الجنس : العمر : 31 مهد الذهب التسجيل : 06/09/2011عدد المساهمات : 232
موضوع: ►[ رحالة فرنسي يرسم مكة المكرمة.. بالكلمات ]◄ الخميس 22 ديسمبر 2011, 11:52 am
زارها قبل 115 عامًا رحالة فرنسي يرسم مكة المكرمة.. بالكلمات
اكتسبت رحلة الرحالة الأوروبي جرفيه كورتلمون إلى الأماكن المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة قبل أكثر من 115 عامًا أهمية خاصة رغم أن هناك رحلات كثيرة ومماثلة قام بها رحالة أوروبيون إلى المدينتين المقدستين, وحققوا رغباتهم في دخول حرمي مكة المكرمة والمدينة المنورة، لكن رحلة كورتلمون تميزت باختلاف نص رحلته عن معظم نصوص الرحالة الأجانب الذين كتبوا عن الجزيرة العربية. كما أن أهمية هذه الرحلة جاءت كون صاحبها فنانًا تصويريًا، سعى إلى الارتقاء بالصور المكتوبة إلى مستوى الصور التي تلتقطها الكاميرا، مركزًا في الجزئيات والتفاصيل الصغيرة، مازجًا الواقع بالخيال، مضيفًا إلى كتابته ألوانًا متعددة، ليكون نصه المكتوب أشبهَ بنسخة أخرى من الصور التي التقطها بالعدسة.
وتعد رحلة الرحالة الفرنسي كورتلمون المعروف بـ«الحاج عبدالله بن البشير» إلى الأماكن المقدسة قبل أكثر من قرن من الوثائق التاريخية لمرحلة زمنية وإحدى المحطات الزمنية المهمة في تاريخ السعودية. وقدمت مؤسسة التراث بالرياض ترجمة لنص الرحلة، ملمحة إلى أن كاتبه يجري سباقًا بين القلم والكاميرا لنقل الحركات والسكنات، الظلال، والألوان. إلا أن الفرق بين صور القلم وما التقطته الكاميرا يتجلى الآن في تحول صور الكاميرا إلى أشكال هندسية فقدت القدرة على الحركة بمجرد إغلاقها، أما صورة القلم فلا تزال تنعم بالحيوية بعد أن جف المداد، فالمشهد نفسه يتكرر في الحرم يوميًا بل زاد حركة وحيوية. واتسم نصه بهذا الأسلوب، ولم يقتصر على وصف الكعبة المشرفة، وإنما صاحبه في كل مراحل الرحلة، فوصف السفينة، وتلاطم الأمواج، والبدو، وما شاهده في مدينة جدة، وينسحب ذلك على حالته النفسية بعد كل مرحلة من مراحل رحلته التي لم تخل من صعوبة. ورأى الناشر أنه لو بحثنا عن الأسباب الحقيقية للرحلة لوجدناها واضحة، ولما احتجنا إلى أدلة، فقد سافر من أجل جمع معلومات عن الظروف التي يعيش فيها الحجاج المغاربة القادمون من مناطق السيطرة الفرنسية، ودراسة الأثر الروحي الذي يحدثه الحج في نفوس الحجاج بعد عودتهم إلى بلدانهم. بدأت رحلة كورتلمون إلى الأماكن المقدسة بعد أن تعرف على رجل جزائري اسمه الحاج آكلي، واصطحبه في الرحلة من الجزائر إلى جدة وذلك عام 1894م عبر سفينة أبحرت لمدة عشرة أيام، منها ثلاثة أيام من السويس إلى جدة، حيث ذكر الرحالة أنه بعد ثلاثة أيام من مغادرتنا السويس. ها نحن أولاً على مرمى البصر من مدينة جدة. انتظرنا طويلاً وصول أحد المرشدين، إذ يصعب على السفينة «كلوكوز» أن تزحف إلى مسافة أكثر نحو الساحل. وأخيرًا جاء المرشد فصعد إلى جسر السفينة. أنه رجل يرتدي بذلة طويلة، وعلى رأسه عمامة متواضعة. لون عينيه أسود داكن، كما لو أنهما محترقتان، يحدق في الأفق دون أن يرمش، ويعطي أوامره المتعلقة بإجراءات الوصول باللغة الإنجليزية.. رسونا على مسافة عدة أميال من البر، أكثر من المسافة المعتادة لأن ربان سفينتنا شديد الاحتياط. فهو لا يريد الزيادة في عدد السفن التي غرقت على الساحل الممتلئ بحطامها. إذ نرى هنا سفينة بخارية مشطورة إلى نصفين، وهناك يظهر لنا على سطح الماء شراع وبجانبه قمة مدخنة، وبموازاة ضفة البحر تنتشر علامات صخور متموجة تبرز في مستوى سطح المياه تدل على وجود أرصفة مرجانية، مما يشكل تهديدًا دائمًا للسفن.. يتمتع الربابنة العرب في البحر الأحمر بكفاءة عالية، لكن.. «قدر الله لا يعلم به إلا هو، كما يقول لنا أصحاب القوارب التي تنقلنا إلى البر، وهم مجربون حقيقيون للسفن، يتكلمون وهم يفغرون أفواههم بالضحك حتى تنكشف أطراف أسنانهم الحادة.
هكذا ترى يا أخي هذه السفينة الغارقة هنا. فقد كانت سفينة بخارية جميلة قدمت من موغادور (الصويرة حاليًا) من طنجة. كانت محملة بالحجاج المغاربة: إلا أن الربان الإنجليزي. لعنة الله على جنسه! كان قاسيًا ولا إنسانيًا مع إخواننا خلال رحلة العبور كلها.. وهكذا، وبمجرد أن أصبحت الأرض المقدسة على مرمى البصر. دفعه الله غصبًا عنه نحو الساحل، وذلك على الرغم من كفاءته العالية. لقد نجا جميع الركاب لأن ربك عادل، لكن السفينة ضاعت عن آخرها. إن الله على كل شيء قدير، وكان في ذلك نعمة غير متوقعة لنا، لأننا حصلنا على مكسب جيد من إنقاذ ما تبقى من حمولتها..».
