجعل من الجزئي كلياً، ومن الخاص عاماً، ومن الثانوي جوهرياً، فإن في ذلك مغالطة، لن تؤدي إلاَّ إلى التوهم. ولقد بدا ذلك واضحاً في النسق الموسيقي والنسق الأسطوري. حيث ذهب الأول إلى جعل الإيقاع الذي هو جزئي، في الصدارة من الكلية. وذهب الثاني إلى جعل الثانوي المرحلي جوهرياً استراتيجياً، من خلال النظر إلى الأسطورة على أنها أهم مكونات الحداثة. وقد أثبتت الحداثة، فيما بعد السبعينات من هذا القرن، عكس ذلك. حيث تخلت عن الأسطورة، وبقيت هي، من دون أن تتأثر بنيتها الجمالية.
وتتبدى تلك الإشكالية أيضاً في اضمحلال المعالجة الجمالية لظاهرة الحداثة. فعلى الرغم من توكيد تلك الأنساق أن الشعر شكل جمالي، إلا أن مجريات التناول النقدي تثبت أن ماهو جمالي أقل حضوراً مما هو فني أو رؤيوي. والحق أن النسق الصوري هو الأقرب إلى المعالجة الجمالية. وذلك من خلال ربطه تقنيات الصورة الفنية بالأطر النظرية والاجتماعية العامة؛ ومن خلال فهمه لتلك التقنيات على أنها أسلوب في وعي العالم. غير أن اهتمامه الأكبر بالصورة الفنية قد فوّت عليه فرصة النظر إلى ظاهرة الحداثة من عدة جوانب هامة أخرى. لعل أهمها جانب الوعي الجمالي الحداثي، وطبيعته المختلفة عن الوعي الجمالي التقليدي أو الكلاسيكي.
وعلى الرغم من أن المنطلق الذي انطلق منه النسق الرؤيوي كان بالإمكان أن يتعمق باتجاه المعالجة الجمالية، غير أن توهان هذا النسق فيما هو حدسي وغرائبي وميتافيزيقي، قد جعل منه قاصراً عن وعي الحداثة. نقول ذلك، ونحن نعي جيداً أن جملة "التخليات" التي اقتراحها أدونيس، لايمكن صرف النظرعنها، أو عن بعضها، في فهم الحداثة الشعرية.
وتظهر تلك الإشكالية، من جهة ثالثة، في أنها غالباً ماتقطع الصلة بين الحداثة وماسبقها من محاولات تجديدية، في الشعر العربي الرومانتيكي. بحيث تبدو الحداثة نقلة نوعية لاتراكم كمياً لها، في حين أن الشعر الرومانتيكي كان له الفضل الأول أو المبادرة الأولى، في تجديد الشعر العربي الحديث، منذ أوائل القرن العشرين. ولم يظهر ذلك، على مستوى الموسيقا الشعرية فحسب. بل ظهر أيضاً على مستويات عدة مختلفة. حتى إن التعامل مع الأسطورة يعود إلى هذا الشعر. وقد يكون من المشروع، في هذا المجال، أن نتساءل: لماذا يتم التوكيد دائماً أن الحداثة قد أفادت من إليوت، على صعيد التعامل الأسطوري، ولاتبدر حتى إشارة إلى الرومانتيكية العربية في ذلك، على الرغم من أن الحداثة قد خرجت جمالياً وتاريخياً من معطف الرومانتيكية العربية. لاشك في أن ثمة تجاوزاً كبيراً في الحداثة لأطروحات الرومانتيكية؛ غير أن ذلك لايلغي أهميتها في المبادرة إلى التحديث.
لقد أغفلت معظم تلك الأنساق، في محاولتها بلورة الحداثة، أن تشير إلى أهمية ماقامت به الرومانتيكية، وهو ماأوحى بأن ثمة قطيعة حقيقية وشاملة، قامت بها الحداثة مع كل ماهو ناجز شعرياً، على الصعيد العربي. وذلك في الوقت الذي لم تكن فيه الحداثة إلا نقلة نوعية لتراكم كمي، امتد إلى خمسين سنة من قبل، حين راحت الرومانتيكية تطرح وعياً جمالياً جديداً مختلفاً، بقدر ما، عن الوعي السائد.
ويبقى أن نؤكد أن النقد المعاصر بأنساقه المختلفة قد أنتج معرفة نقدية بالحداثة الشعرية، لايمكن التقليل من أهميتها بحال من الأحوال، كما لايمكن تجاوزها في أي مقاربة نقدية ممكنة. فعلى الرغم من أن ثمة إشكاليات في فهم هذا النقد للحداثة، إلا أن ذلك لايؤدي إلى القول إن هذا النقد قاصر عن وعي ظاهرة الحداثة الشعرية، أو أنه لم يستطع الكشف عما هو إيجابي أو سلبي فيها.