·!¦[◙] مقتضيات الأخوة الإيمانية [◙]¦!·
الأخوَّة في الله ليستْ مجردَ كلمة تلفظها الأفواه، ولا لحنًا يتغنَّى به الشعراء؛ بل هي معنًى عظيمٌ، ودين يُرجى من الله ثوابُه، فأهلُ المحبَّة في الله على منابر النور في المحشر، يَغبطهم لأجلها خيرُ الخلق على الإطلاق؛ فقد روى الترمذيُّ وغيره من حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أنه قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((قال الله - عز وجل: المتحابُّون في جلالي لهم منابرُ من نور، يغبطهم النبيُّون والشهداء)).
وجعل الله الأخوةَ فيه أوثقَ عُرى الإيمان؛ فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - كما روى الطبراني من حديث ابن عباس: ((أوثقُ عرى الإيمان: الموالاةُ في الله، والمعاداةُ في الله، والحبُّ في الله، والبغضُ في الله)) ، فإذا رأيتَ الرجلَ يُحِبُّ في الله، ويُبغِض فيه، فاعلم أن هذه علامة إيمان فيه، وفضلٌ عظيم من الله وُفِّق إليه، فالمحبُّ في الله وصل منزلةً من الإيمان جعلتْه يقود رغبتَه وميلَ قلبِه، ويثني طِباعَه وما جُبلتْ عليه نفسُه، لتصبح منقادةً لما يحبه الله ويرضاه.
1- قَالَ الله تَعَالَى: (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّه) [الحج:30].
2- قالَ تَعَالَى: (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج:32].
3- قالَ تَعَالَى: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الحجر:88].
4- قالَ تَعَالَى: (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) [المائدة:32].
أحاديث
1- عن أَبي موسى رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: (المُؤْمِنُ للْمُؤْمِنِ كَالبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضَاً) وشبَّكَ بَيْنَ أصَابِعِهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
2- وعنه، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ مَرَّ في شَيْءٍ مِنْ مَسَاجِدِنا، أَوْ أَسْوَاقِنَا، وَمَعَهُ نَبْلٌ فَلْيُمْسِكْ، أَوْ لِيَقْبِضْ عَلَى نِصَالِهَ بكَفّه؛ أنْ يُصِيبَ أحَداً مِنَ المُسْلِمِينَ مِنْهَا بِشَيْء) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
3- عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: (مَثَلُ المُؤْمِنينَ في تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمهمْ وَتَعَاطُفِهمْ، مَثَلُ الجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ والحُمَّى) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
4- عن أَبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: قَبَّلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الحَسَنَ بْنَ عَليٍّ رضي الله عنهما، وَعِنْدَهُ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِس، فَقَالَ الأقْرَعُ: إن لِي عَشرَةً مِنَ الوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أحَداً. فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: (مَنْ لا يَرْحَمْ لاَ يُرْحَمْ) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
5- عن عائشة رضي الله عنها، قَالَتْ: قَدِمَ نَاسٌ مِنَ الأعْرَابِ عَلَى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أتُقَبِّلُونَ صِبْيَانَكُمْ؟فَقَالَ: (نَعَمْ) قالوا: لَكِنَّا والله مَا نُقَبِّلُ! فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: (أَوَ أَمْلِك إنْ كَانَ اللهُ نَزَعَ مِنْ قُلُوبِكُم الرَّحْمَةَ!) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
6- عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ لاَ يَرْحَم النَّاسَ لاَ يَرْحَمْهُ الله) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
7- عن أَبي هريرة رضي الله عنه: أنّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (إِذَا صَلَّى أحَدُكُمْ للنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ، فَإن فيهِم الضَّعِيفَ وَالسَّقِيمَ وَالكَبيرَ، وَإِذَا صَلَّى أحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّل مَا شَاءَ) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية: (وذَا الحَاجَةِ).
8- عن عائشة رضي الله عنها، قَالَتْ: إنْ كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَيَدَعُ العَمَلَ، وَهُوَ يُحبُّ أنْ يَعْمَلَ بِهِ؛ خَشْيَةَ أنْ يَعمَلَ بِهِ النَّاسُ فَيُفْرَضَ علَيْهِمْ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
9- وَعَنْهَا رضي الله عنها، قَالَتْ: نَهَاهُمُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عنِ الوِصَال رَحمَةً لَهُمْ، فَقَالُوا: إنَّكَ تُوَاصِلُ؟قَالَ: (إنّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إنِّي أبيتُ يُطْعمُني رَبِّي وَيَسقِيني) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
مَعنَاهُ: يَجْعَلُ فِيَّ قُوَّةَ مَنْ أَكَلَ وَشَرِبَ.
10- عن أَبي قَتادةَ الحارثِ بن رِبعِي رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: (إنِّي لأَقُومُ إِلَى الصَّلاة، وَأُرِيدُ أنْ أُطَوِّلَ فِيهَا، فَأسْمَع بُكَاءَ الصَّبيِّ فَأَتَجَوَّزَ في صَلاتي كَرَاهية أنْ أشُقَّ عَلَى أُمِّهِ) رواه البخاري.
11- عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ صَلَّى صَلاةَ الصُّبْحِ فَهُوَ في ذِمَّةِ الله فَلاَ يَطْلُبَنَّكُمُ الله مِنْ ذِمَّته بشَيءٍ، فَإنَّهُ مَنْ يَطْلُبْهُ منْ ذمَّته بشَيءٍ يُدْركْهُ، ثُمَّ يَكُبُّهُ عَلَى وَجْهِهِ في نَارِ جَهَنَّمَ) رواه مسلم.
12- عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِم، لا يَظْلِمهُ، وَلاَ يُسْلمُهُ. مَنْ كَانَ في حَاجَة أخيه، كَانَ اللهُ في حَاجَته، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِم كُرْبَةً، فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بها كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَومِ القِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِماً سَتَرَهُ اللهُ يَومَ القِيامَةِ) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
13- عن أَبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: (المُسْلِمُ أخُو المُسْلِمُ، لاَ يَخُونُهُ، وَلاَ يَكْذِبُهُ، وَلاَ يَخْذُلُهُ، كُلُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِم حَرَامٌ عِرْضُهُ وَمَالهُ وَدَمُهُ، التَّقْوى هاهُنَا، بحَسْب امْرىءٍ مِنَ الشَّرِّ أنْ يَحْقِرَ أخَاهُ المُسْلِم) رواه الترمذي، وَقالَ: (حديث حسن ).
14- وعنه، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَنَاجَشُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَلاَ يَبعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْع بَعْض، وَكُونُوا عِبَادَ الله إخْوَاناً، المُسْلِمُ أخُو المُسْلم: لاَ يَظْلِمُهُ، وَلا يَحْقِرُهُ، وَلاَ يَخْذُلُهُ، التَّقْوَى هاهُنَا - ويشير إِلَى صدره ثلاث مرات?- بحَسْب امْرىءٍ مِنَ الشَّرِّ أنْ يَحقِرَ أخَاهُ المُسْلِمَ، كُلُّ المُسْلم عَلَى المُسْلم حَرَامٌ، دَمُهُ ومَالُهُ وعرْضُهُ) رواه مسلم.
(النَّجْشُ): أنْ يزيدَ في ثَمَنِ سلْعَة يُنَادَى عَلَيْهَا في السُّوقِ وَنَحْوه، وَلاَ رَغْبَةَ لَهُ في شرَائهَا بَلْ يَقْصدُ أنْ يَغُرَّ غَيْرَهُ، وهَذَا حَرَامٌ.
وَ (التَّدَابُرُ): أنْ يُعْرضَ عَنِ الإنْسَان ويَهْجُرَهُ وَيَجْعَلهُ كَالشَيءِ الَّذِي وَرَاء الظَّهْر وَالدُّبُر.
15- عن أنس رضي الله عنه، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (لاَ يُؤمِنُ أحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ مَا يُحِبُّ لنَفْسِهِ) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
16- وعنه، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: (انْصُرْ أخَاكَ ظَالماً أَوْ مَظْلُوماً) فَقَالَ رجل: يَا رَسُول اللهِ، أنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُوماً، أرَأيْتَ إنْ كَانَ ظَالِماً كَيْفَ أنْصُرُهُ؟قَالَ: (تحْجُزُهُ – أَوْ تمْنَعُهُ – مِنَ الظُلْمِ فَإِنَّ ذلِكَ نَصرُهُ) رواه البخاري.
17- عن أَبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (حَقُّ المُسْلِم عَلَى المُسْلِم خَمْسٌ: رَدُّ السَّلامِ، وَعِيَادَةُ المَريض، وَاتِّبَاعُ الجَنَائِزِ، وَإجَابَةُ الدَّعْوَة، وتَشْميتُ العَاطِسِ) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية لمسلم: (حَقُّ المُسْلِم عَلَى المُسْلِم ستٌّ: إِذَا لَقيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأجبْهُ، وإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ الله فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ ).
18- عن أَبي عُمَارة البراءِ بن عازب رضي الله عنهما، قَالَ: أمرنا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بسبع، ونهانا عن سبع: أمَرَنَا بعيَادَة المَرِيض، وَاتِّبَاعِ الجَنَازَةِ، وتَشْمِيتِ العَاطسِ، وَإبْرار المُقْسِم، ونَصْرِ المَظْلُوم، وَإجَابَةِ الدَّاعِي، وَإِفْشَاءِ السَّلامِ، ونَهَانَا عَنْ خَواتِيمٍ أَوْ تَخَتُّمٍ بالذَّهَبِ، وَعَنْ شُرْبٍ بالفِضَّةِ، وَعَن الميَاثِرِ الحُمْرِ، وَعَن القَسِّيِّ، وَعَنْ لُبْسِ الحَريرِ والإسْتبْرَقِ وَالدِّيبَاجِ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية: وَإنْشَادِ الضَّالَّةِ في السَّبْعِ الأُوَل.
(المَيَاثِرُ) بياء مثَنَّاة قبل الألفِ، وثاء مُثَلَّثَة بعدها: وهي جَمْعُ ميثَرة، وهي شيء يُتَّخَذُ مِنْ حرير وَيُحْشَى قطناً أَوْ غيره، وَيُجْعَلُ في السَّرْجِ وَكُور البَعير يجلس عَلَيهِ الراكب. (القَسِّيُّ) بفتح القاف وكسر السين المهملة المشددة: وهي ثياب تنسج مِنْ حرير وَكتَّانٍ مختلِطينِ. (وَإنْشَادُ الضَّالَّةِ): تعريفها.
فإذا علمنا أن الأخوة الإيمانية رباطٌ وثيق يمنعُ تسلُّطَ الأعداء، وحصنٌ حصين يصدُّ أهلَه عن مسالك الأشقياء، بالدليل البيِّن، والبرهان المضيء، فلا بد أن يكون ذلك التآخي سببًا في أعظم مطلَبٍ، وأعزِّ مرغوب، إنه الثبات على دين الله، فكلُّ مؤمن خالَطَتْ بشاشةُ الإيمان قلبَه، وسار حبه والولاء له في كل عرق ينبض به لبُّه، قدوته في ذلك خير العالمين، وقدوة الناس أجمعين، محمدُ بْنُ عبدالله - صلوات ربي وسلامه عليه.
فقد كان - عليه الصلاة والسلام - يتحين الفرص ويقصد المواطن التي يستجاب فيها الدعاء، ويقصدها ليدعو بأدعية الثبات، ويسأل اللهَ فيها، وهو لنا أسوة، مع أنه المعصوم الذي غفر الله له ما تقدَّم وما تأخَّر من ذنبه، فكان يقول عن موطن السجود: ((أقربُ ما يكون العبدُ من ربه وهو ساجد؛ فأكْثروا الدعاء))، ويستغلُّ ذلك الموطنَ العظيم بسؤال الله الأمرَ الذي يليق بذلك المقام، فيقول: ((يا مقلِّبَ القلوب، ثبِّتْ قلبي على دينك)).
وفي السفر، الذي هو حريٌّ بأن تُستجابَ فيه الدعواتُ، كان - عليه الصلاة والسلام - حريصًا على ذلك أيَّما حرص، مهتمًّا به أيما اهتمام، فكان من دعائه - عليه الصلاة والسلام: ((اللهم إني أعوذ بك من وعْثاء السفر، وكآبة المنقلب، والحَوْر بعد الكَوْر)).
وإذا علم العبد كيف كان النبي - صلى الله عليه وسلم - حريصًا على هذا، فإنه يسير على نهجه، ويحذو حذوَه، ويستنُّ بسنته، ويقتفي أثره، فكان ذلك متحققًا بأخوة أهل الإيمان، الذين أَمَرَ الله نبيَّه بلزومهم، وألاَّ ينصرف عنهم، وذلك في قول الله - تعالى -: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 28].
قال ابن عباس رضي الله عنه: " إني لأمر بالآية من القرآن فأفهمها فأود أن الناس كلهم فهموا منها ما أفهم " فتح الباري.
