[♦❀♦] الذكر بين غفلة الماديين وجهل المبتدعين [♦❀♦]
وذكر الله تعالى في هذه الأيام يقع بين طوائف مُتناقضة بينها بُعد ساحق .. هناك الماديون الذين لا يعترفون بوجود الله، ولا يُقرون بشيء له بتة، وإذا حدث أن عزفوا عن الجدل، ورغبوا عن الحوار، فإنهم في سلوكهم لا ترى لله أثراً في أحوالهم، ولا في أعمالهم، لا يعترفون به في كلامهم، ولا يرعوّنه بتة في أمرهم أو نهيهم، في رغبتهم أو رهبتهم..
وهؤلاء الآن يمثلهم في العالم الشيوعيون والماديون ومن إليهم ممن رفضوا الدين، وكرهوا أن ينقادوا له.
وهناك مَنْ يذكرون ربهم وقد عجزوا عن أن يفهموا معنى الذكر .. فهم يظنون الدين لغواً على الألسنة، وربما فهموا الذكر مجالس جذب ووثب وقفز، ثم قلوبهم بعد ذلك بعيدة عن استشعار جلال الله، وإدراك هيبته، وقدره حق قدره.
إن ذكر الله تعالى يجب أن يأخذ صوراً كثيرة لمناسبة الأحوال التي يكون الناس بإزائها، فمثلاً أمام من يرفضون الاعتراف بالخالق، ويكرهون الإيمان به نقول لهم: ٱللَّهُ خَـٰلِقُ كُـلّ شَىْء وَهُوَ عَلَىٰ كُلّ شَىْء وَكِيلٌ لَّهُ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـئَايَـٰتِ ٱللَّهِ أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْخَـٰسِرُونَ [الزمر:62، 63].
أما الذين يتخذون مع الله شركاء يكون ذكر الله بتوحيده، وإفراده بالعبودية، والتوجه إليه وحده بالدعاء والرجاء: قُلْ أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ أَيُّهَا ٱلْجَـٰهِلُونَ وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ بَلِ ٱللَّهَ فَٱعْبُدْ وَكُن مّنَ ٱلشَّـٰكِرِينَ [الزمر:64-66].
ولهذا فنحن نشرح الذكر على نحو يتفق مع كتاب الله عز وجل وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام.
إن ذكر الله تعالى أشرف ما يخطر بالبال، وأشرف ما يمر بالفم، وأِشرف ما يتألق به العقل الواعي، وأشرف ما يستقر في العقل الباطن.
والذكر له معانٍ نحب أن نضرب لها أمثلة، ونسوق لها نماذج حتى تُعرف:
الناس قد يقلقون للمستقبل، أو قد يشعرون بالعجز أمام ضوائق أحاطت بهم، ونوائب نزلت بساحتهم، وهم أضعف من أن يدفعوها .. إنهم إذا كانوا مؤمنين تذكروا أن الله على كل شيء قدير، وأنه بكل شيء بصير، وأنه غالب على أمره، وأن شيئاً لن يُفلت من يده .. ولذلك يشعرون بالطمأنينة .. وهذا معنى قول الله عز وجل: ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ٱللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّذِينَ امَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ طُوبَىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَـئَابٍ [الرعد:28، 29].
فذكر الله هنا يُشعر الإنسان بالسكينة النفسية .. لأنه يعلم أنه في جوار لا يُضام، وأنه إذا أوى إلى الله فإنما يأوي إلى ركن شديد، ولذلك يشعر بالطمأنينة .. وهذا نوع من الذكر!!.
وعندما ينطلق ناسٌ صوب الدنيا يعبدونها، يتشهون ملذاتها، ويربطون حاضرهم ومستقبلهم بها .. فذكر الله هنا: أن يستعفف الإنسان، وأن يشعر بأن مع اليوم غداً، وأن مع الدنيا آخرة، وأن الإنسان يجب أن يُقسٍّم مشاعره بين حاضره ومستقبله، فيعمل لمعاشه كما يعمل لمعاده .. وهذا معنى قول الله جل شأنه: فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مّنَ ٱلْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱهْتَدَىٰ [النجم:29، 30].
