نظريات الدولة
إذا كانت الأسرة تعد الخلية الأولى في أي مجتمع من المجتمعات وهي أصغر مؤسسة اجتماعية عرفها الإنسان، فإن الدولة هي أكبر مؤسسة اجتماعية أو بشكل آخر إنها مؤسسة المؤسسات، ويرى روبرت كارنيرو R.I. Carneiro: "إن نشأة الدولة كانت أخطر التطورات في الحياة البشرية على الإطلاق، لكنها مع ذلك ما تزال مهملة نسبياً في الدراسات، ما يزال الغموض يحوط الكثير من جوانبها" .
تعريف الدولة وأركانها
المطلب الأول : في تعريف الدولة
إذا كان للسلطة دلالات سسيولوجية وسياسية فإن الدولة ظاهرة ومؤسسة سياسية خالصة، بحيث لا يمكن الفصل بين الدولة والسياسة، بل يُعرف علم السياسة كعلم الدولة، وكان مجال الاهتمام الأول لعلم السياسة هو الدولة. وفي هذا يقول ن. ب. بيري N.P. Barry "تاريخ النظرية السياسية قد ركز اهتمامه على الدولة". ولكن ما هي الدولة؟ يرد أندرو فنسنت Andrew Vincent أستاذ النظرية السياسية في جامعة كارف البريطانية ، بالقول " هذا هو أحد أبسط ، ولكن أكثر الأسئلة إثارة للحيرة يمكن ان يطرح في علم السياسة " ، ويرى إن دراسة الدولة عملية معقدة وليست بالسهولة التي يعتقدها البعض ،ولكنها في نفس الوقت نهمة ولم تأخذ الاهتمام الكامل من المفكرين السياسيين،ويذكر أربعة أسباب تجعل من المهم التفكير بعناية بالدولة:
1- الأول عملي مطلق ،حيث من الصعوبة بمكان أن ندرك الحياة بدون الدولة ،فالدولة ليست مجرد مؤسسات وأجهزة ، بل هي جسما من الاتجاهات والممارسات وقواعد السلوك ، إنها باختصار حياة التمدن السياسيCIVILITY وحاضنة الحضارات ، عن الدولة تتخلل كل نسيج حياتنا .
2-" إن الدولة ليست مؤسسة محايدة يكون في قدرتنا أن نتجاهلها، ولا هي برزت بمحض الصدفة المطلقة أو الحدث العابر.هناك خصائص مألوفة اكتسبتها الدولة وبرزت تدريجيا من خلال النمو العضوي للدولة.ومع ذلك، فان القدر الأكبر من شكلها وبنيتها من الممكن فهمه بشكل كامل فقط عن طريق الاستيعاب العميق للنظريات السياسية والقانونية التي تجسدت بداخل شكلها وبنيتها ... إن النظرية السياسية نفسها هي التي تساعد على تطور مؤسسات محددة للدولة."
3-بالرغم من قدم فكرة الدولة ووجودها إلا أن هناك قدرا كبيرا من التشويش الفكري أو الحيرة الفكرية يحيط بفكرة الدولة ، وتحديدا عندما تتداخل فكرة الدولة مع فكرة المجتمع ، الأمة ،الجماعة ، الحكومة ، والسيادة الخ. ووضع حد لهذا التشويش لا يكون إلا بالإلمام بنظريات الدولة .
4-غموض فكرة الدولة ، هو سبب المظاهر المتناقضة في التنظير السياسي ، "إن الانطباعات حول أفكار مثل القانون ، الحقوق والالتزامات تفترض وجود شكل ما من أشكال الدولة ، هذه الأفكار تتداخل وتتشابك مع الدولة .وبالتالي فإنه يبدو من الجوهري مبدئيا أو تمهيديا لأي دراسة لهذه الأفكار أن تكتسب نوعا من المعرفة والإلمام بنظريات الدولة.1
التسمية الحالية للدولة الحديثة State لم تظهر إلا بعد تفكك الإمبراطوريات، وقد شاع استعمالها منذ القرن السادس عشر، أما قبل ذلك فكانت تستعمل تسميات أخرى ففي اليونان كانت تسمى Police، وفي العهد الروماني كانت تسمى إمبراطورية Empire، وعند العرب شاع لفظ إمارة وسلطنة.هذا يعني أن الحديث عن فكرة الدولة، كمجتمع كلي أو شمولي يتجاوز مجتمع القبيلة، هو الأقرب إلى الصحة كشكل ثابت عبر التاريخ ، فالدولة التي يتحدث عنها المؤرخون وعلماء السياسة هي كيانات متباينة ، بحيث يصبح لفظ دول أكثر دقة ، ويقول لوبيز Lubas; في كتابه The Development State "إن أول شيء ينبغي أن يقال عن الدولة الحديثة هو أنها لا توجد ولم يسبق أن وجدت من قبل .ما وجد تاريخيا هو عدد هائل من الدول الحديثة ذات البنيات المتنوعة للغاية ."2 وحتى في وقتنا الحاضر ، أنظر كم هي متنوعة ومتباينة تلك الكيانات السياسية التي تسمى دولة ،متباينة في حجمها وعدد سكانها وطبيعة نظمها وملابسات تأسيسها ، وحتى في ثقافات الشعوب ودياناتهم ، الخ.
