⋐☤❖☤⋑ اغتنام الأوقات في ذكر الله تعالى ⋐☤❖☤⋑
عباد الله, اتقوا الله, وأكثروا من ذكره, فإن ذكره سبحانه قوت قلوب الذاكرين, وهو قرة عيون الموحدين, وهو عدتهم الكبرى, وسلاحهم الذي لا يبلى, وهو دواء أسقامهم, الذي متى تركوه أصيبت منهم المقاتل, فانتكسوا على أعقابهم خاسرين.
إذا مرضنا تداوينا بذكركم ونترك الذكر أحيانًا فننتكس
فبالذكر يستدفع الذاكرون الآفات, ويستكشفون الكربات, وتهون عليهم المصيبات, فإليه الملجأ إذا ادلهمت الخطوب, وإليه المفزع عند توالي الكوارث والكروب, به تنقشع الظلمات والأكدار, وتحلّ الأفراح والمسرّات.
وقد أمر الله تعالى به المؤمنين فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا [الأحزاب:41]، وقال تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:152]. وقد أثنى الله سبحانه وتعالى في كتابه على الذاكرين فقال تعالى: إِنَّ ٱلْمُسْلِمِينَ وَٱلْمُسْلِمَـٰتِ وَٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ وَٱلْقَـٰنِتِينَ وَٱلْقَـٰنِتَـٰتِ وَٱلصَّـٰدِقِينَ وَٱلصَّـٰدِقَـٰتِ وَٱلصَّـٰبِرِينَ وَٱلصَّـٰبِرٰتِ وَٱلْخَـٰشِعِينَ وَٱلْخَـٰشِعَـٰتِ وَٱلْمُتَصَدّقِينَ وَٱلْمُتَصَدّقَـٰتِ وٱلصَّـٰئِمِينَ وٱلصَّـٰئِمَـٰتِ وَٱلْحَـٰفِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَٱلْحَـٰفِـظَـٰتِ وَٱلذٰكِـرِينَ ٱللَّهَ كَثِيرًا وَٱلذٰكِرٰتِ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:35].
وأما الأخبار عن النبي فقد دلت الأدلة على أن أفضل ما شغل العبدُ به نفسه في الجملة ذكر الله تعالى, فمن ذلك ما رواه أحمد وغيره عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ألا أنبئكم بخير أعمالكم, وأزكاها عند مليككم, وأرفعها في درجاتكم, وخير لكم من إنفاق الذهب والوَرِق, وخير لكم من أن تلقوا عدوكم, فتضربوا أعناقهم, ويضربوا أعناقكم؟)) قالوا: بلى، قال: ((ذكر الله تعالى))[1]. ومن ذلك أيضًا ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله يسير في طريق مكة, فمر على جبل يقال له جُمْدان, فقال : ((سيروا هذا جُمْدان, سبق المفرِّدون))، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: ((الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات))[2].
ومما يظهر فضل الذكر وعلوَ مرتبته ما أخرجه الترمذي عن عبد الله بن بسر رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن شرائع الإسلام قد كثرت عليَّ، فأخبرني بشيء أتشبث به، قال: ((لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله))[3]. ومما يدل على ذلك أن الله تعالى أمر المؤمنين بأن يذكروه قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم, فقال تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء:103]. وهكذا كان النبي فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي يذكر الله على كل أحيانه[4].
أيها المؤمنون, اعلموا أن أعلى مراتب الذكر الذي أمر الله به هو ما تواطأ فيه القلب واللسان, واعلموا أن هذا الفضل العظيم والأجر الكثير ليس معلقًا على ذكر الشفة واللسان فحسب, بل لا يثبت هذا الأجر الموعود إلا على ذكر يتواطأ فيه القلب واللسان, فذكر الله إن لم يخفق به القلب, وإن لم تعش به النفس, وإن لم يكن مصحوبًا بالتضرع والتذلل والمحبة لله تعالى, فلن يكون سببًا لتحصيل هذه المزايا والفضائل.
وقد يسأل المرء: ما سر تفضيل الذكر على سائر أنواع وأعمال البر, مع أنه خفيف على اللسان ولا يحصل به تعب على الأبدان؟
فالجواب: إن سر هذا التفضيل هو أن الذكر يورث يقظة القلب وحياته وصلاحه, ولذلك قال النبي : ((مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت))[5]. فالذكر حياة القلوب وصلاحها, والذكر للقلب كالماء للزرع, بل كالماء للسمك, لا حياة له إلا به. فإذا حييت القلوب وصَلَحت صلحت الجوارح واستقامت, قال النبي : ((ألا وإن في الجسد مضغة, إذا صَلَحت صَلَح الجسد كله, وإذا فسدت فسد الجسد كله, ألا وهي القلب)) متفق عليه[6].
فعليكم ـ عباد الله ـ بالإكثار من ذكره سبحانه, وعمارةِ الأوقات والأزمان بالأذكار والأوراد المطلقة والمقيدة, كقول: لا إله إلا الله, فإنها من خير الأقوال وأحبها إلى الله, أو قول: سبحان الله, والحمد لله, ولا إله إلا الله, والله أكبر, فإنها خير مما طلعت عليه الشمس, وغير ذلك من الأقوال التي تنمَّى بها الحسنات, وترفع بها الدرجات, وتوضع السيئات. فإن قصرت همتك وضعفت قوتك عن تلك المنازل الكبار فلا أقل من أن تحافظ على الأذكار المؤقتة والمقيدة, قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأقل ذلك ـ أي: ما ينبغي على العبد المحافظة عليه من الأذكار ـ أن يلازم العبد الأذكار المأثورة عن معلم الخير وإمام المتقين , كالأذكار المؤقتة في أول النهار وآخره, وعند أخذ المضجع, وعند الاستيقاظ من المنام, وأدبار الصلوات. والأذكار المقيدة مثل ما يقال عند الأكل والشرب واللباس والجماع ودخول المنزل والمسجد والخلاء والخروج من ذلك وعند المطر والرعد وغير ذلك". وقد صنفت في ذلك بعض الكتيبات, فما عليك ـ أيها المبارك ـ إلا أن تقتني واحدًا من تلك المصنفات, وتواظب على المسابقة في الخيرات.
ومما يشحذ همتك ويلهب حماسك ويجذبك إلى ذكر مولاك أن تعلم أن للذكر فوائد كثيرة وعواقب حميدة لمن حافظ عليه وأكثر منه, وإليك بعض هذه الفوائد:
فمن فوائد الذكر الكبار: أنه يورث محبة الله سبحانه وتعالى, فالذكر باب المحبة وشارعها الأعظم وصراطها الأقوم, فكلما ازداد العبد لله ذكرًا ازداد له حبًا, فمن أراد أن يفوز وينال محبة الله تعالى فليلهج بذكره.
ومن فوائد ذكر الله تعالى: أنه يطرد الشيطان ويقمعه ويكسره, ويزيل الهم والغم والحزن, ويجلب للقلب الفرح والسرور والبسط, ففي الترمذي وأبي داود والنسائي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : ((إذا خرج الرجل من بيته فقال: بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له حينئذ: هديت وكفيت ووقيت، وتنحى عنه الشيطان، فيقول له شيطان آخر: كيف لك برجل هدي وكفي ووقي))[7].
وقد ثبت أن الشيطان يهرب من الأذان, ففي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضُراط, حتى لا يسمع التأذين, فإذا قضى النداء أقبل, حتى إذا ثُوِّب بالصلاة أدبر, حتى إذا قضى التثويب أقبل, حتى يَخْطِر بين المرء ونفسه, يقول: اذكر كذا, اذكر كذا, لما لم يكن يذكر, حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى))[8].
ومنها: أنه يكسو الذاكر المهابة والحلاوة والنضرة, ويمده بالقوة في قلبه وبدنه, حتى إنه ليفعل مع الذكر ما لا يفعله بدونه, ولذلك علم النبي ابنته فاطمة وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما أن يسبحا كل ليلة إذا أخذا مضاجعهما ثلاثًا وثلاثين, ويحمدا ثلاثًا وثلاثين, ويكبرا أربعًا وثلاثين, لما سألته أن يعطيها خادمًا, وقال: ((فهو خير لكما من خادم))[9].
ومنها: أن الذكر يورث ذكر الله تعالى للعبد, قال الله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:152]. وفي الحديث القدسي قال تعالى: ((فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي, وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم))[10].
الحمد لله الذي أمر بذكره, ورتب على ذلك عظيم أجره, والصلاة والسلام على أعظم الناس ذكرًا لربه, نبينا محمد وعلى آله وصحبه, ومن سار على دربه.
أما بعد: فاعلموا ـ أيها المؤمنون ـ أن من فوائد الذكر أن الله عز وجل يباهي بالذاكرين ملائكته, كما في حديث أبي سعيد الخدري أن النبي قال لجماعة اجتمعوا يذكرون الله: ((أتاني جبريل فأخبرني أن الله يباهي بكم ملائكته))[11].
