الجنس : العمر : 42 المدينة المنورة التسجيل : 30/03/2012عدد المساهمات : 27
موضوع: هل كانت الأرض باردة في بداية تكونها؟ الثلاثاء 10 أبريل 2012, 8:39 pm
قد يكون خاطئا ما يتردد في الكتب الدراسية حول أن الأرض كانت مشبعة بالصهارة على مدى نصف البليون سنة الأولى منذ نشأتها. فربما تبرد سطحها بسرعة مما أتاح تشكُّل المحيطات وطلائع القارات وبزوغ الحياة في وقت أبكر بكثير.
John W. Valley
في بداية تكونها منذ 4.5 بليون سنة، تألقت الأرض وكأنها نجم خافت وتدفقت على سطحها محيطات من الصهارة magma المتوهجة الصفراء-البرتقالية اللون، تلت تصادمات متكررة من جلاميد هائلة، بعضها بحجم كوكب صغير، تدور في فلك الشمس الحديثة الولادة. وقد نجم عن تصادم كل من هذه الأجسام بكوكب الأرض، بسرعة تبلغ في المتوسط 75 مرة سرعة الصوت، حروق في سطحها ـ تمثلت بتحطيم وانصهار وحتى تبخر في مناطق التماس.
وفي مرحلة مبكرة غاص الحديد، بفعل كثافته العالية، من محيطات الصهارة متجها نحو الأعماق ليشكل اللب الفلزي للأرض، ومحررا ما يكفي من الطاقة التثاقلية(1) لصهر الكوكب برمته. ثمة نيازك ضخمة كانت تصطدم بالأرض باستمرار في أثناء مئات ملايين السنين الأولى، فجّر بعضها السطح مولدا فوهات ارتطام يتجاوز قطرها 1000 كيلومتر. وفي الوقت نفسه، ونتيجة لتحلل العناصر المشعة، تولدت حرارة بمعدلات تفوق ستة أضعاف تلك التي تولدها حاليا.
وكان لابد من أن تخبو هذه الظروف الملتهبة قبل أن تتصلب الصخور المنصهرة لتشكل القشرة الأرضية، وقبل أن تتكوّن القارات، وقبل أن يتحول الغلاف الجوي الكثيف المشبع ببخار الماء إلى ماء سائل، وقبل أن تنشأ الحياة البدائية الأولى وتتمكن من البقاء. ولكن ما سرعة تبرد سطح الأرض بعد مولدها الضيائي؟ يعتقد معظم العلماء أن البيئة الجحيمية استمرت على مدى 500 مليون عام ، هي المعروفة باسم حقبة «الهاديان» Hadean. ويأتي الدعم الأساسي لهذا الرأي استنادا إلى الغياب الظاهري لصخور سليمة (بقيت على حالها الأصلية) intact rocks يتجاوز عمرها أربعة بلايين سنة، وكذلك استنادا إلى عمر أولى الإشارات إلى الحياة الأحفورية التي هي أحدث من ذلك بكثير.
ومع ذلك، عثر الجيولوجيون ـ بما في ذلك مجموعتي البحثية من جامعة وسكونسين بماديسون ـ في السنوات الخمس الماضية على بضع عشرات من بلورات الزركون zircon القديمة التي تتميز بتراكيب كيميائية أسهمت في تغيير آرائنا عن بداية كوكب الأرض. فالخصائص غير العادية لهذه المعادن المقاومة للبِلَى ـ وهي بحجم النقطة في هذه الجملة ـ تمكّن بلورات المعادن هذه من أن تحتفظ، بصورة مدهشة، بإشارات قوية عن حالة البيئة في أثناء تكونها. فهذه الكبسولات الزمنية توفر أدلة على أن المحيطات التي احتضنت الحياة البدائية، وربما القارات أيضا، ربما نشأت قبل 400 مليون عام من الزمن الذي اعتمد سابقا.
تبرد الأرض(**)
منذ القرن التاسع عشر حاول العلماء تقدير سرعة تبرد الأرض، ولكن القليل منهم توقع أن يجد دليلا قاطعا. فمع أن محيطات الصهارة توهجت في البداية بدرجات حرارة تتجاوز 1000 درجة سيلزية، إلا أن اقتراحا خَتّارا(2) يتمثل في كون الأرض البدائية كانت ذات مناخ أكثر اعتدالا، جاء من حسابات ثيرموديناميكية، تشير إلى أن سطح القشرة ربما تصلب خلال عشرة ملايين سنة. وأثناء عملية تصلب الكوكب عزلت الصخور المتماسكة المتزايدة السماكة محيطه الخارجي عن داخله حيث تسود في الأعماق درجات حرارة مرتفعة. فإذا كانت الأرض قد مرت بفترات هادئة بين الاصطدامات الكبرى للنيازك، وإذا كانت قشرة الأرض قد استقرت، وإذا كان الجو البدائي الحار لم يحبس كميات كبيرة من الحرارة، فقد كان بالإمكان حينئذ أن تنخفض الحرارة السطحية بسرعة إلى ما دون درجة غليان الماء. وإضافة إلى ذلك فقد كانت الشمس البدائية باهتة وتصدر طاقة منخفضة نسبيا.