إلا أن هذا الغموض حول الدولة لا يمنع من القول بوجود خصائص أو قاسم مشترك بين الكيانات السياسية التي تشملها فكرة الدولة ساعدت الباحثين على وضع تعريفات للدولة ، تعريفات لغوية وتعريفات اصطلاحية. كلمة State أي الدولة مشتقة من اللفظة اللاتينية STARE والتي تغني "أن يقوم" وأيضاً من كلمة ستاتو Status بمعنى "موقف أو وضع"، وهذه الكلمة أطلقت على الكيانات السياسية التي استقرت ونتجت عن تفكك الإمبراطورية الرومانية ، بمعنى أنها تصح على الدولة الحديثة ، أما الدول القديمة ، فكان يطلق عليها تسميات أخرى كما أسلفنا ، ولكن لاعتبارات عملية ودراسية ، تطلق الكلمة على كل المجتمعات الشمولية التي تجاوزت حياة القبيلة ومرحلة الترحال ، فإذا كان عمر الدولة الحديثة يقدر بخمسمائة سنة – منذ عصر النهضة- فان عمر الدولة بمفهومها العام يعود إلى القرن السابع أو الثامن قبل الميلاد.
أما في اللغة العربية وفي التعريف القاموسي، كلمة دولة مشتقة من فعل "دال" و "يدول"، أي بمعنى ينتقل من حال إلى حال، فجاء في لسان العرب، الدولة "الانتقال من حال الشدة إلى حال الرخاء" ، وهذا المعنى دقيق وعميق، لأنه يدل أن الدولة لم تظهر إلا بعد انتقال المجتمعات من حالة الترحل والانتقال والبداوة إلى مرحلة الاستقرار والازدهار، ومن المعلوم أن الدولة لا تكون إلا في المجتمعات المتحضرة، وهذا المعنى أشار إليه ابن خلدون في تمييزه بين البداوة والحضر.
أجمع علماء السياسة على أن الدولة "هي الذروة التي تتوج البناء الاجتماعي الحديث وتكمن طبيعتها التي تنفرد بها ، في سيادتها على جميع أشكال التجمعات الأخرى "،بمعنى أن الدولة هي المجتمع الكلي الذي لا يعلوه مجتمعا آخر ولا تنضوي في إطار مجتمع آخر،- إلا المجتمع الدولي ولكن بشكل جزئي لا يلغي كيان الدولة أو سيادتها- . في التعريف القانوني الدولي للدولة، توجد الدولة إذا توفرت ثلاثة عناصر: الإقليم، الشعب والهيئة الحاكمة ذات السيادة أو السلطة السياسية، إذن فإن السلطة السياسية، التي تطرقنا إليها آنفاً، تعد ركناً من أركان الدولة وشرطاً من شروط وجودها، إلا أن السلطة السياسية لوحدها لا تخلق دولة – نفس الأمر بالنسبة للعنصرين الآخرين، الإقليم والشعب – وهذا التعريف القانوني للدولة مع أهميته إلا أنه لا يفيدنا كثيراً في التعرف على النظريات المفسرة لأصل الدولة كمؤسسة سياسية اجتماعية، وعليه سنتطرق إلى بعض المقاربات النظرية التي حاولت أن تعرف الدولة.