وذكر الله يُخامر قلب المؤمن عندما يزله الشيطان إلى ذنب يرتكبه في جنب الله .. إنه لا يبقى في وهدته التي انزلق إليها، إنه لا يبقى في سقطته التي جرّه الشيطان عندها، إنه يذكر أن له رباً يغفر الذنب، ويقبل التوب .. ولذلك فهو ينهض من كبوته، ويطهر نفسه، ويعود إلى ربه، ويستأنف الطريق إليه، كما قال الله: وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَـٰحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلاَّ ٱللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُون [آل عمران:135].
والفارق بين مؤمن يذنب وفاسق يذنب أن المؤمن سرعان ما يعودُ ومض الإيمان إلى ضميره إذا استطاع الشيطان أن يكسف نوره بشيء من الظلمة، أو بنفث من الدخان.
أما الفاسق فإنه يبقى على ظلمته ما يرى فيها بصيص نور، فيبقى على نجاسته ما يعرف طريق التطهر .. قال تعالى: إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَـئِفٌ مّنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ وَإِخْوٰنُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِى ٱلْغَىِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ [الأعراف:201، 202].
يجيء ذكر الله مثلاً في موقف المرء من المال .. إن المال صِنو الروح، والإنسان يعشقه ويحب جمعه وإدخاره .. ولكن الله يطلب إلى الإنسان أن ينفقه، وأن يرعى فيه غيره، كما يرعى فيه نفسه .. عندئذ يحاول الشيطان أن يغُل يديه عن النفقة، وأن يملأ فؤاده خشية المستقبل، وأن يغريه بالكزازة والشح .. ولكن ذكر الله يفك قيود البخل، ويغري المرء بالنفقة، كما قال تعالى: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوٰلُكُمْ وَلاَ أَوْلَـٰدُكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَـٰسِرُونَ وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَـٰكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ [المنافقون:9، 10].
ويقول: ٱلشَّيْطَـٰنُ يَعِدُكُمُ ٱلْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِٱلْفَحْشَاء وَٱللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مّنْهُ وَفَضْلاً وَٱللَّهُ وٰسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:268].
ذكر الله يجيء للأفراد وللأمم، وهي على طريق الكفاح والجهاد .. يجيء للفرد عندما يقال له: ما الذي يعرضك للجهاد؟ تفقد فيه مالك، وقد تفقد فيه روحك، ولو أنك قعدت في أهلك وولدك لكان ذلك أطول لعمرك، وأضمن لنجاتك .. هنا يجيء الذكر مُعلماً للإنسان أن التعرض للحُتوف لا يُقرِّب أجلاً، ولا ينقص عمراً، وأن القعود في البيوت الآمنة أو التحصن في البروج المشيدة لا يدفع موتاً .. ذكر الله يجيء هنا عن طريق تعليم الإنسان الثبات: يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَٱثْبُتُواْ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45].
وقد يجيء للأمم عندما تكون في طريق الكفاح، وهي تواجه عدواً صُلب العود، قوي العدد، كثير البطش، فتشعر بالخوف .. ولكن إذا سيطر الإيمان فإن المؤمن ينظر إلى تاريخه الذي مضى ثم يعلم أن الله هو الذي يسوق النصر وحده، وأنه ساق النصر للمسلمين في أيام عصيبة بلغ الهرج فيها أن كان المسلمون يختنقون من الضيق والضياع!!.
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً [الأحزاب:9].
ذكر الله تعالى يجيء للإنسان في أوقات فراغه .. وما أكثر أوقات الفراغ التي يخلو الإنسان فيها بنفسه .. وقد يسرح فكره على غير طائل، ويضرب في ميادين الوهم على غير هدى ... ولكنه إذا أحسن استغلال هذه الفترات فذكر من خلقه؟ من رزقه؟ من علّمه؟ من ربّاه؟ من ستره؟ من أكرمه؟ من كساه؟ من آواه؟ إذ ذكر ربه، وأحسّ نعمته، واعتبر، ورقّ قلبه، ودمعت عينه .. فإنه يغفر له .. فإن من بين من يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله: ((رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه))[1].
ومن نماذج ذكر الله أن تكون وحدك، قديراً على ارتكاب أية رذيلة، ولكنك تشعر برقابة الله عليك، ويتحرك قلبك في جنبك ليعصمك من الزلل .. هذا ذكر الله!!.
