جاء الدين الإسلامي حركةً أخلاقية واجتماعية تهدف إلى نقل الناس إلى مرحلة جديدة ليكونوا فيها أكثر وعياً وتحضراً وإنسانية، فخلخل كثيراً من المفاهيم الجاهلية التي كان على رأسها التعصب والعبودية وامتهان المرأة.
وعندما انتشر الإسلام خارج الجزيرة العربية وأقام حواضره الكبرى في دمشق وبغداد والأندلس، لم يجد المسلمون ضيراً في التفاعل مع الحضارات الإنسانية التي سادت في تلك الربوع، الأمر الذي صهر الحضارة العربية الإسلامية في بوتقة تلك الحضارات، مما يعني أن العرب واجهوا كثيراُ من الأفكار التي لم يعرفها مجتمع المدينة حين بزغ فجر الإسلام، فلم يرفضوها وتعاملوا معها باعتبارها ثقافة جديدة تساهم في رقي المجتمع وتطوره، وكان في المجتمع الإسلامي طوال تلك الحقب قوى متشددة ترفض كل جديد باعتباره بدعة لم ترد في القرآن ولا في السنة وكل بدعة ضلالة، وقوى تقدمية لم تعادِ الدين بل انطلقت من ثوابته ومفاهيمه التي لم تدعُ إلى تكبيل حركة الإنسان والحجر على حريته فيما لا يخالف جوهر العقيدة، فجابهت القوى التقدمية الفكر التقليدي عندما كشفت عن عظمة الدين في حرصه على التطور والرقي بالإنسان.
وفي أيامنا هذه شاعت كثير من المقولات التي تدعو إلى الحد من حركة المرأة وتكبيل فاعليتها في المجتمع، حيث أصبحت المغالاة في قضاياها سمة لأولئك الذين لا يعون سماحة الدين والذين ينتقون منه ما يوافق رؤاهم، ولم يعد خافيا أن تلك المقولات التي ينبري أصحابها للتضييق على المرأة في كل شؤونها ليس باعث بعضها الدفاع عن الإسلام وحمايته من إعطاء المرأة حقوقها الإنسانية والمجتمعية والعصرية التي لا تتناقض مع الإسلام (الرياضة في مدارس البنات)، بقدر ما هو حرص بعضهم على إثبات وجوده وتحقيق مصالحه الخاصة عندما يظهر بصورة الرافض لأي جديد يتعلق بالمرأة، واثبات قدرته على الهيمنة والسيطرة على كل ما يخص شؤونها (البيع في محلات اللوازم النسائية)!
ومن هنا صار على كل من يريد أن يستحدث شيئاً يخص المرأة أن يبحث عن فتوى تجيزه أو تحرمه حتى لو كان أمر الدين واضحاً بشأنه لا يحتاج معه إلى كل هذا العناء، حيث لم يعد الأمر ديناً بل فقه عادات وتقاليد ومصالح مشتركة بين هذا وذاك.إن تمرد الإنسان على السائد وضيقه بالركون عند المألوف ورغبته في الأفضل وسعيه إلى الوصول إلى أنماط أكثر رقياً في الحياة، كلها أمور كامنة في الطبيعة الإنسانية على مرّ العصور، وقد دعا سقراط قديماً إلى ضرورة ألا يرضى الإنسان بالمألوف فيستكين عند الرأي السائد وعليه استخدام العقل النقدي لتحليل المفاهيم والأفكار وفحصها.
ذلك أن الركون إلى السائد والتسليم بالموجود يتعارض مع حرية العقل التي دعا الإسلام إلى إطلاقها وعدم تكبيلها، ولهذا قال ابن الجوزي "إنّ من أعمل فكره الصافي دلّه على طلب أشرف المقامات ونهاه عن الرضى بالنقص في كل حال، فينبغي للعاقل أن ينتهي إلى غاية ما يمكنه، فلو كان يتصور للآدمي صعود السموات لرأيت من أقبح النقائص رضاه بالأرض". صيد الخاطر ص 159.
