المرحلة الثالثة : تدوين الحديث في عهد الصحابة والتابعين
على الرغم مما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم من الترخيص بالكتابة وإباحته لبعض الصحابة بتدوين الحديث ، وعلى الرغم مما كتب من كتب وصحف في عهده كانت بناء على إذنه العام في آواخر أيامه ، إلا أن الصحابة بوجه عام نراهم قد أحجموا عن الكتابة في عهد الخلافة الراشدة ؛ احتياطا منهم وحرصا على سلامة القرآن الكريم والسنة النبوية من الاشتباه ، فقد روي عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت : جمع أبي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان خمسمائة حديث ، فبات ليلة يتقلب كثيرا . . . فلما أصبح قال : أي بنية ، هلمي الأحاديث التي عندك فجئته بها فدعا بنار فحرقها .
وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكر في جمع السنة ، لكنه عدل عن ذلك فعن عروة بن الزبير أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أراد أن يكتب السنن ، فاستفتى أصحاب النبي في ذلك ، فأشاروا عليه بأن يكتبها ، فطفق عمر يستخير الله فيها شهرا ، ثم أصبح يوما وقد عزم الله له ، فقال : إني كنت أريد أن أكتب السنن ، وإني ذكرت قوما كانوا قبلكم ، كتبوا كتبا ، فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله ، وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبدا وفي رواية ، من طريق مالك بن أنس ، أن عمر قال عندما عدل عن كتابة السنة : لا كتاب مع كتاب الله .
فعمر كان يخشى من إقدامه على كتابة السنة أن ينكب الناس على دراسة غير القرآن ، أو يتخذوا كتابا مع كتاب الله ، غير أننا نرى عمر بعد ذلك ، وحينما يأمن حفظ القرآن يكتب بشيء من السنة إلى عماله وأصحابه
فعن أبي عثمان النهدي قال : كنا مع عتبة بن فرقد ، فكتب إليه عمر بأشياء يحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال علي بن أبي طالب خطيبا : أعزم على كل من كان عنده كتاب إلا رجع فمحاه ، فإنما هلك الناس حيث اتبعوا أحاديث علمائهم وتركوا كتاب ربهم .
كما روي عن عبد الله بن مسعود كراهيته لكتابة الحديث ، وكذلك روي عن أبي سعيد الخدري ، وعبد الله بن عمر ، وأبي موسى الأشعري ، وغيرهم .
غير أن إحجام هؤلاء الصحابة عن الكتابة لم يدل على إهمالهم للسنة ومذاكرتها أو تدوينها عند زوال مانع الكراهة ، حيث ثبت بعدها عن كثير من الصحابة الحث على كتابة الحديث ، أو على الأقل استباحة تدوينه بعد أن زالت أسباب الكراهة ، بل إن عمر نفسه الذي هم بجمع السنن ، لم يكن يشك في جواز الكتابة ، وإلا لما هم بفعل شيء منعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إن إحجام عمر إنما كان لمانع يقتضي التريث في التدوين والجمع ؛ ولذلك رأيناه يكتب بنفسه حين يأمن اللبس ، ويثق بمن يكتب له ، وربما سمع الفاروق بكتابة الحديث بعد أن رأى حفظ الأمة لكتاب الله تعالى ، ورأى جمعه في المصحف الشريف ، ويشهد لقولنا هذا قول عمر رضي الله عنه : قيدوا العلم بالكتاب .
كذلك فإن أبا بكر الصديق كتب إلى أنس بن مالك فرائض الصدقة التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد سبق لنا ذكر خبر صحيفة علي بن أبي طالب التي كانت تحتوي على أسنان الإبل ، وشيء من الجراحات .
ولقد نهج التابعون نهج الصحابة الذين تلقوا عنهم ، فمن الطبيعي أن تتفق آراء من سبقوهم من الصحابة حول حكم التدوين ، فالأسباب التي حملت صحابة رسول الله على كراهة الكتابة ، والعزوف عنها ، في كثير من الأحيان ، هي نفسها التي حملت التابعين عليها ، ومن هنا فقد كره الجميع الكتابة ما دامت أسباب الكراهة قائمة ، أما عند زوالها فالجميع يستبيحونها .
ولقد زادت كراهية التابعين للكتابة حينما اشتهر بينهم تدوين آرائهم الشخصية إلى جانب الحديث ، فخافوا الالتباس ، ومن هنا كرهوا الكتابة ؛ خشية أن تختلط آراؤهم بالحديث الشريف ، فهم إذا كرهوا أن تدون آراؤهم فتؤخذ مأخذ الحديث .
