۩۩ وجوب ضبط الغيرة بالشرع ۩۩
الغيرة لغة:
مصدر قولهم: غرت على أهلي غيرة، وهو مأخوذ من مادّة (غ ي ر) الّتي تدلّ على صلاح وإصلاح ومنفعة [انظر المقاييس (4/ 404) ] . قال ابن فارس: ومن هذا الباب: الغيرة؛ لأنّها صلاح ومنفعة [المقاييس (4/ 403)، والصحاح (2/ 766)، والنهاية لابن الأثير (3/ 401)، ولسان العرب (4/ 3326) (ط. دار المعارف) ] . يقال: غار الرّجل على أهله يغار غيرا وغيرة وغارا وغيارا ورجل غيور وغيران، وجمع غيور: غير، وجمع غيران: غيارى وغيارى، ويقال (في الوصف أيضا): رجل مغيار وقوم مغايير، وامرأة غيرى ونسوة غيارى، وامرأة غيور ونسوة غير، صحّت الياء لخفّتها عليهم وأنّهم لا يستثقلون الضّمّة عليها استثقالهم لها على الواو، وبعضهم يخفّفها بالتّسكين فيقول: غير مثل رسل في رسل، وفي حديث أمّ سلمة- رضي اللّه عنها- إنّ لي بنتا وأنا غيور، هو فعول من الغيرة وهي الحميّة والأنفة، يقال رجل غيور وامرأة غيور بلا هاء، لأنّ فعولا يستوي فيه المذكّر والمؤنّث، وفي رواية: امرأة غيرى، هي فعلى من الغيرة، والمغيار
الشّديد الغيرة، قال النّابغة:
شمس موانع كلّ ليلة حرّة *** يخلفن ظنّ الفاحش المغيار.
وفلان لا يتغيّر على أهله أي لا يغار، وأغار أهله: تزوّج عليها فغارت، والعرب تقول: أغير من الحمّى أي أنّها تلازم المحموم ملازمة الغيور لبعلها [انظر النهاية لابن الأثير (3/ 400- 401)، ولسان العرب (5/ 41- 42)] .
وقال الحافظ ابن حجر- رحمه اللّه-: الغيرة مشتقّة من تغيّر القلب وهيجان الغضب، بسبب المشاركة فيما به الاختصاص، وأشدّ ما يكون ذلك بين الزّوجين[فتح الباري (9/ 320) وانظر: التعريفات للجرجاني (ص 163) والتوقيف على مهمات التعاريف ص (255) ] .
واصطلاحا:
كراهة شركة الغير في حقّه.
وقال الكفويّ: الغيرة: كراهة الرّجل اشتراك غيره فيما هو من حقّه [الكليات للكفوي (671) ] .وذكر الرّجل هنا على سبيل التّمثيل، وإلّا فإنّ الغيرة غريزة تشترك فيها الرّجال والنّساء، بل قد تكون من النّساء أشدّ.
غيرة اللّه- عز وجل-:
جاء في الحديث الشّريف أنّ اللّه- عزّ وجلّ- يغار، وأنّ غيرته- عزّ وجلّ- تكون من إتيان محارمه، ووجه ذلك؛ أنّ المسلم الّذي يطيع هواه أو ينقاد للشّيطان ويقع في محارم اللّه، فكأنّه جعل لغير اللّه فيه نصيبا، ولمّا كانت الطّاعة خاصّة باللّه- عزّ وجلّ- ويأبى أن يشاركه فيها غيره، كان ذلك مبعثا لأن يستثير العاصي غضب مولاه وغيرته عليه، وما ذلك إلّا لأنّ المولى- سبحانه وتعالى- لا يرضى لعباده المعصية كما لا يرضى لهم الكفر، ومن ثمّ تكون من جانب اللّه تعالى غيرة حقيقيّة على ما يليق بجلاله وكماله، ومن لوازمها: كراهية وقوع العبد في المعاصي وإشراكه غير اللّه فيما هو حقّ المولى وحده من التزام بأوامره، واجتناب لمعاصيه.
1- عن عائشة- رضي اللّه عنها- زوج النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم حدّثت، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خرج من عندها ليلا. قالت: فغرت عليه، فجاء فرأى ما أصنع. فقال: «ما لك؟ يا عائشة! أغرت؟». فقلت: ومالي لا يغار مثلي على مثلك؟. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «أقد جاءك شيطانك؟». قالت: يا رسول اللّه! أو معي شيطان؟. قال: «نعم». قلت: ومع كلّ إنسان؟ قال: «نعم».قلت: ومعك؟ يا رسول اللّه! قال: «نعم، ولكنّ ربّي أعانني عليه حتّى أسلم» [مسلم (2815) ] .