اليونانيون القدامى هم أول من تحدث عن الدولة ككيان سياسي مؤسساتي ،إلا أن مفهومهم للدولة ومجالات اهتماماتهم السياسية كانت مغايرة عما هو موجود اليوم ، نعم ،أولو اهتماما بالقانون والحرية والمساواة والديمقراطية ، إلا أن تفكيرهم بقي محصورا في دولة المدينة من جانب وبطغيان الجدل الفلسفي والسفسطائي على قضايا أساسية كالسيادة والحدود من جانب أخر ، بالإضافة إلى تداخل السياسة مع الدين والأخلاق والحياة العامة بل الخاصة للناس ، نظرا لقلة عدد السكان . ويعتبر أفلاطون plato(428- 347 ق_م) من أهم المنظرين للدولة ، فبالرغم من منحاه الفلسفي المتسم بالطوباوية ( المدينة الفاضلة) وخصوصا في كتابه الجمهورية Republic،إلا انه وضع ما يشيه النظرية حول الدولة من حيث مساحتها وعدد سكانها والتوزيع الطبقي فيها وأشكال أنظمة الحكم وتعاقبها ، وكتاباته المتأخرة وخصوصا كتابه القوانين ، استمرت من بعد لسنوات نبراسا للمفكرين السياسيين المتطلعين لإشكالية القانون والحرية وتعاقب أنظمة الحكم. وعلى منواله سار أرسطو ( 348-322 ق _ م ) ومفكرون رومانيون كشيشرون Ciceron (106-43 ق_م ) وبوليب Polybe( 205-125 ق_م ).
مع تبني الإمبراطورية اليونانية للمسيحية عام 393 ميلادية أصبح للدولة وللسياسة ولكل ما يمت إليها بصلة تداخل مع الشأن الديني ، وهيمنت فكرة التفويض الإلهي على الحقل السياسي للدولة والسيادة ، بل أن بعض مفكري المسيحية وهو القديس أوغسطين Sant-Augstin (354-430 ) في كتابه مدينة الله تحدث عن مدينتين ، مدينة الله ومدينة البشر تتعايشان جنبا لجنب وتتنازعان حياة البشر.طوال القرون الوسطى استمر الصراع ما بين التصور الديني للدولة والسلطة، وتقوده الكنيسة، والذي يرى أن الدولة والسلطة معطى سماوي وليس من اختصاص البشر ، والتصور العلماني الذي يرى ضرورة إنزال السياسة من السماء إلى الأرض ، وظهر هذا التيار بداية داخل الكنيسة وفي إطار الإصلاح الديني ثم انتشر خارجها عندما وجد دعاته دعما من الأمراء والملوك المتطلعين للسلطة وللاستقلال عن هيمنة الكنيسة وسلطة البابا.ولهذا التيار الذي قاده دانتي ومكيافلي 1469-1527 ومارتن لوثرLuther (1483-1546 ) وجان كالفن 1564-1509وغيرهم ،يعود الفضل لظهور النظرية الحديثة للدولة.1
في الوقت كانت تعيش أوروبا عصور الظلمات ، وصراع محتدم ما بين الديني والدنيوي ، جاءت الدعوة المحمدية في القرن السابع ميلادية ،كدين متكامل لا يفصل ما بين العبادات والمعاملات ، حيث وضع تنظيما شاملا لشؤون الدين والدنيا ، مع توسع في مجال العبادات ، والاقتضاب في مجال الحكم والإدارة ،تاركا للمسلمين ولأولى الأمر التفصيل والاجتهاد بما يتناسب مع أمور حياتهم ،ومع أن المسلمين أسسوا دولة مترامية الأطراف ، إلا أن المواقف تباينت حول وجود نظرية سياسية متكاملة حول الدولة ونظام الحكم، بالمفهوم العلمي للنظرية ، فهذه الأخيرة تستمد مقولاتها من التجريب والاستقراء والمقارنة ،أما في الإسلام "فإن نصوص الوحي تحمل في طياتها بيان حقيقة السلوك الإنساني والاتجاه الذي يجب أن يتجه إليه والمسار الذي ينبغي أن يسير فيه ، وعلى الباحثين أن يبذلوا الجهد ليس في فهم هذه الحقيقة من خلال المصادر التي تعتمدها هذه الرؤية فحسب – بل التعرف على تطبيقاتها العملية وشروط هذه التطبيقات ، ومن ثم تشكل هذه الرؤية في تكاملها وفي رؤيتها للإنسان في كلية وفي خصوصية في آن واحد- بديلا ضابطا في فهم الإنسان وسلوكه لأي تنظير وضعي في أي نظرية وفي أي اتجاه "2.
