♦◊♦ أثر القصاص في استقرار المجتمع ♦◊♦
القصاص لغة:
اسم بمعنى القود مأخوذ من مادّة (ق ص ص) الّتي تدلّ على تتبّع الشّيء، من ذلك قولهم: اقتصصت الأثر إذا تتبّعته قال ابن فارس: ومن ذلك اشتقاق القصاص في الجراح، وذلك أنّه يفعل به مثل فعله بالأوّل، فكأنّه اقتصّ أثره، وقال الجوهريّ: القصاص القود، وقد أقصّ الأمير فلانا من فلان إذا اقتصّ له منه فجرحه مثل جرحه، أو قتله قودا، واستقصّه سأله أن يقصّه منه، وقال الفرّاء: قصّه الموت وأقصّه بمعنى دنا منه، وأصل الكلمة قاصّه مقاصّة (مشدّد)، مثل سارّه مسارّة وحاجّه محاجّة وما أشبه ذلك. والقصاص (بالكسر)، والقصاصاء (بالكسر أيضا) والقصاصاء (بالضّمّ) لغات فيه: هو القود والقتل بالقتل، والجرح بالجرح.
وتقاصّ القوم إذا قاصّ كلّ واحد منهم صاحبه في حساب أو غيره، والتّقاصّ: التّناصف في القصاص، قال قائل:
فرمنا القصاص وكان التّقاصّ *** حكما وعدلا على المسلمينا.
قال ابن سيده: وهذا الشّاذّ لاجتماع ساكنين، ولذلك رواه بعضهم، وكان القصاص.
والاقتصاص: أخذ القصاص. والإقصاص أن يؤخذ لك القصاص [الصحاح (3/ 1051- 1052)، ولسان العرب (6/ 3652)، مفردات القرآن (672)، المصباح المنير (506)، ومقاييس اللغة (5/ 11) ] .
واصطلاحا:
قال الجرجانيّ: أن يفعل بالفاعل مثل ما فعل [التعريفات (225) ] .
وعرّفه الحافظ في الفتح بأنّه: تتبّع جناية الجاني ليؤخذ مثل جنايته [الفتح (11/ 395) ] .
وقال المناويّ: القصاص: تتبّع الدّم بالقود [التوقيف (272) ] .
آيات
1- قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ * وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) [البقرة: 178- 179] .
2- قوله تعالى: (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ) [البقرة: 194] .
3- قوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ * وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) [المائدة: 44- 45] .
4- قوله تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً ) [الإسراء: 33] .
أحاديث
1- عن أبي هريرة- رضي اللّه عنه- أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «أتدرون من المفلس؟» قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: «إنّ المفلس من أمّتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته، قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثمّ طرح في النّار» [مسلم (2581) ] . ولفظه عند التّرمذيّ: «فيقع فيقتصّ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقتصّ ما عليه من الخطايا أخذ من خطاياهم فطرح عليه ثمّ طرح في النّار» [الترمذي (2418)، وقال: حسن صحيح وقال الألباني صحيح] .
2- عن عبد اللّه بن مسعود- رضي اللّه عنه- أنّه قال: قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «أوّل ما يقضى بين النّاس في الدّماء» [البخاري- الفتح 11 (6533) ] .
3- قال أسيد بن حضير- رضي اللّه عنه-: بينما هو يحدّث القوم- وكان فيه مزاح- بينا يضحكهم فطعنه النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في خاصرته بعود، فقال: أصبرني. فقال: «اصطبر»، قال: إنّ عليك قميصا وليس عليّ قميص، فرفع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم عن قميصه، فاحتضنه وجعل يقبّل كشحه ، قال: إنّما أردت هذا يا رسول اللّه. [أبو داود (5224)، وقال الألباني (3/ 981): صحيح] .
4- عن أنس بن مالك- رضي اللّه عنه- أنّه قال: كسرت الرّبيّع- وهي عمّة أنس بن مالك- ثنيّة جارية من الأنصار، فطلب القوم القصاص، فأتوا النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فأمر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بالقصاص. فقال أنس بن النّضر عمّ أنس بن مالك: لا واللّه لا تكسر سنّها يا رسول اللّه. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «يا أنس كتاب اللّه القصاص»، فرضي القوم وقبلوا الأرش ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إنّ من عباد اللّه من لو أقسم على اللّه لأبرّه» [البخاري- الفتح 8 (4611) واللفظ له، ومسلم (1675) ] .
5- عن أبي سعيد الخدريّ- رضي اللّه عنه- أنّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «يخلص المؤمنون من النّار، فيحبسون على قنطرة بين الجنّة والنّار، فيقصّ لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدّنيا، حتّى إذا هذّبوا ونقّوا، أذن لهم في دخول الجنّة، فو الّذي نفس محمّد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنّة منه بمنزله كان في الدّنيا» [البخاري- الفتح 11 (6535) ] .
6- عن أنس بن مالك- رضي اللّه عنه- قال: إنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كان عند بعض نسائه فأرسلت إحدى أمّهات المؤمنين مع خادم بقصعة فيها طعام، فضربت بيدها فكسرت القصعة، فضمّها، وجعل فيها الطّعام، وقال: «كلوا» وحبس الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم القصعة حتّى فرغوا، فدفع القصعة الصحيحة وحبس المكسورة»[البخاري- الفتح 5 (2481) ] .
