[♣::♣] مفاسد الرشوة وأضرارها [♣::♣]
الرشوة لغة:
هي الاسم من قولهم رشاه يرشوه رشوا إذا أعطاه الجعل، وهي مأخوذة من مادّة (ر ش و) الّتي تدلّ على التّسبّب للشّيء برفق وملاينة، تقول: ترشّيت الرّجل إذا لاينته، ومن ذلك قول امريء القيس:
نزيف إذا قامت لوجه تمايلت *** تراشي الفؤاد الرّخص ألّا تختّرا
[مقاييس اللغة 2/ 397] . وقال الجوهريّ: يقال: الرّشوة (بالكسر) والرّشوة (بالضّمّ) وجمعها رشى ورشا، وارتشى: أخذ الرّشوة، واسترشى في حكمه: طلب الرّشوة عليه، ويقال: ترشّيت الرّجل إذا لاينته، وراشيته إذا ظاهرته [الصحاح 6/ 2357] .
وقال ابن منظور: الرّشو: فعل الرّشوة، والمراشاة: المحاباة، والرّشوة (بالفتح)، والرّشوة (بالكسر)، والرّشوة (بالضّمّ) الجعل، قال: وهي مأخوذة من رشا الفرخ إذا مدّ رأسه إلى أمّه لتزقّه، والرّائش: الّذي يسدي بين الرّاشي والمرتشي [لسان العرب (رشو) ص 1653 (ط. دار المعارف)، والقاموس المحيط (رشا) ص 1662 (ط. بيروت) ] . وفي الحديث: «لعن اللّه الرّاشي والمرتشي والرّائش»، قال ابن الأثير: الرّاشي: من يعطي الّذي يعينه على الباطل، والمرتشي: الآخذ (للرّشوة)، والرّائش الّذي يسعى بينهما يستزيد لهذا، ويستنقص لهذا. قال: وأصل ذلك من الرّشاء الّذي يتوصّل به إلى الماء [النهاية لابن الأثير 2/ 226 ولسان العرب 1653] .
الرشوة اصطلاحا:
قال الفيّوميّ: الرّشوة: ما يعطيه الشّخص الحاكم وغيره ليحكم له أو يحمله على ما يريد [المصباح المنير للفيومي ص 228] .
وقال الجرجانيّ: الرّشوة: ما يعطى لإبطال حقّ أو إحقاق باطل [التعريفات للجرجاني ص 116، والتوقيف على مهمات التعاريف للمناوي ص 177] .
وقال التّهانويّ: حدّ الرّشوة: بذل المال فيما هو غير مستحقّ على الشّخص، وقيل: هي ما يعطيه رجل شخصا حاكما أو غير حاكم ليحكم له أو يحمله على ما يريده [كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي (3/ 86) ] .
وقال ابن الأثير: الرّشوة (بالكسر والضّمّ): الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة، قال: وأمّا ما يعطى توصّلا إلى أخذ حقّ أو دفع ظلم فغير داخل في الرّشوة [النهاية لابن الأثير (2/ 266) ] .
وقد استنبط بعض الباحثين ممّا ذكره الفقهاء تعريفا جامعا للرّشوة فقال: هي ما يؤخذ (من جعل) عمّا وجب على الشّخص فعله، سواء أكان واجبا على العين، كالقاضي أو على الكفاية، كما في شخص يقدر على دفع الظّلم أو استخلاص حقّ من يد ظالم.
وسواء أكان الوجوب شرعيّا كما في وليّ المرأة لا يزوّجها إلّا بالرّشوة، أو شاعر يخاف منه الهجو، لأنّ الكفّ عن عرض المسلم واجب شرعا، أو كان الوجوب عرفيّا (عن طريق العقد)، كمن آجر نفسه لإقامة أمر من الأمور المتعلّقة بالمسلمين كأعوان القاضي أو أعضاء النّيابة وأهل الدّيوان من الموظّفين [بتلخيص وتصرف عن كشاف اصطلاحات الفنون (3/ 88) ] .
قوله تعالى: ( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) [البقرة: 188] .
قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ * سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) [المائدة: 41- 42] .
قوله تعالى: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ * وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ * وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ * لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ ) [المائدة: 60- 63] .
قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) [التوبة: 34] .
قوله تعالى: (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ * فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ) [النمل: 35- 36] .
عن عبد اللّه بن عمرو- رضي اللّه عنهما- قال: لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الرّاشي والمرتشي. [سنن الترمذي 3 (1337) واللفظ له، وقال: حديث حسن، أبو داود 3 (3580)، وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود 2 (3055): صحيح، والترغيب والترهيب 3/ 179 ] .
عن أبي هريرة- رضي اللّه عنه- قال: لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الرّاشي والمرتشي في الحكم. [سنن الترمذي 3 (1336)، وحسنه وأخرجه أحمد (2/ 387، 388) وقال الألباني صحيح ] .