هبت عاصفة كبيرة بينما كان قاربنا يتلوى بين الصخور المرجانية، وهو سنبوك (زورق صغير) عتيق، ترنح أحيانًا بشكل خفيف مثيرًا هلع الشيخين البدويين اللذين ليس لديهما خبرة في ركوب البحر: بعد ذلك كان يجب إنزال الشراع والقيام بآخر تحريك للقارب بالمجداف من أجل دفع القارب الغارق إلى منتصفه بين الرمال والوحل لأن الجزر كان كبيرًا، ثم بدأ ازدحام النزول على الطريقة المشرقية: صياح وصراخ وتدافع بين الناس، تأشيرة الجوازات والمعاناة من إجراءات الجمرك والصحة.. إلخ. لكن الحاج آكلي يعرف جيدًا كيف يخرج من هذه الدوامة، وبينما كان يقوم بالإجراءات، بقيت في إحدى الزوايا أقوم بحراسة أغراضنا، فأثرت انتباه أفراد الشرطة الأتراك الذين اقتادوني دون أي سبب إلى المركز. إنها بداية سيئة، فأنا لا أعرف اللغة التركية، وعربيتي الجزائرية لا يفهمها أحد، وجواز سفري عند الحاج، كل شيء أصبح يتعقد ويختلط، ومن حسن الحظ أن مرافقي وصل، فشرح لهم كل شيء، ثم قمت بدفع واجبات الصحة، ووضع التأشيرة على الجواز، بالإضافة إلى البقشيش طبعًا، وبذلك أصبحنا أحرارًا... إلا أننا تحت المراقبة.. إلى حدود السكن الذي اخترناه عند عبدالرحمن أفندي.. المترجم المعتمد لدى القنصلية الفرنسية، روقبنا عند أول خروج لنا، إذ كنا نسأل كما لو أن ذلك يتم بالمصادفة في محلات التبضع حيث نشتري بعض الحاجات.. كانت الليلة الأولى حزينة بل كئيبة، أحنى الحاج آكلي رأسه، لا يعرف الموقف الذي يجب اتخاذه ولا المشروع الذي سيقوم به، وبدا له هذا التوقيف الأول الذي تعرضت له نذير شؤم. فأمرني بقص شعري عند أقرب حلاق، وتغيير بذلتي، وظل يذهب ويجيء وهو في حالة عصبية يغير مشروعه وأفكاره عشرات المرات في الساعة.. وفي اليوم التالي وبعد ليلة من الهدوء والراحة هدأ روعه. فوافق على مرافقتي للقيام بجولة طويلة في مدينة جدة.
جدة.. حيوية موحشة، المدينة مبنية على ساحل البحر في منبسط رملي منخفض ولا يوجد فيها أي تل أو منحدر، إنها شاطئ محترق ومجدب مرفؤها موحش ووضعها محزن. الإقامة فيها لا يمكن تحملها. ولا يمكن أن تخطر على البال، ينقض عليك لفيف من الناموس ليل نهار، والماء فاسد والحرارة مليئة بالرطوبة ومرهقة، ولا يوجد فيها أي أثر للخضرة يمكن أن يبدد كآبة المنظر الحزين المحيط بها، توجد بعض الأشجار الشوكية في باب المدينة تغطي الأكواخ الفقيرة الموجودة في قرية يسكنها السود، وهذا كل ما يوجد من النبات في هذا البلد الجاف والمقفر. أما الشوارع والبازارات فمملوءة بالحيوية، لأن المدينة مركز تجاري كبير، والبيوت محكمة البناء، جدرانها من الحجر، مزينة بأجمل أنواع المشربيات، لكن لا شيء يمكنه أن يخفف من انطباع الموت والفراغ الذي يلح عليك بمجرد الوصول إلى هذه المدينة التي تنتمي إلى زمن آخر، أنها واحة من الصخور ضائعة على هذا الساحل العقيم المفزع.. خرجنا في الصباح الباكر من باب مكة المكرمة، وبعدما قمنا بزيارة قصيرة لضريح أمنا حواء، قمنا بجولة حول الأسوار: إنها محاطة بسور قوي يحميها من هجمات القبائل البدوية الموجودة على مشارفها، وخاصة في وقت الانتفاضات، إلا أن هناك فتحات تنتشر هنا وهناك على طول السور المهترئ، وخاصة في الجنوب الشرقي حيث توجد بعض الأحجار المنثورة على الأرض كأثر على المكان الذي كان يوجد فيه سور المدينة قديمًا. أما الحاج آكلي الذي سبق له أن عاين ممارسة عصابات اللصوص في الصحراء فيأسف بمرارة لهذا الإهمال من قبل الإدارة التركية الذي يمكن أن تندم عليه يومًا، لأنها في رأيه هي المسؤولة عن هذا التهاون.
