بسم الله الرحمن الرحيم
من روائع لطائف التعبير القرآني المعجز ما يمكن تسميته "دمج الجمل" أو اختصارها، ونعلم أن القرآن معجز في كل ما يتعلق بصياغته ولغته وبلاغته وبيانه؛ فهو معجزٌ في ذِكر ما يذكره، ومعجز في حذف ما يحذفه، ومعجز في ما يدمجه، ومعجز في ما يختصره، ومعجز في ما يبسطه...
و"دمج الجمل" وصل به القرآن إلى أعلى درجات الصياغة البيانية المعجزة، وهذا الدمج يقوم على وجود جملتين متتابعتين، متصلتين بعضهما ببعض اتصالاً "مرحليّاً"، بحيث تكون الجملة الثانية مرحلة تالية للجملة الأولى، فيدمج ويجمع القرآن المعجز بينهما، وذلك بأن يذكر جزءاً من الجملة الأولى، ثم يذكر جزءاً من الجملة الثانية، ويخرج من الجملتين بجملة واحدة فصيحة معجزة، تصلح أن تكون جملة ثالثة، هي "نتاج" الجملتين السابقين، ويمكن اعتبار هذه الصياغة القرآنية المعجزة: صياغة جملتين في جملة! وعندما تعيد صياغة الجملتين تقف على الروعة المعجزة في القرآن!!
ولننظر في هذا المثال القرآني الرائع، ولنقف على ما فيه من دمج معجز، وحكمة بيانية رائعة.
ولنقدم لهذا المثال بتقرير الفرق بين الفعل والاسم في التعبير القرآني المعجز: الفعل يدل على الحدوث والتجدد والتوقيت.. أما الاسم فإنه يدل على الثبات والاستقرار والدوام؛ فعندما يعبّر القرآن عن المعنى بالفعل فإنه يلحظ معنى التجدد والحدوث، وعندما يعبّر عن المعنى بالاسم فإنه يلحظ معنى الاستقرار والدوام.
قال تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} [المزمل:8].
أمر الله نبيه محمداً -صلى الله عليه وسلم-– وكل مؤمن من بعده – أن يذكره سبحانه، وأن ينقطع إليه انقطاعاً تامّاً، وأن لا يشغله غيره عنه.
والتبتل من البَتْل، والبَتْلُ هو القطع، والتبتل هو الانقطاع. تقول: بَتَلَ الرجل الحبل. أي: قطعه. والمرأة البتول: المرأة الصالحة العفيفة الطاهرة، المنقطعة إلى ذكر الله. ووُصفت كلٌّ من مريم وفاطمة رضي الله عنهما بوصف البتول.
ويمكن أن نشير في مادة البَتْلِ إلى ثلاث صيغ:
الأولى: صيغة الثلاثي: تقول: بَتَلَ بَتْلاً. أي: قطع الشيء.
الثانية: صيغة الرباعي مُضَعَّف العين. تقول: بتَّلَ، ومصدره: تبتيل. تقول: بَتَّلَ الشيء تبتيلاً. أي: قطعه تقطيعاً، فالصيغة تدل على الإكثار من القطع؛ لأن المصدر "تفعيل" يدل على ذلك، مثل: التكسير والتحطيم والتقطيع..
الثالثة: صيغة الخماسي، تقول: تَبَتَّلَ. ومصدره: تَبَتُّلٌ؛ لأن أيّ فعل خماسي على وزن "تَفَعَّلَ" فإن مصدره على وزن "تَفَعُّلٌ". نقول: تكسَّر تكسُّراً، وتحطَّم تحطُّماً، وتعلَّم تعلُّماً، وتكلَّم تكلُّماً.. وهكذا.
وهذه الصيغة تدل على التدرّج والتكلّف والتأنّي والتمهّل، وهذا واضح في اشتقاقات هذه الصيغة، مثل: التعلُّم والتكلُّم والتفهُّم..
ولننظر الآن في صياغة الآية العجيبة: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً}.
"تَبَتَّلْ": فعل أمر، ماضيه الخماسي: "تَبَتَّلَ". تقول: تَبَتَّلَ، يَتَبَتَّلُ، تَبَتَّلْ. وهو على وزن: تَفَعَّلْ.
ومعنى قوله: {تبتّلْ إليه}: انقطع إلى الله، وأَكثِر من ذكره سبحانه، ولا تنشغل بغيره عنه، ولا يجوز أن يشغلك أيّ شيء عن الله.
ويدل الفعل "تَبَتَّلْ" على الحدوث والتجدد، بمعنى أن يكون لك في كل ساعة تبتّلاً وانقطاعاً وتوجّهاً إلى الله سبحانه.
ونتساءل: ما هو مصدر الأمر "تَبَتَّلْ"؟ وهل هو مذكور في الآية؟
إن مصدره هو: "تَبَتُّلْ". وهو غير مذكور في الآية. وعندما تذكر هذا المصدر تقول: تَبتَّلْ إلى الله تَبَتُّلاً. أي: انقطع إليه انقطاعاً.