عن أبي أمامة عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «من شفع لأخيه بشفاعة، فأهدى له هديّة عليها، فقبلها، فقد أتى بابا عظيما من أبواب الرّبا» [سنن أبي داود 3 (3541)، وحسنه الألباني في الصحيحة 2 (3025) ] .
عن أبي حميد السّاعديّ قال: استعمل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم رجلا من الأسد يقال له ابن اللّتبيّة، فلمّا قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي لي. قال: فقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على المنبر، فحمد اللّه وأثنى عليه. وقال: «ما بال عامل أبعثه فيقول: هذا لكم وهذا أهدي لي! أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمّه حتّى ينظر أيهدى إليه أم لا؟ والّذي نفس محمّد بيده، لا ينال أحد منكم منها شيئا إلّا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه، بعير له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر». ثمّ رفع يديه حتّى رأينا عفرتي إبطيه. ثمّ قال: «اللّهمّ هل بلّغت؟» مرّتين . [البخاري- الفتح 13 (7197)، مسلم (1832) واللفظ له ] .
روي أنّ ابن مسعود- رضي اللّه عنه- أخذ بأرض الحبشة في شيء فأعطى دينارين حتّى خلّي سبيله. [النهاية لابن الأثير 2/ 226، ويبدو أن ابن مسعود كان قد أخذ ظلما فدفع دينارين ليدفع عن نفسه هذا الظلم وهذا ليس من الرشوة المحرمة على الدافع ] .
عن ابن مسعود- رضي اللّه عنه- قال: الرّشوة في الحكم كفر، وهي بين النّاس سحت. [الترغيب والترهيب 3/ 181، مجمع الزوائد 4/ 200 ] .
عن ابن مسعود- رضي اللّه عنه- قال: السّحت أن تطلب لأخيك الحاجة، فتقضى، فيهدي إليك هديّة فتقبلها منه. [الكبائر للذهبي 143 ] .
عن قتادة قال في قوله تعالى: ( إِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ ) [النمل: 35] قالت: إنّي باعثة إليهم بهديّة، فمصانعتهم بها عن ملكي، إن كانوا أهل دنيا، فبعثت إليهم بلبنة من ذهب في حرير وديباج، فبلغ ذلك سليمان فأمر بلبنة من ذهب فصنعت، ثمّ قذفت تحت أرجل الدّوابّ على طريقهم تبول عليها وتروث، فلمّا جاء رسولها، واللّبنة تحت أرجل الدّوابّ، صغر في أعينهم الّذي جاءوا به. [الدر المنثور 5/ 203 ] .
عن مسروق أنّه كلّم ابن زياد في مظلمة، فردّها، فأهدى إليه صاحب المظلمة وصيفا ، فردّها، ولم يقبلها، وقال: سمعت ابن مسعود يقول: من ردّ عن مسلم مظلمة فأعطاه على ذلك قليلا أو كثيرا فهو سحت. فقال الرّجل: يا أبا عبد الرّحمن ما كنّا نظنّ أنّ السّحت إلّا الرّشوة في الحكم. فقال: ذلك كفر نعوذ باللّه منه. [الكبائر للذهبي 143 ] .
روي عن جماعة من أئمة التّابعين قالوا: لا بأس أن يصانع الرّجل عن نفسه وماله إذا خاف الظّلم. [النهاية لابن الأثير 2/ 226 ] .
يقول القرطبيّ في معنى قوله تعالى: ( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ ) [البقرة: 188] والمعنى: لا تجمعوا بين أكل المال بالباطل، وبين الإدلاء إلى الحكّام بالحجج الباطلة، وهو كقوله تعالى: ( وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ ) [البقرة: 43]، وقيل المعنى: لا تصانعوا بأموالكم الحكّام، وترشوهم ليقضوا لكم على أكثر منها، قال ابن عطيّة: وهذا القول يترجّح لأنّ الحكّام مظنّة الرّشاء، إلّا من عصم، وهو الأقّلّ. [تفسير القرطبي 2/ 226 ] .
قال ابن كثير في قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) [التوبة: 34] قال: وذلك أنّهم يأكلون الدّنيا بالدّين، ومناصبهم ورياستهم في النّاس. يأكلون أموالهم بذلك كما كان لأحبار اليهود على أهل الجاهليّة شرف، ولهم عندهم خراج وهدايا وضرائب تجبى إليهم. [تفسير ابن كثير 2/ 300] .
قال أبو حيّان في قوله تعالى: ( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ ...) [البقرة: 188] يجوز أن تكون المناسبة بين هذه الآية وآية الصّيام قبلها، أنّه سبحانه لمّا أوجب عليهم الصّوم، كما أوجبه على الّذين قبلهم، خالف بين أهل الكتاب وبينهم فأحلّ لهم الأكل والشّرب والجماع في ليالي الصّوم، ثمّ أمرهم ألّا يوافقوهم في أكل الرّشا من ملوكهم وسفلتهم. [تفسير البحر المحيط لأبي حيان 2/ 62 ] .