ومع ذلك، يرى معظم الجيولوجيين أن الولادة الملتهبة غير المشكوك فيها والمؤشرات الضئيلة في السجل الجيولوجي، تشيران إلى أن مناخا فائق الحرارة ساد مدة طويلة. فأقدم الصخور السليمة المعروفة التي عمرها 4 بلايين سنة، وهي الصخور المتحولة أكاستا Acasta في شمال غرب كندا، تشكلت عند أعماق كبيرة تحت سطح الأرض ولا تحمل معلومات عن الظروف التي كانت سائدة على السطح. ويعتقد معظم الباحثين أن الظروف الجهنمية التي سادت على السطح محت الصخور التي تكوّنت سابقا. كما أن أقدم الصخور المعروفة بمنشئها تحت الماء (ومن ثم في بيئة باردة نسبيا) لم تتشكل إلا منذ 3.8 بليون سنة. إن هذه الرسوبيات المتكشفة في أيسواIsua بجنوب غرب غرينلاند، تحوي أقدم أدلة الحياة. [انظر: «تساؤلات حول أقدم علامات الحياة»،مجلة العلوم، العددان 2/3(2004)، ص 4].
منظر جديد للأرض الفتية التي تغمرها محيطات من الماء السائل منذ نحو 4.4 بليون سنة على نقيض حاد لعالم حار وعدائي حسب التصور المعتاد للكتب الدراسية.
وفي عقد الثمانينات من القرن العشرين، بدأت بلورات زركون منفردة بإضافة معلومات جديدة عن الأرض الفتية، وذلك عندما أصبحت بضع حبات نادرة من الزركون وجدت في جاك هيلز Jack Hills وماونت ناريار Mount Narryerبغرب أستراليا أقدم المواد الأرضية المعروفة حينذاك، فقد قدر عمرها بنحو 4.3 بليون سنة. إلا أن المعلومات التي حملتها بلورات الزركون هذه بدت غامضة. ويعود ذلك جزئيا إلى عدم تأكد الجيولوجيين من طبيعة الصخرة الأم. فإثر تكوّنها، تكون بلورات الزركون شديدة المقاومة لدرجة أنها تتمكن من البقاء حتى بعد تكشّف صخرتها الأم على سطح الأرض ودمارها بفعل التجوية weathering والحت erosion. وتستطيع المياه والرياح بعد ذلك نقل الحبات التي بقيت إلى مسافات بعيدة قبل أن تندمج في رواسب من الرمال والحصى gravel، والتي قد تتصلب بعد ذلك إلى صخور رسوبية. وقد عُثر فعلا على بلورات زركون جاك هيلز ـ التي قد يفصلها آلاف الكيلومترات عن مصدرها ـ في حاجز حصوي قديم يطلق عليه اسم رصيص جاك هيلز Jack Hills conglomerate.
وعلى الرغم من الإثارة الناجمة عن العثور على مثل هذه الأجزاء البدائية من الأرض، فإن معظم العلماء، وأنا منهم، واصلوا قبول الرأي بأن مناخ كوكبنا الفتي هو بالفعل مناخ حقبة الهاديان. واعتبارا من عام 1999 أتاح التقدم التقاني إجراء دراسة إضافية لبلورات الزركون القديمة من غرب أستراليا ـ متحديا الرأي التقليدي حول بداية تاريخ الأرض.
التعمق في البحث(***)
لم تفش البلورات الأسترالية أسرارها بسهولة ويسر. وقد يرجع ذلك أولا إلى كون جاك هيلز والمناطق المجاورة قفارا مغبرة واقعة على حافة محطتي أغنام شاسعة تدعيان بيرينگارا Berringarra وميليورا Mileura توجدان على بُعْد نحو 800 كيلومتر شمال بيرث Perth، أكثر المدن الأسترالية انعزالا. جرى ترسيب رصيص جاك هيلز منذ ثلاثة بلايين سنة، وهو يشكل الحافة الشمالية الغربية لمجموعات من التكوينات الصخرية التي يتجاوز عمرها 2.6 بليون سنة. وللحصول على أقل من ملء كشتبان من بلورات الزركون، قمت وزملائي بجمع مئات الكيلوغرامات من الصخور من هذه المنكشفات الصخرية النائية نقلت بعدها إلى المختبر لسحقها وفرزها، وكأننا نبحث عن حبات معينة من الرمل في الشاطئ.
