۩۩ نقد قصيدة ( ولد الهدى ) لأمير الشعراء أحمد شوقي ۩۩
قصيدة ولد الهدى
تعد قصيدة ولد الهدى من إحدى روائع أمير الشعراء أحمد شوقي ذلك الشاعر العلم المولود عام 1870 وربيب القصور و الملوك و هو أحذ الشعراء الذين يسرت لهم الظروف السفر إلى فرنسا للدراسة و التعلم فاطلع على الآداب الفرنسية و شاهد المسارح الأوروبية و قرأ مظاهر التجديد في الشعر الفرنسي عند أعلامه مثل فيكتور هوجو و لامارتين و راسين و غيرهم ثم عاد بعد ذلك إلى مصر مرة أخرى و صار شاعر القصر و الخديوي وكذا لسان العروبة و الإسلام حتى بويع أميرا للشعراء عام 1927 م .
كما لا ننسى أن نشير أنه أحذ تلامذة الشاعر الكبير محمود سامي البارودي مؤسس مدرسة الإحياء و البعث و التي أعاذت للشعر العربي رونقه و جلاله بعد قرون من الضعف منذ سقوط بغداد في أيدي المغول عام 656 ه حتى بدأ عصر النهضة الحديثة في مطلع القرن التاسع عشر حين صار محمد علي واليا على مصر بعد رحيل الحملة الفرنسية .
و قذ ترك شوقي آثارا شعرية كثيرة مثل الشوقيات و أسواق الذهب و نهج البردة كما خلف أيضا بعض المسرحيات الشعرية مثل مصرع كليوبترا و مسرحية نثرية وحيدة هي أميرة الأندلس .
فإذا ما غضضنا الطرف عن كل تلك الآثار الشعرية و الأدبية لشاعرنا و تناولنا قصيدته الشهيرة ( ولذ الهدى ) وجدناها إحدى قصائده الدينية الرائعة التي مدح فيها رسول الله عليه الصلاة و السلام متأثرا في ذلك بمن سبقه من الشعراء في هذا المضمار مثل البوصيري في قصيدته الشهيرة ( نهج البردة ) و التي نسج شوقي على منوالها هذه القصيدة الشهيرة و سماها بنفس الاسم وكذا الشاعر كعب بن زهير في قصيدته الشهيرة ( بانت سعاد ) وغيرهم .
إلا أن أمير الشعراء كان مختلفا اختلافا كبيرا ن كل ما سبقوه في هذا المجال و خاصة في قصيدته الهمزية محور الدراسة إذ لمس فيها قضايا تطلبها العصر الحديث إذ أعلن منذ بداية القصيدة و هي قوله
ولد الهدى فالكائنات ضياء و فم الزمان تبسم و ثناء
أن ميلاد الرسول الأعظم كان نقطة تحول هامة في تاريخ الإنسانية كافة فمولده عليه الصلاة و السلام لم يكن مولد إنسان عادي يزداد به عدد البشر الموجودين في ذلك الوقت بل كان مولده مولدا للهدى لكل أولئك البشر الحيارى التائهين في ظلمات الكفر و الجهل ، كان مولده إيذانا بعموم الفرح و الحبور و تحرير البلاد و العباد من ظلم الحكام ضلال الأفكار .
ثم يأخذ الشاعر في حديث مفصل عن ذلك الضياء الذي ملا الكون و عن ذلك السرور الذي عم المخلوقات في الملأ الأعلى فيقول :
الروح و الملأ الملائك حوله للدين و الدنيا به بشرا ء
و العرش يزهو و الحظيرة تزدهي و المنتهى و السدرة العصماء
و حديقة الفرقان ضاحكة الربا بالترجمان شذية غناء
إن الفرحة العظيمة بمولد الهاذي العظيم نراها من خلال تلك الكلمات التي آثر الشاعر أن يعبر بها عن تلك البهجة التي عمت الملأ الأعلى مثل ( بشراء ) ،
( يزهو) ، ( تزدهي ) و ( ضاحكة الربا ) و هي كلها كلمات شيع روح البهجة و السرور حتى ليصل أثرها إلى القارئ نفسه فيشعر بنفس الفرحة .
