❖❦❖ تدوين الحديث بين المنع والجواز ❖❦❖
لم يدون الحديث الشريف في عهده صلى الله عليه وسلم كما دون القرآن الكريم ، غير أن هذا الأمر لا يرجع - كما قال بعض الباحثين - إلى ندرة وسائل الكتابة ، وقلة الكتاب ، وسوء كتابتهم في ذلك العهد ، فقد وجد في ذلك الوقت كتاب كثيرون للوحي ، وغيره من الأمور الأخرى التي تحتاج إلى كتاب ، حيث كان للرسول صلى الله عليه وسلم كتاب للوحي بلغ عددهم أربعين كاتبا ، وكتاب للصدقة ، وكتاب للرسائل يكتبون بلغات مختلفة ، وكتاب للمداينات والمعاملات ، بل إن هذا العدد زاد بعد الهجرة ، وبعد أن استقرت أمور الدولة الإسلامية ؛ إذ كانت مساجد المدينة وكتاتيبها إضافة إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مراكز يتعلم فيها المسلمون القراءة والكتابة ، علاوة على تعلم القرآن وتعاليم الدين .
وقد تبرع بعض المسلمين الذين يعرفون الكتابة بتعليم إخوانهم ، وكان من أولئك المعلمين الأوائل سعد بن الربيع الخزرجي أحد النقباء الاثني عشر ، وبشير بن سعد بن ثعلبة ، وأبان بن سعيد بن العاص .
إنه يكفي للرد على من أرجع عدم تدوين السنة في العهد النبوي إلى ندرة وسائل الكتابة ، وقلة الكتاب ، وسوء كتابتهم ، أن المسلمين دونوا القرآن الكريم دونما صعوبة ، فلو أرادوا تدوين الحديث لدونوه دون مشقة ، كما سبق لهم تدوين القرآن الكريم .
إن عدم تدوين الحديث رسميا في بادئ الأمر خضع لظروف معينة ، كان منها :
ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من كراهيته لكتابة شيء غير القرآن ، فقد روى أبو سعيد الخدري ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ( لا تكتبوا عني ، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه ) ) .
وروي عن أبي سعيد أيضا أنه قال : استأذنا النبي صلى الله عليه وسلم في الكتابة فلم يأذن لنا .
وفي رواية عنه قال : جهدنا بالنبي صلى الله عليه وسلم أن يأذن لنا في الكتاب فأبى .
ومع وجود هذه الروايات التي أفادت المنع ، فقد وجدت روايات أخرى تفيد إباحة الكتابة في مناسبات معينة ، ولموضوعات كثيرة .
فقد روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال : كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه فنهتني قريش ، وقالوا : تكتب كل شيء سمعته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا ، فأمسكت عن الكتابة ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بأصبعه إلى فيه ، وقال : ( ( اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق ) ) .
وما روي عن أبي هريرة أنه قال : ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثا عنه مني ، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو ، فإنه كان يكتب ولا أكتب .
وما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كتب كتاب الصدقات والديات والفرائض والسنن لعمرو بن حزم ، وغيره .
وما روي عنه صلى الله عليه وسلم في فتح مكة ، حينما قام يخطب في الناس ، فقام رجل من أهل اليمن يقال له : أبو شاة ، فقال : يا رسول الله اكتبوا لي ، فقال : ( ( اكتبوا له ) ) .
إذا فالنهي عن الكتابة لم يكن نهيا عاما في جميع الأوقات ، وبالنسبة إلى جميع الأشخاص ، وإنما سمح لبعض الأشخاص حين أمن اللبس والاشتباه في الكتابة .
أما بعد ذهاب الخوف من اختلاط القرآن بالسنة ، فقد وجد إذن عام منه صلى الله عليه وسلم ، يدل عليه حديث أبي شاة السابق ذكره ، وهو في أواخر أيامه صلى الله عليه وسلم ، ويدل عليه أيضا ما روي عن ابن عباس ، حينما اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم الوجع ، فقال :
( ( ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا من بعده ) ) . قال عمر : إن النبي صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع ، وعندنا كتاب الله حسبنا ، فاختلفوا وكثر اللغط ، قال : ( ( قوموا عني ، لا ينبغي عندي التنازع ) ) .
