█▓▒◄ الرقى الشرعية .. التأصيل والبيان ►▒▓█
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، واشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، واشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)(327).
(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا)(328).
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً)(329).
أما بعد،
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم؛ وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
يقول الله تعالى:
(وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين)(330).
ويقول أيضاً جل وعلا:
(قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء)(331).
327-سورة آل عمران: (102).328- سورة النساء: (1).329- سورة الأحزاب: (70/71).330- سورة الإسراء: (82).331-سورة فصلت: (44).
إن موضوع التدواي والرقية بالقرآن الكريم من أهم الموضوعات التي اعتنى بها المسلمون قديما وحديثا، والتي استحوذت على أذهانهم، وشدت انتباههم، وأثارت تساؤلات كثيرة حول مفهوم هذا التداوي، وأبعاده وجوانبه؛ لتحديد جدية هذا الاستشفاء، وكيفية الإفادة منه، مع مراعاة الجائز والممنوع منه. وهذا يدل على حرص المسلمين على فهم كتاب ربهم والإفادة منه، وعلى البحث في ثناياه؛ تجلية لإعجازه، وعظيم تنزيله من لدن حكيم خبير، تأكيداً وتصديقاً لقول الحق تبارك وتعالى:
(وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه)(332).
وكذلك يدل دلالة واضحة على حب المسلمين لحياة خالية من الأدواء ليكونوا أصحاء أقوياء، ليكونوا أمة قوية سليمة من الأمراض والآفات والعلل التي توهن وتضعف المجتمع.
وكذلك يدل على حرصهم على سبل وأسباب الوقاية والعلاج في ظل توجيهات الدين الحنيف، وعلى سعيهم لتحقيق ما جاء في الكتاب والسنة من الأمر والتوجيه بالعلاج والتداوي وعدم الاستسلام للأمراض والعاهات. كل ذلك سعياً منهم إلى التطلع لنيل خيري الدنيا والآخرة، وليزدادوا إيماناً مع إيمانهم، ويزدادوا يقينا على يقينهم في صدق وعد الله ووعد رسوله، وفي شهود روائع وعجائب ومعجزات آيات الله تعالى ووحيه الكريم.
تمهـــيد
إن القرآن الكريم شفاء للقلوب، فهو يزيل الران الذي يعتريها ويعلوها فيمرضها ويهلكها مما يعرض عليها من الآفات بسبب الخرافات والأوهام والضلالات والبدع، وكذلك بسبب ما يرهقها من الوساوس، والخطرات، والشبهات. فإن ذلك يجهد القلوب ويملؤها من الهموم والأحزان والشكوك، ويحملها على الذل والعبودية لغير الله، وعلى الخوف من غير الله تبارك وتعالى.
فالقرآن فيه شفاء من هذا كله، لأنه حق، وكلام الله الحق. فإنه يتغلغل في القلوب ويصل إلى سويدائها فتسكن وتطمئن، ثم تشعر بالتيقن من وعد الله المطلق في الحياة الدنيا وما بعدها.
قال تعالى:
(الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون)(333).
ويقول أيضاً عز وجل:
(طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين هدى وبشرى للمؤمنين)(333-أ).
ويقول أيضاً تبارك وتعالى:
(.... فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله)(334).
(333)- سورة البقرة: (1).(333-أ)-سورة النمل: (1-2).334- سورة البقرة: (102).
ويقول أيضاً عز من قائل: (الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدى به من يشاء)(335).
والقرآن الكريم شفاء للعقول والفكر الذي انحرف عن الاستقامة وسلامة التفكير وصحة التوبة بسبب الأمراض التي تؤثر على التفكير، فتحول بين العقل وبين مقتضاه، وبين التفكير الصحيح ولوازمه. وأمراض العقول هي الآصار والأغلال التي تقيد العقول وتنحرف بها عن الجادة القويمة والتفكير الصحيح. فالقرآن الكريم شفاء لهذه العقول وتصحيح لمسار الفكر بتخليصها من غل التقليد، ومن التعلق والتبعية لجهة غير معصومة، واتباعها بلا دليل ولا عقل ولا برهان. وبتخليصها أيضاً من العثرات والسقطات في ضلالات موروثات الآباء ومألوفات الأجداد رغم ترديهم في العمى والخرافة، وانحرافهم الفكري، وتلبسهم وخلطهم الحق بالباطل. فالقرآن الكريم شفاء للعقول وهداية ونور لتصحيح مسارات الفكر لتتفق مع الفطرة التي خلقهم الله عز وجل عليها؛ فهو يحرر العقول من ذل التبعية الخاطئة، ويعتق الضمائر البشرية لتمارس حقها في التفكير، ويطلق الفكر من القيود ليتدبر ويتأمل ويستقل في ظل حدوده الشرعية.
