أنَّ الفقهاء من المتقدمين والمتأخرين يعتبرون العمل بالسياسة الشرعية في الجملة ؛ وإن اختلفوا في العمل بها بين موسِّعٍ ومضيِّق .
و لم نقف على خلاف عن أحد من الأئمة والمحقين في ردِّ العمل بالسياسة الشرعية مطلقاً ؛ نعم ، اشتهر أنَّ بعض الشافعية (1) قال : " لا سياسة إلا ما وافق الشرع " ؛ وذلك من مناظرة جرت بينه وبين أبي الوفاء ابن عقيل الحنبلي ؛ وهذا كما هو ظاهر ، ليس فيه نفي للعمل بالسِّيَاسة الشَّرعيَّة ، وإنَّما هو إثبات للعمل بها بشرط موافقة الشرع ؛ وهذا محلُّ وفاق ، إذ مراده بموافقة الشرع : موافقة نصوصه وقواعده ، أو : عدم مخالفة ما نطق به الشرع - كما عبَّر ابن عقيل .
وهذا الذي ينبغي أن يُفَسَّر به قول هذا الفقيه الشافعي ؛ لأنَّ التقييد بموافقة الشرع ، اقتضاه ما اشتهر من بعض الولاة في تلك الأزمان ، من الحكم بـ( السياسة ) المخالفة للشرع ؛ " حتى صار يقال : الشرع والسياسة ، وهذا يدعو خصمه إلى الشرع وهذا يدعو إلى السياسة ، سوغ حاكماً أن يحكم بالشرع والآخر بالسياسة " (2) .
ولهذا الملحظ أجاب ابن عقيل رحمه الله ذاك الفقيه الشافعي ، بأنَّ مراده بالسياسة : السياسة الشرعية ، لا مطلق السياسة .
ولمَّا كان قوله : " ما وافق الشرع " يحتمل معنىً آخر قد يكون مقصوداً للمعترض ؛ فقد فرضه ابن عقيل – كما هو شأن المناظر الحاذق – وأجاب عنه ؛ حيث قال : " وإن أردت : ما نطق به الشرع ؛ فغلط ، و تغليط للصحابة ؛ فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والمثل ما لا يجحده عالم بالسير ، ولو لم يكن إلا تحريق المصاحف كان رأياً اعتمدوا فيه على مصلحة … " . تنظر الحاشية التالية . ولم يذكر من ساق هذه القصة - ممن وقف الباحث على كلامهم - جواباً لهذا الشافعيِّ على ابن عقيل ؛ فلعلَّه ، لمَّا تحرَّر له محلَّ المناظرة ؛ و دقق له ابن عقيل صياغة العبارة - زال اعتراضه . وعلى كل حال فهو خلاف منسوب إلى فقيه لم يسم حتى يُعرف قدره في العلم (3) .
؛ ومن هنا رتَّب د. عبد الفتاح عمرو عايش - رحمه الله
تعالى - المذاهب الفقهية وعلماءها ، من جهة الأخذ بالسياسة الشرعية واعتبارها ، سعة وضيقاً ؛ على النحو الآتي : المالكية ، وخاصًّة : ابن فرحون ، والشاطبي ، والقرافي ، ثم متأخِّروا الحنابلة ، وخاصَّة : ابن عقيل ، وابن تيمية ، وابن القيم ، ثم الحنفية وخاصَّة : ابن نجيم ، ثم الشافعية ، وخاصَّة : العزّ ابن عبد السلام ، ثم ابن حزم الظاهري(4).
ويظهر أنَّ هذا الترتيب نُظِرَ فيه إلى التصريح بلفظ " السياسة " ، لا مطلق اعتبارها ؛ ذلك أنَّ كثيراً من العلماء المتقدمين يعتبرون العمل بالسِّيَاسة الشَّرعيَّة ؛ لكنهم لا يصرِّحون بهذا اللفظ ؛ بل كثيراً ما يعبرون بأصول السياسة الشرعية ؛ كالمصلحة ، والضَّرورة ، والاستحسان ، وغيرها ؛ ومن استعرض كتبهم : كالخراج ، والأم ، وفتاواهم كمسائل الإمام أحمد ؛ تأكَّد له ذلك
ومن هنا - أيضا - فما يذكر من خلاف في جملة العمل بالسياسة الشرعية ، غير مسلَّم ؛ إذ المتأملُ يتضح له أن ما يُحكى من خلاف في العمل بالسياسة الشرعية ، غايته أن يكون خلافاً في بعض وجوه أسس السياسة الشرعية وتطبيقات تلك الوجوه ، لا في العمل بالسياسة الشرعية ، ولعلَّ السبب في ذلك يعود إلى أمور ، منها :
- حصر مجالات السِّيَاسة الشَّرعيَّة ، فيما لم يرد فيه نصٌّ ، مطلقاً ، سواء كان نصاً جزئياً خاصاً متعيناً أو غير متعين . وهذا مفهوم ضيق للسِّيَاسة الشَّرعيَّة .
- الخلط بين اختلاف الفقهاء في اعتبار بعض مستندات السياسة الشرعية ، الذي سبقت الإشارة إلى كونه لفظياً في عدد من أمهاتها في الحديث عن الأسس - وبين العمل بالسِّيَاسة الشَّرعيَّة.
- الخلط بين رفض العلماء لتصرفات بعض الولاة التي يسمونها ( سِّيَاسة ) أو ينسبونها إلى السِّيَاسة الشَّرعيَّة ، وبين اعتبار العلماء للعمل بالسياسة الشرعية ؛ وإن كان الفرق بين الأمرين ، لا يخفى .
- الخلط بين سوء تطبيق السِّيَاسة الشَّرعيَّة من بعض الولاة والحكَّام ، واعتراض العلماء على ذلك ؛ وبين اعتبار العلماء للعمل بالسِّيَاسة الشَّرعيَّة .