::::::::::::::::
1- قال الماورديّ- رحمه اللّه-: اعلم أنّ من شواهد الفضل، ودلائل الكرم: المروءة الّتي هي حلية النّفوس، وزينة الهمم. ومن حقوق المروءة وشروطها، ما لا يتوصّل إليه إلّا بالمعاناة، ولا يوقف عليه إلّا بالتّفقّد والمراعاة، فثبت أنّ مراعاة النّفس إلى أفضل أحوالها هي المروءة، وإذا كانت كذلك، فليس ينقاد لها مع ثقل كلفها، إلّا من تسهّلت عليه المشاقّ، رغبة في الحمد، وهانت عليه الملاذّ، حذرا من الذّمّ، ولذلك قيل: سيّد القوم أشقاهم.
وقال الشّاعر:
وإذا كانت النّفوس كبارا *** تعبت في مرادها الأجسام
والدّاعي إلى استسهال ذلك شيئان: أحدهما: علوّ الهمّة، والثّاني: شرف النّفس. أمّا علوّ الهمّة، فلأنّه باعث على التّقدّم، وداع إلى التّخصيص، أنفة من خمول الضّعة، واستنكارا لمهانة النّقص.[أدب الدنيا والدين للماوردي (306- 307) ] .
2- قال الشّيخ الخضر حسين- رحمه اللّه-: وممّا جبل عليه الحرّ الكريم، ألايقنع من شرف الدّنيا والآخرة بشيء ممّا انبسط له، أملا فيما هو أسنى منه درجة وأرفع منزلة، ولذلك قال عمر بن عبد العزيز لدكين الرّاجز: إنّ لي نفسا توّاقة، فإذا بلغك أنّي صرت إلى أشرف من منزلتي هذه، فبعين ما أرينّك- قال له ذلك وهو عامل المدينة لسليمان بن عبد الملك- فلمّا صارت إليه الخلافة قدم عليه دكين، فقال له: أنا كما أعلمتك أنّ لي نفسا توّاقة، وأنّ نفسي تاقت إلى أشرف منازل الدّنيا، فلمّا بلغتها وجدتها تتوق لأشرف منازل الآخرة.
وفي هذا المعنى:
والحرّ لا يكتفي من نيل مكرمة *** حتّى يروم الّتي من دونها العطب
يسعى به أمل من دونه أجل *** إن كفّه رهب يستدعه رغب
لذاك ما سال موسى ربّه أرني *** أنظر إليك وفي تساله عجب
يبغي التّزيّد فيما نال من كرم *** وهو النّجيّ لديه الوحي والكتب
[وسائل الإصلاح للخضر حسين (ص 85- 95) باختصار ] .
3- قال الحافظ أبو بكر عبد اللّه بن الإمام الحافظ أبي داود السّجستانيّ، المولود سنة (303 هـ). قال: دخلت الكوفة ومعي درهم واحد فاشتريت به ثلاثين مدّا باقلّاء، فكنت آكل منه وأكتب عن الأشجّ عبد اللّه بن سعيد الكنديّ محدّث الكوفة، فما فرغ الباقلّاء حتّى كتبت عنه ثلاثين ألف حديث ما بين مقطوع ومرسل.[انظر صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل لأبي غدة ] .
4- قال الحافظ الذّهبيّ في تذكرة الحفّاظ في ترجمة الإمام محمّد بن جرير الطّبريّ، قال أبو محمّد الفرغانيّ تلميذ ابن جرير: كان محمّد بن جرير لا تأخذه في اللّه لومة لائم مع عظم ما يؤذى، فأمّا أهل الدّين والعلم فغير منكرين علمه وزهده ورفضه الدّنيا وقناعته بما يجيئه من حصّة خلّفها له أبوه بطبرستان، قال: ورحل محمّد بن جرير لمّا ترعرع، وسمح له أبوه بالسّفر، وكان أبوه طول حياته يوجّه إليه بالشّيء بعد الشّيء إلى البلدان، فسمعته يقول: أبطأت منّي نفقة والدي واضطررت إلى أن بعت ثيابي. ولقد قال ابن جرير: إذا أعسرت لم يعلم رفيقي *** وأستغني فيستغني صديقي
حيائي حافظ لي ماء وجهي *** ورفقي في مكالمتي رفيقي
ولو أنّي سمحت ببذل وجهي *** لكنت إلى الغنى سهل الطّريق
وهو الّذي يقول:
خلقان لا أرضى طريقهما *** بطر الغنى ومذلّة الفقر
فإذا غنيت فلا تكن بطرا *** وإذا افتقرت فته على الدّهر
[انظر صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل لأبي غدة ] .
