المبيت في منى أيام التشريق
توطئة
أحوال الناس في الحج في هذه الأيام قد تغيرت؛ فما حصل من أحوال وظروف ومتغيرات وسهولة في وسائل النقل وما وسع الله سبحانه وتعالى به من الخيرات، جعل الأعداد التي تتدفق لأداء مناسك الحج أعدادًا تضيق عن استيعابها المشاعر المقدسة والمناسك، ومن ذلك وجود عدد يفوق المليوني حاج في بقعة محدودة لا تتجاوز 8.16 كم2 بما فيها السفوح الجبلية والمنطقة السهلية المنبسطة، وتقدر مساحة بطن الوادي في منى بحوالي 4 كم2، وهي تكاد تكون نصف المساحة الإجمالية للحدود الشرعية لمشعر منى. في حين أن بقية المساحة سفوح جبلية، تستأثر الطرق والأرصفة حوالي 25% منها، في حين تقدر المساحة التي تشغلها الدوائر الحكومية والخدمات 15% منها، فالمساحة المتبقية لنصب الخيام، وإيواء الحجاج في منى هي 2.5 كم2. ([1])، فهذه المساحة الصغيرة، والصغيرة جدًا كيف يمكنها أن تحوي هذه الأعداد الهائلة من الحجاج، لذا ظهر في العصر الحاصر من ينادي من العلماء بالقول بجواز المبيت خارج منى لهذه العلة، ولتحقيق القول في ذلك ينبغي أولاً التطرق لمسألة حكم المبيت بمنى ذاتها، وما قاله الفقهاء الأقدمين في ذلك، وبناء على قولهم يمكن تصور هذه المسألة المعاصرة التي "عمت بها البلوى" بين أوساط حجاج بيت الله الحرام، ولكن قبل البدء بذلك أذكر بعض التعريفات والمصطلحات كمدخل لهذه المسألة:
قولنا المبيت:
بات مصدر بات يبيت، ويبات بيتوتة ومبيتًا، وكل من أدركه الليل فقد بات؛ نام أو لم ينم، وتستخدم في الأعم بمعنى: فعل ذلك الفعل بالليل، كما اختصّ الفعل ظلّ بالنهار، وبات يفعل كذا: إذا فعله ليلاً، ولا يكون إلا مع سهر الليل، وعليه قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا) ([2])، ويُستعمل في النهار أيضاً، والمبيت: الموضع الذي يُبات فيه([3]).
ومرادنا من أيام التشريق
هي تلك الأيام الثلاثة التي تعقب يوم النحر: الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر، من ذي الحجة، وسُميت بذلك من تشريق اللحم وهو تقديده([4])؛ لأن لحوم الأضاحي تشرق فيها، أي: تنشر في الشمس، أو لأن الهدي لا يذبح حتى تشرق الشمس([5]).
وأنتقل بعد ذلك إلى ذكر ما قيل في حكم المبيت في منى أيام التشريق، لأتوصل بمشيئة الله تعالى بعد ذلك إلى القول في حكم المبيت خارج حدود منى أيام التشريق، فأقول وبالله التوفيق:
اختلف العلماء رحمهم الله في حكم المبيت بمنى أيام التشريق على قولين:
القول الأول:
أن المبيت بمنى أيام التشريق سنة، فعلها الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس بواجب، وهذا القول هو مذهب الحنفية([6])،وأحد قولي الشافعية([7])، ورواية عن الإمام أحمد([8]).
قال الكاساني في بدائع الصنائع([9]): " ثم يرجع([10]) إلى منى، ولا يبيت بمكة، ولا في الطريق، هو السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم هكذا فعل، ويكره أن يبيت في غير منى في أيام منى، فإن فعل فلا شيء عليه، ويكون مُسيئًا؛ لأن البيتوتة بها ليست بواجبة بل هي سنة". ومما يستدل به أصحاب هذا القول ما يلي:
1)عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: استأذن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته، فأذن له"([11]). ووردت روايات أُخرى بلفظ: رخص"، منها: ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده([12]) بلفظ: "أن العباس رضي الله عنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يبيت بمكة أيام منى من أجل السقاية فرخصله"، ومنها: "رخص لأهل السقاية ... أن يبيتوا بمكة ليالي منى..."([13]).
ووجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لأهل السقاية في ترك المبيت بمنى من أجل سقي الناس ماء زمزم، وهذا ليس بضرورة؛ إذ من الجائز أن تترك زمزم وكل من جاء شرب منها، ولكن كون النبي صلى الله عليه وسلم يُرخص للعباس يدل على أن المبيت سنة([14])..
2) ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: "إذا رميت الجمار فبت حيث شئت"([15]).
ومما عللوا به لقولهم:
أ- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالمبيت في منى، ولو كان واجباً لأمر به فدل على أن المبيت سنة([16]).
ب- أن الحاج قد حل من حجه بعد أدائه لطواف الإفاضة، فلم يجب عليه المبيت بموضع معين كليلة الحصبة: وهي الليلة التي تلي أيام التشريق([17]).
القول الثاني:
أن المبيت بمنى أيام التشريق واجب، وليس كما قال الحنفية أنه سنة، وهو المذهب عند المالكية([18])، والشافعية([19])، والمعتمد من مذهب الحنابلة([20]).
جاء عند المالكية قولهم: "ثم يعود إلى منى([21])،فيبيت بها ليالي منى كلها، فإن بات بمكة ولم يبت بمنى فعليه دم، وكذلك إن ترك المبيت بمنى ليلة من لياليها كاملة أو جلها"([22]).
وقال ابن عثيمين في الشرح الممتع: "لو ترك ليلة من الليالي، فإنه ليس عليه دم، بل عليه إطعام مسكين إن ترك ليلة، وإطعام مسكينين إن ترك ليلتين، وعليه دم إن ترك ثلاث ليالي"([23]).
فمن هذين النصين، وغيرهما مما لم أذكره، يتبين أن القائلين بوجوب المبيت في منى ليالي التشريق، اختلفوا فيما يوجبون على من لم يبت، فالنص الأول يوجب الدم كاملا مطلقًا، سواء من ترك ليلة أو ليلتين أو ثلاث، بينما ما ذكره ابن عثيمين يدل على أن وجوب الدم في حالة واحدة وهي إذا ما ترك المبيت الثلاث ليال سويًا.
والقائلون بوجوب المبيت بمنى أيام التشريق استدلوا بما يأتي من الأدلة:
1) ما ورد أنه صلى الله عليه وسلم رخص للعباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته"([24]).
ووجه الدلالة: أن تخصيص العباس بالرخصة لعذره دليل على أنه لا رخصة لغيره من الحجاج([25]).
2) ومما استدلوا به قوله صلى الله عليه وسلم: "لتأخذوا عني مناسككم"([26])، والمبيت بمنى كان من لأجل النسك([27]).
3)ووردت بعض الآثار عن عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وابن عباس رضي الله عنهم جميعاً بمنع الحجاج من المبيت خارج منى، من هذه الآثار([28]):
أ- ما ورد عن ابن عباس أنه قال: "لا يبيتن أحد من وراء العقبة ليلاً أيام التشريق".
ب- وما ورد أن ابن عمر رضي الله عنهما "كان ينهى أن يبيت أحد من وراء العقبة، وكان يأمرهم أن يدخلوا منى"، وغيرها من الآثار.
المناقشات والردود:
أولاً: بعض ما ورد من ردود على بعض أدلة القول الأول:
أن كلمة (رخص) الواردة في روايات حديث ابن عمر رضي الله عنهما تدل على أن ما يقابل الرخصة عزيمة لا بد منها([29]).
وأما قولهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالمبيت في منى: بأن الأمر قد جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: "لتأخذوا عني منا سككم"([30]).
ثانيًا: بعض ما ورد من ردود على بعض أدلة القول الثاني:
أما تخصيص العباس بالرخصة بالمبيت قوبل بعدم التسليم، وإنما يستقيم قولهم هذا لو تقدم منه صلى الله عليه وسلم أمر بالمبيت فيكون أهل السقاية مستثنين من سائر من أمروا، وأما إذا لم يتقدم منه صلى الله عليه وسلم أمر فنحن لا ندري أن هؤلاء مأذون لهم وليس غيرهم مأمورًا بذلك ولا منهيًا عنه، فيفهم منه الإباحة([31]).
وأما ما ورود من بعض الآثار عن عدد من الصحابة كابن عباس رضي الله عنهما وغيره يمكن أن يجاب عن هذه الآثار بأنه قد ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما ما يدل على جواز المبيت خارج منى، كما ورد في أدلة أصحاب القول الأول، وعليه فلا يستقيم الاحتجاج بهذه الآثار.