ومن هنا يرفض كثير من المفكرين المسلمين الخوض بالتفصيل في النظرية السياسية في الإسلام ، مفضلين الحديث عن قضايا متعددة كالخلافة والبيعة والشورى ،وفي هذا يقول الكاتب الإسلامي محمد عمارة " لا نغالي إذا قلنا ان موضوع أصول الحكم وفلسفته ، ونظرية الإمامة ،قد كان ، وما زال ، أخطر قضايا الفكر الإسلامي ، بل وأشد هذه القضايا تعقيدا عندما توضع في الممارسة والتطبيق ...كما أن الصراع حول هذه القضية لم يقف عند حد الجدل الفكري والحجاج النظري ، بل كانت أولى القضايا واهم القضايا التي جرد المسلمون سيوفهم كي تحسم خلافاتهم فيها ،حتى ليصبح لنا أن نقول :إن هذه السيوف لم تسل في قضية من القضايا كما سلت وجردت في صراع المسلمين على الإمامة والحكم ، وخلافاتهم حول أصوله وفلسفته ،فصاحبها وامتزج على أرضها الجدل الفكري بالصراع الدامي لعدة قرون "1 .ومن المعلوم ان هذا الخلاف ما زال محتدما حتى اليوم و أسوء تمظهراته ، الصراع الدامي بين بعض الجماعات الدينية – الإسلام السياسي – وأنظمة الحكم في الدول العربية والإسلامية ومن يصنفون بالعلمانيين .
إلا ان هذا لا يمنع من القول بأن بعض الفرق الإسلامية كانت لها اجتهادات مهمة في مجال النظرية السياسية ، إلا أن خلافاتهم مع حكام عصرهم حال دون تطور هذه النظريات أو صيرورتها واقعا ، ونخص بالذكر جماعة المعتزلة 2،كانت نظرية المعتزلة تقوم على ( الأصول الخمسة ) وهي : العدل ،التوحيد ،الوعد والوعيد ،المنزلة بين المنزلتين ،وأخيرا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو أكثر أصول المعتزلة ارتباطا بالفكر السياسي .
ومع ذلك فقد ذهب البعض إلى القول بوجود نظرية سياسية في الإسلام ، ترتكز على دعائم ثلاثة هي :التوحيد ،ومعناه أن الله هو خالق الكون ومن وما فيه ، وله وحده الحكم والسلطان والأمر والنهي ، والتوحيد بهذا المعنى ينفي فكرة حاكمية البشر ، فلا حكم إلا حكمه ولا قانون إلا قانونه ،والدعامة الثاني هي الرسالة ، وهي الوسيلة التي يصل بها إلينا القانون الإلهي ، وهي القرآن والسنة ، والدعامة الثالثة هي الخلافة ،وهي صورة الحكم في الإسلام .3
منذ عصر النهضة ومع رواد العقد الاجتماعي تزايد الاهتمام بفكرة الدولة ، وتقاسمت مدرستان التنظير حول الدولة ، حتى يمكن القول بوجود نظريتان ، النظرية الماركسية بتشعيباتها الفكرية ونماذجها التطبيقية ، والنظرية الليبرالية ، لما حفلت به من تنوع خصب وتعدد بناء حول الدولة .
فبالنسبة لكارل ماركسKarl Marx (1818-1883) فقد رأى "أن الدولة هي تنظيم المجتمع" بمعنى أنها تظهر عندما ينتقل المجتمع من حالة الفوضى والاقتتال – شرعية الغاب – إلى حالة التنظيم، وهو بهذا يتفق مع أصحاب نظرية العقد الاجتماعي بشكل ما. كما يعرفها بالقول إنها "الخلاصة الرسمية للمجتمع" حيث يماهي ما بين المجتمع المدني والدولة، فهذه الأخيرة "ليست سوى التعبير الرسمي عن المجتمع المدني"، فهي نتاج لمجتمع بلغ درجة معينة من النمو .
أما دوركهايم Durkheim فيؤسس نظريته حول الدولة انطلاقاً من تقسم العمل الاجتماعي وتحول أشكال التضامن، فالدولة جهاز فرعي sup –system ، إنها الجهاز الذي يحتكر السلطة ويتفوق على كامل الجماعات الأخرى، ومع ذلك فهو يركز على كونها "ظاهرة طبيعية" يرتبط ظهروها بتطور المجتمع وتعقده بظهور طبقات ووظائف ومهن، فالمجتمع البدائي مجتمع بسيط يمارس أفراده نفس المهنة رعي وزراعة – فهو مجتمع لا سياسي، ولكن عندما يظهر تقسيم العمل ويزداد المجتمع تعقيداً تظهر علاقة حاكمين بمحكومين، من يملك ومن لا يملك تظهر الدولة، فهذه الأخيرة "تنجم عن التقدم نفسه الذي يحرزه تقسم العمل" ، وتتطور الدولة بالتالي بتطور المجتمع.