وبعد استخلاص البلورات من مصدرها الصخري صار بالإمكان تحديد عمرها؛ لأن بلورات الزركون تشكل ضابط وقت نموذجيا. فإضافة إلى ديمومتها الطويلة تحتوي هذه البلورات على كميات ضئيلة من اليورانيوم المشع الذي يتحلل بمعدلات معروفة ليتحول إلى رصاص. فعندما يتكون الزركون في أثناء تصلب الصهارة تتحد ذرات الزركونيوم zirconium والسيليكون silicon مع الأكسجين بنسب محددة(ZrSiO4) لتكوين بنية بلورية فريدة خاصة بالزركون؛ وأحيانا يتم التبادل مع اليورانيوم بمقادير ضئيلة للغاية. ومن جهة ثانية، فإن ذرات الرصاص كبيرة لدرجة لا تسمح بالتبادل بسهولة مع أي من العناصر في الشبيكة البلورية، لذا فإن الزركون يكون خاليا تماما من الرصاص عند نشأته الأولى، وتبدأ ساعة اليورانيوم-رصاص بالعمل بعد تبلور الزركون مباشرة. وهكذا، فإن نسبة الرصاص إلى اليورانيوم تزداد مع ازدياد عمر البلورة. ويمكن أن يحدد العلماء بثقة عمر الزركون السليم undamaged وبدقة تبلغ 1 في المئة، أي بدقة تعادل ±40 مليون سنة من عمر الأرض الفتية.
وقد أصبح تحديد عمر جزء معين من إحدى البلورات ممكنا للمرة الأولى في أوائل عقد الثمانينات من القرن العشرين، عندما ابتكر <W. كومپستون> وزملاؤه [من الجامعة الوطنية الأسترالية في كانبيرا] نوعا خاصا من المسبار الميكروي (المجهري) الأيوني ion microprobe، وهي آلة كبيرة للغاية تم تسميتها هزليا «شريمپ» SHRIMP، الاسم المختزل لمسبار ميكروي أيوني حساس ذي دقة عالية Sensitive High Resolution Ion Micro Probe. وعلى الرغم من أن معظم بلورات الزركون لا تكاد ترى بالعين المجردة، فإن المسبار الميكروي الأيوني المجهري يطلق حزمة من الأيونات مركزة بصورة ضيقة للغاية، لدرجة تجعلها قادرة على قذف عدد صغير من الذرات في أي جزء تسلط عليه من سطح الزركون. ويتولى عندئذ مقياس الطيف الكتلوي mass spectrometer قياس تركيب هذه الذرات بمقارنة كتلها. وقد كانت مجموعة <كومپستون> ـ التي تعمل مع <T .R. پيدجيون>، و<A .S. وايلد> و<J. باكستر> [وجميعهم من جامعة كيرتين التكنولوجية في أستراليا] أول من حدد عمر زركون جاك هيلز في عام 1986.
نظرة إجمالية/ كبسولات الزركون الزمنية(****)
▪ لطالما اعتقد الجيولوجيون أن الظروف الملتهبة لولادة كوكبنا قبل 4.5 بليون سنة حل محلها مناخ معتدل قبل نحو 3.8 بليون سنة.
▪ ويعتقد الآن، أن ثمة بلورات بالغة الصغر من معدن الزركون، تحتفظ بدليل واضح عن كيفية وزمن تشكلها، تشير إلى أن الأرض بردت في زمن أبكر بكثير ـ ربما قبل 4.4 بليون سنة.
▪ بل إن بعض بلورات الزركون القديمة تحمل تراكيب كيميائية موروثة من المناطق الرطبة الباردة اللازمة لنشوء الحياة.
إثر اطلاعي على هذا الأمر، أجريت اتصالا مع <وايلد> فوافق على إعادة التحريات المتعلقة بعمر زركون جاك هيلز كجزء من أطروحة دكتوراه لطالب لديّ <H .W. پيك>، وهو حاليا مدرس في جامعة كولگيت. وفي عام 1999 قام <وايلد> بتحليل 56 عينة لم يحدد عمرها بعد باستخدام جهاز شريمپ مطور، فوجد أن خمسا منها تتجاوز أعمارها أربعة بلايين سنة، ولدهشتنا الكبيرة كان عمر الأقدم منها 4.4 بليون سنة. ومن الجدير بالذكر أن لبعض العينات من القمر والمريخ أعمارا مماثلة، أما النيازك فهي غالبا ما تكون أقدم عمرا، إلا أنه لم يتم العثور على أعمار كهذه في كوكبنا (ولم يُتَوقع ذلك). فالجميع تقريبا توقعوا أنه حتى لو وجدت بلورات من الزركون كهذه الأكثر قدما، فإن ظروف الهاديان الدينامية دمرتها. وفي ذلك الحين لم نعلم مطلقا بأن أكثر الاكتشافات إثارة سوف يظهر فيما بعد.
