الجنس : العمر : 30 مكة المكرمة التسجيل : 12/03/2012عدد المساهمات : 27
موضوع: الحياء : انقباض النفس عن القبائح الجمعة 16 مارس 2012, 9:02 pm
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، فصلاة الله وسلامه على المبعوث رحمة للعالمين البشير النذير، إمام المتقين وسيد الخلق أجمعين، قائد الغر الميأمين إلى جنات النعيم، وعلى آله وصحبه وسلم ومن أتبع هداه إلى يوم الدين.
لا شك أن من أهم الأعمال وأعظمها هي أعمال القلوب كالمحبة لله تعالى، والتوكل عليه، والإنابة إليه والخوف منه والرجاء، وإخلاص الدين له، والخشية والإخبات له سبحانه، وغيرها كثير، ولا شك أيضا أن الحياء هو من أهم أعمال القلوب التي ينبغي على المسلم التحلي بها، لذلك أمرت الشريعة الغراء بالتحلي بالأخلاق الفاضلة التي من جملتها خلق الحياء فهو خلق رفيع ونبيل يبعث صاحبه على ترك فعل المحرمات والمنكرات، ويصون صاحبه عن الوقوع في الآثام والأوزار، خلق يبعث على ترك كل ما يستقبحه العقل، وأصحاب الأذواق السليمة، خلق يبعث صاحبه عن البحث عن كل ما هو حلال في مطعمه ومشربه وملبسه، يخلق يعبث على الترفع عن كل ما هو فاحش وبذئ من الأقوال والأفعال، ولبيان أهمية هذا الخلق الرفيع جعلته الشريعة خلق الإسلام فقد قال- صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه أنس -رضي الله عنه-: "إن لكل دين خلقا، وخلق الإسلام الحياء"(1)، وجعلت الحياء من الإيمان،وكل الخير فيه، ولا يأتي إلا بالخير، كما سيأتي في ثنايا هذا البحث إن شاء الله تعالى، وهذا الخلق الرفيع يدفع النفس نحو المعالي والسمو نحو الكمال الإنساني يقول الميداني في الأخلاق الإسلامية: والحياء ظاهرة تعبر عن الخوف من الظهور بمظاهر النقص، وتعبر عن ترفع النفس عنه، وعدم الرضى به، وإن مستها بعض عوارضه، فالنفس تنفر عن النقائص، وترغب في الكمالات، فالحياء يدفع النفس إلى الاتصاف بالكمال(2).
وإذا تمكن المسلم من هذا الخلق الرفيع خلق الحياء، صده ذلك عن كل ما هو قبيح، لا ترضى به النفس السليمة، وانقاد إلى كل ما هو طيب وحسن من الأخلاق والفضائل، نسأل من المولى- عز وجل- أن يهدينا إلى أحسن الأخلاق فإنها لا يهدي لأحسنها إلا هو.
وقبل الخوض في غمار هذا الخلق ناسب كما هي العادة الحديث عن معنى الخلق عند أهل اللغة والاصطلاح.
تعريف الحياء:
والحياء ممدود من الاستحياء رجل حَيِيٌّ بوزن فعيل وامرأة حيّية بوزن فعيلة, قالت ليلى:
وأحَيى حياءً من فتاة حِيّيةٍ ... وأشجع من ليثٍ بخَفّانَ خادِرِ(3).
فالحياء مصدر قولهم حَيِي, ورجل حَيِيٌّ ذو حَياءٍ وامرأَة حَيِيَّة واسْتَحْيا الرجل واسْتَحْيَت المرأَة وقوله وإنِّي لأَسْتَحْيِي أَخي أَنْ أَرى له عليَّ من الحَقِّ الذي لا يَرَى لِيَ معناه آنَفُ من ذلك,
قال الأَزهري للعرب في هذا الحرف لغتان: يقال اسْتَحَى الرجل يَسْتَحي بياء واحدة واسْتَحْيا فلان يَسْتَحْيِي بياءَين والقرآن نزل بهذه اللغة الثانية في قوله عز وجل: :﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ [البقرة:26] وحَيِيتُ منه أَحْيا استَحْيَيْت، وتقول في الجمع حَيُوا كما تقول خَشُوا قال سيبويه ذهبت الياء لالتقاء الساكنين(4).
