رعاية المسنين في المجتمع الإسلامي
إن المناخ الطبيعي لرعاية المسنين رعاية حقيقية تُبقي على سعادتهم وتنعش نفوسهم , إنما هو الأسرة , حيث أولاد الشخص المسن وأحفاده وذوو قرابته , وحيث يرى في وجودهم من حوله مظهر فضله عليهم ورعايته السابقة لهم . فلا يجد في خدمتهم له وحفاوتهم به إلا وفاء لبعض الذمة المترتبة له عليهم , ولا يرون فيما يقومون به من ذلك إلا أداء لبعض من حقه عليهم , هذا عدا عن الحب الطبيعي الذي لا بد أن يشيع بينهم وبينه.
إن الشريعة الإسلامية أقامت أحكامها على هذه الفطرة , فكانت متناسقة أتم التناسق مع الرسالة الطبيعية لهذا المناخ , ثم كانت خير وقاية من عوامل الشذوذ والانحراف .
ومن خلال هذا , بوسعنا أن نتبين السبيل الأمثل في أي مجتمع إنساني إلى رعاية المسنين رعاية إنسانية سليمة . إن سبيل ذلك يتلخص في دعم كيان الأسرة , وحمايتها من كل ما قد يتهددها من عوامل التمزق والاضمحلال .
من أجل ذلك اهتمت الشريعة الإسلامية برعاية الأسرة وتنظيمها , كما لم تهتم بأي شيء غيره .
ومما هو معلوم أن الأحكام والآداب التي رسمتها الشريعة الإسلامية لحماية الأسرة وتنظيمها , تشكل في مجموعها سلسلة مترابطة من حلقات لأحكام متواصلة يشد بعضها من أزر بعض , لتنتهي جميعها إلى تحقيق هدف واحد هو حماية المجتمع الإنساني من عواصف الفرقة والشتات , وتحصين أفراده داخل سياج الألفة والتقدير المتبادل , ذلك لأن أي إصلاح يراد تحقيقه على ساحة المجتمع لا بد من غرس بذوره في تربة الأسرة أولاً .
ولا بد من المرور على أبرز هذه الأحكام , ليتجلى لنا من خلالها الاتجاه الذي تتحرك نحوه مجتمعاتنا , ومدى قربنا أو بعدنا من الخطر الذي يحدق بنا , ولنتبين على ضوئه الخطوات الإصلاحية التي يجب علينا تحقيقها لحفظ مجتمعنا بكل من فيه من شيب وشبان من آفات الضياع والشقاء :
تتمثل الحلقة الأولى في سلسلة هذه الأحكام , في تربية الفرد تربية إيمانية واعية بحيث يتهيأ كل من عقله ووجدانه للإصغاء بتدبر وقبول إلى التعاليم القرآنية وهدي السنة النبوية , الدالة على السبيل الأمثل للتعامل مع الكون والإنسان والحياة.
يليها التوجيه إلى الزواج , والتنبيه إلى كيفية اختيار كل من الزوجين صاحبه , وإرشاده إلى المقياس الذي يجب أن يتبع في ذلك , إذ إن هذا المقياس إن لم يتبع بدقة , لم تتحقق ضمانات الألفة والتقدير المتبادل والمستمر بين الزوجين , فتنبعث من ذلك المشكلات ,ثم تتنامى حتى ينتشر عدواها إلى الأولاد .
تليها آداب التعامل والمعاشرة بين الزوجين , على نحو هو مفصل في الفقه الإسلامي , فإن لم يطبق هذه الآداب على أتم وجه , تسللت عوامل الخلاف والتشاكس , ثم تفرعت من ذلك الأزمات والمشكلات , وتبددت روح الألفة وتقطعت أواصر الحب والتقدير , ولابد أن ينعكس تأثير ذلك على الصغار , ثم يبدو تأثيره عليهم شراسة وانحرافاً وعقوقاً عند الكبر.
يليها ويرتبط بها أحكام الإنفاق وآدابه , مما ذكره الله في محكم كتابه , وزاده رسول الله بياناً في هديه, فإن الأسرة إن لم تلتزم بتلك الآداب وقعت في مصيبتين متناقضتين تسوق الأولى منهما إلى الثانية , من دون ريب .
الأولى منهما هي الانزلاق إلى البذخ والترف وإغراق الحياة البيتية في الملهيات والمنسيات .. والثانية منهما هي الشح والبخل والتهرب من أعباء المسؤوليات الشرعية الأساسية . ذلك لأن البذخ الشديد من جانب لابد أن يستلزم الشح الشديد من جانب آخر . وهي سنة اقتصادية واجتماعية معروفة : يتطارح الزوجان , كل منهما على الآخر مسؤوليات الأسرة , تحت وطأة التكاليف والنفقات الكثيرة الباهظة . وشيئاً فشيئاً يستقل كل منهما في السعي على نفسه والبحث عن كفايته . وتنتقل العدوى -تحت سلطان هذا العامل ذاته -إلى سائر الأولاد ذكوراً وإناثاً . فيتوجهون إلى ما يسمى اليوم بالتحرير الاقتصادي , ويمضي كل يبحث عن كفاية نفسه بنفسه , وهي كفاية لا يتراءى لها أي سقف ولا حدود في تيار السعي وراء كل أنواع الأهواء والمشتهيات وإعصار لذائذ الحياة, وكلما ازداد الواحد منهم انغماساً في تلك اللذائذ ازداد شعوراً إلى المزيد من المال, فازداد بخلاً به وانصرافاً عن النظر إلى أي ممن قد يلوذ به , ومن هنا تتمزق الأسرة وتتحول أنكاثاً, غير أن خضوع الأسرة لهذا النظام خضوعاً طوعياً سليماً رهن بعاملين اثنين :
أولهما : نشر أصول التربية الإسلامية في المجتمع , وبث الوعي الإسلامي السليم في عقول الناشئة و وجدانياتهم عن طريق المدرسة ومختلف أجهزة الإعلام , مع تطهير سائر المرافق الاجتماعية والمؤسسات التربوية وأجهزة الإعلام من كل ما قد يتناقض مع تلك الأصول التربوية أو يعكر صفاء الوعي الصحيح .
ثانيهما : إعادة النظر في سياسة الإسكان وهند سة العمران . فإن الأنظمة العمرانية الجديدة التي انتشرت في أكثر مجتمعاتنا , لعبت دوراً كبيراً في تمزق الأسرة , وصد أعضائها عن القدرة على التحرك في نطاق أداء الواجبات المترتبة عليهم تجاه أقاربهم عامة وأصولهم خاصة.
إن نظام الشقق الصغيرة اليوم والتي آل إليها واقع تلك المنازل الواسعة الفسيحة بالأمس , ساهم مساهمة خطيرة في تمزيق شمل الأسرة وإقصاء الآباء عن أولادهم , وإبعاد المسنين والعاجزين عن أقاربهم الذين كان ينبغي أن يعيشوا في أكنافهم .
وأخيراً فإن هذا الذي ذكرناه في سبيل الحل الأصيل لمشكلة المسنين , وكيفية رعايتهم لا يعفي الدولة عن القيام بعمل احتياطي , يتمثل في إقامة المنشآت والمرافق المجهزة بأقصى ما تصل إليه استطاعتها لرعاية المسنين وتكريمهم .