أصول ونماذج الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية
كاتب الموضوع
رسالة
الشبح
عضو فضي
الجنس : العمر : 36 كوكب الأشباح التسجيل : 06/09/2011عدد المساهمات : 512
موضوع: أصول ونماذج الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية الإثنين 28 نوفمبر 2011, 2:07 am
أصول ونماذج الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية
الفروق بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية ، فروق جلية ، واختلافات جوهرية ، تنطلق من طبيعة النظم و القوانين التي تساس بها الشعوب في كل منها ، بدءاً من المصادر والأصول ، وانتهاءً بالمسائل ودقائق الفروع ، وهذا موضوع ممتع شيق ، ولكن ليس هذا محل التفصيل فيه ؛ لذا فهذه نماذج لخطوط عريضة وفروق رئيسة أستعرضها بإجمال : أولاً : الفرق ( من حيث المصدر ) ، وهو : أنَّ السياسة الشرعية مصدرها إلهي ، أمَّا السياسات الوضعية فمصدرها فكر بشري . وهذا أساس التفريق ، وعنه تنبثق الفروق . و بيانه : أنَّ السياسة الشرعية مصدرها الله الخالق سبحانه وتعالى ، علَّمَها البشر عن طريق الوحي الإلهي ؛ ومن هنا اتصفت " بالشرعية " ؛ لأنها مستمدَّة من شرع الله تعالى ؛ أمَّا السياسات الوضعية فمصدرها الفكر البشري ؛ فهي أحكام وقوانين وضعها بشر ؛ يوصفون في أحسن أحوالهم وأعلاها مرتبة بأنهم من العقلاء وذوي البصيرة بتدبير الدولة وسوس النّاس ؛ وعن هذا الفرق الأساس ، تتفرع كثير من الفروق والاختلافات ؛ من أظهر ما يعني دارس الأحكام منها ، أمران : الأمر الأول : أنَّ السياسة الشرعية واجب دِينيّ ؛ أمَّا السياسات الوضعية ؛ فإلزام وضعي . فالسياسة الشرعية واجب ديني ؛ إذ هي جزء من الرسالة الإلهية الخاتمة ؛ وتكليف من تكاليف الإسلام : الدين الحق ، الذي أنزله الله عقيدة وشريعة ، وديناً يحكم الدنيا ؛ ولذلك قيدت السياسة فيه بـ ( الشرعية ) ، ومن هنا فهي مستقلة عن كل السياسات الوضعية ، عقلية أو طبيعية ، وذلك تبعاً لاستقلال الشريعة الإسلامية عن غيرها من المناهج والنظم والقوانين الوضعية . والسياسة الشرعية بمدلولها العام – الذي يندرج تحته المدلول الخاص– هي رسالة الخلافة – وما يندرج تحتها من ولايات - التي هي : حمل الكافّة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية ، والدنيوية الراجعة إليها ، إذ أحوال الدنيا ترجع - كلُّها - عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخِرة ؛ فهي في الحقيقـة : خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به (1) ؛ فصاحب الشرع متصرف في الأمرين ، أما في الدين فبمقتضى التكاليف الشرعية الذي هو مأمور بتبليغهـا وحمل الناس عليها ، وأما سياسة الدنيا فبمقتضى رعايته لمصالحهم في العمران البشري (2) . ولهذا كان نصب جهة تنفيذ السياسة الشرعية – المتمثل في الخليفة - واجباً دينياً ، بإجماع المسلمين (3) ؛ وذلك لإقامة مقاصد الخلافة التي تقوم على مقصدين رئيسين (4) : أ- إقامة الدين الحق " الإسلام " . وذلك بحفظه وحراسته وتبليغه ونشره ؛ لأنَّه الدين الخاتم الذي لا يقبل الله جل جلاله - بعد بعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم - من أحدٍ دينا سواه : ( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) ، وحماية البيضة بما فيها العمق الاستراتيجي للأمّة ومواقع سيادتها ، وتحصين الثغور وإعزازها ، ومدّ أطرافها . ب- سياسة الدُّنيا بالدِّين . بأن تدار جميع شؤون الحياة وفقاً لقواعد الشريعة ومبادئها وأحكامها المنصوصة أو المستنبطة باجتهاد سليم ، محققاً لقاعدة الحكم الأساسية : ( إنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ ) ، وذلك بتنفيذ الأحكام ، وإقامة الشرائع والحدود وسنّ النظم المشروعة ، وحمل الناس على ذلك بالترغيب والترهيب الشرعيين . وما الأئمة والحكام إلا جهات تنفيذية ، ملزمة شرعاً بإنفاذ أحكام الله في عباده ، وسياستهم بشريعته التي لا يستقيم حال البشر في الدارين إلا بها ، إذ إنَّ من مسلمات الدين عموم الرسالة المحمدية وشمولها لجميع متطلبات الحياة : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ) . وقد جاء