وقال الأَخفش اسْتَحَى بياء واحدة لغة تميم وبياءين لغة أَهل الحجاز وهو الأَصل لأَن ما كان موضعُ لامه معتّلاً لم يُعِلُّوا عينه أَلا ترى أَنهم قالوا أَحْيَيْتُ وحَوَيْتُ ؟ ويقولون قُلْتُ وبِعْتُ فيُعِلُّون العين لَمَّا لم تَعْتَلَّ اللامُ، ويقال فلان أَحْيَى من الهَدِيِّ وأَحْيَى من كَعابٍ وأَحْيَى من مُخَدَّرة ومن مُخَبَّأَةٍ وهذا كله من الحَياء ممدود(5).
واسْتَحْيَاهُ: اسْتَبْقاهُ قيل: ومنهُ:﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾[البقرة:26]، أي لا يستبقي، ومنه قوله تعالى: ﴿ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ ﴾[البقرة: 49] أي : يستبقونهن.
والحَيَا:مقصور الخِصْبُ والمَطَرُ ويُمَدُّ واسْمُ امْرَأةٍ وبالمَدِّ: التُّؤْبَةُ والحِشْمَةُ حَيِيَ منه حَياءً واسْتَحْيَا منه واسْتَحَى منه واسْتَحْيَاهُ، والحياء أيضا رحم الناقة(6).
قال ابن منظور: والحياءُ التوبَة والحِشْمَة وقد حَيِيَ منه حَياءً واستَحْيا واسْتَحَى حذفوا الياء الأَخيرة كراهية التقاء الياءَينِ والأَخيرتان تَتَعَدَّيانِ بحرف وبغير حرف يقولون استَحْيا منك واستَحْياكَ واسْتَحَى منك واستحاك قال ابن بري شاهد الحياء بمعنى الاستحياء قول جرير لولا الحَياءُ لَعَادني اسْتِعْبارُ ولَزُرْتُ قَبرَكِ والحبيبُ يُزارُ(7).
والخلاصة أن الحياء بالمد هو الاستحياء مأخوذ من الحياة، ويأتي على جملة من المعاني ذكرنها أنفاً.
والحياء في الاصطلاح:
تنوعت عبارات أهل العلم في تعريف الحياء, فقال الراغب الأصفهاني-رحمه الله-: والحياء: انقباض النفس عن القبائح وتركه لذلك يقال: حيي فهو حي واستحيا فهو مستحي، وقيل: استحى فهو مستح قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾[البقرة:26]، وقال عز وجل: ﴿ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ﴾[الأحزاب: 53] ( .
وفي التوقيف: الحياء انقباض النفس عن عادة انبساطها في ظاهر البدن لمواجهة ما تراه نقصا حيث يتعذر عليها الفرار بالبدن، وقيل انقباض النفس من شيء حذرا من الملام(9).
وفي الفتح: خلق يبعث على اجتناب القبيح ويمنع من التقصير في حق ذي الحق ولهذا جاء في الحديث الآخر الحياء خير كله(10).
وقال الجنيد –رحمه الله-: الحياء رؤية الآلاء أي النعم ورؤية التقصير فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء. وحقيقته خلق يبعث على ترك القبائح ويمنع من التفريط في حق صاحب الحق.
وقال ابن مفلح-رحمه الله-:وحقيقة الحياء خلق يبعث على فعل الحسن وترك القبيح(11).
وقال ذو النون: الحياء وجود الهيبة في القلب مع وحشة ما سبق منك إلى ربك والحب ينطق والحياء يسكت والخوف يقلق(12).
وفي تهذيب الأخلاق لابن مسكويه: الحياء فهو انحصار النفس خوف إتيان القبائح والحذر من الذم والسب(13).
قال أبو حاتم –رحمه الله-: الحياء اسم يشتمل على مجانبة المكروه من الخصال، والحياء حيا آن أحدهما استحياء العبد من الله -جل وعلا- عند الاهتمام بمباشرة ما خطر عليه، والثاني: استحياء من المخلوقين عند الدخول فيما يكرهون من القول والفعل معا، والحياآن جميعا محمودان إلا أن أحدهما فرض والآخر فضل، فلزوم الحياء عند مجانبة ما نهى الله عنه فرض، ولزوم الحياء عند مقارفة ما كره الناس فضل(14).