أما ماكس فيبر (1864-1920) فهو يرفض المنطلقين السابقين لتعريف الدولة – التعريف الماركسي الذي يربطها بعلاقات الإنتاج والدوركهايمي الذي يربطها بتقسيم العمل – بل يضع نظرية للدولة استناداً إلى معايير مادية سياسية وعسكرية وإدارية، فالمجتمعات تتغير بتغيير نمط الحكم وبالتالي تغير موئل السلطة من جانب وظهور الاقتصاد المدار بمؤسسات من جانب آخر، فالدولة ظهرت مع ظهور سلطة قاهرة تستطيع إدارة مجتمع كلي، بمعنى تلازم سلطة القهر مع القدرة على إدارة المجتمع، و "تشكل ولادة الإدارة الديوانية، تقريباً بذرة الدولة الغربية الحديثة" .
هذه المقاربة الفيبرية التي تعود إلى بداية القرن العشرين والتي تقرن نشوء الدولة وتعريفها بعناصر القوة والإدارة والاقتصاد، تعود مجدداً مع تالكوت بارسونز Talcolt Parsons، في الستينيات، فهو يرى أن الدولة تحتاج لتؤسس إلى السلطة القوية والمستقلة من جانب وحشد الموارد الاقتصادية من جانب آخر، ولكنه يضيف عنصراً جديداً وهو العنصر الثقافي أي قدرة المجتمع على تقبل عملية التحول هذه حيث يقول: "هكذا يكون ظهور الدولة إذن كبنية سياسية مميزة ومستقلة مرتبطاً بمتطلبات اقتصادية ولا سيما تطور اقتصاد السوق الذي من شأنه ضرب استقرار التوازنات الاجتماعية السابقة، ولكن هذا الظهور لم يصبح قابلاً للتحقيق لولا وجود قواعد ثقافية في أوروبا الغربية ملائمة لمثل هذا التجديد" .
هناك العشرات من التعريفات التي أعطيت للدولة، ولكننا سنعتمد تعريفين:
الأول: تعريف ماكس فيبر الذي يرى أن الدولة "هي جماعة مشتركة ذات سيادة إلزامية، تمارس تنظيماً مستمراً، وتحتكر استخدام القسر في نطاق رقعة من الأرض والسكان الذين يعيشون عليها، وتحتوي على كل أشكال الفعل التي تحدث في نطاق سيادتها"، والملاحظة على هذا التعريف أنه ينطلق من أنوية حضارية غربية، حيث لا يرى وجوداً للدولة إلا حيث توجد الحدود الثابتة والحكومات المنظمة، أي أنه ينفي صفة الدولة عن المجتمعات المنظمة على أسس أخرى غير المعروفة في الحضارة الغربية، كالقبائل والمجتمعات البدائية بشكل عام، والأمر ليس بغريب على مفكر مثل ماكس فيبر الذي يرى أن العقلانية الوحيدة الموجودة هي عقلانية الغرب والنظم الرأسمالية أما غير ذلك من الحضارات أو أنظمة الحكم فهي غير عقلانية
أما التعريف الثاني للدولة فقد جاء به ديفيد ايستن Easton فالدولة أو النظام السياسي هو ذلك الذي:
- يقوم برسم السياسات التي تستهدف تنظيم وتوزيع الموارد.
- والذي تنبع سياسته وقراراته بما يتمتع به من سلطة.
- والذي تكون قراراته وسياساته ملزمة للمجتمع ككل أي يكون هناك شعور عام في المجتمع بقبول هذه القرارات وتلك السياسات على أنها ملزمة.