أدلة عن محيطات قديمة(*****)
كنت وزميلي .<پيك> نبحث عن عينة محفوظة جيدا للأكسجين الأقدم في كوكب الأرض. فارتأينا أن نتحرى زركون غرب أستراليا الذي حلله <وايلد>. كنا نعلم أن بإمكان الزركون الاحتفاظ بأدلة لا تشمل فقط زمن تشكل الصخور المضيفة بل وكيفية تشكلها. وبشكل خاص كنا نستخدم النسبة بين مختلف نظائر الأكسجين لتقدير درجة حرارة العمليات التي أدت إلى تشكل الصهارة والصخور.
أقدم القطع (المناطق) في كوكب الأرض(******)
صخور قديمة يزيد عمرها على 2.5 بليون سنة تنكشف أو تقع تحت التربة مباشرة في عدة مواقع حول العالم (الأحمر)، بل لعلها مختفية تحت صخور أحدث عبر مناطق أكثر اتساعا (الوردي). وفي نهاية المطاف، يمكن ـ في مواقع أخرى ـ اكتشاف بلورات من الزركون قديمة قدم ما اكتُشِف في جاك هيلز بغرب أستراليا.
يقوم الجيوكيميائيون بقياس النسبة بين الأكسجين 18 (O18 وهو نظير نادر مؤلف من ثمانية پروتونات وعشرة نيوترونات ويشكل 0.2 في المئة من مجمل الأكسجين في الأرض) والأكسجين 16 (O16 وهو النظير الشائع للأكسجين المؤلف من ثمانية پروتونات وثمانية نيوترونات ويشكل نحو 99.8 في المئة من مجمل الأكسجين). تُدعى هذه الذرات النظائر المستقرة لأنها لا تخضع للتحلل الإشعاعي، ومن ثم لا تتغير تلقائيا مع مرور الزمن، بيد أن نسب O18 و O16 المندمجة في البلورة في أثناء تشكلها تتباين تبعا لدرجة حرارة الوسط الذي تتشكل فيه.
إن النسبة O18/O16 معروفة بالنسبة إلى وشاح الأرض earth's mantle (غلاف سماكته 2800 كيلومتر يقع مباشرة أسفل القشرة القارية والمحيطية التي تراوح سماكتها بين خمسة و40 كيلومترا). وللصهارة المتكونة في الوشاح نسبة نظائر الأكسجين نفسها تقريبا. ولتبسيط الأمر يقوم الجيوكيميائيون بمعايرة هذه النسب بالرجوع إلى النسبة التي نجدها في مياه البحر ويتم التعبير عنها بالرمز دلتا δ delta. فقيمة δO18 للمحيطات هي صفر تعريفا، وقيمة δO18 للزركون في وشاح الأرض 5.3، بمعنى أنها تحوي O18/O16 أكثر من مياه البحر.
لهذا توقعت مع < پيك> أن نجد قيمة قريبة من 5.3 لوشاح الأرض البدائي، عندما أخذنا زركون جاك هيلز، بما في ذلك العينات الخمس الأقدم، إلى جامعة أدنبرة باسكتلندة في الصيف نفسه. فهناك ساعدنا <J. كريڤن> و<C. گراهام> على استخدام نوع مختلف من المسبار الميكروي الأيوني يلائم بشكل خاص قياس نسب نظائر الأكسجين. وفي العقد الماضي كنا قد عملنا معا مرارا لتحسين التقنية بحيث أصبحنا قادرين على تحليل عينات حجمها يعادل واحدا في المليون من حجم العينات التي كان بإمكاننا تحليلها في مختبري بوسكونسين. فبعد إجراء تحاليل على مدار الساعة طوال 11 يوما مع ساعات نوم محدودة (وهذه تعتبر ظروفا عادية لعملية كهذه)، أنجزنا القياسات فوجدنا أن تنبؤاتنا كانت خاطئة، إذ إن قيم δ O18 وصلت إلى 7.4.