أنواع الحياء:
وهو نوعان نفساني[الغريزي] وهو الذي خلقه الله تعالى في النفوس كلها كالحياء من كشف العورة والجماع بين الناس، وإيماني[ المكتسب] وهو أن يمنع المؤمن من فعل المعاصي خوفا من الله تعالى(15).
وقال أبو العباس القرطبي: الحياء المكتسب هو الذي جعله الشارع من الإيمان وهو المكلف به دون الغريزي غير أن من كان فيه غريزة منه فإنها تعينه على المكتسب، وقد ينطبع بالمكتسب حتى يصير غريزا قال وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جمع له النوعان فكان في الغريزي أشد حياء من العذراء في خدرها وكان في الحياء المكتسب في الذروة العليا صلى الله عليه وسلم(16).
فهو من شعب الإيمان كما سيأتي، فإن قيل الحياء من الغرائز فكيف جعل شعبة من الإيمان؟
قال القاضي عياض وغيره: إنما جعل الحياء من الإيمان، وإن كان غريزة لأنه قد يكون تخلقا واكتسابا كسائر أعمال البر وقد يكون غريزة ولكن استعماله على قانون الشرع يحتاج إلى اكتساب ونية وعلم فهو من الإيمان بهذا ولكونه باعثا على أفعال البر ومانعا من المعاصي(17).
واعلم أن الحياء في الإنسان قد يكون من ثلاثة أوجه:
أحدها: حياؤه من الله تعالى، والحياء من الله تعالى يكون بامتثال أوامره والكف عن زواجره.
وقد روى ابن مسعود-رضي الله عنه- أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: "استحيوا من الله حق الحياء قال قلنا يا رسول الله إنا نستحيي والحمد لله قال ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى ولتذكر الموت والبلى ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء" (18).
والحياء من الله – عز وجل-هو أولى الحياء وأعظم هذه الأنواع، وحقيقته كما في عمدة القاري أن لا يراك الله حيث نهاك وذاك إنما يكون عن معرفة ومراقبة وهو المراد بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك"(19)،(20).
والثاني: حياؤه من الناس، وهذا الحياء فيكون بكف الأذى وترك المجاهرة بالقبيح.
وروي أن حذيفة بن اليمان-رضي الله عنه- أتى الجمعة فوجد الناس قد انصرفوا فتنكب الطريق عن الناس، وقال: لا خير فيمن لا يستحي من الناس.
والثالث: حياؤه من نفسه، وأما حياؤه من نفسه فيكون بالعفة وصيانة الخلوات، وقد قال بعض الحكماء: ليكن استحياؤك من نفسك أكثر من استحيائك من غيرك.
وقال بعض الأدباء: من عمل في السر عملا يستحي منه في العلانية فليس لنفسه عنده قدر.
فمتى كمل حياء الإنسان من وجوهه الثلاثة، فقد كملت فيه أسباب الخير، وانتفت عنه أسباب الشر، وصار بالفضل مشهورا، وبالجميل مذكورا(21).
فالواجب على المسلم لزوم هذا الخلق الرفيع فهو أصل كل خير، وبه يعرف الإنسان قال أبوحاتم- رحمه الله-: الواجب على العاقل لزوم الحياء لأنه أصل العقل وبذر الخير وتركه أصل الجهل وبذر الشر والحياء يدل على العقل كما أن عدمه دال على الجهل ومن لم ينصف الناس منه حياؤه لم ينصفه منهم قحته، ولقد أحسن الذي يقول: وليس بمنسوب إلى العلم والنهى... فتى لا ترى فيه خلائق أربع ...فواحدة تقوى الإله التي بها... ينال جسيم الخير والفضل أجمع... وثانية صدق الحياء فإنه ...طباع عليه ذو المرؤة يطبع ...وثالثة حلم إذا الجهل أطلعت ... إليه خبايا من فجور تسرع ...ورابعة جود بملك يمينه... إذا نابه الحق الذي ليس يدفع(22).
الحياء من الإيمان:
من المعلوم أن الإيمان محله القلب، ومن أهم أعمال القلوب الحياء، والقبائح والرذائل من مفسدات القلوب، وصاحب الحياء يكون قلبه حياً لأن الحياء يمنع القلب من القبائح والرذائل، فكلما كان القلب أحيى كان الحياء أتم ففي الحديث الذي رواه عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مر على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:" دعه فإن الحياء من الإيمان"(23).