إن ذكر الله عز وجل معنى كبير .. إنه يجيء ضداً للنسيان .. قال تعالى: وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَـٰهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَـئِكَ هُمُ ٱلْفَـٰسِقُونَ [الحشر:19].
إنه يجيء ضداً للغفلة .. قال تعالى: ٱقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَـٰبُهُمْ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ مّن رَّبّهِمْ مُّحْدَثٍ إِلاَّ ٱسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأنبياء:1، 2]. في محاربة الغفلة .. وما أكثر الغفلات، في محاربة النسيان .. وما أكثر ما يغشى عقل الإنسان من أسباب النسيان .. يجيء ذكر الله شعوراً معنوياً قبل أن يكون حركة شفتين .. يجيء هذا الذكر تحريكاً لأقفال القلب حتى تنفتح، كما قال تعالى: وَٱذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ ٱلْجَهْرِ مِنَ ٱلْقَوْلِ بِٱلْغُدُوّ وَٱلاْصَالِ وَلاَ تَكُنْ مّنَ ٱلْغَـٰفِلِينَ [الأعراف:205].
تضرعاً وخيفة .. تذللاً وخوفاً من الله .. هذا هو الذكر الذي حوّله المسلمون إلى مجالس عبث، وإلى صيحاتٍ منكرة وإلى نوع من المجون والعبث، يساق فيه قول الله عز وجل: وَذَرِ الَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا [الأنعام:70].
ونحن مكلفون أن نذكر الله كثيراً .. لماذا؟ لأن الإنسان في هذه الدنيا تشغله مطالب نفسه، ومطالب أهله وولده، تشغله مظاهر الحس والحركة حوله، تستحوذ على انتباهه مظاهر الدنيا في فجاجها التي لا نهاية لها .. فلا بد أن يُقاوم هذا كله .. وهذه المقاومة إنما تكون بالذكر .. والذكر هُنا: يعني محاربة النسيان .. يعني محاربة الغفلة ..
خذ مثلاً: الواحد منا قد يغتر، قد ينتفخ، قد يشعر بشيء من القوة .. فإذا ذكر الله بالكلمات المأثورة كان هذا الذكر دواء له .. وما الكلمات المأثورة هنا؟ ((لا حول ولا قوة إلا بالله))[2].
أي ليس لك حولٌ من ذاتك .. أنت صفر!!
بقواك الخاصة .. أنت تافه!!
ولكن مع عون الله عز وجل .. أنت شيء كثير!!
وهذا معنى قول: ((لا حول ولا قوة إلا بالله)).
وهذا معنى كلمة ابن عطاء الله في حكمه: "ما تيسر طلب أنت طالبه بنفسك، وما تعسر طلب أنت طالبه بربك"!!.
هذا ذكر .. وإنما خذل ناس كثير من العرب والمسلمين لأنهم مع تفاهتهم ظنوا أنفسهم شيئاً!! بينما كان العمالقة قبلهم مع قوتهم يرون أنفسهم صفرا!! فكانت النتيجة أن وضع الله يده بالبركة واليُمن على من لاذوا به فنجحوا وانتصروا!! وسحب رضوانه وتأييده وكنفه عمَّن اعتز بنفسه فتركه مكشوف السوأة عُريان العورة!!.
إن الذكر معنى كبير ... وليس له هذا المفهوم الضيق الذي يشيع بين الناس ... لذكر الله معان شتى، ووسائل شتى، وكما يحتاج الجسم الإنساني إلى وجبات يتغذى بها صباحاً وظهراً ومساء حتى يحتفظ بالحرارة، ويتمكن من العمل والإنتاج .. فكذلك قلب الإنسان وهو مستودع إيمانه يحتاج إلى وجبات روحية من ذكر منتظم يعرف بها المرء به، ويؤدي حقه، ويزوَّد بها القلب الإنساني بالطاقة الروحية التي تجعله يتحرك على هدى، ولا يعمى في ضوضاء الحياة ولُججها الطويلة العريضة. ولا شك أن أول هذه الوجبات هي الصلاة .. فإن الله عز وجل إنما شرع الصلوات ليذكره الناس. قال تعالى: وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِذِكْرِى [طه:14].