وبعد عدة أيام قضاها في جدة، قرر الرحالة التوجه إلى مكة. وعن ذلك يقول كورتلمون: لم يكن أمامنا سوى وسيلتين للنقل، ويجب أن نختار إحداهما لقطع مسافة الـ87 كلم التي تفصل مكة المكرمة عن مدينة جدة، الجمال أو الحمير، كنت أرغب في امتطاء الجمل الذي أحب خطواته التي تشبه المهد ومشيته الاسترخائية، الجمل هو المطية الحقيقية في هذه الأماكن المقفرة والقاحلة، أنه الجمل المثير للسخرية، والمعاند. وعلى الرغم من أن مواقفه غريبة إلا أن قلبه طيب، إنه الجمل الذي لا يتوقف عن الشكوى، سواء عند تحميل الأغراض عليه أو عند إنزالها، في الوقوف وفي البروك، لكنه يسير دائمًا دون أكل أو شراب، إنه حيوان مناسب (أرسلته العناية الإلهية)، خلق للصحراء لمواجهة كآبة هذه البلدان العتيقة الميتة ولعزلتها التي لا نهاية لها. كان علينا أن نقضي يومين في السفر، بينما كنا نستعجل الوصول، فالطريق غير آمنة، لانها ملأى بالبدو النهابين. ولكون حمير الحجاز مدربة على نقل المسافرين، وأصبحت لها سمعة جيدة في هذا المجال، فإننا سنتمكن من قطع المسافة بين جدة ومكة المكرمة بمرحلة واحدة، بل الأحسن من ذلك هو أننا لن نضطر إلى تغيير رواحلنا ولذا قررنا استئجار الحمير.
أصبح كل شيء جاهزًا للانطلاق، توضأت الوضوء الأكبر، ولبست ثوب الإحرام، وهو اللباس الوحيد الذي يرتديه الحاج، وينحصر في قطعة من الثوب غير مخيطة تلف على الخصر، ويفرض هذا اللباس الفطري بشكل صارم على كل مؤمن يتوجه أول مرة إلى مكة المكرمة، كما يجب أن يلبسه ساكن مكة المكرمة الذي يتغيب عنها أكثر من تسعة وثلاثين يومًا.
عاري الجذع على ظهر حمار، هأنذا على الطريق أمتطي حماري، عاري الجذع، حليق الرأس، في الساعة الثانية ظهرًا، تحت وهج شمس محرقة، وأنا أعاني الخوف من ضربة شمس، فتذكرت، وآسفاه! النصائح الكبرى التي زودني بها صديقي القديم الحاج عبدالرحمن، وهي النصائح التي لم يعد في إمكاني أخذها في الحسبان، وبما أنني أخبرت الحاج آكلي بكل ما يجول في خاطري من تخوفات فقد أجابني بخشونة: ألست بين يدي الله؟! فما الذي تخشاه؟
سرنا في منبسط مرمل نحو 16 كم، ثم ارتفع الطريق بشكل غير ملحوظ منزلقًا بين جبال الحجاز الجرداء التي تتابع خلجانها الشبيهة بالبراكين الخامدة كحبات سبحة طويلة.
لقد سوت حوافر القوافل، بمرورها على مر السنين، الصخور التي كانت تشكل عوائق على الطريق، فأصبحت الطريق مستوية تشبه تمامًا مجرى واد رملي جاف. ينزل الظلام في هذه المنطقة بشكل مفاجئ تقريبًا، وفترة الغروب لا تستغرق وقتًا طويلاً، كما أن نور القمر الخافت لا يظهر إلا نحو الساعة الثانية بعد منتصف الليل. تلمع الكواكب في سماء هذا البلد لمعانًا لا نظير له، كما أن بريق النجوم الكثيرة يسطع في عنان السماء، ناشرًا حولنا إضاءة خفيفة، ونورًا باهتًا وحزينًا، لا يسمح بتمييز الأشياء الموحشة التي تحيط بنا.
كانت كتل من أنقاض مبعثرة، تبدو كأنها تغلق الطريق أمامنا، واقتربنا فإذا هي تبين عن تصدع ينزل فيه الطريق، اقتحمناه، فإذا هو مرة أخرى خليج أسود، دائري وعميق وخطير.
لاح لنا من بعيد مركز تركي معلق على ربوة يحجب خياله المشؤوم رؤية الأفق، يلمع فوقه نور أحمر، باهت ينبعث من فانوس، كأنه يريد أن يقول: إننا هنا، أي أن رجالاً مسلحين يوجدون هنا، وهم مستعدون لكل طارئ.
كنا نسير وقلوبنا منقبضة، نتقاطع مع القوافل دون أن نتوقف، ومع صفوف من الجمال التي تسير فوق طبقة الرمال السميكة دون أن تحدث صوتًا، تسوقها أشباح سوداء لا تتبادل مع الآخرين أي تحية ولا كلمة سلام، خلافًا للأعراف العربية، يمر خيالهم بمحاذاتك، ثم تبتعد بسرعة واضعًا يدًا تلقائيًا على الزناد، دائم الاستعداد لخوض معركة أو للتعامل مع أي مكيدة.
نحن الآن في قرية (حدة)، في منتصف الطريق، أنزلنا أغراضنا عن ظهور الحمير، صلينا جماعة، ثم قدم لنا الأكل المكون من بيض قلي بزبدة الضأن، تناولناه بصمت مع سواقي الحمير الذين كانوا يتوقفون كل مرة عن تناول هذه الوجبة الضعيفة للذهاب إلى تقديم العلف إلى حميرهم في حفنات صغيرة بأيديهم.. كما يذهبون لمراقبة حركات وجوه جيراننا في هذه الاستراحة.
هذه الوجوه تزعج سواقي حميرنا، ولعلهم وجدوا فيهم شيئًا مريبًا، لأنهم كانوا يحملون أغراضهم على الحمير بشكل مفاجئ، وبدل أن نأخذ قسطًا من الراحة بعض الساعات في قرية حدة كما هو متفق عليه، ها نحن أولاً نمتطي الحمير ونسرع الخطى في الليل، وبينما كنا نجتاز كثبانًا كبيرة من الرمال إذا القمر يعن في السماء، كان نوره باهتًا جدًا، لا يبدو منه إلا الربع (هلال)، ولا يكاد يلمع أكثر من لمعان النجوم، إلا أنه يضيء الأشياء التي ترتسم إلى جانب الأخيلة الطويلة والغريبة بشكل واضح. ومرة أخرى وجدنا أنفسنا من جديد في المنخفضات الدائرية، وهي حفر سوداء بعيدة القرار، فأخذتني سنة من النوم، وبدأت في الحلم.