2- عن أبي هريرة- رضي اللّه عنه- أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «إنّ اللّه (تعالى) يغار وغيرة اللّه أن يأتي المؤمن ما حرّم اللّه عليه» [البخاري- الفتح 9 (5223) واللفظ له. ومسلم (2761) ] .
3- عن جابر- رضي اللّه عنه- قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إنّ من الغيرة ما يحبّ اللّه- عزّ وجلّ- ومنها ما يبغض اللّه- عزّ وجلّ- ومن الخيلاء ما يحبّ اللّه- عزّ وجلّ- ومنها ما يبغض اللّه- عزّ وجلّ- فأمّا الغيرة الّتي يحبّ اللّه- عزّ وجلّ- فالغيرة في الرّيبة. وأمّا الغيرة الّتي يبغض اللّه- عزّ وجلّ- فالغيرة في غير ريبة والاختيال الّذي يحبّ اللّه- عزّ وجلّ- اختيال الرّجل بنفسه عند القتال وعند الصّدقة. والاختيال الّذي يبغض اللّه- عزّ وجلّ- الخيلاء في الباطل» [أحمد في المسند (5/ 445- 446). أبو داود (2659). والنسائي (5/ 78) واللفظ له وحسنه الألباني، صحيح النسائي (2398) والإرواء (1099) ] .
4- عن جابر بن عبد اللّه- رضي اللّه عنهما- قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «رأيتني دخلت الجنّة، فإذا أنا بالرّميصاء: امرأة أبي طلحة، وسمعت خشفة: فقلت من هذا؟. فقال: هذا بلال. ورأيت قصرا بفنائه جارية، فقلت: لمن هذا؟ فقال: لعمر. فأردت أن أدخله فأنظر إليه، فذكرت غيرتك». فقال عمر: بأبي وأمّي يا رسول اللّه! أعليك أغار؟. [البخاري- الفتح 7 (3679) واللفظ له. ومسلم (2394) ] .
5- عن أنس- رضي اللّه عنه- قال: كان النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمّهات المؤمنين بصحفة فيها طعام، فضربت الّتي النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في بيتها يد الخادم فسقطت الصّحفة فانفلقت، فجمع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فلق الصّحفة ثمّ جعل يجمع فيها الطّعام الّذي كان في الصّحفة ويقول: «غارت أمّكم»، ثمّ حبس الخادم حتّى أتى بصحفة من عند الّتي هو في بيتها، فدفع الصّحفة الصّحيحة إلى الّتي كسرت صحفتها ، وأمسك المكسورة في بيت الّتي كسرت فيه. [البخاري- الفتح 9 (5225) ] .
6- عن أسماء- رضي اللّه عنها- أنّها سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «لا شيء أغير من اللّه» [البخاري- الفتح 9 (5222) واللفظ له. ومسلم (2762) ] .
7- عن أبي هريرة- رضي اللّه عنه- أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «المؤمن يغار. واللّه أشدّ غيرا» [مسلم (2761) ] .
8- عن عبد اللّه بن مسعود- رضي اللّه عنه- عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «ما من أحد أغير من اللّه، من أجل ذلك حرّم الفواحش، وما أحد أحبّ إليه المدح من اللّه» [البخاري- الفتح 9 (5220) وللفظ له. ومسلم (2760) ] .
9- عن عائشة- رضي اللّه عنها- قالت: خسفت الشّمس في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يصلّي فأطال القيام جدّا. ثمّ ركع فأطال الرّكوع جدّا. ثمّ رفع رأسه فأطال القيام جدّا. وهو دون القيام الأوّل، ثمّ ركع فأطال الرّكوع جدا. وهو دون الرّكوع الأوّل. ثمّ سجد ثمّ قام فأطال القيام. وهو دون القيام الأوّل. ثمّ ركع فأطال الرّكوع، وهو دون الرّكوع الأوّل. ثمّ رفع رأسه فقام. فأطال القيام. وهو دون القيام الأوّل. ثمّ ركع فأطال الرّكوع. وهو دون الرّكوع الأوّل. ثمّ سجد، ثمّ انصرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وقد تجلّت الشّمس فخطب النّاس فحمد اللّه وأثنى عليه. ثمّ قال: إنّ الشّمس والقمر من آيات اللّه. وإنّهما لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته. فإذا رأيتموهما فكبّروا. وادعوا اللّه وصلّوا وتصدّقوا. يا أمّة محمّد! إن من أحد أغير من اللّه أن يزني عبده أو تزني أمته. يا أمّة محمّد واللّه لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا. ألا هل بلّغت» [البخاري- الفتح 9 (5221). ومسلم (901) واللفظ له] .