والناس عندما يقرؤون أم الكتاب فإنما يُناجون ربهم، يشكرون نعمته، ويحمدونه على أفضاله، ويعاهدونه أن يبقوا عبيداً له مستعينين به، ثم يستلهمون منه أن يهديهم، ويحنون أصلابهم ركعاً وسجوداً ليذكروا الله باسمه العظيم والأعلى حتى يتعلموا في زحام الحياة أن العظيم هو الله، وأن الأعلى هو الله، وأن الخلائق صغرت أو كبرت ليست شيئاً !! فالله هو العظيم، والله هو الأعلى، ثم يجلسون ليحيوا ربهم: التحيات لله!!.
هذه هي الصلوات .. وأثرها ليس تربية فردية فقط .. ولكن الصلاة عصمة اجتماعية .. فهي للشعوب ضمان أن لا تفتك بها الشهوات، وأن لا تستشرى بها العلل.. ولذلك فإن الأجيال المنحطة هي التي تنصرف عن الصلاة .. لأن الشيطان يومئذ يستهلك أوقاتها في الضياع والشتات ... قال تعالى: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلَـوٰةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوٰتِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً [مريم:59].
وعندما أبصر في شوارع القاهرة غلماناً نمت أجسادهم، وشمرت أفئدتهم وقلوبهم وعقولهم يلهثون وراء الوهم وينطلقون لا يحدوهم هدف رفيع، ولا غرض شريف. أنظر إليهم فأقول: ما ربَّتهم الصلوات، ما تعلموا أن يصفّوا أقدامهم بين يدي الله، إنهم بهذا المظهر والمخبر ما يصلحون لشيء، حسبنا الله على من رباكم بهذه المثابة من الحكام الشيوعيين، ومن الآباء المفرطين الكسالى المضيعين!!.
إن الصلوات ما أضاعها وما صرف الناس عنها إلا من يريدون لأمتنا أن تكون علفاً لمدافع بني إسرائيل!! ولو أنهم علّموا الأمم كيف تصطف في الصلاة، وتُناجي ربها، ما استطاعت أمة أن تفر في ميدان، ولا أن تخذل راية الإسلام في معركة!! وكذلك القرآن إنه طريق للذكر .. وهل نزل إلا للذكر!! إن الله تعالى يقول: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْءانَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ [القمر:17].
ويقول سبحانه: كِتَـٰبٌ أَنزَلْنَـٰهُ إِلَيْكَ مُبَـٰرَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَـٰتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو ٱلاْلْبَـٰبِ [ص:29].
أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْءانَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24].
يبدو أن على القلوب أقفالاً كثيرة !! فإن أعداء العرب، أعداء المسلمين، يذيعون القرآن من محطات الإذاعة .. لأنهم واثقون من أن المسلمين لا يفهمون، ولا يتدبرون، ولا ينفذون أمراً ولا يقيمون حداً .. وهم واثقون من أن القرآن يُذاع لتضطرب به أمواج الهواء وكفى!!.
لذلك تُذيع (تل أبيب) القرآن، وتذيع (لندن) القرآن!! وهي تدري أن المسلمين يهزون رؤوسهم، أو يتمتمون بألسنتهم، ثم ينتهي الأمر عند هذا الحد!! وما نزل القرآن لهذا .. إن القرآن نزل فأحيا أمة ميتة، وخلق من العرب ـ وكانوا شعباً لا قيمة له في دنيا الناس ـ خلق منهم شعباً ورَّث العالمين أضخم حضارة عرفتها الدنيا، وجُهدنا الآن أن نصل الناس بالقرآن .. لا بالسماع الميت، ولا بالخشوع المصطنع .. ولكن بالعمل .. بإحياء أحكامه، بالاستجابة إلى ما أودع الله فيه من ينابيع دفاقة بالخير والحق: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24].
لذكر الله تعالى بغير شك معانٍ كثيرةٍ .. وقد رأيت أن أشرح هذه المعاني .. ولكن لا يمنع هذا من أن إسلامنا العظيم زوّد الأتباع بصيغ للذكر، هي صيغ، قال العلماء: يُستحب أن تردد، لكن ما يُستحب ترداده من صيغ شيء غير ما وجب استشعاره من ذكر الله.