إنني أعي تمامًا أنني أعيش في أحلك اللحظات في حياتي، ماذا سأكون غدًا؟ ما المصير الذي ينتظرني؟ عند الفجر سأدخل الحرم الشريف المهيب، ترى هل سأخرج منه؟.. وقد استعرضت حياتي كلها في رؤى سريعة.. تختلط في ذهني ذكريات تافهة من طفولتي بأحلام حب أيام الشباب الأولى، ثم جاءت الأسفار، والركض الأحمق في البلدان التي جبتها، غرناطة، قصر الحمراء، طليطلة وأسوارها القديمة، وغروب الشمس في أشبيلية على برج الذهب، ومالقا.. وطنجة، ولمعان القمر في تلمسان وركض الخيالة في جنوب الجزائر، ثم دمشق، وبورصا وإسطنبول والقدس والقاهرة وأثينا. ومجاري المياه الباردة في ضواحي باريس وأودية فرنسا وحدائقها ووردها، ثم الذكريات الأكثر إيلامًا، أنها ذكريات عائلتي، ووالدتي الغالية التي لا أشك في أنها تدعو لي كل مساء وهي تفكر فيّ، وأيضًا ذكريات فرنسا: الأصدقاء الذين ودعوني بحزن كبير ظنًا منهم أنني ضعت.
أسمع أصوات أجراس الحمير تدندن ليلاً وهي غير آبهة بها كجلاجل خفيفة، وقلبي يمتلئ أملاً وأنا أرى طريق العودة وفرحة أعزائي وهم يرتمون في أحضاني بعد هذه المعاناة القاسية، نسير ثم نسير دون توقف، على وقع الرواحل نسير نحو الهدف الغامض، نحو المجهول.
توقفنا للاسترخاء في مكان ما أجهل اسمه، وقد كنت في حلمي، ولم أفكر في السؤال عنه، ودون أن ينبس أحد ببنت شفة، تلفع رفاقي بثيابهم الصوفية، وخلدوا إلى النوم على الأرض التي ارتموا فوقها على شكل كتل.. كنت شبه عار، أرتعش فوق الحصير، لا أجرؤ على الكلام أو الحراك، تاركًا رفيقي المنهك بالتعب يأخذ قسطًا من الراحة، كما أنني لا أرغب في إثارة انتباه أحد، ارتعشت طويلاً شارد الذهن تحت برد الشرق القارس في وقت الشروق، برد قارس على الأقل بالنسبة إليّ، اذ لا يقيني منه أي شيء، وأخيرًا استيقظنا من النوم، وبعد أداء الصلاة امتطينا الدواب.
طيور آمنة
دخلنا حدود الأرض المقدسة فجرًا، ويوجد عمودان من الأسمنت إشارة إلى حدود الحرم يشبهان باب مزرعة، يبتعد بعضهما عن بعض أمتارًا قليلة، وهي كما قيل لي نقطة بداية تحريم الصيد، إذ بمجرد أن يتجاوز المرء هذه النقطة يحرم عليه قتل أي حيوان بري أو طائر، وفعلاً، فقد شاهدنا مع بداية النهار أسرابًا كثيرة من الحجل، وأماكن كثيرة يقيم فيها طائر خطاف الصحراء، وهي تركض أمامنا، دون أن تكلف نفسها عناء الهروب، كما هي عادتها عند مرور البشر أمامها لأنهم أصبحوا لا يمثلون في نظرها أي خطر، ثم جاء دور أسراب الحمام البري التي تحوم حولنا مكونة سحبًا حقيقية، كانت تنتقل من حولنا بأعداد كبيرة، وتتوقف تقريبًا تحت أرجل رواحلنا بألفة شديدة، كما كانت توجد بعض فراخ الترغلة المتخلفة على الطريق وكأنها تنتظر من يدوسها، فانتفضت رعبًا خشية ارتكاب جريمة قتل من هذا النوع عن غير عمد. إن أفراخ الحمام تحظى باحترام كبير من قبل سكان مكة المكرمة، وقتل أحد هذه الطيور المتجمعة داخل الحرم الشريف محرم، ويتوافر الكثير من الذرة والسمسم لإطعامها. تجاوزنا أحد منعطفات الطريق، فوجدنا أنفسنا في المدينة المقدسة، لا شيء كان يدل على اقترابنا منها، فهي تختفي بين جبلين يقترب بعضهما من بعض، ولا نعلم بدخول المدينة إلا بعد دخول شوارعها الأولى، لا توجد نظرة شاملة تمكننا من مشاهدتها كاملة، فالشوارع تتابع، وكلها متشابهة تستمر هكذا إلى الحرم الشريف الذي يمكن القول إنه يتوارى في مكان ما أسفل المدينة، تختفي عن النظر بشكل غامض، كما تختفي البيضة في قاع العش.
دخلنا فناء الحرم الشريف بعد ترحيب مطوفنا عبدالرحمن بوشناق بقدومنا، وهو المسجد الكبير والوحيد في مكة المكرمة (توجد مساجد كثيرة ولكن المؤلف لم يعرف منها إلا الحرم) ها هي الكعبة المشرفة تقف شامخة أمامنا بإجلال، محاطة بستارها الأسود المزخرف، والكعبة المشرفة، خلافا لما هو شائع، ليست هي قبر الرسول صلى الله عليه وسلم (الموجود في المدينة)، أنها بيت الله بالنسبة إلى جميع المسلمين، سرة الدنيا.