5- قال ابن الجوزيّ: تأمّلت أحوال النّاس في حالة علوّ شأنهم فرأيت أكثر الخلق تبين حسراتهم حينئذ، فمنهم من بالغ في المعاصي من الشّباب، ومنهم من فرّط في اكتساب العلم ومنهم من أكثر من الاستمتاع باللّذات. فكلّهم نادم في حالة الكبر حين فوات الاستدراك لذنوب سلفت، أو قوى ضعفت، أو فضيلة فاتت، فيمضي زمان الكبر في حسرات، فإن كانت للشّيخ إفاقة من ذنوب قد سلفت، قال: وا أسفاه على ما جنيت؟ وإن لم يكن له إفاقة صار متأسّفا على فوات ما كان يلتذّ به. فأمّا من أنفق عصر الشّباب في العلم فإنّه في زمن الشّيخوخة يحمد جنى ما غرس ويلتذّ بتصنيف ما جمع، ولا يرى ما يفقد من لذّات البدن شيئا بالإضافة إلى ما يناله من لذّات العلم.
هذا مع وجود لذّاته في الطّلب الّذي كان يأمل به إدراك المطلوب، وربّما كانت تلك الأعمال أطيب ممّا نيل منها، كما قال الشّاعر:
أهتزّ عند تمنّي وصلها طربا *** وربّ أمنيّة أحلى من الظّفر
ولقد تأمّلت نفسي بالإضافة إلى عشيرتي الّذين أنفقوا أعمارهم في اكتساب الدّنيا، وأنفقت زمن الصّبوة والشّباب في طلب العلم، فرأيتني لم يفتني ممّا نالوه إلّا ما لو حصل لي ندمت عليه، ثمّ تأمّلت حالي فإذا عيشي في الدّنيا أجود من عيشهم، وجاهي بين النّاس أعلى من جاههم، وما نلته من معرفة العلم لا يقاوم. فقال لي إبليس: ونسيت تعبك وسهرك، فقلت له: أيّها الجاهل. تقطيع الأيدي لا وقع له عند رؤية يوسف، وما طالت طريق أدّت إلى صديق:
جزى اللّه المسير إليه خيرا *** وإن ترك المطايا كالمزاد.
ولقد كنت في حلاوة طلبي العلم ألقى من الشّدائد ما هو عندي أحلى من العسل لأجل ما أطلب وأرجو ، كنت في زمان الصّبا آخذ معي أرغفة يابسة فأخرج في طلب الحديث وأقعد على نهر عيسى فلا أقدر على أكلها إلّا عند الماء، فكلّما أكلت لقمة شربت عليها، وعين همّتي لا ترى إلّا لذّة تحصيل العلم، فأثمر ذلك عندي أنّي عرفت بكثرة سماعي لحديث الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم وأحواله وآدابه وأحوال أصحابه وتابعيهم . [صيد الخاطر لابن الجوزي (218- 219) ] .
6- كان الإمام البخاريّ يقوم في اللّيلة الواحدة ما يقرب من عشرين مرّة لتدوين حديث أو فكرة طرأت عليه، كما أنّه من أعظم الرّماة، ما كان سهمه يخطأ الهدف إلّا نادرا.[انظر هذه الاثار في: الرحلة في طلب الحديث للخطيب البغدادي (220- 221)، ومعرفة علوم الحديث للحاكم النيسابوري (2- 3) ] .
7- وفي ترجمة الإمام الطّبرانيّ: هو الحافظ العلّامة أبو القاسم سليمان بن أحمد اللّخميّ الشّاميّ الطّبرانيّ مسند الدّنيا، زادت مؤلّفاته عن خمسة وسبعين مؤلّفا. سئل الطّبرانيّ عن كثرة حديثه، فقال: كنت أنام على الحصير ثلاثين سنة.[انظر هذه الاثار في: الرحلة في طلب الحديث للخطيب البغدادي (220- 221)، ومعرفة علوم الحديث للحاكم النيسابوري (2- 3) ] .
8- قال الإمام أحمد بن حنبل: رحلت في طلب العلم والسّنّة إلى الثّغور والشّامات والسّواحل والمغرب والجزائر ومكّة والمدينة والحجاز واليمن والعراقين جميعا وفارس وخراسان والجبال والأطراف ثمّ عدت إلى بغداد. وقال: حججت خمس حجج منها ثلاث حجج راجلا- ولا يغيب عنك أنّ بلده بغداد- أنفقت في إحدى هذه الحجج ثلاثين درهما. وقال الإمام ابن الجوزيّ: طاف الإمام أحمد بن حنبل الدّنيا مرّتين حتّى جمع المسند.[انظر هذه الاثار في: الرحلة في طلب الحديث للخطيب البغدادي (220- 221)، ومعرفة علوم الحديث للحاكم النيسابوري (2- 3) ] .