ثم يتحدث الشاعر عن اسم النبي صلى الله عليه و سلم و كيف انه يتصدر قائمة أسماء الرسل و الأنبياء في اللوح المحفوظ إكراما له و كيف أن الله سبحانه قد رفع ذكر نبيه العظيم فاقترن اسمه بلفظ الجلالة في الشهادة اقتران الألف بالباء في ترتيب الحروف و كيف كانت له المنزلة العظمى في بيت النبوة إذ صار خاتم الأنبياء و المرسلين فيقول :
نظمت أسامي الرسل فهي صحيفة في اللوح و اسم محمد طغراء
اسم الجلالة في بديع حروفه ألف هنالك و اسم ( طه ) الباء
يا خير من جاء الوجود تحيه من مرسلين إلى الهدى بك جاءوا
بيت النبيين الذي لا يلتقي إلا الحنائف فيه و الحنفاء
خير الأبوة حازهم لك آدم دون الأنام و أحرزت حواء
و بعد ذلك يعرج الشاعر على البشريات التي صاحبت مولده الشريف و الذي كان بداية لنهاية الظلم و الكفر فيذكر خمود نيران الفرس التي كانوا يعبدونها من دون الله تعالى و سقوط شرفتين من إيوان كسرى و غيرها من إرهاصات المولد الشريف مثله في ذلك مثل من سبقه من الشعراء الذين تناولوا نفس الموضوع ، و لا ينسى الشاعر أثناء ذلك الحديث عن السمات الذاتية في محيا النبي الكريم و قسمات وجهة الكريم مبينا إن خلقه الكريم و سمته العالي هو أصدق ذليل على نبوته عند كل ذي عقل فيقول :
و بذا محياك الذي قسماته حق و غرته هذى و حياء
و عليه من نور النبوة رونق و من الخليل و هديه سيماء
و من الحديث عن الميلاد و إرهاصاته ينتقل الشاعر للحديث عن طفولة النبي عليه الصلاة و السلام و كيف نشأ يتيما تحوطه عناية الرحمن الرحيم حتى لا يكون لأحذ من خلق الله يد على رسوله الكريم حتى أبيه و أمه و لا عجب في ذلك فهو الإنسان الذي بعثه الله ليكون له اليد الطولى على كل خلق الله بعد ربه جل و علا ثم يذكر شبابه الطاهر المختلف كل الاختلاف عن شباب أقرانه ممن اتبعوا الشهوات و النزوات فيذكر صدقه و أمانته و طهره فيقول :
نعم اليتيم بدت مخايل فضله و اليتم رزق بعضه و ذكاء
بسوى الأمانة في الصبا و الصدق لم يعرفه أهل الصدق و الأمناء
ثم يتناول الشاعر الجانب الأخلاقي في حياة الرسول الكريم فيتحدث بالتفصيل عن خلقه الكريم و كيف أنه حاز على الدرجة العليا في كل خلق من هذه الأخلاق حتى صدق فيه قول ربه جل و علا ( و إنك لعلى خلق عظيم ) .
فهو أسخى الأسخياء و أكرم الكرماء :
فإذا سخوت بلغت بالجود المدى و فعلت ما لا تفعل الأنواء
و هو المثل الأعلى في العفو عند المقدرة :
و إذا عفوت فقادرا و قدرا لا يستهن بعفوك الجهلاء
و هو لا يغضب إلا للحق :
و إذا غضبت فإنما هي غضبة في الحق بل ضغن و لا بغضاء
أما عن رضاه فهو رضا لله لا يصدر إلا عن صدق فطري بعيد عن التكلف :
و إذا رضيت فذاك في مرضاته و رضى الكثير تحلم و رياء
و هو _ عليه الصلاة و السلام _ الخطيب المفوه الذي أوتي جوامع الكلم :
و إذا خطبت فللمنابر هزة تعروا الندي و للقلوب بكاء
و هو القاضي العاذل الذي لا يؤخذ من غيره الحكم :
و إذا قضيت فلا ارتياب كأنما جاء الخصوم من السماء قضاء
وهو الجرئ الشجاع الواثق من نصر الله له :
و إذا مشيت إلى العدا فغضنفر و إذا جريت فإنك النكباء
ثم يتحدث الشاعر عن أصول الإسلام و مصادره فيذكر القرآن الأمين المعجزة الكبرى للنبي الكريم و كيف أن هذا الكتاب قد جاء ناسخا لما قبله من الشرائع و مهيمنا على ما سبقه من الكتب و كيف نزل هذا الكتاب في أسلوب هو آية في الإعجاز فأخرس البلغاء و الفصحاء :
الذكر آية ربك الكبرى التي فيها لباغي المعجزات غناء
نسخت به التوراة و هي وضيئة و تخلف الإنجيل و هو ذكاء
أزرى بمنطق أهله و بيانهم وحي يقصر دونه البلغاء
أما الحديث الشريف للنبي الكريم فهو الحديث البليغ الفصيح الصادر عن أفصح خلق الله كيف لا و هو قول الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى :
أما حديثك في العقول فمشرع و العلم و الحكم الغوالي الماء
هو صبغة الفرقان نفحة قدسه و السين من سوراته و الراء