استخلاص الأدلة(*******)
يستخلص العلماء من بلورة منفردة من معدن الزركون شواهد عدة حول البيئة القديمة للأرض (المقطع الرئيسي في الأسفل). وهم يقومون أولا بوضع الزركون في الإيپوكسي epoxy (نوع من الصمغ)، ومن ثم يعملون على جرش وتلميع البلورة لإظهار سطحها الأصلي.
ويتم الكشف على أنماط نمو الزركون وأية شظايا صغيرة من المعادن التي تم احتواؤها أثناء نموه، باستخدام مجهر إلكتروني ماسح scanning. فعلى سبيل المثال إن أكثر المحتبسات شيوعا في الزركون هو المرو الذي مصدره الغرانيت، وهو نوع من الصخور التي تميز القارات.
يشكل مسبار ميكروي أيوني حفرة صغيرة بقذف الذرات على هذا السطح اللامع باستخدام حزمة مركزة من الأيونات، ثم يحدد أنواع الذرات بمقارنة كتلها. ولتحديد عمر البلورة يقوم العلماء بقياس ذرات اليورانيوم والرصاص المحتجزة في البنية الذرية للزركون. وبكلام أبسط، فإن تواصل التحلل الإشعاعي لليورانيوم إلى رصاص يعني أنه كلما ازدادت كمية الرصاص بالنسبة إلى اليورانيوم كانت البلورة أكثر قدما.
بعد ذلك يقوم الباحثون بجرش سطح البلورة لإظهار طبقة أكثر عمقا في البلورة، ولتكوين حفرة ثانية في مكان يطابق تماما وبدقة الموقع الأول مستخدمين لهذا الغرض المسبار الميكروي وذلك لقياس ذرات الأكسجين، أحد العناصر الثلاثة التي تكون الزركون. إن النسبة بين نظائر معينة للأكسجين ـ أي ذرات من الأكسجين تتميز بكتل مختلفة ـ تُظهر ما إذا كانت البلورة قد سجلت ظروفا حارة أو باردة.
ويولد الباحثون حفرة ثالثة لقياس مقادير العناصر الشحيحة (النزرة) trace elements- ، وهي شوائب تشكل أقل من 1 في المئة من بنية البلورة. وبعض هذه العناصر أكثر شيوعا في القشرة القارية.
مشهد أكثر قربا
لقد صعقنا. ما الذي يمكن لهذه النسب العالية لنظائر الأكسجين أن تعنيه؟ سيكون الجواب واضحا لو كانت الصخور أحدث عمرا، وذلك بسبب توافر مثل هذه النسب في الصخور الحديثة. وثمة سيناريو نموذجي بهذا الصدد يتمثل في أن الصخور المنتشرة على سطح الأرض يمكن ـ تحت درجة حرارة منخفضة ـ أن تكتسب نسبة مرتفعة من نظائر الأكسجين إذا تآثرت كيميائيا مع مياه الأمطار أو مياه المحيطات. ومن ثم، فإن دفن هذه الصخور ذات النسبة العالية من δ O18 وصهرها يؤدي إلى تشكيل صهارة تحتفظ بهذه القيم المرتفعة التي تنتقل إلى الزركون في أثناء تبلوره. وهكذا فإن ثمة حاجة إلى توافر الماء السائل ودرجات الحرارة المنخفضة على سطح الأرض لتكوين زركونات وصهارات تتسم بقيم δ O18 مرتفعة؛ ولا توجد عملية معروفة أخرى قادرة على تحقيق ذلك.
إن بلورات الزركون الصغيرة الحجم، ومصدرها غرب أستراليا، لم تبح بأسرارها بسهولة.
ويشير وجود نسب مرتفعة لنظير الأكسجين في زركون جاك هيلز إلى أن الماء السائل وجد على سطح الأرض قبل 400 مليون سنة، على أقل تقدير، من تشكل أقدم الصخور الرسوبية المعروفة، أي صخور إسيوا Isua في غرينلاند. وإذا صح ذلك، فإن محيطات برمتها ربما كانت موجودة، بحيث جعلت المناخ المبكر للأرض أشبه بالسونا sauna منه بكرة نار الهاديان.
أدلة قارية(********)
هل يمكننا في الواقع أن نعتمد نتائج بعيدة المدى كهذه حول تاريخ الأرض استنادا إلى بضع بلورات بالغة الصغر؟ لقد أرجأنا نشر النتائج لأكثر من سنة لكي نتحقق مرة ثانية من تحاليلنا. وفي غضون ذلك، كانت مجموعات أخرى تجري أبحاثها الخاصة في منطقة جاك هيلز . وقد أكّد نتائجنا <J.S. مُويْزيس> [من جامعة كولورادو] مع زملائه [من جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس]، فنشرنا في عام 2001 مقالتين تباعا توضحان ذلك.