فقوله وهو يعظ أخاه في الحياء أي يلومه على كثرته، والحياء من الإيمان أي من شرائعه(24).
ومعنى هذا الحديث أن الحياء يمنع من كثير من الفحش والفواحش، ويشتمل على كثير من أعمال البر وبهذا صار جزءا وشعبة من الإيمان لأنه وإن كان غريزة مركبة في المرء فإن المستحي يندفع بالحياء عن كثير من المعاصي كما يندفع بالإيمان عنها إذا عصمه الله فكأنه شعبة منه لأنه يعمل عمله فلما صار الحياء والإيمان يعملان عملا واحدا جعلا كالشيء الواحد وإن كان الإيمان اكتسابا والحياء غريزة والإيمان شعب كثيرة(25).، فهو من باب تسمية الشيء باسم ما يقوم مقامه فالإيمان يمنع صاحبه من الفواحش ويحمله على الطاعات، وكذلك الحياء فصار بمنزلة الإيمان، ومن هذا يعلم أهمية الحياء، والحاجة إليه.
والمراد بقوله الحياء من الإيمان كمال الإيمان،وقال الهروي: معناه أن المستحي ينقطع بحيائه عن المعاصي وإن لم يكن له تقية فصار كالإيمان القاطع بينه وبين المعاصي(26).
الحياء شعبة من شعب الإيمان:
الحياء شعبة من الإيمان أي أثر من آثار الإيمان التي تظهر على أهل الإيمان، فشعب الإيمان كثيرة ومن أهم هذه الشعب الحياء، وقد خصه النبي - صلى الله عليه وسلم- بالذكر لأهميتها وفضلها فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الإيمان بضع وستون شعبة والحياء شعبة من الإيمان"(27).
فالإيمان أصول وفروع فمن أصوله الإقرار باللسان مع اعتقاد القلب بما نطق به اللسان من الشهادة بأن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأن كل ما جاء به عن ربه حق من البعث بعد الموت، والإيمان بملائكة الله وكتبه ورسله وكل ما أحكمه الله في كتابه ونقلته الكافة عن النبي -صلى الله عليه وسلم من الصلاة والزكاة والصيام والحج وسائر الفرائض، وكل عمل صالح هو من فروع الإيمان فبر الوالدين من الإيمان وأداء الأمانة من الإيمان وحسن العهد من الإيمان وحسن الجوار من الإيمان وتوقير الكبير من الأيمان ورحمة الصغير حتى إطعام الطعام وإفشاء السلام من الإيمان،(28). وكذلك الحياء من الإيمان ومن شعبه.
فالحياء الإيماني هو المانع من فعل القبيح بسبب الإيمان لا النفساني المخلوق في الجبلة وأفرده بالذكر لأنه كالداعي إلى سائر الشعب فإن الحي يخاف فضيحة الدنيا، وفظاعة الآخرة فيزجر عن الآثام، فحقيقة الحياء خلق يبعث على تجنب القبيح(29).
وعن أبي أمامة- رضي الله عنه-: عن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: "الحياء والعي شعبتان من الإيمان، والبذاء والبيان شعبتان من النفاق"(30).
العي هو قلة الكلام, والمراد به في هذا المقام هو السكوت عما فيه إثم من النثر والشعر لا ما يكون للخلل في اللسان، والبذاء هو الفحش في الكلام، والبيان هو كثرة الكلام، والمراد به هنا الفصاحة الزائدة عن مقدار حاجة الإنسان من التعمق في النطق وإظهار التفاصح للتقدم على الأعيان، وقيل: المراد ما يكون سببه الاجتراء وعدم المبالاة بالطغيان والتحرز عن الزور والبهتان(31) .
فالبيان المذموم والمقصود هنا هو كثرة الكلام والتكلف،وإظهار التفاصح، وكل هذا ليس من أخلاق أهل الإيمان والتقوى.
والشاهد هنا أن الحياء والعي من شعب الإيمان أي أثران من آثاره بمعنى أن المؤمن يحمله الإيمان على الحياء فيترك القبائح حياء من الله، ويمنعه من الاجتراء على الكلام شفقا من عثر اللسان، والوقيعة في البهتان، فالأيمان منشأهما ومنشأ كل معروف وإحسان(32).
ومما يدل على أهمية الحياء أن جعله النبي - صلى الله عليه وسلم- كل الدين فعن إياس بن معاوية بن قرة قال حدثني أبي عن جدي قرة قال: كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم فذكر عنده الحياء فقالوا: يا رسول الله الحياء من الدين ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل هو الدين كله" ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " إن الحياء والعفاف والعي- عي اللسان لا عي القلب- والعمل من الإيمان وانهن يزدن في الآخرة وينقصن من الدنيا ولما يزدن في الآخرة أكثر مما ينقصن في الدنيا"(33).
بل هما متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر فعن أبي موسى -رضي الله عنه- قال قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:" الحياء والإيمان مقرونان لا يفترقان إلا جميعا"(34).
وعن ابن عمر-رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الحياء والإيمان قرنا جميعاً فإذا رفع أحدهما رفع الآخر"(35).
الحياء لا يأتي إلا بخير:
ومما يدل على أهمية الحياء أن الحياء لا يأتي إلا بخير فعن عمران بن حصين-رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-:" الحياء لا يأتي إلا بخير"(36).
فقوله الحياء لا يأتي إلا بخير معناه: أن من استحى من الناس أن يروه يأتي بالفجور وارتكاب المحارم فذلك داعيه إلى أن يكون أشد حياء من الله -سبحانه تعالى-، ومن استحى من ربه فإن حياءه زاجر له عن تضييع فرائضه وركوب معاصيه والحياء يمنع من الفواحش ويحمل على البر والخير كما يمنع الإيمان صاحبه من الفجور ويبعده عن المعاصي(37).
وقال المناوي: الحياء لا يأتي إلا بخير لأن من استحيا من الناس أن يروه يأتي بقبيح دعاه ذلك إلى أن يكون حياؤه من ربه أشد فلا يضيع فريضة ولا يرتكب خطيئة(38).
قال ابن عربي: الحياء أن لا يفعل الإنسان ما يخجله إذا عرف منه أنه فعله، والمؤمن يعلم بأن الله يرى كل ما يفعله فيلزمه الحياء منه لعلمه بذلك وبأنه لا بد أن يقرره يوم القيامة على ما عمله فيخجل فيؤديه إلى ترك ما يخجل منه وذلك هو الحياء فمن ثم لا يأتي إلا بخير(39).
وهنا أشكال ذكره الحافظ ابن حجر–رحمه الله- وهو حمل الحديث على العموم لأنه قد يصد صاحبه عن مواجهة من يرتكب المنكرات ويحمله على الإخلال ببعض الحقوق وقد ذكر أهل العلم الجواب على هذا الإشكال بأن المقصود بالحياء في هذه الأحاديث ما يكون شرعياً، وأما الحياء الذي ينشأ عنه الإخلال بالحقوق ليس حياء شرعياً بل هو عجز ومهانة وخور وإنما يطلق عليه حياء لمشابهته للحياء الشرعي، فهو حياء مجازاً، وإنما حقيقة الحياء خلق يبعث على ترك القبيح ويمنع من التقصير في حق الغير(40).
ويقول ابن حجر-رحمه الله-: ويحتمل أن يكون أشير إلى أن من كان الحياء من خلقه أن الخير يكون فيه أغلب فيضمحل ما لعله يقع منه مما ذكر في جنب ما يحصل له بالحياء من الخير، أو لكونه إذا صار عادة وتخلق به صاحبه يكون سببا لجلب الخير إليه فيكون منه الخير بالذات والسبب(41).
الحياء من صفات المولى عز وجل:
عن سلمان –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن ربكم تبارك وتعالى حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا "(42).
يقول العلامة ابن القيم-رحمه الله-: وأما حياء الرب تعالى من عبده: فذاك نوع آخر لا تدركه الأفهام ولا تكيفه العقول فإنه حياء كرم وبر وجود وجلال فإنه تبارك وتعالى حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرا ويستحيي أن يعذب ذا شيبة شابت في الإسلام.
وكان يحيى بن معاد يقول: سبحان من يذنب عبده ويستحيى هو وفي أثر : من استحيى من الله استحيى الله منه(43).
الحياء من صفات الأنبياء الكرام:
فأشد الناس حياءً خاتم الأنبياء والمرسلين محمد- صلى الله عليه وسلم-، كان أشد الناس حياءً من العذراء في خدرها فعن أبي سعيد-رضي الله عنه- قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أشد حياء من العذراء في خدرها، وكان إذا كره شيئا عرفناه في وجهه"(44).