وعند وصولي بادر المطوف بالقول: «أخي، لا تعتقد أنك تعبد هذا الحجر أو هذا القماش أو الذهب الذي يحيط بها، أنت هنا في مركز الأرض، تتجه نحوها جميع الصلوات في العالم الإسلامي، تتجمع كلها في هذا المكان لترفع مباشرة إلى السماء، أنت هنا أقرب إلى الله، هذا كل شيء».. كانت الساعة تقترب من السادسة، وهناك بصيص نور وردي يضفي على جميع الأشياء مسحة الصباح الندية، فجلسنا في ساحة الحرم الشريف ينتابنا شعور من الإجلال والحب. وبعد برهة من التأمل شرعنا في أداء أولى الصلوات. وشربت بلذةٍ من ماء زمزم الذي كنت أستزيد منه، بينما لا يمكن للمسيحي، في نظرهم، أن يبتلع جرعة واحدة دون أن تنسد حنجرته، بل إنه سيختنق بهذا الماء بدل أن يشربه، بالإضافة إلى أن الرجل السيئ النية سيجد فيه طعمًا كريهًا. وأضاف واصفًا صلاة المغرب بالحرم: عشرون ألف مؤمن يتراصون في صفوف منتظمة، يقفون في ثبات وسكون بسم الله، فعم الحرم الشريف صمت مطبق، وامتلأت القلوب بالإيمان في صمت، الله أكبر فيردد الجميع بصوت واحد، وبصوت خافت: الله أكبر! إلا أن عدد المصلين كبير جدًا، لدرجة أن ترديد الأصوات، وإن بصوت خافت، يجعلها تتجمع في صوت هائل مفعم بالإيمان، محدثًا جلجلة تستمر مدة طويلة مع انحناء المصلين للركوع.
تستمر الصلاة، ومعها تستمر جباه المصلين في ملامسة الأرض مرتين، عبادة لله تعالى وخضوعًا له، ثم تتوالى الركعات في حركات هادئة مملوءة بالإجلال، فتزيدهم وقارًا، وهكذا إلى أن تنتهي الفريضة بالسلام.
تنتهي الصلاة، إلا أن المصلين يستمرون في الجلوس في صمت، يتأملون، وهم يمررون بين أصابعهم حبات السبحات المصنوعة في أغلبها من مادة العاج. وفي وسط لمعان شعاع الذهب المتوهج المنتشر في كل الجهات، يتوالى بروز بصيص لون وردي ذي دفء لا نهائي، محيطًا كل شيء بشعاع دافئ، ثم يتحول هذا البصيص إلى لون ضارب إلى البنفسجي فإلى لون الحديد الرمادي، ثم يجيء الليل ليلقي بظلاله على الحرم الشريف شيئًا فشيئًا، ناشرًا ثوبه الأدكن لإخفاء كل هذه الأشياء الروحية. وبعد أن يصبح الظلام أكثر كثافة، يعود الناس بلباسهم الأبيض إلى الطواف بصمت، يتحركون كالظلال فوق البلاط المصقول حول الكعبة المشرفة التي يتماهى ستارها الأسود بسرعة في ظلال الليل. ها هي ذي المصابيح الكثيرة تتلألأ في الحرم الشريف، تنير الليل بشراراتها اللامعة. مكسرة جمال المكان. فيشرع الناس في التحاور بينهم، ويزداد التحرك نحو الانصراف وكثرة الذهاب والمجيء إلى أن ينسحب الجميع.
يجب العودة إلى السكن والصعود فوق سطح البيت لأداء صلاة العشاء والاستعداد للمبيت. حينئذ سيكون لدي الوقت للعودة إلى أحلامي التي قطعت عني، في هدوء مطلق، وفي ليل صاف وهادئ وتحت سماء تتلألأ بالنجوم.
شقق من دون سقوف
تتوافر جميع بيوت مكة المكرمة على سطوح محاطة بأسوار منخفضة مبنية من اللبن المصفوف على شكل مربعات منسقة بينها فراغات، وهذا الوضع يسمح بمرور الهواء بحرية دون أن يكشف الجار بيت جاره. ولا شك أن المكيين يصعدون كل مساء إلى السطوح ليناموا فيها خلال عدة أشهر من السنة، والسطح هو شقة حقيقية من دون سقوف، وعند الحاجة توضع حواجز صغيرة للفصل بين الأسر، وفصل الحريم أو العبيد. وإذا كان البيت كبيرًا، فإن السطح يقسم إلى طبقات، فيصبح على شكل مدرج لجعله أكثر ملاءمة وسترًا. والسطح هو المكان الأكثر متعة في البيت، ينام فيه الناس على الحصير، والليالي فيه هادئة، ولا يحتاج فيه المرء إلى غطاء، كما يحتفظ بملابس النهار، وغالبًا ما يكون اللباس هو القندورة (الثوب) المصنوعة من كتان الموسلين المستورد من طرابزون (ميناء تركي على البحر الأسود)، أو القفطان المصنوع من القماش أو من القطن المستورد من الهند.
أصبح لي بسرعة عدد من الأصدقاء في المدينة، أولهم عبدالواحد، وهو من أصل مغربي، يشتغل في دباغة الجلود في حي المشرفة، متزوج بهندية، وأب لثلاثة أطفال، وهو يكن لي صداقة حميمة، فهو الذي يرافقني في جولاتي الطويلة خلال المدينة، كما قادني إلى مِنَى بعدما تعذر ذلك على الحاج آكلي الذي منعه مرضه من مغادرة البيت، وبفضله تعرفت على جزئيات المدينة وضواحيها، وبرفقته استطعت التقاط بعض الصور بعدستي المكبرة المدسوسة في سجادة الصلاة التي كنت أتأبطها كما يفعل جميع الناس تقريبًا في مكة المكرمة.