جرت الفصاحة من ينابيع الهدى من روحه و تفجر الإنشاء
ثم يبين الشاعر أن ذلك الكتاب الرباني و ذاك الهدي النبوي هما الأساس في بناء و قيام الدولة الإسلامية تلك الدولة التي يسهب شوقي في بيان ملامحها و سماتها
فهي دولة تقوم على المساواة الكاملة بين رعايها شعارها الفذ قوله تعالى ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) و هي دولة تقوم على البيعة الحقة و الشورى و العدالة الاجتماعية التي تضمن الحقوق لأصحابها :
بك يا ابن عبد الله قامت سمحة بالحق من ملل الهدى غراء
فرسمت بعدك للعباد حكومة لا سوقة فيها و لا أمراء
الله فوق الخلق فيها وحده و الناس تحت لوائها أكفاء
و الذين يسر و الخلافة بيعة و الأمر شورى و الحقوق قضاء
كما أنها دولة كتب على أبنائها الجهاد لرد الباغين المعتدين و نصرة المستضعفين من عباد الله :
و الحرب في حق لديك شريعة و من السموم الناقعات دواء
أما عن التكافل الاجتماعي فكانت دولته_ عليه السلام _ أولى الدول التي أرست دعائمه و جعلت للفقير حق معلوم عند الغني يأخذه منه و هو عزيز النفس لأنه شرع الله :
و البر عندك ذمة و فريضة لا منة ممنونة و جباء
جاءت فوحدت الزكاة سبيله حتى التقى الكرماء و البخلاء
أنصفت أهل الفقر من أهل الغنى فالكل في حق لديك سواء
و لا ينسى الشاعر أن يتحدث عن حملة هذا الذين من أصحاب رسول الله فيقول :
نسفوا بناء الشرك فهي خرائب و استأصلوا الأصنام فهي هباء
يمشون تغضي الأرض منهم هيبة و بهم حيال نعيمها إغضاء
حتى إذا فتحت لهم أطرافها لم يطغهم ترف و لا نعماء
ثم يختم الشاعر قصيدته ملتفتا إلى الحاضر الذي تعيشه الأمة الإسلامية و هو حاضر في أمس الحاجة إلى استدعاء الماضي المجيد و إلى التداوي بما فيه من الدواء الناجع الذي لا سبيل إلا العلاج و الشفاء إلا به فيقول لمن خصه بتلك القصيدة :
أدعوك عن قومي الضعاف لأزمة في مثلها يلقى عليك رجاء
أدرى رسول الله أن نفوسهم ركبت هواها و القلوب هواء
رقدوا و غرهم نعيم باطل و نعيم قوم في القيود بلاء
ظلموا شريعتك التي نلنا بها ما لم ينل في روقة الفقهاء
مشت الحضارة في سناها و اهتدى في الذين و الدنيا بها السعداء
و مما سبق يتضح لنا أن الغرض الأدبي من هذه القصيدة هو مدح النبي صلى الله عليه وسلم و الثناء عليه و قد قالها يحاكي بها من سبقوه من شعراء المسلمين إلا أن محاولته تلك لم تكن مجرد تقليد أعمى بل أضاف من خلالها إلى القصيدة الدينية معاني جديدة تتواءم و ظروف العصر الحديث كما انه اتخذ من تلك المحاكاة وسيلة للتفوق و المنافسة .
و قد سيطرت على الشاعر طوال القصيدة عاطفة التدين الحارة التي جعلته طوال قصيدته يهيم بشخص النبي الكريم و شمائله العطرة و استطاع بهذا الصدق أن يؤثر تأثيرا شديدا في المتلقي فلا يكاد أحذ يقرا هذه القصيدة إلا و يشعر بشعور الحب الجارف لشخص من نظمت في مدحه تلك القصيدة
و الحق أن انتماء شوقي للمدرسة الكلاسيكية و التي تعد امتدادا لمدرسة الإحياء و البعث بزعامة البارودي و التي كان شعارها التجديد مع المحافظة على القديم قد ظهرت آثاره جلية في تلك القصيدة إذ نرى التزام الشاعر بوحدة الوزن و كذا التزم بوحدة القافية و الروي و لا ننسى تمسك الشاعر و حرصه على اللفظ العربي الأصيل .
أما عن ملامح التجديد في القصيدة فيتمثل في لجوء الشاعر في الختام إلى رسول الله يشكو إليه حال الأمة و ما أصابها من الضعف و الوهن و كذا التركيز على أهم ما نادت به شريعته الغراء من مبادئ كثر المتكلمون بها في العصر الحديث و اختفت آثارها مثل التكافل الاجتماعي و مبدأ الشورى و العدالة الاجتماعية و غيرها .
أما عن جانب الصور و الخيال فقز أكثر شوقي من التشبيهات و الصور الجزئية عموما و التي تؤدي دورها في خدمة المعاني بالتشخيص و التجسيم و التوضيح
و قد جاءت ألفاظ الشاعر قوية جزلة تتناسب و موضوع القصيدة و إن كانت أيضا واضحة لا غموض فيها و لا ينسى دورها الرائع في التأثير على المتلقي .