و"تبتيلاً" في الآية مفعول مطلق منصوب، وفعله محذوف، وتقديره: "بَتَّلْ" ، وهو رباعي مُضَعَّف العين، ومفعوله محذوف.
تقول: بَتَّلَ المؤمن نفسه إلى الله تبتيلاً. أي: قطع كل ما يشغله عن الله، وأوقف نفسه إلى الله.
وكل مصدر على وزن "تفعيل" يكون فعله الماضي رباعيّاً مضعّف العين: "فَعَّلَ". تقول: فسّر تفسيراً، وكرّم تكريماً، وأوّل تأويلاً، وبتّل تبتيلاً.
بعد هذا الإيضاح الذي لا بد منه ننظر إلى "الدمج" المعجز في الآية: إن جملة: {تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} مكونة من جملتين، جرى فيهما حذف ثم دمج:
الجملة الأولى: تَبَتَّلْ إليه تَبَتُّلاً.
والجملة الثانية: بَتِّلْ إليه تبتيلاً.
ماذا فعل القرآن المعجز عندما أدمج الجملتين في جملة؟
حذف مصدر الجملة الأولى "تَبَتُّلاً". ثم حذف فعل الجملة الثانية: "بَتِّلْ".
الجملتان مكونتان من أربع كلمات: تَبَتَّلْ إليه تَبَتُّلاً وبَتِّلْ إليه تَبْتيلاً.
واللطيف أنه حذف الكلمتين اللتين في الوسط – الثانية والثالثة – وهما مصدر الجملة الأولى، وفعل الجملة الثانية. وأبقى الكلمتين على الطرفين – الأولى والرابعة – وهما فعل الجملة الأولى ومصدر الجملة الثانية، فصارت الجملة هكذا: {تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً}.
وبعد تحليل صياغة هذه الجملة المعجزة نتوقف لنتساءل عن حكمة الحذف والدمج، ودلالة هذا البيانية والتربوية.
بين الجملتين مرحلية ملحوظة:
الجملة الأولى: تبتَّلْ إلى الله تبتُّلاً. تسجل المرحلة الأولى من التبتل والانقطاع إلى الله.. وتدل على تكلّف التبتل والاجتهاد فيه.
الجملة الثانية: بَتِّلْ نفسك إلى الله تبتيلاً. تسجل المرحلة الثانية، التي هي ثمرة ونتيجة للمرحلة الأولى، وهي التبتل، الذي هو الإكثار من الانقطاع إلى الله.
وفي هذه الآية لفتة "تربوية" مهمة، نأخذها من المصدرين: المحذوف: "تَبَتُّلٌ"، والمذكور: "تَبتيلٌ".
يدل المصدر الأول على التدرج والتكلف والمجاهدة. إن جملة: "تَبَتَّلْ إلى الله تبتُّلاً" تدعو المؤمن – والمؤمنة – إلى مجاهدة النفس، وإجبارها على التبتّل، وإلزامها به، وفي هذه المجاهدة من التكلف والعزم وقوة الإرادة ما فيه؛ لأن النفس تكره الالتزام والانضباط، وتحب التفلُّت والترخُّص، وإذا تركها المسلم على هواها فإنها تترك الأمر وتتخلى عنه، ولذلك لا بد من أخذها بالشدة حتى تلتزم وتستقيم.
ويدل المصدر الثاني: "تبتيل" على التكثير، فمن بَتَّلَ نفسه إلى الله تبتيلاً فقد أكثر من الانقطاع إلى الله.
ونشير إلى أن فعل الأمر المذكور: "تَبَتَّلْ" فعل لازم لا يحتاج إلى مفعول به، وهو يركز على موضوع التبتّل نفسه.. بينما فعل الأمر المحذوف من الجملة الثانية: "بَتِّلْ" يتعدى إلى المفعول به، وهو محذوف أيضاً. والتقدير: بَتِّلْ نفسَك إلى الله تبتيلاً، فهو يدعو إلى انقطاع النفس إلى الله.
وخلاصة هذه الجولة الممتعة بين التبتّل والتبتيل، أن جملة: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} جملة قرآنية معجزة، مكونة من كلمتين، كل كلمة تمثل جملة؛ فأساسها جملتان، أُدمجتا في جملة واحدة مختصرة. الكلمة الأولى: "تَبَتَّلْ" حذف مصدرها، الدالّ على التدرّج والتكلّف والمجاهدة: "تَبَتُّلٌ". والكلمة الثانية: مصدره مفعول مطلق حُذف فعله، ويدل المصدر "تبتيل" على الإكثار من الفعل والتفاعل به، ونجاح الدورة التربوية المكثفة في الانقطاع إلى الله.
وسبحان الله العظيم، منزل هذا القرآن الكريم المعجز، الذي لا يشبع منه العلماء، ولا تنقضي عجائبه..