صعدنا معًا ذات صباح إلى جبل أبي قبيس، وهو جبل وعر يشرف على المدينة، وتوجد في قمته قبة صغيرة أنيقة. قليلون هم الحجاج الذين يذهبون إلى هناك من أجل الاستغفار، او التعبير عن أمنياتهم، أما أنا فكنت آمل التقاط صورة بانورامية للمدينة المقدسة من هذه النقطة التي تشرف عليها. كانت تلك المرة الأولى التي أحمل فيها عدستي المكبرة. وكان الخطر مضاعفًا في هذا اليوم، من جهة تسلق الجبل الوعر وعدم التوجه إلى الصلاة في القبة. وفي هذا خطر إثارة انتباه حراس الضريح الذين يترصدون دائمًا ما يحمله إليهم الزوار. من جهة أخرى لكي نؤدي الصلاة في هذا المسجد كان يجب تسريح السجاد الذي أخفي فيه عدستي المكبرة التي لم يكن بوسعنا إخفاؤها في مكان آخر بالنظر إلى البذلة الخفيفة التي كنت ألبسها وهي قفطان طويل ليس له جيوب.
تساءلت: أأخفيها في الحزام؟ لم يكن بإمكاني التفكير فيه. إذن من المستحيل التوجه إلى قمة جبل أبي قبيس لزيارته أو القيام بأي عبادة.. تسلقنا الجانب الوعر من الجبل بهدوء دون أن نلتفت وراءنا. وكأننا شخصان مؤمنان لا يشغل بالهما شيء عن الورع والتقوى، وبعد وصولنا إلى أسفل البناية جلسنا أرضًا كما لو أننا نلتقط أنفاسنا، ما أروع المشهد المدينة كلها تنبسط تحت أقدامنا، وكان الجو صحوًا لدرجة يمكن معها أن يرى بوضوح تام أي جسم مهما كان صغيرًا في الحرم الشريف الذي كان يوجد فيه بعض المصلين. وكالعادة، فقد كان هناك أناس بلباسهم الأبيض يطوفون بالكعبة المشرفة ذات اللون الأسود.
أعترف اني لم استمر طويلاً في هذا التأمل، إذ انتقلت بسرعة إلى العمل، أخذت آلة التصوير لالتقاط صور بانورامية، فالتقطت المشهد الأول، فالثاني، فالثالث فالرابع فالخامس على التوالي.. التقطت هذه المشاهد كلها وأنا واقع تحت تأثير خاص، كما لو أني فرغت لتوي من إنجاز شيء خارق، بقيت جالسًا فترة على الأرض، ثم قمت، فقلت لعبدالواحد لنذهب، ودون أن ننبس ببنت شفة. غادرنا هذه المناطق الخطيرة. لقد نجونا... لكن ألم يشعر الحراس بوصولنا، أم تراهم كانوا في الجهة الأخرى عند بوابة الدخول؟ أنه لغز، ومهما يكن الأمر فإن أحدًا لم يشاهدنا، ولم يبق لنا سوى النزول بسرعة.
أعتقدت أنه كان يجب عليّ كسر وتيرة الصمت وتقديم شرح لمرشدي.. وفي أول منعرج من ممر النزول قلت له: «أرأيت يا عبدالواحد، أن نظري سيئ لا يسمح لي بالرؤية بعيدًا، وبمساعدة هذه الآلة الصغيرة أصلحت بصري فإحدى عينيَّ تبصر بعيدًا والأخرى تبصر قريبًا، وبهذه الآلة أستطيع الرؤية بشكل أفضل».
- لكن عبدالواحد أجابني قائلاً: إنه يعرف ذلك، فهذه الآلات تلتقط صور البلدان. لقد رأيت آلات تشبهها سابقًا في طنجة.
- فأجبته هل أذنبت يا أخي؟ وفي هذه الحالة سأقوم بتحطيمها فورًا.
ـ فرد عليّ: لا يا أخي، ما دمت لا تصور الوجوه، الأمر سيان، خذ حذرك كثيرًا كي لا يراك أحد، سيتهمونك بالتجسس السياسي، وستقتل بلا شفقة ولا رحمة.. وقد حدث هذا كثيرًا في موسم الحج. أحسست فعلاً بحجم تهوري وحماقة مشروعي الذي أنوي فيه جمع الوثائق الضرورية لتأليف كتاب مدعم بالصور عن مكة المكرمة. مسكين هذا الحاج آكلي الذي يجهل تقنية التصوير، ظنًا منه أن الأمر ينحصر فقط في التقاط بعض الكليشيهات بشكل سري في بعض الأحياء المعزولة، أو تصوير نوافذ بيوت بعض الأصدقاء، أو بعض الأسطح، وهذا سيكون كافيًا في نظره.
لقد سمح لي بحمل آلة التصوير (13 x 18) وبعض الألواح التي أخفيناها بعناية في أغراضنا، بين الكتب العربية التي يسمح حجمها باخفاء علب الألواح، بالإضافة إلى الغرفة المظلمة، لكن الاقتراب من باب الشريف الأكبر الذي يحرسه رجال الأمن الأتراك بعناية، أو حتى الوقوف في الشوارع والأسواق والبازارات. أو من بيت الباشا، بكاميرا التصوير مهما كانت درجة إخفائها سيكون حماقة ما بعدها حماقة، وسيكون أسلوبًا مكشوفًا يلقي من خلاله المرء بنفسه إلى التهلكة. لهذا فقد كانت عدسة التكبير الصغيرة الحجم الوحيدة التي سمحت لي بالتقاط بعض الصور للمدينة المقدسة التي تدعم هذا الكتاب، دون أن أتعرض لعقاب، وتعود بي الذاكرة إلى أيام استعدادي للسفر في باريس، إذ يمكن القول إني كنت محظوظًا جدًا باتباعي النصائح الثمينة التي قدمها لي ذلك الصديق عندما قال لي: «اصطحب معك عدسة التكبير على سبيل الاحتياط». كم سخرت حينها من اقتراحه وما أزال أرى نفسي مستمرًا في غروري الأحمق، ويمكنني أن أقول الآن إنه لو لم يكن هذا الصديق قد أخذني من ذراعي وتوجه بي إلى شارع الأوبرا، عند السيد ريتشار العزيز الموجود في المعرض العام للصور، ولو لم يكن السيد ريتشار أجبرني على حمل عدسة التكبير لندمت الآن كثيرًا على رجوعي بخفي حنين.
ينعرج الممر الذي نسلكه في النزول إلى أحد المنحدرات ليشرف مرة أخرى على المدينة.
لقد هدأ روعي، وأصبح لدي الوقت كي أتمعن في كل شيء، إذ تبددت كل مخاوفي. كنا معًا مجرد شخصين مسالمين عائدين من جولة من قبة جبل أبي قبيس.. كانت صورة المدينة بأكملها تظهر لي بوضوح تام، وكنت أعي أهميتها، الأسطح تتدرج تحت أقدامنا وعلى هيئة شقق عارية تعلو جميع البيوت متخذة شكل مدرجٍ. وتعد الصور البانورامية التي تتضمنها اللوحات الخمس التي حملتها من هذه المرحلة الخطيرة، الأولى في نوعها التي تغطي المشهد العام للمدينة، وهي الصور الأكثر تعبيرًا من أي وصف، كما أنها تسمح بتقديم فكرة دقيقة عن أهمية المدينة الروحية للمسلمين.
أعتقد أن عدد سكان مكة المكرمة يبلغ نحو 100 ألف نسمة، أغلبهم من الهنود الذين تبلغ نسبتهم نحو 75 في المائة. وكما أسلفت القول، فإن المدينة تقع بين جبلين، في شعب ضيق وطويل يمتد من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي، ويخترقها شارع رئيس يمتد على طولها، تتخلله بعض المنعطفات، وتلتقي عنده بعض الأزقة المجاورة له، أغلبها يتقاطع معه بشكل منحرف.
جبت الشوارعَ والبازاراتِ بكل أمان، وغالبًا ما كان يرافقني عبدالواحد، وأحيانًا أكون برفقة الدرويش الجزائري أو أحمد بوشناق، لذلك فقد كان عليَّ أن اتبادل بعض عبارات التحية والمجاملة، وشرب عدد لا يحصى من كؤوس الشاي التي كانت تقدم لنا حيثما ذهبنا في جميع المناسبات، عند الأصدقاء، وعند الباعة حيث كنت أتسوق وفي كل مكان.
تنتظم المهن في أحياء، كما هو الأمر في جميع المدن العربية، وكان كل يوم يمثل بالنسبة إليّ استكشافًا جديدًا. ذهبنا في أحد الأيام إلى أحد باعة القماش، فتمكنا بعد أخذ ورد، وبعد مفاوضات طويلة، ونقاشات أطول، من شراء حزام وعمامة وقفطان وقطعة من القماش، وذهبنا في اليوم التالي، إلى سوق العطور، لأشتري قليلاً من البخور لصديقنا الحميم في الجزائر عبدالرحمن، وشيئا من زيت خشب الصندل والمسك لأصدقاء آخرين. وذهبنا في يوم آخر إلى الحي الذي تباع فيه صفائح الماء من أجل التزود بماء زمزم، ويوجد بهذا الحي عدد كبير من الحرفيين يصنعون من دون توقف أوعية من القصدير، من جميع الأشكال والأحجام، معدة خصيصًا لتعبَّأ بماء زمزم، وتراهم يفصلون ويلحمون ثم يملؤون ويبيعون بأنفسهم في محلاتهم التجارية الصغيرة، وهذه الأشياء الصغيرة الغالية يأخذها كل واحد منا عند عودته إلى بلده، إذا عدنا إليه بصحة جيدة، بعون الله، وهي العبارة التي تتردد على مسامعنا في كل لحظة. أما شراء الأشياء المصوغة، مثل خواتم الذهب أو الفضة فتتطلب التحلي بالصبر، وتمثل الصياغات المكية مؤسسة حقيقية، يسيرها ويديرها، كما تسير المؤسسات الحكومية أحد الشيوخ (شيخ الصاغة)، وهو أحد حرفيي المهنة نفسها، إنهم صناع مهرة، يصنعون تحفًا جميلة بطريقة متقنة ومتأنية، مثل سلاسل من الذهب والفضة، كما يصنعون عددًا كبيرًا من الخناجر التي يطلق عليها هناك اسم «الجنبية»، ويتمنطق بها جميع أعراب الجزيرة العربية، وتوضع أغلب هذه الخناجر في أغمدة فضية مذهبة على شكل (كم)، وهي غالبًا ما تمثل كل ثروة البدوي الذي يتاجر بهذه البضاعة، إذ إن الأعراب يبيعون أو يشترون هذه الأسلحة التي تمثل كل توفيرهم، ويتصرفون فيه حسب السنوات التي تكون تارة خصبة وتارة سيئة، ولا يمكن أن تتم أي عملية بيع للمصوغات دون قرار من شيخ الصاغة.
يشرع المشتري أولاً في مناقشة التاجر في سعر الدرهم (نحو ثلاثة غرامات) التي تعد الوحدة الأساسية في ميزان هذه الصفقات التجارية، ثم يتوجه المشتري إلى شيخ الصاغة الذي يوجد أحيانًا في الطرف الآخر من المدينة، وذلك حسب المكان الذي يشرع فيه بالمعاملة، وهو ما حصل معي فعلاً. فقد وضعت عيني على سلسلة جميلة من الفضة الذهبية كانت موضوعة على رفوف أحد تجار المقتنيات القديمة والرخيصة السعر التي يوجد سوقها في أحد الشوارع المجاورة لقصر الشريف الأكبر. كانت الساعة نحو العاشرة صباحًا، وهو وقت افتتاح السوق، وقد نصحني عبدالواحد بالرجوع في غضون النهار للحصول على سعر جيد.
