العمل بالسياسة الشرعية بين عجز العلماء وجهل الأبناء ومكر الأعداء 
كاتب الموضوع
رسالة
الشبح
عضو فضي
الجنس : العمر : 36 كوكب الأشباح التسجيل : 06/09/2011عدد المساهمات : 512
موضوع:  العمل بالسياسة الشرعية بين عجز العلماء وجهل الأبناء ومكر الأعداء  الإثنين 28 نوفمبر 2011, 1:55 am
أن ما يذكر من خلاف في جملة العمل بالسياسة الشرعية ، غير مسلَّم به قادحاً في الاتفاق على العمل بها ؛ إذ المتأملُ يتضح له أن ما يُحكى من خلاف في العمل بالسياسة الشرعية ، غايته أن يكون خلافاً في بعض مصادر السياسة الشرعية ، لا في العمل بالسياسة الشرعية ، وأنَّ لذلك أسبابا ، منها : حصر مجالات السِّيَاسة الشَّرعيَّة ، في مفهومٍ ضيق ؛ والخلط بين اختلاف الفقهاء في اعتبار بعض مستندات السياسة الشرعية وبين العمل بالسِّيَاسة الشَّرعيَّة من جهة ، و بين رفض العلماء لتصرفات بعض الولاة التي يسمونها ( سِيَاسة ) أو ربما ينسبونها إلى السِّيَاسة الشَّرعيَّة ، وبين اعتبار العلماء للعمل بالسياسة الشرعية من جهة أخرى ؛ والخلل في إدراك الفرق بين سوء تطبيق السِّيَاسة الشَّرعيَّة من بعض الولاة والحكَّام ، واعتراض العلماء على ذلك ؛ وبين اعتبار العلماء للعمل بالسِّيَاسة الشَّرعيَّة . ومما ينبغي العلم به هنا أنَّ سوء النظر وسوء التطبيق هذا عائد إلى تفريط طائفة ، وإفراط أُخرى : فالأولى : طائفة سدٌّت على نفسها وعلى الناس ، من طرق السياسية الشرعية ما تستقيم به أمورهم ؛ ظنَّاً منهم منافاتها لقواعد الشرع ؛ " والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصيرٍ في معرفة حقيقة الشريعة ، والتطبيق بين الواقع وبينها " (1) . ولا زال منهم أقوام في هذا العصر ممن ينتمون إلى أهل الإسلام ، لكنهم لم يأخذوا الكتاب بقوّة ، ولم يتعلموا الشرع بوعي ، وبلغ الأمر ببعضهم أن صار جاهلاً مركباً ، يبحث عن تأويلات فاسدة للوازم نظره الفاسد من سوء الظنّ بالمشرِّع ، والتشكيك في لزوم حمل الكافّة على النظر الشرعي في جميع شؤونهم . والثانية : سوَّغت باسم السياسة ما يناقض حكم الله ورسوله ، من السياسات والقوانين ؛ لمَّا رأت أن النَّاس لا يستقيم أمرهم إلا بشيءٍ زائدٍ على ما فهمه أولئك المفرِّطون ، من الشريعة ؛ " فتولَّد من تقصير أولئك في الشريعة ، وإحداث هؤلاء ما أحدثوه من أوضاع سياستهم شرٌّ طويل ، وفسادٌ عريض … وكلا الطائفتين أُتيت من قِبَل تقصيرها في معرفة ما بعثَ الله به رسولَه …" (2) . وهذه الفئة هي في عصرنا أشرّ مأخذاً وأخطر أثراً ، إذ قادها في عصرنا أعداء الملّة ، ووسع دائرتها وأبرز شبهها بعض من انخدع بالأفكار الوافدة من تلاميذ المستشرقين ، وهي في كثير من شبهها مستقاة من مياه الفكر الفلسفي الغربي الآسنة . وثمة فئة معاصرة تجاوزت حدّ الإيمان والتسليم بشرع الله ، ووصل بها الحال إلى المطالبة بالأحكام الوضعية التي تناقض مسلمات الشرع الحكيم ، وتتعدى على ثوابت الدين الحنيف ، فيما يشبه موجة الزنادقة التي ظهرت في مراحل ضعف الدول الإسلامية السالفة ؛ وكان فيهم من يصرح بردته ويتباهى بأيديلوجية كافرة ، وربما ألبست بلبوس مصطلحات معاصرة حكم بكفر أفكارها علماء الإسلام ، كالعلمانية الرافضة لسياسة الدنيا بالدين والليبرالية الملحدة المطالبة بتجاوز أحكام كل دين ؛ وهؤلاء