المبيت خارج حدود منى أيام التشريق
سبق وأن ذكرت أن أرض منى محصورة ومحدودة والحجاج يتضاعفون عامًا بعد عام، ويتجاوز عددهم اليوم المليونين، ويُضاف لهم الأعداد الوفيرة في الأجهزة المختلفة؛ للمحافظة على الأمن والنظام، والنظافة، وتأمين متطلبات الحجاج من الطعام والشراب وغيرها.
بالإضافة إلى وجود القائمين على الخدمات والإرشاد، ووجود الإعلاميين والمراقبين والمرافقين، وقد يصل العدد إلى أكثر من ثلاثة ملايين يجتمعون في هذه البقعة الصغيرة المحدودة، خلال أيام معدودة، ويكلفون بواجبات وأعمال مفروضة،ولا شك أن في هذا الزحام مشقة لمن يريد الوصول إلى منى من خارجها، سواء أتى من الحرم أومن غيره، فتزدحم الطرق المؤدية إلى منى والخارجة منها ازدحامًا كبيرًا بالسيارات، وينتج عن ذلك التوقف المتكرر مما يعيق – في كثير من الأحيان- وصول الحاج إلى منى، فيفوت عدد كبير من الحجاج المبيت بمنى بسبب هذا الزحام، وتجدهم يبيتون في الطرق المؤدية إليها، أي: خارجها، وحتى لو افترضنا أن الحاج تيسر له الوصول إلى منى فإنه سيعاني من مشكلة أُخرى وهو عدم وجود مكان للمبيت في منى سببه الزحام، وافتراش من سبق دخوله لمنى الأرصفة وممرات الطرق.
وعودًا على ذي بدء ما ذكرته في التمهيد أن الشريعة جاءت بمقاصد سامية، تُنظم للناس حياتهم إذا هم انتهجوها واقتفوا أثرها، منها:
ثم إن الشريعة جاءت بمقاصد سامية، تُنظم للناس حياتهم إذا هم انتهجوها واقتفوا أثرها، منها: رفع الحرج عند وجود المشقة، ومنع الضرر كله لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار"([32])، فلا تصلح الطرقات ولا الأرصفة مبيتًا، ففيها أذية للآخرين بالتضييق عليهم، كما يحصل في الافتراش الذي نراه في منى في كثير من المواسم وفيها امتهان لكرامة المسلم، وخاصة النساء، وربما نام الحاج رجلاً كان أو امرأة على هذه الأرصفة أو الطرقات فيتعرض لخطر الدهس أو انكشاف العورات.
ومما سردته من الخلاف السابق في مسألة حكم المبيت في منى أيام التشريق، أستشف أن للفقهاء حيال حكم المبيت خارج منى أيام التشريق قولين أيضاً بناء على خلافهم السابق وهما:
القول الأول:
أن الرخصة في ترك المبيت خاصة بالسقاة والرعاة([33]) دون غيرهم، وإليه ذهب المالكية([34])، والحنابلة([35])، وهم بذلك يستدلون بنفس الدليل الأول للقائلين بوجوب المبيت بمنى، وهو حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: استأذن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته، فأذن له"([36]).
وجه الدلالة منه: أن الحديث واضح الدلالة وهو استثناء النبي صلى الله عليه وسلم السقاة والرعاة من وجوب المبيت فلا يتجاوز بالرخصة محلها.
مناقشته: يمكن أن يناقش بما ذكرت من أن حاجة الناس اليوم للمبيت خارج منى قد تفوق حاجة السقاة والرعاة لذلك في عصر النبوة.
القول الثاني:
أن أصحاب الأعذار من غير السقاة والرعاة يلحقون بهم، وإليه ذهب الحنفية([37])، الشافعية([38])،وهو قول عند الحنابلة([39])، وعليه فإن من بات خارج حدود منى فلا شيء عليه، إلحاقًا به للسقاة والرعاة.
قال ابن قدامة في المغني: " وأهل الأعذار من غير الرعاء كالمرضى ومن له مال يخاف ضياعه ونحوهم كالرعاء في ترك البيتوتة لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لهؤلاء تنبيهًا على غيرهم، أو تقول نص عليه لمعنى وجد في غيرهم فوجب إلحاقه بهم"([40]).
الخلاصة والترجيح :
خلاصة ما سبق أن الخلاف في مسألة حكم المبيت خارج حدود منى مبني على الخلاف في حكم المبيت في منى، فمن رأى من الفقهاء أن المبيت بمنى واجب (وهم المالكية، والشافعية، والمعتمد عند الحنابلة) قال: أن الرخصة في ترك المبيت خارج حدود منى خاصة بالسقاة والرعاة، ولا يدخل غيرهم في هذا الحكم؛ ومن قال بأن المبيت في منى سنة وليس بواجب (وهم الحنفية، والشافعية، وقول عند الحنابلة) ذهبوا إلى إلحاق غير السقاة والرعاة بهم؛ كالمرضى، ومن له مال يخاف ضياعه ونحوهم، وقد يدخل فيهم اليوم سائقو السيارات والقائمون على المرافق وخدمات الحجاج، وكذا إذا لم يجد الإنسان إلا مكانًا يخشى على نفسه فيه من السقوط أو الأذى، أو كان في الوصول إليه مشقة شديدة للبعد ووعورة المكان.
فعلى هذا القول يجوز المبيت خارج حدود منى أيام التشريق. وهذا في الوقت الحاضر أمر لا مفر منه؛ لضيق المكان وامتلاء حدود منى بالحجاج وغيرهم.
ويبقى السؤال هل يمكن الذهاب إلى مكة أو أواخرها كحي العزيزية أو حتى المزدلفة والمبيت بها، ذهب بعض أهل العلم المعاصرين كابن عثيمين إلى جواز المبيت خارج منى بشرط اتصال الخيام، قياسًا على اتصال الصفوف في الصلاة؛ حيث قال: "إن الإنسان يجب أن يكون عند آخر خيمة ...لأن المسجد إذا امتلأ وجب اتصال الصفوف، ولا تصح الصلاة من بعيد، وهذا كذلك نقول: يجب عليك أن تكون عند آخر خيمة في منى"([41]).
وعند رجوعي للمعاني اللغوية للمبيت والتي منها: أن كل من أدرك الليل في مكانٍ ما فقد سمي أنه بات، نام أو لم ينم([42])، فإن يظهر لي أنه يصدق على كل من مر منى ليلاً ولو كان استقر داخل مكة أو المزدلفة أو قرب منى؛ لو مر ساعة من ليل وبقي في منى حتى لو لم ينم فإنه يصدق على هذا الفعل اسم المبيت، لذا فإني أنصح من لم يجد مكانًا يبيت فيه، فإنه يبيت حيث شاء داخل حدود المشاعر المقدسة، ويُحاول قدر الإمكان محاولة قضاء وقت في منى يمكن أن يطلق عليه مسمى مبيتًا، ولو لم ينم فيها، والله أعلم.
* * *