قدم لي أحمد بوشناق مصحفًا جميلاً جديدًا لكنني لم ألمسه إلا بعد التوضؤ، حتى لا أدنسه بيديَّ غير الطاهرتين، فأخذت هذا المصحف إلى الشيخ محمد عابد، وهو من كبار مفتيي المالكية، الذي كان هو الآخر يحبني كثيرًا، فقدم لي سيلاً من المواعظ، ودروسًا مهمة في الأخلاق. قام الحاج آكلي بترجمتها لي. علق الشيخ محمد عابد المصحف في خيط الحرير المربوط في مفتاح بيته ليرى من خلال ترجحه في يده، إن كانت بشائر الخير تتوقع لنا عودة سعيدة إلى بلدنا، وبعد أن تمتم بعدد من الأدعية السرية، بينما كان المصحف معلقًا في الفضاء، استدار المصحف جهة الشرق، وفي ذلك علامة على حسن الطالع. كان هؤلاء المشايخ يؤمنون بالسحر والسحرة والجن، وخرافاتهم الساذجة مطبوعة بفلسفة صبيانية، إلا أنها أخلاقية ومهدئة، لا يمكن أن تصدر مثل تلك الخرافات عن مفتيي المالكية.
لم يصادف وجودي في مكة المكرمة موسم الحج السنوي، وأهنئ نفسي بذلك، لأنني تمكنت بفضل فراغ المكان من أن أتمعن على مهل، ودون ازدحام في كل ما يتعلق بالأكل والمبيت، وهي الانشغالات التي ترهق الزائر الأجنبي في وقت امتلاء المدينة بالحشود الغفيرة من الحجاج.
كان خطر اتهامي بالجاسوسية كبيرًا، إلا أنني كنت اتخذ من وجودي في مكة المكرمة خارج وقت الحج حجة لمصلحتي، إذ أكرر على مسامع من يسألني: لو كانت نيتي سيئة، كان بإمكاني أن استغل وقت الحج للتستر وسط الجموع، فأضيع بين الأجانب من كل الأجناس ومن جميع البلدان، ومع ذلك فقد نبهني الشيخ محمد عابد، صديقي المفتي المالكي على أنني يجب أن أهنئ نفسي على مناخ التسامح الكبير الذي أصبح معمولاً به اليوم مع الأجانب الراغبين في الإقامة في المدينة خارج موسم الحج، ثم أردف قائلاً: في السابق كان الأمر مختلفًا تمامًا، فمنذ ما يقرب من ثماني سنوات كان المسؤولون يفرغون المدينة مباشرة بعد انتهاء موسم الحج. بعد ثلاثة أيام من العودة من عرفات يشرع المنادون في شوارع المدينة المقدسة قائلين: «هيا.. أيها الحجاج لقد حان وقت الرجوع إلى أوطانكم غدًا ستنطلق قوافل مصر وسورية. كما أن السفن راسية في ميناء جدة، في انتظار من يرغب في السفر إلى بلده، وقريبًا ستبحر وبإذن الله ستصلون إلى بلدانكم سالمين غانمين مشمولين بالبركة».
ويواصل الرحالة بوصف بيوت مكة بقوله: بيوت مكة جيدة البناء، شأنها شأن بيوت مدينة جدة، فهي مبنية من الأحجار والبلاط ومدعمة بأعمدة من الخشب مغروسة في جدرانها وتتألف من دورين أو ثلاثة إلى خمسة أدوار، وجميعها مزينة بالمشربيات المصنوعة من خشب الهند، وغالبًا ما يكون محكم الصنعة.
يجنح المعماري أحيانًا إلى إعطاء واجهة البناية أشكالاً طريفة، لا تخلو من جمالية حقيقية. أما البيوت من الداخل فمرتبة بعناية، خصوصًا ما يتعلق منها بوسائل الراحة. وأما الأدوار العلوية فأكثر إتقانًا، لأنها المكان الوحيد الذي يمكن التعرض فيه لبعض هبات الريح الذي يعز في هذا البلد، لكن ألطف ما في البيوت العربية، دون شك هي سطوحها التي لا تستخدم مع الأسف إلا في الليل.
روح تضامن ونظافة جماعية
يسهر السكان أنفسهم على تنظيف الشوارع التي تشبه إلى حد كبير شوارع دمشق، أو شوارع القاهرة القديمة. ويجد المرء نفسه مضطرًا إلى أن يحيي روح التضامن الكبيرة السائدة بينهم، إذ إن أشغال التنظيف الشاقة تجري كما يقال طوعيًا، لأن السكان لا يدفعون في مكة المكرمة ضرائب عادية ولا ضرائب أرباح، ولا يدفعون أي مساهمة من أي نوع كان، ونتيجة لذلك فلا يبدو أن هناك نظامًا للنظافة، باستثناء جمع القاذورات التي تحمل على ظهور الحمير.
قمت بجولات طويلة على طريق عسير التي تسير باتجاه الجنوب الغربي للمدينة. وعند خروجي من الحرم الشريف، اجتزت قرية كبيرة يسكنها الزنوج، أنها قرية غريبة مَنْ يصدق أنها مبنية من القصدير الأبيض الذي تصنع منه صفائح البترول؟! لا شك أن كمية كبيرة من هذه المادة قد استهلكت في بناء مدينة الزنوج بأكملها من مخلفات هذه الأوعية. وتساءلت عن سبب ترك السكان الفوانيس مشتعلة طوال الليل، سواء في الشوارع أو في المساجد أو حتى في الشقق الخاصة، فلم أجد جوابًا شافيًا؟