2- قال سفيان الثوري: " لأن تلقى الله بسبعين ذنباً فيما بينك وبينه أهون عليك من أن تلقاه بذنب واحد فيما بينك وبين العباد " تنبيه الغافلين.
3- قال أحدهم: " عامل الناس كما تحب أن تُعامَل ".
4- كان ميمون بن مهران -رحمه الله تعالى- يقول: " إن الرجل ليلعن نفسه في الصلاة ولا يشعر، فقيل له: وكيف ذلك؟ قال يقرأ: (ألا لعنة الله على الظالمين)، وهو قد ظلم نفسه بالمعاصي، وظلم الناس بأخذ أموالهم، والوقوع في أعراضهم ".
5- كان أحمد بن حرب -رحمه الله تعالى- يقول: " يخرج من الدنيا أقوام أغنياء من كثرة الحسنات فيأتون يوم القيامة مفاليس من أجل تبعات الناس ".
6- عن أنس رضي الله عنه، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (لاَ يُؤمِنُ أحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ مَا يُحِبُّ لنَفْسِهِ) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
* قال علي رضي الله عنه وغيره: " هو أن لا يحب أن يكون نعله خيراً من نعل غيره، ولا ثوبه خيراً من ثوبه " فتح الباري.
* قال ابن حجر: " لما نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عمن لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه دل على أن ذلك من خصال الإيمان، بل من واجباته؛ فإن الإيمان لا ينفي إلا بانتفاء بعض واجباته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن..". الحديث
وإنما يحب الرجل لأخيه ما يحب لنفسه إذا سلم من الحسد والغل والغش والحقد، وذلك واجب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا "؛ فالمؤمن أخو المؤمن يحب له ما يحب لنفسه ويحزنه ما يحزنه كما قال صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى سائر الجسد بالحمى والسهر) " فتح الباري.
* قال الكرماني: " ومن الإيمان أيضاً أن يبغض لأخيه ما يبغض لنفسه من الشر، ولم يذكره؛ لأن حب الشيء مستلزم لبغض نقيضه، فترك التنصيص عليه اكتفاء " فتح الباري.
ولما كانت الأخوة الإيمانية من أعظم الأمور التي تدعو إلى الثبات، كان الشيطان حريصًا كلَّ الحرص على فكِّ روابطها العظيمة، وكان سعيُه إلى غايته سعيًا حثيثًا، يبذل فيه كلَّ وُسْعِه وطاقته، فيجلب على المتحابِّين في الله بخَيْلِه ورَجِلِه، ويَستفْزُّ مَن استطاع منهم، ويشاركهم في الأموال والأولاد ويَعِدُهم، وما يعدهم الشيطان إلا غرورًا.
ولما كانت النجاة من كيدِه في هذا الباب عزيزةً، رتَّب الله على ذلك الفعلِ عظيمَ الثواب، الذي يغبطهم لأجله أفضلُ الخلق على الإطلاق، فأيُّ رتبةٍ أعظمُ من هذه الرتبة؟! وأي ثواب أعظم من هذا الثواب؟!
فحريٌّ بنا أن نتأمَّل كيدَه في هذا الجانب، ونحذِّر أحبابنا في الله من مكايده ومداخله الخفية.
قال رباح بن عبيدة: كنت قاعداً عند عمر، فذكر الحجاج، فشتمته، ووقعت فيه، فقال عمر: مهلاً يا رباح؛ إنه بلغني أن الرجل لَيَظْلِمُ بالمظلمة، فلا يزال المظلوم يشتم الظالم، وينتقصه، حتى يستوفي حقه، فيكون للظالم الفضل.
2- لما قدم حاتم الأصم إلى أحمد بن حنبل قال له: أحمد بعد بشاشته به: أخبرني كيف التخلص إلى السلامة؟
فقال له حاتم: بثلاثة أشياء.
فقال أحمد: ما هي؟
قال: تعطيهم مالك، ولا تأخذ مالهم، وتقضي حقوقهم، ولا تطالبهم بقضاء حقوقك، وتصبر على أذاهم ولا تؤذهم.
فقال أحمد: إنها لصعبة
قال حاتم: وليتك تسلم ".
فالأخوةُ في الله عبادةٌ تتطلب منا نيَّةً خالصة لله - تعالى - وبما أن النيات تتقلَّب؛ فإن للشيطان دورًا كبيرًا في تقلُّبها، والعمل كلما كانت مقاصدُه عند الناس أكثرَ، كان عن الإخلاص أبعدَ، وللشيطان إليه مداخل كثيرة، والصحبةُ من أكثر الأعمال اختلافًا في المقاصد بين الناس؛ لأن الصحبة مفطورٌ عليها كلُّ إنسان، والناسُ كلهم إما صاحب أو مصحوب؛ لكن تتباين مقاصدُهم، وتختلف مطالبُهم، كاختلاف ما بين السماء والأرض، فكلها دنيوية؛ ما عدا صحبة المتآخين في الله، فالناس يصحب بعضُهم بعضًا؛ إما لأجل كسبٍ مالي، أو مطمعٍ في منصب، أو لقصد شهوة من شهوات النفس، والنفس تشتهي راحتها، التي تتحصل في أمْنِها في الوطن، وغناها في المال والسكن، وتشتهي إيفاء رغباتها الجنسية بالزواج المباح، أو غيره من الزنا والسفاح، وإشباع ما فُطرتْ عليه من استئناس بحديث، أو لهو أو لعب، أو ضحك ومزاح.
(إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا فى شهركم هذا فى بلدكم هذا).
(مَثَلُ المُؤْمِنينَ في تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمهمْ وَتَعَاطُفِهمْ، مَثَلُ الجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ والحُمَّى).
(من لا يرحم لا يرحم).
وقد حَكَم الله - تعالى - في كتابه على كلِّ صحبةٍ غيرِ صحبة أهل التقوى بالزوال والانقطاع، أما صحبة أهل التقوى، فهي باقية ما بقيت السماء والأرض، بحول الله وقوَّته؛ قال الله - تعالى -: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67]؛ لأنها قامتْ على أساسٍ عظيم، وهو الإيمان بالله - تعالى - فهي تتَّسم بالصدق؛ لأن أهلها يتناصحون بينهم إذا رأى أحدُهم من الآخر خطأً، أمَّا من سواهم، فكيف يتناصحون وهم لم تَخْلُ مجالسُهم من معصية الله؟!
وأعظم خطرٍ ينبغي التحذير منه: الجرأةُ على حدود الله، وإذا لم يكن هنالك تناصحٌ في هذا الموضع الخطير، فما سواه من باب أولى.
وأهلُ الأخوة الإيمانية يَصُونُ بعضُهم أعراض بعضٍ في السرِّ والعلن، ففي العلن ينتقون أطايبَ الكلام، فلا شتيمة ولا مسبَّة بينهم، ولا حرص على فضيحة، ولا تطاول على محارم، وفي السرِّ يَذكُرون محاسنهم عند الناس، ولا يغتابونهم ولا يبهتونهم، ولا ينتهكون أعراضهم، وإن ذَكَرهم الناسُ بغِيبةٍ ذبُّوا عنهم؛ لأنهم مأمورون بذلك، وصدقُ محبَّتِهم في الله تَدْعوهم إلى الْتماس رضوان الله - تعالى - في كل أمر، أما من سواهم، فالسبُّ واللعان، والتهتُّكُ بالألفاظ الشنيعة في حضورهم وعند غيابهم - هجومٌ بقبيح الألفاظ، وذِكرٌ بالسيِّئ من الأقوال، وغيبة وبهتان وتنقص، وإن ذُكروا عندهم بسوء لم يذبُّوا عن أعراضهم؛ لأن صُحبتَهم لم تقم على أساس التقوى؛ فهي مهزوزة، وبناؤها هش من قش.
والمتآخون في الله لا تخلو مجالسُهم مِن ذِكره، وكيف لا يحصل ذلك وقد أمَرَهم مَن تحابُّوا فيه بهذا الأمر؛ فقد قال الله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب: 41]، أما من سواهم، فالغفلةُ والإعراض عنوانُهم، وكأنهم لم يُخلَقوا لأجل العبادة، فيقومون من مجالسهم كأنهم يقومون عن جيفة حمار - عياذًا بالله.
وأهل الأخوة في الله يحبُّ بعضُهم الخيرَ لأخيه كما يحبُّ الخير لنفسه، ففي خير الدنيا يُؤثِرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وفي خير الآخرة يتناصحون ويتعاونون عند لقائهم بعضهم ببعض، ويَدْعون لبعضهم البعض عند افتراقهم بأنْ يجمعهم الله عنده على سُرُرٍ متقابلين، فيؤمِّن المَلَك على دعائهم؛ جزاء من جنس العمل.