إننا نختم الصلاة بالتكبير والتسبيح والتحميد .. ترديد الكلمات مستحب .. لكن الشعور بأن الله الأكبر، وأن الحمد لله، وأنه مُنزه عن الضد، والند، والكفؤ، والزوجة والصاحبة .. تنزيهه عن هذا كله ركن .. وإذا أضعنا الركن ورددنا صيغاً لا نفهمها فلا قيمة لهذا الترديد .. نريد إحياء الفريضة أولاً .. أما الصيغ فكثيرة.
وللعلماء كلام أثبتوا فيه من معاني الذكر، ومن صوره، ومن صيغه ما يهز القلوب، ويشرح الصدور، ويفعِم النفوس نوراً وتُقى .. ومعروف في تاريخ النبي عليه الصلاة والسلام، ويعرف هذا الأصدقاء والأعداء، إن أحداً من الأولين والآخرين لم يتقن فنَّ ذكر الله كما أتقنه محمد عليه الصلاة والسلام .. لقد كان ذكر الله تعالى في قلبه وعلى لسانه يأخذ صوراً بلغت ـ لا أقصد الإعجاز البياني في شرف صياغتها، ونقاء أسلوبها، وجمال جُملها ـ ولكن ما تضمنته من حب لله، وحرارة في مناجاته، وإقبال عليه، ودوام على صحبته.
إن الصيغ التي وردت في هذا كثيرة إلى حد يحتاج إلى عرض خاص .. منها أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا أوى إلى فراشه قال: ((اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت))[3].
وكان إذا استيقظ من نومه قال: ((الحمد لله الذي عافاني في جسدي، ورد علي روحي، وأذِن لي بذكره))[4].
وكان إذا لبس ثوباً جديداً قال: ((الحمد لله الذي كساني هذا الثوب ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة))[5].
وكان إذا انتهى من طعامه قال: ((الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين))[6].
وكان إذا خرج من الخلاء قال: ((غفرانك))[7] ويقول: ((الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني))[8].
وكان إذا بدأ سفراً قال: ((اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم اصحبنا بُنصحك، واقلبنا بذمتك، اللهم ازوِ لنا الأرض، وهوّن علينا السفر، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب))[9].
وكان إذا عاد من سفر أو غزوٍ قال: ((آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون))[10].
وكان إذا رأى الهلال قال: ((اللهم أهله علينا باليمن والإيمان، والسلام والإسلام، ربي وربك الله))[11].
وكان فنُّ الدعاء على لسانه غريباً .. كان يقول: ((اللهم اجعلني لك شكّاراً، لك ذكّاراً، لك رهَّاباً، لك مطيعاً، إليك مُخبتاً، إليك أوّاها منيبا))[12].
الحمد لله : وَهُوَ ٱلَّذِى يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ ٱلسَّيّئَـٰتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَيَسْتَجِيبُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ وَيَزِيدُهُم مِن فَضْلِهِ وَٱلْكَـٰفِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ [الشورى:25، 26].
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، واعلموا أيها الإخوة أننا مكلفون أن نذكر ربنا كثيراً في هذه الأيام .. أقصد بذلك: الذكر بالمعنى الذي شرحته .. ذلك أن (مصر) كان يجرها إلى الكفر بالله وترك دينه ناس كثيرون ميدان الحُكم وفي ميدان القلم .. كانت مراكز القوة تقود بلدنا إلى الشيوعية بيقين .. وقد جرّتنا مراحل طويلة في هذا الطريق .. ونحن لا نريد أن نكفر بالله، ولا نريد أن ننسى وجوده، ولا أن نجحد حقه في سيرتنا، وفي سلوكنا، وفي أعمالنا .. وهناك طلاب كثيرون الآن حريصون على أن تبقى (مصر) مؤمنة، وعلى أن يختفي كل أثر للمدِّ الشيوعي في بلادنا .. ونحن بقلوبنا ودعواتنا نريد فعلاً أن يختفي من نفوسنا ومن صفوفنا كل تهوين للعلاقة بالله، وكل إساءة إلى دين الله، وكل تفريط في جنب الله .. نريد أن تعود مرة أخرى إلى النفوس خشيتها من الله، وانتظامها في صفوف الصلاة، وإعزازها للمساجد، وتعلق القلوب بعبادة الله في ساحاتها .. نريد أن نعرف أن الإنسان لا كما يقول بعض الكتاب اليوم حيوان تاريخي!! لا .. الإنسان عبْدٌ لله في هذه الدنيا، خُلق ليؤدي حق الله، وليقوم ـ إن كان مسلماً ـ بأكمل رسالة نضَّرت وجه الإنسانية وأعلت قدرها .. وهي رسالة الإسلام.