الملاحظ أن تأسيس نظرية للدولة انطلاقاً من هذين المنظورين يفترض تشابهاً بين المجتمعات الإنسانية وكونها جميعاً مرت بنفس سيرورة التطور التي هيأت المناخ لبروز الدولة كجهاز فوقي، إلا أن واقع الحال غير ذلك، فالدولة في العالم الثالث ليست إفرازاً لنفس الميكانزمات الفاعلة والتحولات العميقة المنضجة لمؤسسة الدولة المعروفة في الغرب، إنها جهاز مصنوع أو مفروض من الخارج أكثر مما هي جهاز وليد بيئته وظروفه، ذلك أن مجتمعات العالم الثالث لم تحقق درجة من التكامل الاجتماعي والنضج المؤسسي institutionalize الضروريين لظهور مصالح سياسية مشتركة، أو جهاز سياسي مستقل عن البنى التقليدية الأخرى، أيضاً فإن المجتمعات الثالثة لم تصل إلى مرحلة دمج الأفراد في نطاق المشاركة السياسية، وبالتالي إلى بلورة فاعلية سياسية تستوعب غالبية أفراد المجتمع في إطار انتماء كلي شمولي على أساس المواطنة والانتماء لوطن، بدل علاقة الدم والقربى والانتماء إلى عشيرة أو طائفة.
والملاحظ أن ظهور المد الاستعماري ودخول الاستعمار إلى مجتمعات العالم الثالث وقطعه وتشويهه لبنياتها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، جعل هذه المجتمعات عاجزة عن مواصلة إنضاج بنياتها حتى درجة الوصول إلى المجتمع السياسي المعبر عن خصوصياتها الواقعية، بل أدمجت قسراً بالنظام الكولونيالي، وفرضت عليها أنظمة سياسية وحدود وقسمت إلى دول حسب مشيئة المستعِمر ومصالحه، الأمر الذي جعل الدولة – في أغلب الحالات – جهازاً أو مؤسسة غريبة مقحمة لا تعكس أو تعبر عن بنية هذه المجتمعات، إنها جهاز محكوم بالخارج ووجودها مرتبط به، إن لم يكن رهينة له.
وبصورة عامة يمكن القول إن مجمل تعريفات الدولة تتفق على كونها مجموعة الأجهزة السياسية الفوقية في تكوين اجتماعي معين، وهي نتاج المجتمع في مرحلة من مراحل تطوره...وسواء كانت الدولة من دول العالم المتقدم أو دول العالم الثالث فإن لها خصائص تنحصر في:
1- أنها تقيم لنفسها قوة عامة مستقلة، أي أنها مجهزة بجهاز عسكري مستقل عن الأفراد والجماعات المحدودة.
2- تفرض شكلاً من أشكال الضريبة على المواطنين لتدعيم قوتها والإنفاق على شؤون الإدارة.
3- وهي تعمل من خلال مجموعة من الموظفين الرسميين يملكون ما للدولة من قوة عامة يتربعون بها على عرش المجتمع وهو ما يسمى بالجهاز البيروقراطي.
4- تلازم وجود الدولة مع وجود المؤسسات.
5- تلازم وجود الدولة مع وجود القانون.
إن الدولة هي التنظيم المؤسسي للسلطة السياسية، فكل شخص اليوم، ينتمي إلى دولة من الدول فنادراً ما نجد إنساناً غير منضو في إطار دولة، كما أصبح الانتماء لا يحسب اعتماداً على رابطة القرابة أو العشيرة، بل على أساس الانتماء إلى دولة وجنسية، فالدولة استطاعت أن تستوعب كل الانتماءات القبلية السابقة عليها، وتخضعها لسيطرتها وتوجهها بما يخدم المصلحة العامة للمجتمع، من منطلق أن الانتماء الأوسع يستوعب الانتماءات الأضيق، والعلاقة بين الانتماءين علاقة عكسية، بمعنى، كلما قوي الانتماء الأول ضعفت الانتماءات الثانية، والعكس صحيح .
إن هيمنة مؤسسة الدولة اليوم على حساب البنى والانتماءات القبلية، لا يعني أن كل المجتمعات على درجة واحدة في وصولها لمرحلة المجتمع المدني Civil Social أو مأسسة المجتمع، ذلك أن بعض المجتمعات تمكنت بالفعل من تأسيس المجتمع المدني وتأصيل هوية قوية تذيب كل الانتماءات الأخرى وتجعلها أثراً من مخلفات الماضي، ولكن توجد مجتمعات أخرى ما زالت تتخبط في عملية تأسيس المجتمع المدني، وفي ترسيخ هوية وطنية (قومية) تستوعب الانتماءات القبلية التي لعبت دوراً معرقلاً لنموها وتطورها، هذه المجتمعات تنتشر بشكل أكبر في دول العالم الثالث، حيث تتغلب الانتماءات القبائلية والطائفية والعائلية على الانتماء للوطن والدولة، فتنشب الصراعات والحروب الأهلية الدامية، وتصبح معها الدولة بحد ذاتها في مهب الريح