إن الانكفاء إلى خطاب مغاير وعدم التماهي مع التحولات التي تحدث على أرض الواقع الداخلي والخارجي رغبة في الحصول على مصالح ضيقة وتحقيق نجاحات لا يوصل إليها إلا بذلك الخطاب، يعد خيانة للمسؤولية الاجتماعية التي كان ينبغي أن يكون لها الأولوية في درجات وعي من يوكل إليهم أمر المرأة حيثما كانت مواقعهم، ولقد أثبتت الأحداث التي مرّ بها مجتمعنا منذ أن أثير موضوع قيادة المرأة للسيارة أن بعض المواقف حامت حولها سحب من الشك نظرا لعدم مصداقيتها وافتقادها للنزاهة لأن باعثها لم يكن دينيا بقدر ما هو تزلف لفئة معينة في المجتمع، ولن يكون ظهور المرأة على شاشة التلفاز ومشاركتها الرجال في معرض الكتاب اللذين أثيرا منذ أيام في مجلس الشورى آخر تلك المواقف.
ولقد نادى بعض أفراد المجتمع منذ مدة طويلة بإدخال حصص الرياضة في مدارس البنات أسوة بمدارس البنين، وذلك لأهمية الرياضة صحياً وعقلياً للفتيات ومع أنهم طالبوا بأن يكون ذلك في محيط المدارس المغلق وليس في أندية مختلطة أو ملاعب رياضية مفتوحة إلا أنهم جوبهوا بالرفض القاطع غير القابل لأي نقاش سداً لباب الذرائع!
وقد تجاهل القائمون على تعليم البنات أن ممارسة الرياضة حق يكفله الدين للمرأة مثلها مثل الرجل إذا تمّ في مدارس البنات وأُطر بالأطر الشرعية التي أُطر بها التعليم نفسه!وعليه فإن منع الرياضة يعد تمييزاً ضد المرأة على أساس الجنس الذي ترفضه اتفاقيات حقوق الإنسان التي صادقت عليها بلادنا ومنها (القضاء على العادات والممارسات القائمة على تفوق أحد الجنسين على الآخر وذلك من خلال الأنماط الاجتماعية والثقافية - لكل مواطن الحق في المشاركة في الحياة الاجتماعية والثقافية والاستفادة من كل فرص الرفاه الاجتماعي - إن تطور المرأة وتقدمها في الميادين المختلفة يضمن لها القدرة على ممارسة حقوقها كإنسان) وأظن أن ممارسة الرياضة للمرأة في المدارس تدخل في هذا النطاق وحرمانها منها يعتبر مخالفة صريحة لهذه البنود بحجة العادات والتقاليد التي لا علاقة لها أصلاً بالدين الإسلامي بل لها علاقة وثيقة بالخصوصية المجتمعية التي تستخدم مفهوماً لتبرير التمييز ضد المرأة والانفلات من الالتزامات تجاهها وسلب حقوقها المجتمعية والثقافية تحت ذريعة الخصوصية!
تداعت هذه الأفكار في ذهني عندما قرأت موافقة مجلس الشورى على إنشاء أندية نسائية في خمس مدن من مدن المملكة استجابة للطلب الذي سبق أن تقدمت به الرئاسة العامة لرعاية الشباب لمجلس الشورى بإجازة إقامة مراكز رياضية وترفيهية نسائية في مدن المملكة (الشرق الأوسط 2006/12/19) وقد ذكرت الصحف الصادرة في مختتم الأسبوع الماضي أن مجلس الشورى وافق على ذلك في ضوء ما أشيع عن تهديد اللجنة الأولمبية الدولية بتجميد عضوية المملكة رياضياً ما لم تسمح بمشاركة المرأة السعودية في أنشطة المسابقات العالمية الرياضية!! وقد نُقل عن نائب رئيس مجلس الشورى قوله: "إن اللجنة الأولمبية منحت السعودية فرصة للرد عليها قبل نهاية عام 2010، وإلا نفذت التوصية التي تطالب بتجميد عضوية أي دولة لا توجد فيها أنشطة رياضية نسائية تشارك في النشاطات العالمية".