الرحلة في طلب الحديث :
مما لا ريب فيه أن الحديث نشأ نشأته الأولى في المدينة المنورة ، حيث كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقونه منه صلى الله عليه وسلم ويتناقلونه فيما بينهم ، ويلقنونه التابعين بعد ذلك ، وظلت رحاب المدينة المنورة مقدسة عند طالبي الحديث ورواته ، حتى إن أبناء الأقاليم الأخرى كانوا إذا حجوا بيت الله الحرام ، وأتموا شعائرهم ، ولوا وجوههم شطر المدينة يسمعون الحديث من أهلها ، بل إن بعض الأئمة كان لا يرى بأسا في الاعتراف بأنه حج بيت الله ابتغاء سماع الحديث من محدثي الحجاز ، وإذا كان أهل المدينة قد تفردوا برواية أكثر الأحاديث ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان بينهم يسمعهم أقواله ويريهم أفعاله ، يتأسون به في الصغير والكبير ؛ فإن بعض الأقاليم الأخرى بدأت تتفرد هي الأخرى برواية بعض الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم ، ثم تشتهر بعدها على ألسنة رواتها في كثير من الأقاليم والبلدان الأخرى ، ومن هنا كانت الرحلة في طلب الحديث ، حيث لم يكن للرواة أن يقتنعوا بأخذ الحديث من أهل بلدهم ، أو بأخذه من المدينة وحدها .
كذلك فإن الصحابة رضوان الله عليهم بعد عهد عمر توزعوا في الأمصار ، ونقلوا في صدورهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولذلك كان لابد لمن أراد أن يجمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم من أن ينتقل من بلد إلى آخر ، ويسمع من الصحابة الذين سمعوا منه صلى الله عليه وسلم ورأوه وأخذوا الأحكام عنه ، ولقد كان هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم يشجعون على الرحلة من أجل الحديث ، وطلب العلم بوجه عام :
من هذا ما روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : لو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله تعالى مني تبلغه الإبل لأتيته .
ومما يروى في حب صحابة رسول الله للارتحال من أجل طلب الحديث والتحقق من صحته ، ما حدث به عطاء بن أبي رباح ، قال : خرج أبو أيوب الأنصاري إلى عقبة بن عامر ، يسأله عن حديث سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبق أحد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم غيره وغير عقبة ، فلما قدم إلى منزل مسلمة بن مخلد الأنصاري وهو أمير مصر فأخبره فعجل عليه ، فخرج إليه فعانقه ، ثم قال له : ما جاء بك يا أبا أيوب ؟ فقال : حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبق أحد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم غيري وغير عقبة فابعث من يدلني على منزله ، قال : فبعث معه ، فقال : ما جاء بك يا أبا أيوب ؟ فقال : حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لم يبق أحد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم غيري وغيرك في ستر المؤمن ، قال عقبة : نعم ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من ستر مؤمنا في الدنيا على خزية ، ستره الله يوم القيامة " . فقال له أبو أيوب : صدقت ، ثم انصرف أبو أيوب إلى راحلته فركبها راجعا إلى المدينة .
وكان الصحابي الجليل ، جابر بن عبد الله قد ابتاع بعيرا ، فشد عليه رحله ، وسار شهرا حتى قدم الشام ؛ ليسأل عبد الله بن أنيس عن حديث في القصاص .
وعلى هذا النهج ، وبمثل هذا النشاط في الرحلة في طلب الحديث كان التابعون ، فقد روي عن سعيد بن المسيب قوله : إن كنت لأرحل الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد .
ويروى عن كثير بن قيس أنه قال : كنت جالسا عند أبي الدرداء ، في مسجد دمشق ، فأتاه رجل ، فقال : يا أبا الدرداء أتيتك من المدينة ، مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لحديث بلغني أنك تحدث به عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : فما جاء بك ، تجارة ؟ قال : لا . قال : ولا جاء بك غيره ؟ ! قال لا . قال : فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ( من سلك طريقا يلتمس فيه علما ، سهل الله له طريقا إلى الجنة ، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم ، وإن طالب العلم يستغفر له من في السماء والأرض ، حتى الحيتان في الماء ، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ، إن العلماء ورثة الأنبياء ، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ، وإنما ورثوا العلم ، فمن أخذه أخذ بحظ وافر ) ) .
ويروى عن مسروق أنه كان كثير الترحال ، حتى قال عنه عامر الشعبي : ما علمت أن أحدا من الناس كان أطلب لعلم في أفق من الآفاق من مسروق . كما روي عن الشعبي أنه حدث بحديث ، ثم قال لمن حدثه : أعطيتكه بغير شيء ، وإن كان الراكب ليركب إلى المدينة فيما دونه .