وبعد أن انتشرت اكتشافاتنا عن الزركون في المجتمع العلمي كانت الإثارة ملموسة. ففي عنف الاحترار المفرط لعالم الهاديان لا يمكن أن تَسْلم عينة واحدة لكي يتسنى دراستها من قبل الجيولوجيين. إلا أن بلورات الزركون هذه أشارت إلى عالم مألوف أكثر اعتدالا فأتاحت الوسائل اللازمة لإماطة اللثام عن أسراره. فإذا كان مناخ الأرض باردا لدرجة تسمح بظهور محيطات مبكرة من الماء فقد ينبئنا الزركون باحتمال وجود القارات وغيرها أيضا من مظاهر الأرض المعاصرة. ولتقصي ذلك تطلَّب الأمر أن ننظر بصورة أكثر قربا إلى داخل كل من هذه البلورات.
فحتى أكثر بلورات الزركون صغرا تحتوي على مواد أخرى تغلفت أثناء نمو الزركون حولها. فهذه المحتبسات inclusions في الزركون يمكن أن تكشف الكثير عن مصدر البلورات، مثلما تكشفه أنماط نمو البلورات والعناصر الشحيحة (النزرة) trace elements فيها. وعندما قمت مع <پيك> بدراسة بلورات الزركون البالغ عمره 4.4 بليون سنة، وجدنا، على سبيل المثال، أنها تحتوي على أجزاء من معادن أخرى بما في ذلك المرو quartz. وقد كان ذلك مدهشا لأن المرو نادر الوجود في الصخور البدائية، وربما كان غير موجود في القشرة الأولية للأرض. فمعظم بلورات المرو تأتي من الصخور الغرانيتية التي أصبحت شائعة في القشرة القارية الأكثر تطورا.
فإذا كان مصدر زركون جاك هيلز صخرا غرانيتيا، فإن هذا الدليل يؤيد فرضية مفادها أن هذا المعدن يمثل عينة من أول قارة ظهرت على كوكب الأرض. إلا أنه لابد من توخي الحذر. فالمرو يمكن أن يتشكل في المراحل الأخيرة من تبلور الصهارة حتى ولو لم تكن الصخور الأم غرانيتية، على الرغم من أن مثل هذا المرو أقل توافرا. فمثلا، تم العثور على الزركون وبضع حبات من المرو على سطح القمر الذي لم يشهد بتاتا تطور قشرة غرانيتية قارية. وتساءل بعض العلماء عن إمكانية تشكل بلورات الزركون الأقدم في بيئة شبيهة ببيئة القمر الأولية، أو أنها تكونت بوسائل أخرى غير شائعة حاليا، كأن تكون ذات صلة بارتطام نيزك ضخم أو بنشاط بركاني نابع من مصدر عميق، ولكن أحدا من العلماء لم يوفر دليلا مقنعا.
وفي أثناء ذلك، توافرت معلومات عن القشرة القارية من العناصر الشحيحة (النزرة) (العناصر التي تتبادل في الزركون بكميات لا تتجاوز نسبتها 1 في المئة). يحتوي زركون جاك هيلز على تراكيز عالية من هذه العناصر، كما يحتوي على أنماط من عنصري اليوروپيوم والسيريوم يشيع حدوثها في أثناء تبلور القشرة، مما يعني أن الزركون تكوّن قرب سطح الأرض وليس في الوشاح. إضافة إلى ذلك فإن نسب النظائر المشعة للنيوديميوم والهافنيوم ـ وهما عنصران يستخدمان لتوقيت الأحداث المؤدية إلى تكون القارات ـ تشير إلى أن مقادير ملموسة من القشرة القارية تشكلت قبل 4.4 بليون سنة.
وقد وفر توزع بلورات الزركون القديمة أدلة إضافية. إن نسبة الزركون الأكثر قدما من أربعة بلايين سنة تزيد على %10 في بعض العينات من جاك هيلز. كما أن سطوح الزركون تشير إلى بريٍ أو سحجٍ abrasion بدرجة عالية وتم تدوير زوايا أوجه البلورات التي كانت حادة عند منشئها، مما يشير إلى نقلها بالرياح مسافات بعيدة عن صخر مصدرها. كيف يمكن إذًا أن تنتقل بلورات الزركون مئات أو آلاف الكيلومترات كغبار تذروه الرياح وتبقى مع ذلك مركزة ومجتمعة مع بعضها بعضا ما لم تكن في الأصل متوافرة بكميات كبيرة؟ وكيف يمكن لبلورات الزركون هذه أن تسلم من الدفن والانصهار في الوشاح الحار ما لم تتوافر قشرة من النوع القاري سميكة ومستقرة لكي يتسنى الحفاظ على هذه البلورات؟
حكايات تروى(*********)
غيرت بلورات زركون جاك هيلز من غرب أستراليا نمط تفكير العلماء عن تاريخ الأرض. فهذه البلورات تمثل أقدم مادة أرضية تم اكتشافها حتى الآن. فمئات البلورات التي تم تعرّفها تشكلت قبل أربعة بلايين سنة. والعديد منها، الذي يؤدي دور ضابط للزمن، يحمل أيضا علامات كيميائية واضحة تشير إلى أن محيطات من الماء السائل، وحتى قارات، وجدت على سطح الأرض في زمن كان يُعتقد سابقا أنه سطح ملتهب ومصهور.