فالنبي- صلى الله عليه وسلم منذ صغره محمياً من القبائح والأخلاق الجاهلية، منزهاً عن كل عيب سواء قبل النبوة أو بعدها، فهو على خلق عظيم، تحلى بأحسن الأخلاق، وبلغ في الحياء الكمال حتى كان أشد حياء من العذراء في خدرها.
« وكان صلى الله عليه وسلم لشدة حيائه لا يعاقب أحدا في وجهه، وإذا رأى شيئا يكرهه يعرف ذلك في وجهه»(45).
يقول النووي-رحمه الله- قوله: « كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشد حياء من العذراء في خدرها وكان إذا كره شيئا عرفناه في وجهه العذراء البكر لأن عذرتها باقية وهي جلدة البكارة والخدر ستر يجعل للبكر في جنب البيت، ومعنى عرفنا الكراهة في وجهه أي لا يتكلم به لحيائه بل يتغير وجهه فنفهم نحن كراهته، وفيه فضيلة الحياء وهو من شعب الإيمان وهو خير كله، ولا يأتي إلا بخير»(46).
وهذا موسى -عليه السلام- كان رجلاً كثير الحياء يحب التستر والصون، حتى كان يستر بدنه ويستحي أن يظهر مما تحت الثياب شيئاً حتى مما ليس بعورة فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن موسى كان رجلا حييا ستيراً لا يرى من جلده شيء استحياء منه فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقالوا ما يستتر هذا التستر إلا من عيب بجلده إما برص وإما أدرة وإما آفة... الحديث"(47).
قوله: حييا أي كثير الحياء، قوله ستير على وزن فعيل بمعنى فاعل أي من شأنه وإرادته حب الستر والصون(48).
الحياء من صفات الملائكة الكرام:
فقد قال– صلى الله عليه وسلم– لعائشة–رضي الله عنها-: " ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة" (49), فالحياء صفة من صفات الملائكة الكرام.
ذم ترك الحياء:
وكما جاء الأمر بالتمسك بخلق الحياء، جاء الذم لتاركه فترك خلق الحياء مذموم فعن أبي مسعود البدري– رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: يا ابن آدم إذا لم تستح فاصنع ما شئت"(50).
فقوله:" إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى" أي مما اتفق عليه الأنبياء أي إنه مما ندب إليه الأنبياء ولم ينسخ فيما نسخ من شرائعهم لأنه أمر أطبقت عليه العقول(51)..
وأما قوله: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت" فقد قيل في معناه جملة من الأقوال: فقيل معناه لفظه أمر ومعناه الخبر بأن من لم يكن له حياء يحجزه عن محارم الله فسواء عليه فعل الصغائر وارتكاب الكبائر وفيه معنى التحذير والوعيد على قلة الحياء ومن هذا الحديث أخذ القائل
إذا لم تخش عاقبة الليالي ولم تستحي فاصنع ما تشاء
فلا والله ما في العيش خير ولا الدنيا إذا ذهب الحياء. (52)
قال ابن حجر-رحمه الله-: قوله فاصنع ما شئت هو أمر بمعنى الخبر أو هو للتهديد أي اصنع ما شئت فإن الله يجزيك، أو معناه انظر إلى ما تريد أن تفعله فإن كان مما لا يستحي منه فافعله وأن كان مما يستحي منه فدعه، أو المعنى إنك إذا لم تستح من الله من شيء يجب أن لا تستحي منه من أمر الدين فافعله ولا تبال بالخلق، أو المراد الحث على الحياء والتنويه بفضله أي لما لم يجز صنع جميع ما شئت لم يجز ترك الاستحياء(53).
وقيل: إذا لم تستح من العتب ولم تخش العار فافعل ما تحدثك به نفسك حسنا كان أو قبيحا ولفظه أمر ومعناه توبيخ.
وقيل: معناه الوعيد أي إفعل ما شئت تجازى به كقوله عز وجل:﴿ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾[فصلت:4] فهو للتهديد إفعل ما شئت مما لا يستحي منه، ولا تفعل ما تستحي منه.
وقيل: هو على طريق المبالغة في الذم أي تركك الحياء أعظم مما تفعله(54).