شواهد واقعية على ما دون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم :
كما دون بعض الصحابة أحاديث نبوية بإذن خاص منه صلى الله عليه وسلم دون آخرون منهم بعد إذنه بالكتابة إذنا عاما ، إلا أن كثيرا من هذه المدونات والصحف لم تعرف مضامينها ؛ لأن بعض الصحابة والتابعين كانوا يحرقون ما لديهم من صحف ، أو يغسلونها قبل وفاتهم ؛ مخافة أن تقع في أيدي غير أهل العلم ، كما فعل أبو بكر الصديق ، فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : جمع أبي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت خمسمائة حديث فبات ليلته يتقلب كثيرا ، قالت : فغمني ، فقلت : أتتقلب لشكوى أو لشيء بلغك ؟ فلما أصبح قال : أي بنية هلمي الأحاديث التي عندك ، فجئته بها ، فدعا بنار فحرقها ، فقلت : لم أحرقتها ؟ قال : خشيت أن أموت وهي عندي فيكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنته ووثقت ولم يكن كما حدثني فأكون قد نقلت ذاك .
غير أن أكثر هذه الصحف اشتهر وتناقله الناس فكان منها :
الصحيفة الصادقة لعبد الله بن عمرو بن العاص : فقد كان عبد الله بن عمرو كاتبا يحسن الكتابة ، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكتابة كما يدل على ذلك قول أبي هريرة : فإنه كان يكتب وأنا لا أكتب ، ولقد ضمن عبد الله صحيفته التي اشتهرت بالصحيفة الصادقة - كما أراد كاتبها أن يسميها - كثيرا من الأحاديث بلغت ألف حديث كما يقول ابن الأثير .
ولا شك في أن لهذه الصحيفة أهمية كبيرة ، لكونها وثيقة تاريخية تثبت إذن الرسول صلى الله عليه وسلم بكتابة الحديث آنذاك .
صحيفة جابر بن عبد الله الأنصاري : فقد كان لجابر بن عبد الله هو الآخر صحيفة يرى الإمام مسلم أنها في مناسك الحج ، وكان قتادة بن دعامة السدوسي يكبر من قيمة هذه الصحيفة ويقول : لأنا بصحيفة جابر أحفظ مني من سورة البقرة .
وكان عند سعد بن عبادة الأنصاري كتاب فيه طائفة من أحاديثه صلى الله عليه وسلم ، وقد كان ابن هذا الصحابي يروي منها بعض أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم .
وكان عند علي بن أبي طالب صحيفة اشتملت على أسنان الإبل ، والجراحات ، وحرم المدينة .
وكان عند أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب فيه استفتاح الصلاة .
هذا إلى جانب صحف أخرى كثيرة لبعض الصحابة تناولت موضوعات كثيرة .
أضف إلى ذلك مدونات أخرى وكتب أخرى كان أهمها الكتاب الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتدوينه في السنة الأولى للهجرة ، الذي تم فيه النص على حقوق المسلمين من المهاجرين والأنصار وعرب يثرب مع موادعة اليهود في المدينة ، وهو ما نستطيع تسميته بدستور الدولة الإسلامية في ذلك الوقت .
وقد جاء في مقدمة هذه الصحيفة : ( ( هذا كتاب محمد النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ، وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم : إنهم أمة واحدة دون الناس . . . ) ) إلخ .
ومنها كتب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أمراء العرب وإلى ملوك وأمراء الدول المجاورة يدعوهم إلى الإسلام ، وكتبه صلى الله عليه وسلم إلى أمرائه وعماله وقواد جيوشه المتعلقة بشئون أقاليمهم ، وبيان أحكام الدين وتعاليمه ، وقد اشتهر من ذلك كتابه صلى الله عليه وسلم إلى عمرو بن حزم عامله على اليمن الذي اشتمل على بيان العبادات ، وأنصبة زكاة الإبل والبقر والغنم ، والجزية على غير المسلمين ، هذا مع أصول الإسلام بوجه عام وطريق الدعوة إلى الله تعالى .