وأضاف: "لا مشكلة في أن نقر إنشاء خمسة أندية نسائية في خمس مناطق كما ذكر أحد مسؤولي الرئاسة، إذ نستطيع أن نضع الضوابط الشرعية في حين لا تستطيع السعودية أن تفرض الضوابط الشرعية على المنافسات العالمية خارجها". وأشار إلى أن السعودية لن تخسر شيئاً في تجميد عضويتها، إذ أنها تكسب دينها وتحافظ على قيمها، وسيكون الوقت كافياً لنبحث مع الأعضاء والمختصين في الرئاسة هذه المشكلة ونقدم بعدها أندية رياضية، والسماح لاستثمارها في القطاع الخاص!!
إن الذي يتبادر إلى الذهن في هذا المقام هو لماذا لا نفكر في تحسين أوضاع المرأة الاجتماعية والثقافية وغيرها من الأمور الشائكة إلا عندما نجابه بتهديد من المؤسسات الدولية؟ لماذا لا نبادر نحن في إقرار ما يخصها من لدن أنفسنا كيلا يبدو ما نفعله مجرد استجابة للضغوط الدولية؟ فلقد بُحت الأصوات منذ ما قبل الحادي عشر من سبتمبر منادية بإصلاح المناهج التعليمية وتنقيتها مما فيها من رفض للآخر ودعوة إلى ممارسة العنف معه، وكان ذلك يقابل بالرفض والهجوم على المنادين به، ولكن عندما ظهر تأثير بعض المفاهيم على سلوك وتصرفات الشباب المتطرفين والمشاركين في الإرهاب، حذفت كثير من المفاهيم والأفكار المتشددة فبدا الأمر وكأنه استجابة للإملاءات الخارجية، بل إن الرافضين لإصلاح المناهج ما انفكوا يرددون بأن ما يحدث للمناهج لا يخرج عن هذا النطاق.
ولا زلت أذكر أنه عندما كثر الحديث في الصحف عن ضرورة إدخال الرياضة في مدارس البنات قوبل ذلك بخطاب مغاير يؤكد عدم جوازها لمخالفتها تعاليم الإسلام، وكانوا يحتجون بالحديث الذي يُروى عن عائشة رضي الله عنها "أيما امرأة وضعت ثيابها في غير بيت زوجها فقد هتكت ما بينها وبين الله عزّ وجلّ"!
وفسر أحدهم هذا الحديث بما جاء عن المناوي (قوله "وضعت ثيابها في غير بيت زوجها" كناية عن تكشفها للأجانب وعدم تسترها منهم "فقد هتكت ستر ما بينها وبين الله عزّ وجلّ" لأنه تعالى أنزل لباسا ليواري سوآتهن وهو لباس التقوى، وإذا لم يتقين الله كشفن سوآتهن وهتكن الستر بينهن وبين الله تعالى ثم عقب عليه قائلاً: (ولا يفهم من هذا الحديث أن قوله "وضعت ثيابها" أن المراد أنها تخلع جميع ثيابها هذا لا يلزم، وإذا حصل هذا في غير بيت زوجها بين الرجال الأجانب فهو في غاية الهتك والسقوط والفضيحة، ولكن الحديث يشمل نزع الحجاب فإن الحجاب من الثياب التي تغطي به المرأة وجهها) (موقع دار الحديث).