لم يدعوا مجالا لمناقشة فكرهم في دائرة الإسلام ، ولذلك يناقش فكرهم ويفند كما يناقش فكر أهل الكفر والزندقة سواء بسواء . ولكنَّا وجدنا من بني جلدتنا من علقت بفكره بعض شبههم ، وظهر تأثره ببعض طرحهم ولو على سبيل المطالبة بتفنيد الشبهة لا تبنيها ، فقرأنا لمن يشكك في إمكان تطبيق الشريعة بعد عهد النبوة والخلافة الراشدة ، زاعمين أن الشرع لم يطبق بعد ذلك ! وسمعنا من يلوك ذات الجهالة . ومن هنا فإنَّ من المناسب التعريج على شيء مما يكشف حقيقة هذه الشبهة أو الجهالة التي يحسن وصفها بالفرية ، إذ يكذبها واقع القضاء على مرّ العصور الإسلامية ، ويردّها التاريخ بأخباره ووقائعه وأحداثه وطبقات الرجال من قضاته ، ويقطع دابرها التفاتة عابرة إلى ضخامة التراث الفقهي الإسلامي الذي دون كثيرا منه قضاةُ الإسلام ، حتى كان وصف القاضي من أظهر أوصاف الفقهاء فيما مرّ من الأزمان ؛ بل وجدنا في تاريخ الفقه نقلة في خدمة القضاة ، تتمثل في تدوينٍ فقهيٍ على نمط التنظيم والتقنين الحديث تقريبا للأحكام من غير إلزام فيما لا يشرع الإلزام به ، وتميز بذلك أشهر مذهبين حكَم أتباعهما الدول الإسلامية السالفة ، وهما المذهب الحنفي في المشرق والمالكي في المغرب ، فلن يعسر على باحث منصف أن يرجع إلى كتبٍ من هذا النوع لبعض قضاة الحنفية من مثل : خزانة الفقه ، لأبي الليث نصر بن محمد السمرقندي (ت/373) ؛ وهو الكتاب الذي تبعه في ذات النهج مهذبا ومطوِّراً القاضي أبو الحسين علي بن الحسين السّغدي (ت/461) في كتابه المنظّم : النتف في الفتاوى ، وكان يذكر الآراء إن تعددت دون ترجيح ليُرَجِّح المتفقه والقاضي منها ما يراه راجحا ؛ ولن يعسر على الباحث أيضا أن يطلع على ما جاء عند المالكية شبيها بذلك من مثل : أصول الفتيا في الفقه ، لمحمد بن حارث الخشني (ت/361) . وأما كتب القضاء وسياساته وتراتيبه في ظلال الدول الإسلامية فأمر لا يخفى على عوام باعة الكتب . أما الحديث المصنفة في القضاء ونوازله فأمر من الظهور بمكان ، حتى إنه لحري أن يعاب جهله على من يدعي ثقافة ، بله طالب فقه . بل إنَّ استشعار حقيقة الجهل حمل د. خالد محمد خالد وهو من أشهر من أثار هذه الفرية إن لم يكن أشهرهم إلى التراجع عنها وعن علمانية الحكم ، وكشف ستر الفكر المنحرف الذي دفعه إلى القول بها ، وأصدر بكل شجاعة كتاباً سماه " الدولة في الإسلام " أعلن فيه أنَّ الإسلام دين ودولة بلا مراء (3) .
وما أعسر الحديث في إثبات الواضحات ، ولمن قلّ اطلاعه على علوم أهل الإسلام وأراد تثقيف نفسه في هذا المجال حتى لا يمرِّر عليه الجائرون ظلمهم للتاريخ ، ومكابرتهم للواقع – أُرشد الباحث عن الحقيقة إلى الاطلاع على الكتب المتخصصة في نظام القضاء الإسلامي ومدارسه ومؤلفاته ، ما بين مؤصّل مطوّل مثل : القضاء ونظامه في الكتاب والسنة ، للدكتور عبد الرحمن الحميضي ، وهو رسالة دكتوراه محكّمة ، ووجيز كاشف للحقيقة بلغة الواقع ، مثل : دراسة في تاريخ القضاء الشرعي في الإسلام وتطوراته منذ عهد النبوة إلى عصرنا الحاضر ، للدكتور إبراهيم الربابعة ، وإن شاء نوعا آخر من التأليف الكاشف لجهل المنكرين الموضِح لمكانة قضاة المسلمين ، فليطع على كتاب من مثل : أثر القضاء في الدعوة إلى الله تعالى دراسة تأصيلية وتطبيقية في العصر العباسي .