قال تعالى:
(وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون أم آتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون. بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون. وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قـال مترفوها انا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون. قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين)(336).
335- سورة الزمر: (23). 336- سورة الزخرف: (20-25).
وفى القرآن الكريم إرشاد للعقول بعد تحريرها من ذل التبعية، وتوجيه إلى الطريق السوي من حيث صحة النظر، وتوجيه الفكر إلى النظر والتدبر في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله، وفي هذا شفاء للعقول من سقام الجهل، واختلال الفكر، وفساد الاستنتاج، وفيه أيضاً كفها عن تبديد الطاقات، وإنفاق الجهود فيما يتعلق بما لا يغني ولا يجدي مثل أمور الغيب التي غيبها الله عن مدارك العقول والحواس.
قال تعالى:
(إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب)(337).
وقال تعالى:
(أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء)(338).
وقال تعالى:
(وفى الأرض آيات للموقنين وفى أنفسكم أفلا تبصرون)(339).
وقال تعالى:
(الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون)(340).
337- سورة آل عمران: (190). 338- سورة الأعراف: (185).339-سورة الذاريات: (20-21).340- سورة البقرة: (1-4).
وقال تعالى:
(هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب)(341).
وقال تعالى:
(ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضداً)(342).
وفى القرآن الكريم شفاء للنفس البشرية وعلاجها وصحتها من أمراض الهوى وأدناس وأرجاس متابعة الملذات وتحقيق الشهوات، ومن الطمع والحسد وغيرها من الأمراض النفسية والاجتماعية التي تفتك بالنفس، وتضعف المجتمع، وتجعل الإنسان أسيراً لأهوائه وشهواته، وسجينا لملذاته وأطماعه.
فالقرآن الكريم يحرر النفس من هذا الأمر ومن الانقياد وراء الزائل الفاني لتسمو برغباتها وأهدافها نحو الكمال البشري، ولتعلو عن مواطن العلل والآفات والأمر بالسوء، ولترقى إلى أعلى درجات الاطمئنان.
فالقرآن الكريم شفاء للقلوب، وشفاء للعقول، وشفاء للنفوس البشرية، وهذا ما يريده الله عز وجل من خلقه أن يكونوا أصحاء أقوياء.
إن المرء إذا سلم قلبه، وصح عقله بالمنهج القرآني، وتغذى به، واستقام على هديه ثم اطمأنت نفسه، وسلمت من آفاتها وأمراضها، وترفعت عن الأمر بالسوء أو الهم بالباطل. أقول إذا حصل ذلك كله للمرء فإنه الإنسان وإنه العبد الذي أراده الله تعالى، فانه بذلك يتعرف حقيقة على الغاية من خلقه وإيجاده، ويتعرف على صفات الباري جل وعلا، ويدرك كماله وجلاله في خلقه وإبداعه، وفي أمره ونهيه،
341-سورة آل عمران: (7).342-سورة الكهف: (51).
ويتعرف كذلك على غاية إرسال الرسل وإنزال الكتب، وعلى غاية الحياة الدنيا، ويدرك البرزخ وما بعد الموت، والحياة الأخرى بعد البعث والنشور وبعد الحساب والجزاء من الله تعالى على ما قدم وما فعل وعمل، وبذلك يدرك ويتعرف على حقيقة العلاقة بين الخالق والمخلوق، ويدرك دوره والأعمال المنوطة به في هذه الحياة الدنيا من خلافه وعمارة، ومن ثم يلتزم ما يمليه عليه القلب السليم والعقل الصحيح والنفس المطمئنة، فتزول الأمراض والأحقاد التي تفتك بالفرد أولاً ثم بالمجتمع ثانياً، تلك الأمراض التي تذهب بتماسك المجتمع والجماعة، وتزلزل أمنها وطمأنينتها، وبالمقابل تسود الأخلاق وتظهر الفضيلة ويشيع المعروف ويزول المنكر، وتكثر الطيبات وتوءد المنكرات وترتفع الآصار والأغلال، فتنطلق القلوب السليمة والعقول الصحيحة، والنفوس المطمئنة إلى بناء المجتمع والأمة على أساس صحيح ومنهج رباني قرآني قويم.