عمر قديم
إن العمر الأقدم لزركون جاك هيلز ـ 4.4 بليون سنة (الأحمر) ـ متطابق تماما مع «ساعتين» clocks جيولوجيتين ـ زوجين من النظائر ـ هما اليورانيوم -235الرصاص 207 (المحور الشاقولي) واليورانيوم -238الرصاص 206 (المحور الأفقي) ـ اللذان يشكلان ضابطتين مشعتين للزمن تبدآن العمل عندما يتكون الزركون. فإذا حُفظتا جيدا، فإن النسب النهائية لهما تتمثل بخط وحيد (الأصفر). أما تواريخ أجزاء أخرى من الزركون (الوردي) فإنها تقع خارج هذا الخط، ويعود ذلك إلى فقدان بعض الرصاص في هذه المناطق، بيد أن العلماء يمكن أن يصححوا هذا الخطأ.
محيطات باردة
إن نسب نظائر الأكسجين في عينات من زركون جاك هيلز (الأزرق) التي تصل إلى 7.5 يمكن أن تتحقق فقط إذا كانت صخور مصدرِها قد تشكلت في بيئة باردة غنية نسبيا بالمياه قرب سطح الأرض. فإذا حدث أن غمرت محيطات الصهارة الكوكب أثناء تشكل الزركون فإن قيمها ستتجمع بالقرب من 5.3، مثلما تتجمع نسب جميع البلورات الآتية من صخور حارة منشؤها عميق في قلب كوكب الأرض (الأحمر).
القارات الأولى؟
إن السطوح المدوَّرة لبعض بلورات زركون جاك هيلز تُظهر تحت المجهر الإلكتروني الماسح أن الريح، وربما المياه الجارية، قارعت هذه البلورات لمسافات طويلة ـ ربما عبر قارة كبيرة من الأرض اليابسة ـ قبل توضُّعها في أمكنتها (في اليسار). فالزركون الذي نجده قرب مصدره يحتفظ بحافات حادة (أقصى اليسار). إن العدد الكبير من بلورات جاك هيلز المستديرة الحافات يشير إلى انتشار واسع للصخور التي كانت تشكل مصدرها الأصلي.
تظهر هذه النتائج أن بلورات الزركون كانت منتشرة بكثرة في زمن ما، وأن مصدرها منطقة واسعة الامتداد، ربما كتلة قارية. فإذا كان الأمر كذلك، فهناك احتمال كبير بأن صخورا من ذلك الزمن الموغل في القدم مازالت موجودة في وقتنا هذا، وهو أمر مثير لأننا قد نتعلم الكثير من صخور بقيت سليمة تنتمي إلى ذلك الزمن القديم.
إضافة إلى ذلك، فإن توزع أعمار بلورات الزركون القديمة ليس منتظما. فهناك تجمّع لأعمار متقاربة في فترات زمنية محددة، ولم يعثر على الزركون في أحقاب أخرى. حصل أحد طلبتي في الدراسات العليا سابقا وهو <J .A. كاڤوسي> [يعمل حاليا مدرسا في جامعة پورتوريكو]، على دليل مماثل في بلورات ممنطقة zoned من الزركون، حيث تشكلت النواة قبل 4.3 بليون سنة في حين نمت نطق حولها في زمن لاحق يمتد بين 3.3 و 3.7 بليون سنة. ومن المتوقع أن يتناقص عمر بلورة الزركون من النواة إلى الحافة لأن بلورات الزركون تنمو على نحو متراكز concentric بإضافة المادة إلى محيط حباتها. بيد أن الفروق الكبيرة في العمر ووجود فجوات زمنية بين النوى والحافات لبلورات الزركون هذه تشير إلى وقوع حادثتين متمايزتين يفصل بينهما ثغرة رئيسية. أما بالنسبة إلى بلورات الزركون الأكثر توافرا والأحدث عمرا، فإن هذه العلاقة الزمنية بين النواة والغلاف ترجع إلى عمليات تكتونية أدت إلى صهر القشرة القارية وإعادة تدوير الزركون في القشرة. ويحاول العديد من العلماء اختبار ما إذا كانت بلورات زركون جاك هيلز القديمة قد تشكلت في ظروف مماثلة.