ولست هنا أرمي إلى قصد تفنيد تلك المقولة التي لم يع أصحابها معنى استشهاد الفقهاء بسنن الخلفاء الراشدين دون غيرهم من الخلفاء ، امتثالا لوصية المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم باتباع سنتهم ، دون غيرهم من خلفاء الإسلام – وإنما القصد الإشارة إلى هذا الانحراف المبني على هذه الفرية الواهية ، وإلا قد فنّدها علماء الإسلام ومفكروه المعاصرون ، وبيّنوا سذاجتها وفكَّكوا فكرتها . ومنهم الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي في الباب السادس من كتابه القيم : " الإسلام والعلمانية وجهاً لوجه " ؛ والدكتور المستشار طارق البشري في كتابه المفيد : " الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي " ؛ ومما كُتب حديثا في رد هذه الفرية ، سلسلة من المقالات لم تكتمل بعد ، بعنوان : " تحكيم الشريعة الإسلامية عبر التاريخ الإسلامي " ، لأخينا الدكتور علي الصلابي وفقه الله (4) .
وعوداً على بدأ ؛ فإنَّ مِمَّا يؤيد ما سبق من أسباب توهم الخلاف في إعمال السياسة : أنَّ العلم بطرق استنباط السياسة الشرعية الرئيسة ؛ كالعلم بفقه القواعد الكلية ، والمقاصد المرعيّة ، والمنفيّة ، وإلحاق فروع كلٍّ منها بها - من العلوم التي تُعدّ مزية للفقيه المتبحِّر - لا ينهض بها كلُّ أحد ؛ لما قد يظهر من معارضة جزئياتها للأدلة ؛ وحيث قد اشتهر فقه بعض الأئمة بتعليل فروع تلك الكليات بها أكثر من غيرها ، كمذهب الإمام مالك ؛ فقد كان ذلك منهم محلَّ ثناء وتبجيل ؛ فهذا الحافظ الذهبي يُثني على فقه الإمام مالك ، بقوله : " وبكل حال فإلى فقه مالك المنتهى ؛ فعامَّة آرائه مُسَدَّدَة ، ولو لم يكن له إلا حسم مادّة الحيل ، ومراعاة المقاصد (5) لكفاه " (6) ، وهذه من حقائق السياسة الشرعية وكبرى ملامح فقهها .
وقال أبو العبَّاس ابن تيمية - بعد أن ذكر وجوب سياسة الناس سياسة شرعية يكون السيف فيها تابعاً للكتاب كما كان الأمر على عهد الخلفاء الراشدين ، وكان أهل المدينة بعد ذلك أرجح فيه من غيرهم - : " وهذه الأمور من اهتدى إليها ، وإلى أمثالها ؛ تبين له أن أصول أهل المدينة أصح من أصول أهل المشرق ، بما لا نسبة بينهما " (7) . وقال : " خاصَّة الفقه في الدين … معرفة حكمة الشريعـة ومقاصدها ومحاسنها " ( . وقال : " … العلم بصحيح القياس وفاسده من أجلِّ العلوم ، وإنَّما يعرف ذلك من كان خبيراً بأسرار الشرع ومقاصده ، وما اشتملت عليه شريعة الإسلام من المحاسن التي تفوق التعداد ، وما تضمنته من مصالح العباد في المعاش والمعاد ، وما فيها من الحكمة البالغة والرحمة السابغة ، والعدل التامّ " (9) . وقال شهاب الدين القرافي : " تخريج الأحكام على القواعد الأصولية الكلية أولى من إضافتها إلى المناسبات الجزئية ، وهو دأب فحول العلماء ، دون ضَعَفَةِ الفقهاء" (10) . و جلّ فقه السياسة الشرعية من هذا الباب . وهذا مما يدل على فضيلة علم السياسة الشرعية وعلو منزلته من الفقه في الدين والله تعالى أعلم .
 العمل بالسياسة الشرعية بين عجز العلماء وجهل الأبناء ومكر الأعداء