إن الفكر المادي الوضيع يفرض نفسه عن طريق لغطٍ لا آخر له، وبغام دواب ملكت ناصية الكتابة والتوجيه.
ونريد أن يعلم الناس أن هؤلاء ومن ساندهم من أسباب السُلطة قديماً جرُّروا بلدنا في ميدان المادية، وفي منحدرات الشيوعية، حتى كانت النتيجة أن هان رُبنا علينا، هان القرآن علينا، هان دُيننا علينا، هُنَّا على أنفسنا، فسقطنا من عين الله، ومن أعين الناس في الميدان العالمي!!.
إننا لكي نسترجع ما فقدنا، ولكي نسترد خسائرنا يجب أن نذكر الله .. ومعنى الذكر هنا أن نُنعش تعاليم الإسلام بردِّ الحياة إليها بعد أن كادت تموت، وأن نعيد للإيمان نضارته وقوته بعد أن كاد يذبُل ويذوي ويضعف ويتلاشى.
إذا كنا قد جُررنا في طريق المادية والشيوعية، ومشينا طوعاً أو كرهاً خُطوات في هذا الطريق فينبغي أن نعود أدراجنا إلى كتاب ربنا وسنة نبينا عليه الصلاة والسلام .. الموت أفضل من أن نعيش وقد انقطعت صلتنا بمحمد وكتابه .. الموت أفضل من هذا الضياع والشتات.
((اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دُنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر)).
رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلإَيمَـٰنِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر:10].
عباد الله، إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاء وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90]، وأقم الصلاة.
-----------------------------------------------------------------------------
[1] رواه البخاري في الأذان: باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة (1/168)، ومسلم في الزكاة (3/93)، وأحمد (2/439)، والترمذي (7/67-69).
[2] روى أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال : ((ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ قلت: بلى، قال : ((لا حول ولا قوة إلا بالله)) (2/520).
[3] رواه البخاري في كتاب الدعوات باب ما يقول إذا نام (8/85)، ومسلم في ا لذكر – باب ما يقول عند النوم (8/77).
[4] رواه الترمذي في الدعوات باب ما جاء في الدعاء إذا أوى إلى فراشه حديث (3461)، تحفة الأحوذي (9/345-347).
[5] رواه أبو داود في كتاب اللباس حديث (4004)، عون المعبود (11/64، 65).
[6] حديث ضعيف، رواه الترمذي في الدعوات باب ما يقول إذا فرغ من الطعام، حديث (3522)، تحفة الأحوذي (9/425).
[7] رواه ابن ماجه في كتاب الطهارة باب ما يقول إذا خرج من الخلاء حديث (300، 301)، (1/110).
[8] التخريج السابق.
[9] رواه الترمذي في الدعاء باب ما يقول إذا خرج مسافراً حديث (3500)، وقال : هذا حديث حسن غريب. تحفة الأحوذي (9/398).
[10] عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله كان إذا قفل من غزو أو حج أو عمرة يكبر على كل شرف من الأرض ثلاث تكبيرات ثم يقول: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده)) أخرجه البخاري في كتاب الدعوات – باب الدعاء إذا أراد سفراً أو رجع ومسلم في كتاب الحج – باب ما يقول إذا قفل من سفر الحج وغيره. وفي رواية أخرى عن البراء بن عازب أن النبي كان إذا قدم من سفر قال : ((آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون)) أخرجه الترمذي في الدعوات – باب ما يقول إذا رجع من سفره. وقال : هذا حديث حسن صحيح. تحفة الأحوذي (9/401).
[11] رواه الترمذي في الدعوات باب ما يقول عند رؤية الهلال، حديث (3515)، وقال هذا حديث حسن غريب. تحفة الأحوذي (9/413).
[12] رواه ابن ماجه في كتاب الدعاء – باب دعا رسول الله حديث (3830)، (2/1259).