يقول ابن القيم-رحمه الله-: وفيه تفسيران أحداهما انه على التهديد والوعيد والمعنى من لم يستح فانه يصنع ما شاء من القبائح إذا لحامل على تركها الحياء فإذا لم يكن هناك حياء نزعه من القبائح فانه يواقعها وهذا تفسير أبي عبيدة.
والثاني: أن الفعل إذا لم تستح فيه من الله فافعله، وإنما الذي ينبغي تركه ما يستحي فيه من الله وهذا تفسير الإمام أحمد في رواية ابن هاني فعلى الأول يكون تهديدا، وعلى الثاني يكون إذنا وإباحة(55).
والظاهر والله أعلم أنه للتهديد فهو أصح وهو قول الأكثرين كما يقول ابن القيم- رحمه الله(56).
وقد خرج الكلام من النبي -صلى الله عليه وسلم- مخرج الذم لا مخرج المدح.(57) فترك الحياء مذموم، ويؤدي بصاحبه إلى قله الحياء،وقد أنشد عبد العزيز بن سليمان الأبرش:
إذا لم تصن عرضا ولم تخش خالقا ... وتستحي مخلوقا فما شئت فاصنع
إذا كنت تأتي المرء تعظم حقه ... ويجهل منك الحق فالصرم أوسع(58) .
أقسام الحياء:
والحياء على أقسام فقد ذكر العلامة ابن القيم –رحمه الله- أقسام الحياء فذكر منها عشرة أقسام نوجزها فيما يلي:حياء الجناية: ومن هذا الحياء حياء آدم -عليه السلام- لما فر هاربا في الجنة قال الله تعالى: أفرارا مني يا آدم قال: لا يا رب بل حياء منك(59).
حياء التقصير: كحياء الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون فإذا كان يوم القيامة قالوا: سبحانك ! ما عبدناك حق عبادتك.
حياء الإجلال: وهو حياء المعرفة وعلى حسب معرفة العبد بربه يكون حياؤه منه.
حياء الكرم: كحياء النبي- صلى الله عليه وسلم-من القوم الذين دعاهم إلى وليمة زينب وطولوا الجلوس عنده فقام واستحيى أن يقول لهم: انصرفوا(60).
حياء الحشمة: كحياء علي بن طالب-رضي الله عنه- أن يسأل رسول الله عن المذي لمكان ابنته منه.
حياء الاستحقار واستصغار النفس: كحياء العبد من ربه -عز وجل- حين يسأله حوائجه احتقار الشأن نفسه واستصغارا لها، وله سببان استحقار السائل نفسه، واستعظام ذنوبه، والثاني: استعظام مسؤله.
حياء المحبة: فهو حياء المحب من محبوبه حتى إنه إذا خطر على قلبه في غيبته هاج الحياء من قلبه وأحس به في وجهه ولا يدرى ما سببه، وكذلك يعرض للمحب عند ملاقاته محبوبه ومناجاته له روعة شديدة.
حياء العبودية: فهو حياء ممتزج من محبة وخوف ومشاهدة عدم صلاح عبوديته لمعبوده وأن قدره أعلى وأجل منها فعبوديته له توجب استحياءه منه لا محالة.
حياء الشرف والعزة: فحياء النفس العظيمة الكبيرة إذا صدر منها ما هو دون قدرها من بذل أو عطاء وإحسان فإنه يستحي مع بذله حياء شرف نفس وعزة.
حياء المرء من نفسه: فهو حياء النفوس الشريفة العزيزة الرفيعة من رضاها لنفسها بالنقص وقناعتها بالدون فيجد نفسه مستحيا من نفسه حتى كأن له نفسين يستحيي بإحداهما من الأخرى، وهذا أكمل ما يكون من الحياء فإن العبد إذا استحيى من نفسه فهو بأن يستحيي من غيره أجدر(61).
قالوا في الحياء:
ومن نقل عن السلف الصالح رضي الله عنهم جميعاً، وما قاله أهل العلم، والشعراء والأدباء وأهل الحكمة في هذا الخلق أكثر من أن يحصى كيف لا وهو سيد الأخلاق فنذكر طرفاً من أقوالهم فمما نقل عن الخليفة الراشد أبو بكر الصديق-رضي الله عنه-ما رواه لنا الإمام الزهري-رحمه الله- أن أبا بكر الصديق- رضي الله عنه- قال يوما وهو يخطب: أيها الناس استحيوا من الله فوالله ما خرجت لحاجة منذ بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد الغائط إلا وأنا مقنع رأسي حياء من الله(62).