قال تعالى:
(أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها)(343).
وقال تعالى:
(مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون)(344).
التداوي بالقرآن
إن التداوي بالقرآن الكريم والاستشفاء به من الأمراض الجسمية والآفات والعلل العضوية عن طريق تلاوته أو قراءة بعض سوره وآياته هو المقصود في هذا المقام، ولأجله ينعقد هذا المؤتمر المبارك إن شاء الله، سواء كان سبب المرض من
343- سورة الأنعام: (122).344- سورة هود: (24).
سوء في التصرفات، أو التعرض لبعض الإيذاء من الدواب والهوام، أو مس وإيذاء واعتداء من الجن أو غيرهم من المخلوقات، أو كان تلفا وخللا في بعض الأجهزة العضوية وغيرها، وهذا موضوع قد كثر حوله الكلام وطال فيه الجدل والخلاف، بين مانع من ذلك جملة وتفصيلاً بأدلة عقلية وأقيسة منطقية بزعمه، وبين مغالٍ في إجازته معتمداً عليه معرضاً عن بذل الأسباب المادية الحسية وعن التداوي بغيرها والاستشفاء بما نفعه من خلال التجربة، والدراسة العلمية. والحق إنما يتوسط بين الجافي والغالي، ويعتدل بين الإفراط والتفريط. والتداوي والاستشفاء بالقرآن الكريم جاء في النصوص الشرعية الثابتة، ويقرره العقل والقياس الصحيح، لذلك وجب التصديق به، والإيمان بما جاء به النص، وأجازه العقل، والنصوص الشرعية كثيرة جداً، منها:
أ- قول الله تعالى:
(وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين)(345).
وقوله تعالى:
(قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء)(346).
ولفظ "شفاء" عام يتناول شفاء الأمراض القلبية والعقلية، كما يتناول الأمراض الجسدية والعوارض المادية الحسية. والأصل بقاء العـام
على عمومه وعدم تخصيصه إلا بمخصص، ولا مخصص هنا- على ما قرره العلماء.
أ- ما جاء في سنة رسول الله صلى عليه وسلم، فقد ثبت أنه استشفى واسترقى ببعض آيات القرآن، وأمر بذلك وأوصى به، وفعله عليه الصلاة والسلام لنفسه ولغيره، وأقره كذلك من فعل بعض أصحابه رضي الله تعالى عنهم.
345- سورة الإسراء: (82).346- سورة فصلت: (44).
روى الإمام البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه بقل هو الله أحد وبالمعوذتين جميعا، ثم يمسح بهما وجهه، وما بلغت يداه من جسده. قالت عائشة: فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به"(347).
وروى الشيخان: البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري قال: انطلق نفر من أصحاب رسول الله في سفرة سافروها حتى نزلوا على حي من أحياء العرب، فاستضافوهم، فأبوا أن يضيفوهم. فلدغ سيد الحي فسعوا له بكل شيء، لا ينفعه شيء. فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا لعله أن يكون عند بعضهم شيء، فأتوهم، فقالوا: يا أيها الرهط إن سيدنا لدغ، وسعينا له بكل شيء لا ينفعه، فهل عند أحد منك من شيء؟ فقال بعضهم: نعم، والله إني لأرقي، ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا، فما أنا براقٍ لكم حتى تجعلوا لنا جعلا. فصالحوهم على قطيع من الغنم، فانطلق يتفل عليه، ويقرأ: الحمد لله رب العالمين، فكأنما نشط من عقال ……." وفيه إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لما ذكروا له، فقال عليه الصلاة والسلام: "وما يدريك أنها رقية؟ ثم قال: قد أصبتم، واقسموا واضربوا لي معكم سهماً"(348).
347- أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب النفث في الرقية ح(5748) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب رقية المريض بالمعوذات والنفث ح(2192) وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب كيف الرقى ح(3902) وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب النفث في الرقية ح(3529) وانظر تحفة الأشراف ح(16589) قال النووي: وسئلت عائشة عن نفث النبي (صلى الله عليه وسلم) في الرقية فقالت كما ينفث آكل الزبيب لا ريق معه- انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/182) قال ابن حجر: فائدة النفث التبرك بتلك الرطوبة أو الهواء الذي ماسه الذكر كما يتبرك بغسالة ما يكتب من الذكر- انظر فتح الباري (10/197) ش ح(5735).348-أخرجه مالك في الموطأ: كتاب العين: باب الرقية من العين (2/940). والبخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب النفث في الرقية ح(5749). ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب جواز أخذ الأجر على الرقية بالقرآن والأذكار ح(2201). وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب كيف الرقى ح(3900). والترمذي في سننه: كتاب الطب: باب ما جاء في أخذ الأمر على التعويذ ح(2070) قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وابن ماجة في سننه: كتاب التجارات: باب أجر الراقي ح(2156).وانظر تحفة الأشراف ح(4249) و(4307).
يقول الإمام ابن القيم- رحمه الله: مربي وقت بمكة، سقمت فيه، وفقدت الطبيب والدواء ، فكنت أعالج بها (بالحمد لله رب العالمين): آخذ شربة من ماء زمزم، وأقرؤها عليها مراراً، ثم أشربه، فوجدت لذلك البرء التام، ثم صرت أعتمد على ذلك عند كثير من الأوجاع فأنتفع بها غاية الانتفاع(349).
وليس معنى هذا ولازمه ترك التداوي والاستشفاء بالأدوية الطبيعية المادية، والإكتفاء بقراءة آيات من القرآن الكريم. فليس ذلك من الرشد في الدين، ولا من الفقه لسنن الله تعالى الكونية. ولكن الشأن هو الجمع بين هذا وذاك، والانتفاع بالأمرين، والجمع بين بذل الأسباب الحسية والمادية؛ مع الاعتماد على ما جاء به التوجيه الشرعي، وتعلق القلب بالله تعالى وحده، فهو النافع وهو رب الأسباب تبارك وتعالى.
وأما إقرار العقل لهذا التداوي فواضح؛ إذ العقل لا يحيل ذلك ولا يمنعه أبداً، كيف وقد جاء الخبر الصادق بذلك، والعقل قد صدق المخبر فيما هو أعظم من مجرد الإخبار بالاستشفاء بتلاوة بعض الآيات والسور.
ثم إنه لا يترتب على التصديق به أمر مستحيل؛ لأن العقل قد قرر أن الله سبحانه وتعالى هو المالك الفاعل المتصرف في الكون وما فيه من خلق، وهو سبحانه رب الأسباب والأدواء التي لا تشفي ولا تنفع بذاتها، بل هو الشافي والدافع لجميع الأفراد، وهو النافع والواهب للصحة والعافية، وهو الذي يحول بين الأسباب وبين مقتضياتها، وهو الذي يجعل فيها النفع سبحانه.
فالاستشفاء والتداوي بتلاوة آيات وسور من القرآن على الأمراض الجسدية قررتها الشريعة السمحة، وجعلتها أسباباً شرعية صحيحة نافعة بإذن الله تعالى، كما تقررها العقول الصحيحة.
وهذا التداوي هو ما يسمى بالرقى الشرعية، وهو عنوان هذا البحث المتواضع. وهو ما سأبين بعض جوانبه إن شاء الله، والله تعالى أسأل أن ينفعنا جميعا بما جاء في كتابه الكريم من شفاء للقلوب والأبدان، وأن يهدي المسلمين لأسرار كتابه العظيم بما يمنحهم أسباب الصحة والعافية، ويسلك بهم سبل الحياة السليمة القوية، ليزدادوا تمسكاً بكتاب ربهم، وتقديراً له، وإقبالاً عليه، وإفادة منه، إنه تعالى ولي ذلك والقادر عليه.