7- عن أنس بن مالك- رضي اللّه عنه- قال: إنّ يهوديّا قتل جارية على أوضاح لها فقتلها بحجر، قال: فجيء بها إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، وبها رمق. فقال لها: «أقتلك فلان؟»، فأشارت برأسها أن لا، ثمّ قال لها الثّانية. فأشارت برأسها أن لا. ثمّ سألها الثّالثة. فقالت: نعم، وأشارت برأسها. فقتله رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بين حجرين. [البخاري- الفتح 12 (6877)، ومسلم (1672)، واللفظ له] .
8- عن أبي هريرة- رضي اللّه عنه- أنّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «رحم اللّه عبدا كانت لأخيه عنده مظلمة في عرض، أو مال، فجاءه فاستحلّه قبل أن يؤخذ، وليس ثمّ دينار ولا درهم، فإن كانت له حسنات أخذ من حسناته، وإن لم تكن له حسنات حمّلوه عليه من سيّئاتهم» [البخاري- الفتح 11 (6534)، الترمذي (2419)، وقال: حسن صحيح، واللفظ له] .
9- عن أبي هريرة- رضي اللّه عنه- أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «لتؤدّنّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتّى يقاد للشّاة الجلحاء من الشّاة القرناء» [مسلم (2582) ] .
آثار
1- قال عمر بن الخطّاب- رضي اللّه عنه- في خطبة له: إنّي لم أبعث عمّالي ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم، فمن فعل به ذلك فليرفعه إليّ، أقصّه منه. قال عمرو بن العاص- رضي اللّه عنه-: لو أنّ رجلا أدّب بعض رعيّته أتقصّه منه؟. قال: إي والّذي نفسي بيده أقصّه، وقد رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أقصّ من نفسه. [أبو داود (4537) ] .
2- قال أبو العالية- رحمه اللّه تعالى-: جعل اللّه القصاص حياة. فكم من رجل يريد أن يقتل فتمنعه مخافة أن يقتل. [تفسير ابن كثير (1/ 212) ] .
3- قال الزّجّاج- رحمه اللّه تعالى-: إذا علم الرّجل أنّه إن قتل قتل أمسك عن القتل، فكان في ذلك حياة للّذي همّ بقتله ولنفسه، لأنّه من أجل القصاص أمسك. وقال ابن الجوزيّ- رحمه اللّه تعالى-: أخذ هذا المعنى الشّاعر فقال:
أبلغ أبا مالك عنّي مغلغلة *** وفي العتاب حياة بين أقوام.
يريد أنّهم إذا تعاتبوا أصلح ما بينهم العتاب. [زاد المسير في علم التفسير (1/ 181) ] .
متفرقات
1- قال ابن كثير- رحمه اللّه عند تفسير قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) [البقرة: 178]: «يقول اللّه تعالى: كتب عليكم العدل في القصاص أيّها المؤمنون حرّكم بحرّكم، وعبدكم بعبدكم، وأنثاكم بأنثاكم، ولا تتجاوزوا وتعتدوا كما اعتدى من قبلكم، وغيّروا حكم اللّه فيهم. فأمر اللّه بالعدل في القصاص، ولا يتبع سبيل المفسدين المحرّفين المخالفين لأحكام اللّه فيهم كفرا وبغيا.[تفسير ابن كثير (1/ 210) ] .
2- وقال- رحمه اللّه تعالى- عند قوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ ) [البقرة: 179] يقول اللّه تعالى وفي شرع القصاص- وهو قتل القاتل- حكمة عظيمة، وهي بقاء المهج وصونها، لأنّه إذا علم القاتل أنّه يقتل انكفّ عن صنيعه، فكان في ذلك حياة للنّفوس، وفي الكتب المتقدّمة: القتل أنفى للقتل فجاءت هذه العبارة في القرآن أفصح وأبلغ وأوجز.[ تفسير ابن كثير (1/ 211) ] .
3- قال الشّيخ محمّد الأمين الشّنقيطيّ: ومن هدي القرآن للّتي هي أقوم: القصاص، فإنّ الإنسان إذا غضب وهمّ بأن يقتل إنسانا آخر فتذكّر أنّه إن قتله قتل به، خاف العاقبة فترك القتل، فحيي ذلك الّذي يريد قتله، وحيي هو لأنّه لم يقتل فيقتل قصاصا، فقتل القاتل يحيا به ما لا يعلمه إلّا اللّه كثرة كما ذكرنا، قال اللّه تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 179]، ولا شكّ أنّ هذا من أعدل الطّرق وأقومها، ولذلك يشاهد في أنظار الدّنيا قديما وحديثا قلّة وقوع القتل في البلاد الّتي تحكم بكتاب اللّه، لأنّ القصاص ردع عن جريمة القتل، كما ذكره اللّه في الآية المذكورة آنفا.
وما يزعمه أعداء الإسلام من أنّ القصاص غير مطابق للحكمة، لأنّ فيه إقلال عدد المجتمع بقتل إنسان ثان بعد أن مات الأوّل، وأنّه ينبغي أن يعاقب بغير القتل فيحبس، وقد يولد له في الحبس فيزيد المجتمع، كلّه كلام ساقط، عار من الحكمة، لأنّ الحبس لا يردع النّاس عن القتل، فإذا لم تكن العقوبة رادعة فإنّ السّفهاء يكثر منهم القتل فيتضاعف نقص المجتمع بكثرة القتل. [أضواء البيان (3/ 389- 390) ] .
والثّانية يد السّارق الّتي تقطع في ربع دينار سرقته بالشّروط الّتي تتوافر لقطعها عند الفقهاء. [ديوان الشافعي (60، 61) ] .