وأحدث ما استجد في هذا المجال تقرير <B .E. واتسون> [من معهد رنسيلاير پوليتكنيك] و<M .T. هاريسون> [من جامعة أستراليا الوطنية] عن وجود تراكيز من التيتانيوم أقل من المتوقع في بلورات الزركون القديمة، مما يدل على أن درجة حرارة الصهارة التي تشكلت فيها راوحت بين 650 و 800 درجة سيلزية. ومثل هذه الدرجات المنخفضة لا تتوافر إلا إذا كانت الصخور الأم غرانيتية، لأن معظم الصخور غير الغرانيتية تنصهر في درجات حرارة أكثر ارتفاعا، ومن ثم فإن الزركون الذي ينتمي إليها لا بد أن يحتوي على نسب أعلى من التيتانيوم.
الزركون للأبد(**********)
منذ قيامي مع زملائي بتحليل نسب نظائر الأكسجين في بلورات زركون جاك هيلز الخمس عام 1999 تراكمت بسرعة البيانات التي تعزز نتائجنا. فقد أجريت تحريات في كل من پيرث وكانبرا وبكين ولوس أنجلوس وأدنبرة وستوكهولم ونانسي في فرنسا تناولت وضع عشرات الآلاف من بلورات زركون جاك هيلز تحت المسبار الميكروي الأيوني للبحث عن القلة القليلة من بينها التي تتجاوز أعمارها أربعة بلايين سنة، كما استخدمت تقنيات تأريخ أخرى لهذا الغرض.
وثمة اكتشافات جديدة لمئات من بلورات الزركون من مواقع مختلفة تم الإعلان عنها وتراوحت أعمارها بين 4.4 و 4 بلايين سنة. فقد عثر <R .D. نلسون> وزملاؤه [من هيئة المساحة الجيولوجية لغرب أستراليا] أيضا على بلورات قديمة من الزركون تبعد مسافة 300 كيلومتر إلى الجنوب من تلال جاك هيلز. ويقوم الجيوكيميائيون بتقصي مناطق قديمة أخرى من الأرض يحدوهم الأمل في أن يجدوا للمرة الأولى بلورات زركون عمرها أقدم من 4.1 بليون سنة من خارج أستراليا.
وقد أدى تكثيف البحث إلى تحسين التقانة. فقد قدم <كاڤوسي> نتائج تظهر مزيدا من الدقة بتحليل أكثر من 20 بلورة من زركون جاك هيلز تتميز باحتوائها على نسب مرتفعة من نظائر الأكسجين التي تشير إلى درجات حرارة منخفضة (برودة) على سطح الأرض ومحيطات قديمة يرجع عمرها إلى 4.2 بليون سنة. وما زلت مع زملائي نتابع البحث باستخدام النموذج الأول من الجيل الأحدث للمسبار الميكروي الأيوني الذي يدعى CAMECA IMS 1280 والذي تم تركيبه في مختبري في الشهر 3/2005.
وستتم الإجابة عن العديد من الأسئلة إذا أمكن تعرّف الصخور الأصلية التي تشكل فيها الزركون. وحتى لو لم نجدها قط، فإن بإمكاننا أن نتعلم الكثير من كبسولات الزركون البالغة الصغر.
المؤلف
John W. Valley
حصل على الدكتوراه عام 1980 من جامعة ميتشيغان في آن آربور حيث أظهر اهتماما للمرة الأولى بالأرض المبكرة. وابتداء من ذلك التاريخ قام مع طلبته بتحري سجل الصخور القديمة في مختلف أرجاء أمريكا الشمالية وغرب أستراليا وغرينلاند واسكتلندة. يشغل حاليا منصب رئيس الجمعية الأمريكية لعلم المعادن، وكرسي <R .Ch. ڤان هيز> للجيولوجيا في جامعة وسكونسين، حيث أنشأ المختبر WiscSIMS. والإمكانات المتميزة للمسبار الميكروي الأيوني الجديدCAMECA IMS 1280 المتوافرة في هذا المختبر ستتيح إجراء عدد كبير من الأبحاث. فإلى جانب الزركون، سيسبر <ڤالي> وزملاؤه العديد من المواد النادرة أو البالغة الصغر ابتداء من غبار النجوم وانتهاء بالخلايا السرطانية.