قال أبو عبد اللّه الحاكم النّيسابوريّ في كتابه (معرفة علوم الحديث) وهو يذكر فضل أصحاب الحديث وطلّابه: هم قوم سلكوا محجّة الصّالحين واتّبعوا آثار السّلف من الماضين، ودمغوا أهل البدع والمخالفين بسنن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. قوم آثروا قطع المفاوز والقفار على التّنعّم في الدّمن والأوكار، وتنعّموا بالبؤس في الأسفار مع مساكنة أهل العلم والأخبار، وقنعوا عند جمع الأحاديث والاثار بوجود الكسر والأطمار *** جعلوا المساجد بيوتهم وأساطينها تكاهم وبواريها فرشهم، نبذوا الدّنيا بأسرها وراءهم، وجعلوا غذاءهم الكتابة وسمرهم المعارضة (أي مقابلة الكتاب الّذي كتبوه بالكتاب الّذي سمعوه أو نقلوا منه) واسترواحهم المذاكرة، وخلوقهم المداد، ونومهم السّهاد، واصطلاءهم الضّياء، وتوسّدهم الحصى، فالشّدائد مع وجود الأسانيد العالية عندهم رخاء، ووجود الرّخاء مع فقد ما طلبوه عندهم بؤس، فعقولهم بلذاذة السّنّة غامرة، وقلوبهم بالرّضاء في الأحوال عامرة، تعلّم السّنن سرورهم، ومجالس العلم حبورهم، وأهل السّنّة قاطبة إخوانهم، وأهل الإلحاد والبدع بأسرها أعداؤهم .[ الرحلة في طلب الحديث للخطيب البغدادي (200- 221) ] .
10- عكف أبو صالح أيّوب بن سليمان على كتاب العروض حتّى حفظه، فسأله بعضهم عن إقباله على هذا العلم بعد الكبر، فقال: حضرت قوما يتكلّمون فيه فأخذني ذلّ في نفسي أن يكون باب من العلم لا أتكلّم فيه . [أدب الدنيا والدين (ص 54) ] .
::::::::::::::::
لقد أصيب كثير منا بضعف الهمم ، فصار المسلم تمر به السنون ، وتتوالى عليه الأيام والشهور والأعوام ، وهو على ماهو عليه من عمل ، فتجد أحدهم قد بلغ من العمر مابلغ ، وما زال لا يصلي الفجر مع الجماعة ، أو لا يحافظ على السنن الرواتب ، أو لا يعرف قيام الليل ، ولا يزال لم يحفظ شيئا من كتاب الله ، بل منهم من نسي حفظه ، حيث كان يحفظ شيئا من كتاب الله ، ولكنه لعدم مراجعته لضعف همته ، ومنهم من جعل كبر سنه مبررا له لترك الواجبات ، نسأل الله السلامة والعافية .
إن ضعف الهمة هو داء العصر ، وقد أودى في مستقبل كثير من المسلمين ، فقد ضعفت الهمم عن العمل الصالح ، والله يقول : } تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ { وضعفت الهمم عن طلب العلم والفقه في الدين ، والرسول r يقول في الحديث الصحيح : (( من يرد الله به خيرًا يفقه في الدين )) وضعفت الهمم عن الزكاة والصدقة ، والرسول r يقول : (( المؤمن في ظل صدقته يوم القيامة )) وضعفت الهمم عن الصيام والرسول يقول في الحديث الذي رواه الترمذي : (( من صام يوما في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا )) . بل ـ أيها الأخوة ـ ضعفت بعض الهمم ، حتى عن المحافظة على الصحة ، فبعض المسلمين يعجز أن يحافظ حتى على صحته ، يقول أحدهم ، وقد بلي بمرض السمنة ، يقول : أحاول أن اعمل بحديث النبي الذي صححه الحاكم : ((ما ملأ آدمي وعاءً شرًا من بطنه ، بحسب ابن آدم لقيمات يُقِمْن صلبه، فإن كان لا محالة فاعلًا فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه )) ولكني إذا حضر الطعام نسيت نفسي . إنه ضعف الهمة ـ نسأل الله العافية ـ فلنتق الله ـ عباد الله ـ ولنحرص على علو الهمة ، فالعمر قصير ، والموت يأتي بغتة .
::::::::::::::::
فعلى الوالدين والمربّين أن يحبّبوا الأطفال بالعبادة ، ويغرسوا فيهمْ علوّ الهمّة فيها ، والحرْص على أن تؤدّى على أحسن وجوهها ، وألاّ يَقْتصرَ اجتهادهم على نوْع واحد منها ، ليكونوا من العابدين الذين ينالُهم مدح الله تعالى وثناؤه في محْكمِ كتابه ، ولير منهم الطفْل في ذلك كلّه الأسوة الحسنة له ، التي تؤثّر في عقله وقلبه وسلوكه ما لا تؤثّره الكلمات وأبلَغُ المواعظ ..
::::::::::::::::