ومن المقالات التي كتبت في تلك الفترة قول الكاتب:
إن (الطالبات في مدارسهن وكلياتهن، والنساء المتوجهات للأندية سيُحءوَجءنَ إلى خلع ملابسهن المعتادة لأجل لبس الملابس الرياضية، ومثل هذا العمل جاء فيه الوعيد الشديد والتحريم الأكيد، فقد ثبت عن أبي المليح رحمه الله قال: دخل نسوة من أهل الشام على عائشة رضي الله تعالى عنها، فقالت: ممن أنتن ؟ قلنَ: من أهل الشام. قالت: لعلكن من الكورة التي تدخل نساؤها الحمامات ؟ قلن: نعم، قالت: أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما مِنء امرأةٍ تَخءلَعُ ثيابَها في غير بيتِها إلا هَتَكَتء ما بينها وبين الله تعالى") ثم أضاف (وإن العقوبة التي تنزل بمن هتكت ستر الله عنها فكانت بذلك هاتكة لما بينها وبين الله لا تقف عند تصورٍ محدد، ذلك أن صفات الستر بعمومها وشمولها ضرورةٌ لا يمكن أن يستغني عنها أي واحدة من الجنس اللطيف، ولهذا فإن تخلف الستر عنها يجعلها تعيش حياةً مضطربةً نكدة، مهما حازت من أسباب التمتع الظاهري أو اللذة الحسية)!
ويلاحظ كيف جرى التنفير من أمر الرياضة على النحو الذي يجعل إقرارها من سابع المستحيلات!!
بل إن الكاتب شطح به الخيال فتصور أن الرياضة لن تقرّ فقط في المدارس بل إن الأمر سيتجاوزها حتى يؤدي إلى ماهو أبعد من محيط المدرسة كقوله "إن اعتماد مادة (تربية رياضية) في مدارس البنات هو البذرة الأولى للمشروع الرياضي النسائي الكبير.. إذ سيتبع ذلك وبشكل متسارع الرياضة في التعليم العالي، حيث تفتح التخصصات والكليات التي تُعنى بتخريج المدربات والمعلمات للرياضة البدنية وغير البدنية، ثم يتبع ذلك إقامة (البطولات) المدرسية والجامعية. وفي النسق نفسه الأندية التي يتبعها اللاعبات في مختلف مجالات الرياضة، وما يتبع ذلك من (مشجعات) و(دوريات) و(بطولات) محلية وعربية وإقليمية وأولومبية ودولية،
على غرار ما عند غيرنا!! وبهذا نعلم أن ذلك المدخل ليس المراد به تنشيط أبدان الفتيات وتحصيل البنية الصحيحة لهن، ولكنه سيخرج عن نطاقه، كما خرج في مجالات أخرى.. ولهذا فإن إقحام (حصة مماثلة) في مدارس البنات لن يحقق المغزى المراد لأبدانهن بقدر ما سينخر في حيائهن وأخلاقهن، وفق ما سار عليه الطالبات في بلاد أخرى"!
إن الذي يتضح من حديث عائشة هو أن نزع الملابس في غير بيت الزوج لا ينطبق على نزعها لغرض ممارسة الرياضة حيث المعنى يتجاوز ذلك إلى معنى آخر لا علاقة له بها، ولكن الرغبة في التنفير من الأمور المباحة التي لم يأتِ دليل قاطع على تحريمها، تجعل بعض المتشددين يخلطون الأمور خلطاً عجيباً يبرأ منه الإسلام، فعدم الرغبة والإصرار على منع الرياضة في مدارس البنات لا يبرر التجاوز في خطاب المنع، كما أن المبالغة في الخوف من ممارسة الرياضة على منظومة الأخلاق والقيم والدين لا يعني إلا التشكيك في قدرة الدين نفسه على صون الأخلاق وحمايتها من الانتهاك في جو بعيد كل البعد عن الشبهات وأقصد به جو مدارس البنات فليس ثمة غير النساء، كما لا يوجد فيها من الأمور التي قد تؤدي إلى ما يُخشى منه على البنات، فليست الرياضة وحدها التي قد تقود الفتيات إلى ما يخشى عليهن منه، فقد يحدث هذا دون وجود الرياضة!! ثم إن أندية الرياضة الخاصة منتشرة في المدن الرئيسية منذ ما يزيد على الخمسة عشر عاماً ولم يحدث أن انحرفت النساء والفتيات بسببها!
وأخيرا ماذا يبقى من الدين ومن منظومة القيم إذا كانت ممارسة المرأة للرياضة تشكل تهديداً وزعزعة له من النفوس والسلوك.