الحمد لله العزيز الحميد، المبدئ المعيد، ذي العرش المجيد ذي البطش الشديد، الغفور الودود، الفعال لما يريد.
والصلاة والسلام على صاحب القلب السعيد، والعقل الرشيد، والعز المديد، وعلى ءاله وصحبه الطيبين الذين خافوا يوم الوعيد.
أما بعد،
فاعلم أن الله تبارك وتعالى فضّل بعض الأماكن على بعض، وبعض الأزمنة على بعض، وبعض الرسل على بعض وكذلك الملائكة وغيرهم.
يقول الله تبارك وتعالى: {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم} أما الأماكن أو البلاد فأفضلها مكة المكرمة التي ولد فيها سيد الخلق سيدنا محمد، ثم المدينة المنورة التي توفي فيها المصطفى وهي مُهاجر النبي محمد صلى الله عليه وسلم ومركز الدعوة الإسلامية، وانطلاق الدعوة منها، والجهاد والمجاهدين، ثم بيت المقدس الذي أسري إليه الرسول محمد عليه الصلاة والسلام وجمع الله له كل الأنبياء وصلى بهم إمامًا.
الرسول محمد صلى الله عليه وسلم قال: "الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة في مسجدي بألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة" رواه الطبراني في الكبير وابن خزيمة في صحيحه.
فالصلاة في المسجد الحرام أفضل مما سواه من المساجد بمائة ألف صلاة، وصلاة في مسجد المدينة أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في مسجد بيت المقدس أفضل مما سواه من المساجد بخمسمائة صلاة إلا المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم.
روى مسلم رحمه الله أن الرسول محمدًا عليه الصلاة والسلام قال: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام".
أما باقي المساجد ما عدا هذه الثلاثة فالأجر والثواب فيها واحد. قال النووي رحمه الله تعالى: "مذهب الشافعي وجمهور العلماء أن مكة أفضل من المدينة، وأن مسجد مكة أفضل من مسجد المدينة" أما عند الإمام مالك رحمه الله فإن المدينة المنورة أفضل من مكة، قال القاضي عياض: "أجمعوا على أن موضع قبره صلى الله عليه وسلم أفضل بقاع الأرض، وأن مكة والمدينة أفضل بقاع الأرض".
الترغيب في سكنى المدينة إلى الممات وما جاء في فضلها
لا يخفى على ذي بصيرة فضل المدينة المنورة ومكانتها، لأن الرسول محمدًا صلى الله عليه وسلم قال: "المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون".
وعن عمر رضي الله عنه قال: غلا السعر بالمدينة فاشتد الجهد، فقال رسول الله: "اصبروا وابشروا، فإني قد باركت على صاعكم ومدكم، وكلوا ولا تتفرقوا، فإن طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الخمسة والستة، وإن البركة في الجماعة، فمن صبر على لأوائها وشدتها كنت له شفيعًا وشهيدًا يوم القيامة، ومن خرج عنها رغبة عما فيها أبدل الله به من هو خير منه فيها، ومن أرادها بسوء أذابه الله كما يذوب الملح في الماء" رواه البزار.
فمن خرج من المدينة وهدًا فيها وانتظار مكان أحسن منها، ساق الله إلى المدينة من هو أحسن من الراحل وأفضل وأخير منه، ومن استطاع أن يموت في المدينة فليفعل لأنه ورد بشارة من الرسول محمد صلى الله عليه وسلم لمن يموت فيها، فقد قال عليه الصلاة والسلام: "من استطاع منكم أن لا يموت إلا بالمدينة فليمت بها، فإنه من يمت بها نشفع له أو نشهد له" رواه ابن حبان والبيهقي.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها، فإني أشفع لمن يموت بها" رواه الترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه.
فهنيئًا لمن كان الرسول صلى الله عليه وسلم شفيعه يوم القيامة حيث ينجو من عذاب الله ومن العقاب والأهوال إكرامًا لتلك الأرض المباركة عند الله تبارك وتعالى، أرض المدينة، وإكرامًا لأفضل خلق الله تعالى سيد الأولين والآخرين سيدنا الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم.
ومن فضل المدينة أن الدجال لا يستطيع أن يدخلها، كلما أراد أن يدخلها يجد على كل نقب من أنقابها ملكًا بيده سيف مسلط، كذلك مكة المكرمة لا يستطيع الدجال أن يدخلها مع ما أوتي من قوة ومن أمور خارقة للعادة وتسمى استدراجًا. ومن المشهور أيضًا أن الوباء لا يدخل المدينة، ومن مات في أحد الحرمين بُعث من الآمنين يوم القيامة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من زارني محتسبًا إلى المدينة كان في جواري يوم القيامة" رواه البيهقي.
فهذا الحديث فيه الترغيب للإقامة في مكة والمدينة، وفيه رجاء حسن الخاتمة والإخلاص في العمل لله تعالى والانتفاع بطهارة هذه البقع المباركة التي وطئتها أقدام الانبياء والأولياء, فانظر وتأمل واعلم أن الله تعالى يؤتي فضله ورحمته وعطاياه من يشاء.