النَّص على هذه المقاصد في آيات وأحاديث كثيرة ، ومن أجمع ما جاء في ذلك قول الله تعالى : ( الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْض أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْ عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُور ِ) . ونصوص الفقهاء في تأكيد هذه الحقيقة لا تخفى على من له اطلاع على كتب الفقه ، ولا سيما كتب السياسة الشرعية ، وقد تحدّثوا عنها في معرض ذكرهم لواجبات الإمام ومقاصد الولاية ، وكان حديثهم مفعما بالعزّة الإسلامية . فمنها : قول أبي المعالي الجويني رحمه الله : " فالقول الكليّ : أنَّ الغرض استيفاء قواعد الإسلام طوعاً أو كرهاً ، والمقصد الدين ، ولكنه لما استمد استمراره من الدنيا ، كانت هذه القضية مرعّية" (5) . ومنها : قول أبي العباس ابن تيمية رحمه الله : " فالمقصود الواجب بالولايات : إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسراناً مبيناً ، ولم ينفعهم ما نَعِموا به في الدنيا ، وإصلاح ما لا يقوم الدِّين إلا به من أمر دنياهم " (6) . قال الشيخ محمد العثيمين تعليقا على كلام أبي العباس رحمهما الله : " إذاً ، المقصود شيئان : إصلاح الدين ، وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر الدنيا ؛ فلسنا منهيين عن إصلاح الدنيا ، فلإسلام ليس رهبانية .. الإسلام دين حقٍّ يعطي النفوس ما تستحق ، ويعطي الخالق ما يستحق " . وقوله : " جميع الولايات في الإسلام مقصدها أن يكون الدين كله لله ، وأن تكون كلمة الله هي العليا ؛ فإنَّ الله تعالى إنما خلق الخلق لذلك ، وبه أنزل الكتب وبه أرسل الرسل ، وعليه جاهد الرسول والمؤمنون … " (7) . وحيث إنَّ السياسة الشرعية واجب ديني ، فقـد كانت المرحلة الأخيرة من مراحل ( الجهاد ) بعد الدعوة إلى الإسلام : الدعوةُ إلى الخضوع لأحكام الشريعـة ؛ تحقيقاً لمقصد : سياسة الدنيا بالدين ؛ وهذا الحكم من مسلمات الشريعة ، وهو غاية العدل أن يخضع البشر لحكم خالقهم ، فبه يتخلصون من ظلم العباد ، وبه يقدّرون خالقهم حق قدره : ( أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ) ، وينزهونه عن صفات النقص التي لا تليق بجلالـه وعظمته ، كالعبث والفوضويـة ( ؛ التي استنكرها الله تعالى في مثل قوله سبحانه : ( أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى ) ، أي : بلا أمر ولا نهي ولا عقيدة ولا شريعة ؛ وبه يعرف الإنسان الغاية التي خلق لأجلها ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) . أمَّا السياسات الوضعية ؛ فالإلزام بها إلزام بالوضع البشري ، تفرضه الإرادة البشرية بقوّة ( الدساتير الوضعية ) ، وتحميه بقوتها ، ومن يخالفـه يجّرم بـ(الخروج على القانون) ، وهذا نوع من الاستعباد البشري الذي حلّ محل عبادة رب البشر (9)؛ وإن اشتملت على بقايا دين محّرف ومنسوخ : كاليهودية والنصرانية ، وإن وجـد فيها شيءٌ من دين (10) (11) ، أو دين مخترع : كالبوذية ، والهندوسية ؛ فإنَّ السياسات الوضعية المعاصرة تقوم في تنظيرها على فصل السياسة عن الدين (12) والخلق . ومن ثمَّ فالإلزام بسياسات البشر الوضعية غايـة الظلم - وإن وُضِع في قوالب مغرية ، ودُعِم بشعارات برَّاقة - بدءاً بالاستعباد الإقطاعي ، ومروراً بالاستعمار لخيرات بلدان الشعوب الأخرى ، ومعاصرة لـ " الديمقراطية " بأشكالها العنصرية (13) . وهكذا فالفارق الأساسي هنا في مقصد السياسة : " أنَّ سياسة أمور الدنيا في المنهج الإسلامي تتم على مقتضى النظر الشرعي ، وفي إطار العبودية الكاملة لله تعالى ، ولكنها في النظم الوضعية تتم على مقتضى النظر العقلي ، أو على مقتضى الهوى والتشهي خارجاً عن دائرة العبودية ، وذلك يمثل مفترق الطرق بين السبيلين" (14) . وخلاصة القول : أن السياسة الشرعية تقوم على مقصد العبودية لله تعالى المتمثل في الدعوة إليه وحكم الحياة بشريعته . بينما تقوم السياسات الوضعية على فصل الدين عن الدولة أو الفكر العلماني الذي يمثل مفترق الطريق بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية المعاصرة .
أصول ونماذج الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية