في سورة مريم عليها السلام ؛ تفتتح السورة بدعاء زكريا عليه السلام أن يهب الله له ذرية طيبة أو غلاماً وولياً يرث العلم والنبوة منه ومن أسلافه آل يعقوب عيهم السلام ، ولم يغادر مكانه حتى كانت البشارة قد جاءته مع الملائكة وهو ما زال قائماً يصلي في محرابه .. وهنا وقفات :
فأولاً : هذا الذي لم يرزق الولد في شبابه ما زال يحن إلى الولد ؛ فحب الولد فطرة عظيمة استودعها الله في قلوب الخلق رحمة وتحناناً .
وثانياً : هذا اليقين في قلب زكريا أن الله لا تعوزه الأسباب ، ولكن الذي وضع الأسباب يخرقها أو يعطلها متى شاء ، ويمن على عباده وأحبابه بما هو فوق الأسبـاب.
وثالثاً : أن زكريا لا يريد مجرد ولد ، ولكن يريد ذرية طيبة تحمل دين الله ، وولياً صالحاً يرث العلم والنبوة ويقوم بأعباء الدعوة والرسالة .
ورابعاً : هذه المسارعة في استجابة الدعاء ، بيّـن الله لنا سببها وناموسها ؛ أن هؤلاء الكرام كانوا يسارعون في الخيرات فسارع الله في إجابة الدعوات ولبى النداء وحقق الرغبات.
وبينما الملائكة تتكلم مع زكريا عليه السلام حول البشارة والآية التي أراد أن يواجه بها قومه ، إذ السياق يلتفت إلى يحيى عليه السلام ويخاطبه : ﴿ يا يحيى خذ الكتاب بقوة ﴾
لقد طوى سطر واحد سطراً طويلاً من عمر يحيى ، لينتقل إلى حلقة الرسالة ، وهذا من بدائع الطي والإضمار والاختصار في القصص القرآني ، والمتكلم في هذا النداء هو الله تعالى ، والمخاطب هو ( البشارة المتحققة ) يحيى ؛ النبي الشهيد الذي سماه الله يحيى ليحيى ولن يحيى إلا إذا كان شهيداً ؛ لأن كل مولود وموجود من الخلق إلى الفناء ، والله يريد لهذا المولود البقاء فاصطفاه شهيداً على أعدى أعداء الرسل ، يحيى إذاً هو المخاطب ، ومن بعد يحيى كل مؤمن ومسلم مخاطب ، وأما سيد النبيين بالذات مخاطب ومعني بهذه الكلمات .
إن هذا الكتاب فصل ليس بالهزل ؛ فلا يليق إلا أن يؤخذ بما يستحق من جد ومن اهتمام وأخذ الكتاب بقوة لا يعني بحال تشنج العقول ، وضيق النفوس ؛ فخير من أخذ الكتاب بقوة خاتم المرسلين عليه الصلاة والسلام ومع هذا كان أيسر الناس وألين الناس ، فإذا جد الجد فإذا هو أحزم الناس ؛ إنه سيد من أخذ الكتاب بقوة وعزم في العبادات ، فكان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه ، ويصوم حتى يقول أهله لا يفطر ، وهو خير من أخذ الكتاب بقوة في ميدان الدعوة ، فلم يهن ولم تلن له قناة ولم تضعف له عزيمة حتى حقق النصر والفتح المبين ، وهو أفضل من أخذ الكتاب بقوة في ميدان الجهاد وفي سبيل الله فكان الأشجع والأروع في المواطن الحرجة حين تحمر الخدود وتشمر الحرب عن ساقها .
إن هذا الدين هو دين الجد والقوة، فيه ومن أجله تبذل النفوس والمهج، وفي سبيله تصرف وتستثمر الأوقات والأموال ، فلا مجال للانفلات والضياع والهزل، ولا مكان للحرية الباردة المزعومة، أو لذلك الحوار المتهور، أو ذاك التغيير المتهاوي في أحضان كل جديد. نعم.. إن هذا الدين يسر وسماحة وتبشير، لكنه في ذات اللحظة منهج جدّ واهتمام وإباء، وصفحات من نشاط وعزيمة واستعلاء.
واليوم المطلوب من الأمة أن تلتزم هذا الأمر ؛ فتأخذ الكتاب بجد وعزيمة لا تعرف الهزيمة ، لكن دون تشدد ودون تشنج أو غلو ، ودون تفريط كذلك ؛ فكلا طرفي الأمر مذموم : الإفراط والتفريط .
ودور مراكز تحفيظ القرآن مهم جداً ؛ إذ تصل الناس بكتاب الله أولاً ، ثم تحرس الفهم ثانياً ، فسوء الفهم حاجز بين الفهم والنص ، ثم تربي الشباب على الجد وأخذ الكتاب بقوة ... ولئن لم تأخذ الأمة وشبابها كتاب ربهم بقوة ، فمن يأخذه بحقه من العزم والقوة ؟
وإن لم تأخذه الآن وقد تكالبت عليها قوى الشر في الأرض كلها فمتى ؟ ".