قال الله تعالى: {يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤتَ الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا وما يذّكر إلا أولوا الألباب} [سورة البقرة ءاية 269] فالفضل بيد الله يؤتيه من يشاء من عباده والله ذو الفضل العظيم.
فمن فضل المدينة أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا الله تعالى أن يحبب إليه المدينة كما حبب إليه مكة، ودعا الله تعالى أن يبارك له في المدينة وفي صاعه وفي مده والمراد البركة في قوت المدينة المكيل بالصاع والمد.
فعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله توضأ ثم صلى بأرض سعد بأرض الحرة عند بيوت السقيا، ثم قال: "اللهم إن إبراهيم خليلك وعبدك ونبيك دعاك لأهل مكة، وأنا محمد عبدك ورسولك أدعوك لأهل المدينة مثل ما دعاك به إبراهيم لمكة، ندعوك أن تبارك لهم في صاعهم ومدهم وثمارهم، اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكةـ واجعل ما بها من وباء بخُم –مكان-، اللهم إني حرمت ما بين لابيتها كما حرمت على لسان إبراهيم الحرم". رواه أحمد.
وكان الناس إذا رأوا الثمر جاءوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أخذه رسول الله قال: "اللهم بارك لنا في ثمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا ومدنا، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإني عبدك ونبيك وإنه دعاك به لمكة وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك به لمكة ومثله معه، قال ثم يدعو أصغر وليدٍ يراه فيعطيه ذلك الثمر" رواه مسلم.
فقوله عليه الصلاة والسلام: "وبارك لنا في صاعنا ومدنا" يريد في طعامنا المكيل بالصاع والمد، والمعنى أنه دعا لهم بالبركة في أقواتهم جميعًا.
وقد روى مسلم رحمه الله أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وصححها لنا، وبارك لنا في صاعها ومدها، وانقل حُماها فاجعلها بالجحفة". وإنما دعا صلى الله عليه وسلم بنقل الحمى إلى الجحفة لأنها كانت يومئذ دار اليهود، وفي الحديث دليل على الدعاء للمسلمين بالصحة وطيب بلادهم والبركة فيها وكشف الضر والشدائد عنهم.
وفي هذا الحديث علم من أعلام نبوة سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإن الجحفة من يومئذ مجتنبة ولا يشرب منها أحد إلا حُمّ.
وقد روى مسلم رحمه الله أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم بارك لنا في مدينتنا، اللهم اجعل مع البركة بركتين، والذي نفسي بيده ما من المدينة شيء، ولا شعب ولا نقب إلا عليه ملكان يحرسانها".
والشعب: فرجة بين الجبلين، والنقب طريق في الجبل، قال الأخفش: أنقاب المدينة، طرقها وفجاجها.
قال الإمام النووي: فيه بيان فضيلة المدينة وحراستها في زمنه صلى الله عليه وسلم وكثرة الحراس واستيعابهم الشعاب زيادة في الكرامة لرسول الله. والمدينة دار الإيمان وأرض الهجرة. والإيمان يأرز أي ينزوي إلى المدينة كما تأزر الحية إلى جحرها.
فضل جبل أحد وعاقبة من أخاف أهل المدينة
قال الرسول صلى الله عليه وسلم عن جبل أحد: "هذا جبل يحبنا ونحبه".
وجبل أحد لا يدك مع الجبال يوم القيامة إنما يُنقل إلى الجنة مع المساجد.
قال الإمام البغوي: "يُجرى هذا الحديث على ظاهره ولا ينكر وصف الجمادات بحب الأنبياء والأولياء وأهل الطاعة، كما حنت الاسطوانة –العمود- على مفارقته صلى الله عليه وسلم حتى سمع القوم حنينها إلى أن سكنها، وكما أخبر أن حجرًا كان يُسلم عليه قبل الوحي. فلا ينكر عليه، ويكون جبل أحد وجميع أجزاء المدينة تحبه، وتحن إلى لقائه حال مفارقته إياها" ا.هـ.
الله تبارك وتعالى خلق في أحد شعورًا ومحبة فأحب الرسول وما ذلك على الله بعزيز.
أما الذي يخيف أهل المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام فإن الله تبارك وتعالى يذيبه في النار، لما ورد في مسلم والبخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لا يكيد لأهل المدينة أحد إلا انماع –أي ذاب وجرى- كما ينماع الملح في الماء".
وفي رواية مسلم: ولا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه الله في النار ذوب الرصاص أو ذوب الملح في الماء، فمن أخاف أهل المدينة أخافه الله.
وقد روى الطبراني أن الرسول محمدًا صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم من ظلم أهل المدينة وأخافهم فاخفه، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ولا يُقبل منه صرفٌ ولا عدل".
قال القاضي عياض: استدلوا بهذا على أن ذلك من الكبائر لأن اللعنة لا تكون إلا في الكبيرة، ومعناه أن الله يلعنه، وكذا تلعنه الملائكة والناس أجمعون.
والمراد باللعن العذاب الذي يستحقه على ذنبه، والطرد عن الجنة أول الأمر، وليست كلعنة الكفار الذين يبعدون من رحمة الله تعالى كل الإبعاد.
وفي الختام، نسأل الله كما سأل سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال: اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك وموتًا في بلد نبيك.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين والحمد لله أولاً وءاخرًا