وقال الفضيل بن عياض: خمس من علامات الشقوة: القسوة في القلب، وجمود العين، وقلة الحياء والرغبة في الدنيا، وطول الأمل(63).
وقال يحيى بن معاذ: من استحيى من الله مطيعا استحيى الله منه وهو مذنب.
وقال السري: إن الحياء والأنس يطرقان القلب فإن وجدا فيه الزهد والورع وإلا رحلا(64).
وقال الحسن: أربع من كن فيه كان كاملا، ومن تعلق بواحدة منهن كان من صالحي قومه دين يرشده، وعقل يسدده، وحسب يصونه، وحياء يقوده(65).
ومن كلام بعض الحكماء: أحيوا الحياء بمجالسة من يستحيي منه, وعمارة القلب: بالهيبة والحياء فإذا ذهبا من القلب لم يبق فيه خير(66) .
وروي أن حذيفة بن اليمان أتى الجمعة فوجد الناس قد انصرفوا فتنكب الطريق عن الناس، وقال: لا خير فيمن لا يستحي من الناس(67).
وقال بعض الشعراء: ورب قبيحة ما حال بيني ... وبين ركوبها إلا الحياء
فكان هو الدواء لها ولكن ... إذا ذهب الحياء فلا دواء(68).
وقال بعض الحكماء: ليكن استحياؤك من نفسك أكثر من استحيائك من غيرك.
وقال بعض الأدباء: من عمل في السر عملا يستحي منه في العلانية فليس لنفسه عنده قدر.
وقد قال الرياشي: يقال أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- كان يتمثل بهذا الشعر:
وحاجة دون أخرى قد سخت لها جعلتها للتي أخفيت عنوانا
إني كأني أرى من لا حياء له ولا أمانة وسط القوم عريانا(69).
وقال أبو دلف العجلي: إذا لم تصن عرضا ولم تخش خالقا ولم ترع مخلوقا فما شئت فاصنع.
وقال صالح بن جناح: إذا قل ماء الوجه قل حياؤه ولا خير في وجه إذا قل ماؤه.
وقال الأصمعي: سمعت أعرابيا يقول من كساه الحياء ثوبه لم ير الناس عيبه(70).
وقال بعض البلغاء: حياة الوجه بحيائه، كما أن حياة الغرس بمائه.
وقال بعض البلغاء العلماء: يا عجبا كيف لا تستحيي من كثرة ما لا تستحيي، وتبقى من طول ما لا تبقى(71)، وقد نقل عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قوله: إني لأغتسل في البيت المظلم فأنطوي حياء من الله عز وجل(72)، فانظر رعاك الله إلى حياء هؤلاء الذين رضي الله عنهم، وأما في هذا الزمان ولا حول ولا قوة إلا بالله تجد من يجاهر بالمعاصي على القنوات الفضائية، وأمام الناس جمعياً فقد ذهب الحياء من هؤلاء، فلزم أخي المسلم الحياء تكن من الفائزين، فهو من الإيمان ولا حياة للقلوب إلا بالإيمان، فتكون أسباب الخير منك موجودة، وبه تنزجر عن الآثام والمعاصي، وتقبل على فعل الخيرات والطاعات وعمل الصالحات فتقبل على الله- عز وجل- يوم القيامة بقلب حي.
قال أبو حاتم–رحمه الله-: « الحياء من الإيمان والمؤمن في الجنة والبذاء من الجفاء والجافي في النار إلا أن يتفضل الله عليه برحمته فيخلصه منه فإذا لزم المرء الحياء كانت أسباب الخير منه موجودة كما أن الواقح إذا لزم البذاء كان وجود الخير منه معدوما وتواتر الشر منه موجودا لأن الحياء هو الحائل بين المرء وبين المزجورات كلها فبقوة الحياء يضعف ارتكابه إياها وبضعف الحياء تقوى مباشرته إياها»(73).
والله نسأل أن يهدينا إلى أحسن الأخلاق فإنها لا يهدي لأحسنها إلا هو، وأن يلهمنا الرشد والصواب، والتوفيق والسداد أنه على ما يشاء قدير، والحمد لله رب العالمين، والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب، وله الحمد والنعمة، وبه التوفيق والعصمة، وصلى الله وسلم على إمام القائمين، وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.