ومن فوائد الذكر: أنه سبب لنزول الرحمة والسكينة, كما قال : ((وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله, يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم, إلا نزلت عليهم السكينة, وغشيتهم الرحمة, وحفتهم الملائكة, وذكرهم الله فيمن عنده))[12].
ومن فوائده: أنه يورث المراقبة, حتى يُدخل العبد في باب الإحسان, فيعبد الله كأنه يراه.
ومن فوائد الذكر: أنه يورث الإنابة, وهي الرجوع إلى الله تعالى, فإنه متى أكثر العبد الرجوع إلى الله تعالى بذكره أورثه ذلك رجوعه إلى الله تعالى بقلبه في كل الأحوال, فيصير الله تعالى مفزعه وملجأه, وملاذه ومعاذه, وقبلة قلبه, ومهربه عند النوازل والبلايا.
ومن فوائده: أنه يزيل الوحشة بين العبد وبين ربه تبارك وتعالى, فإن الغافل بينه وبين الله حجاب كثيف, ووحشة لا تزول إلا بالذكر.
ومن فوائده: أنه سبب اشتغال اللسان عن الغيبة والنميمة, والكذب والفحش والباطل, فإن العبد لا بد له من أن يتكلم, فإن لم يتكلم بذكر الله تعالى تكلم بهذه المحرمات, ولا سبيل إلى السلامة منها ألبتة إلا بذكر الله تعالى, والمشاهدة والتجربة شاهدان بذلك, فمن عود لسانه ذكر الله صان لسانه عن الباطل واللغو, ومن يبس لسانه عن ذكر الله تعالى ترطب بكل باطل ولغو وفحش، ولا حول ولا قوة إلا بالله, ونفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل ولا بد.
ومن فوائد الذكر: أنه من أكبر العون على طاعته سبحانه, فإنه يحبب الطاعة إلى العبد ويسهلها عليه، يجعلها قرة عينه, فلا يجد في الطاعة من الكلفة والمشقة والعناء ما يجده الغافل.
ومن فوائده: أنه يسهل المصاعب, وييسر العسير, ويخفف المشاق, فما ذُكِر الله على صعب إلا هان, ولا على عسير إلا تيسر, ولا على شاق إلا خف, ولا على شدة إلا زالت, ولا كربة إلا انفرجت, وذلك لأن الذكر يذهب عن القلب المخاوف كلها, وله تأثير عجيب في حصول الأمن, فليس للخائف الذي قد اشتد خوفه أنفع من ذكر الله عز وجل, إذ بحسب ذكره يجد الأمن ويزول الخوف, قال الله تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].
ومن أعظم فوائد الذكر: أنه ينبه القلب من نومه, ويوقظه من سِنَته, والقلب إذا كان نائمًا فاتته الأرباح والمتاجر, وكان الغالب عليه الخسران, فإذا استيقظ وعلم ما فاته في نومته شد المئزر, وأحيا بقية عمره, واستدرك ما فاته, ولا تحصل يقظته إلا بذكر.
أيها المؤمنون, هذه بعض فوائد الذكر الذي هو من أسهل الأعمال وأيسرها, وأقلها كلفة, فهلا عمرنا به الأوقات, وشغلنا به المشاهد والخلوات, عسى أن ندرك بعض هذه المناقب والخيرات, فإنه والله وبالله من أعظم الحرمان ومن أشد الخذلان أن يمضي الواحد منا الساعات إما صامتًا ساكتًا, أو متكلمًا فيما لا يعود عليه بنفع لا في الدنيا ولا في يوم المعاد, بل إنه قد أصبح من غرائب المشاهدات عند أكثر الناس أن يروا من يحرك شفتيه بالذكر في المجامع والخلوات, فما إن يروا من ذلك شيئًا إلا رمقه الناس بأبصارهم, وتابعوه بأنظارهم, وقد يسيء به بعضهم الظن, فينسبه إلى قلة العقل, أو غير ذلك من الأمراض, فإنا لله وإنا إليه راجعون.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أخرجه أحمد من حديث أبي الدرداء (20713).
[2] أخرجه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (4834).
[3] أخرجه الترمذي في الدعوات (3297).
[4] أخرجه مسلم في الحيض (558).
[5] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (1299).
[6] أخرجه البخاري في الإيمان (50), ومسلم في المساقاة (2996).
[7] أخرجه الترمذي في الدعوات (3348), وأبو داود في الأدب (4431).
[8] أخرجه البخاري في الأذان (573), ومسلم في الصلاة (582).
[9] أخرجه البخاري في المناقب (3429), ومسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (4906).
[10] أخرجه البخاري في التوحيد (6856), ومسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (4832).
[11] أخرجه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (4869).
[12] أخرجه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (4867).