هكذا كان العلماء يشجعون على الرحلة في طلب العلم ، ولقد كانت لهم رحلات كثيرة لا يتسنى لنا ذكرها لكثرتها ، ويكفي أن نذكر في هذا المقام ما كان لهذه الرحلات من فوائد ذات أثر بعيد في التحقق من الرواة ، فبظل الرحلة يرى الراوي من يروي عنه ويقف على كثير من سيرته وأحواله ، وكل ذلك يتم عن طريق سؤال أهل بلده والمخالطين له ، وكانت هذه الأسئلة تتسم بالتشدد ، حتى ليقال لهم : أتريدون أن تزوجوه ؟
كذلك كان من فوائد هذه الرحلات معرفة طرق كثيرة للحديث الواحد ؛ إذ يسمع الراوي من علماء البلد الذي رحل إليه ، ما لم يسمع في بلده من زيادات في الحديث ، أو تعارض في طرق الحديث الواحد ، وما إلى ذلك .
كذلك كان من فوائدها التثبت من الحديث ونشره وجمعه ، فقد ساعدت على المحافظة على السنة وجمعها بلا شك ، فأصبحت السنة في الأقاليم المختلفة أشبه بالسنة في الإقليم الواحد ؛ لتقارب عباراتها شيئا فشيئا حتى خيل إلى سامعها أنها رواية إقليم واحد .
وهكذا تعددت مراكز الحديث ومجالسه ، وشهدت الأقاليم البعيدة ، ما شهدته مكة والمدينة من نشاط علمي على يدي الصحابة ، ثم التابعين ، ومن جاء بعدهم .
المرحلة الرابعة : التدوين الرسمي للحديث
لقد دفعت الخشية من ضياع الحديث وذهاب أهله الخليفة عمر بن عبد العزيز للعمل على تدوين السنة رسميا ، كما أن ظهور الوضع في الحديث بسبب الخلافات السياسية والمذهبية كان عاملا آخر وراء تدوين السنة ، والذي ساعد على ذلك كله هو نشاط التابعين في ذلك الوقت ، وإجازتهم للكتابة بعد زوال الأسباب المانعة منها ، فحرص العلماء على سلامة الحديث من أن يدرس ويذهب بذهاب أهله ، لا يقل عن حرصهم على سلامته من الكذب والاختلاق .
كان هذان العاملان من أهم العوامل التي دفعت العلماء إلى خدمة السنة وكتابتها ، وقد دعا الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى جمعها وتدوينها رسميا ، حيث كتب إلى الآفاق : انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجمعوه . وكتب إلى أهل المدينة : انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبوه ، فإني خفت دروس العلم بذهاب أهله .
وجاء في كتابه إلى عامله على المدينة أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم : اكتب إلي بما ثبت عندك من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبحديث عمرة فإني خشيت دروس العلم وذهابه .
كما أن هذا الخليفة أمر ابن شهاب الزهري وغيره بجمع السنن ، وهو أحد الأعلام الذين كتبوا السنن وما جاء عن الصحابة أثناء طلبهم العلم ، في حين أن بعض علماء عصره كان لا يكتب سوى الحلال والحرام ، ويشهد لهذا قول أبي الزناد : كنا نكتب الحلال والحرام ، وكان ابن شهاب يكتب كل ما يسمع ، فلما احتيج إليه علمت أنه أعلم الناس .
وها هو ابن شهاب يقول : أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السنن ، فكتبناها دفترا دفترا ، فبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفترا .
ولم يقتصر جهد عمر بن عبد العزيز في جمع السنن على أمر من أمرهم من العلماء بجمع الحديث ، وإنما أرسل كذلك كتبا إلى الأمصار يحث المسئولين فيها على تشجيع العلماء على دراسة السنة وإحيائها ، كما جعل لأهل العلم نصيبا من بيت المال يسد حاجاتهم الحياتية ؛ كي يتمكنوا من التفرغ للعلم وجمع الحديث ، ثم نشره .
مما سبق نفهم أن التدوين الرسمي للحديث بدأ عند خلافة عمر بن عبد العزيز ، وبطلب منه ، وهذا لا ينفي تقييد الحديث قبل زمن عمر ، فقد كان تقييد الحديث وحفظه في الصحف وعلى الرقاع والعظام منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم ؛ إذ لم يكن التقييد على هذه الصورة منقطعا ، كما مر بنا .