10- عن عائشة- رضي اللّه عنها- قالت: استأذنت هالة بنت خويلد، أخت خديجة، على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فعرف استئذان خديجة. فارتاح لذلك. فقال: «اللّهمّ! هالة بنت خويلد» فغرت. فقلت: وما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشّدقين ، هلكت في الدّهر، فأبدلك اللّه خيرا منها!.[ البخاري- الفتح 7 (3821). ومسلم (2437) واللفظ له ] .
11- عن المغيرة؛ قال: قال سعد بن عبادة: لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسّيف غير مصفح فبلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. فقال: «تعجبون من غيرة سعد، واللّه لأنا أغير منه، واللّه أغير منّي، ومن أجل غيرة اللّه حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحبّ إليه العذر من اللّه، ومن أجل ذلك بعث المبشّرين والمنذرين، ولا أحد أحبّ إليه المدحة من اللّه ، ومن أجل ذلك وعد اللّه الجنّة» [البخاري- الفتح 13 (7416) واللفظ له. ومسلم (1499) ] .
1- عن عائشة- رضي اللّه عنها- قالت، كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا خرج أقرع بين نسائه، فطارت القرعة على عائشة وحفصة. فخرجتا معه جميعا. وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا كان باللّيل، سار مع عائشة، يتحدّث معها. فقالت حفصة لعائشة: ألا تركبين اللّيلة بعيري وأركب بعيرك، فتنظرين وأنظر؟ قالت: بلى. فركبت عائشة على بعير حفصة. وركبت حفصة على بعير عائشة، فجاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى جمل عائشة. وعليه حفصة. فسلّم ثمّ سار معها. حتّى نزلوا. فافتقدته عائشة فغارت. فلمّا نزلوا جعلت تجعل رجلها بين الإذخر وتقول: يا ربّ! سلّط عليّ عقربا أو حيّة تلدغني. رسولك، ولا أستطيع أن أقول له شيئا.[ البخاري- الفتح 9 (5211). ومسلم (2445) واللفظ له ] .
2- عن أسماء بنت أبي بكر- رضي اللّه عنهما- قالت: تزوّجني الزّبير وما له في الأرض من مال ولا مملوك ولا شيء غير ناضح وغير فرسه، فكنت أعلف فرسه وأستقي الماء، وأخرز غربه وأعجن، ولم أكن أحسن أخبز، وكان يخبز جارات لي من الأنصار، وكنّ نسوة صدق، وكنت أنقل النّوى من أرض الزّبير- الّتي أقطعه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم- على رأسي، وهي منّي على ثلثي فرسخ. فجئت يوما والنّوى على رأسي، فلقيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ومعه نفر من الأنصار فدعاني، ثمّ قال: إخ إخ ليحملني خلفه، فاستحييت أن أسير مع الرّجال، وذكرت الزّبير وغيرته- وكان أغير النّاس- فعرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّي قد استحييت فمضى، فجئت الزّبير، فقلت: لقيني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وعلى رأسي النّوى ومعه نفر من أصحابه فأناخ لأركب، فاستحييت منه وعرفت غيرتك. فقال: واللّه لحملك النّوى كان أشدّ عليّ من ركوبك معه قالت: حتّى أرسل إليّ أبو بكر بعد ذلك بخادم تكفيني سياسة الفرس، فكأنّما أعتقني.[ البخاري- الفتح 9 (5224) ] .
3- عن عائشة- رضي اللّه عنها- قالت: كنت أغار على اللّاتي وهبن أنفسهنّ لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأقول: وتهب المرأة نفسها؟ فلمّا أنزل اللّه- عزّ وجلّ- (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ) [الأحزاب: آية 51].قالت: قلت: واللّه! ما أرى ربّك إلّا يسارع لك في هواك. [البخاري- الفتح 8 (4788). ومسلم (1464) واللفظ له ] .