الجنس : العمر : 35 المدينة المنورة التسجيل : 06/09/2011عدد المساهمات : 213
موضوع: ۞♥۞ البلد الحرام ۞♥۞ الأحد 09 أكتوبر 2011, 1:10 am
۩۞۩ السلام عليكم ورحمةالله وبركاته ۩۞۩
البلد الحرام أسماؤه ، حدوده ، ومبدأ أمره
بلد الله الحرام ، الذي حرّمه وشرّفه وقدّسه ، تعددت أسماؤه تشريفاً للمسمى ، ومن أسمائه التي وردت في القرآن الكريم : مكة : وهو ِأشهر أسمائه قال تعالى : {وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم * وكان الله بما تعملون بصيراً(24) } (الفتح : 24) ومن أسمائه بكة قال تعالى : { إن أول بيتٍ وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهديً للعالمين (96)} (آل عمران : 96) ومن أسمائه أم القرى : {وكذلك أوحينا إليك قراءناً عربياً لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه * فريقٌ في الجنة وفريقٌ في السعير (7)} ( الشورى : 7) . وأم القري هي مكة باتفاق المفسرين ، وسميت بذلك لأنه أشرف وأفضل من سائر البلاد وأحبها إلى الله وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومن أسمائه البلد الأمين قال تعالى : {والتين والزيتون (1) وطورٍ سينينَ (2) وهذا البلد الأمين (3)} . ( التين : 1-3) . والبلد الأمين هو مكة بلا خلاف . إلى غير ذلك من الأسماء الكثيرة التي سمي بها هذا البلد الأمين .
ثانياً : حدوده : لأهمية هذا الأمر وما يتعلق به من أحكام شرعية كثيرة شرعها الله تعالى لحرمه كان تحديد الحرم بوحي من الله . فنزل جبريل ـ عليه السلام ـ ليري إبراهيم ـ عليه السلام ـ باني البيت حدود الحرم وإبراهيم الخليل يضع أنصاب الحرم . وقد جددت أنصاب الحرم على زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث عام الفتح أسداً الخزاعي فجدّد أنصاب الحرم .
روى أبو نعيم عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم ( بعض عام الفتح أسداً الخزاعي فجدد أنصاب الحرم . وكان إبراهيم وضعها يريه إياها جبريل ) قال ابن حجر : إسناده حسن . وهكذا كانت حدود الحرم تجدد حسب الحاجة إلى زماننا هذا . قال الإمام النووي : واعلم أن معرفة حدود الحرم من أهم ما ينبغي أن يعتنى به ، فإنه يتعلق به أحكام كثيرة . .
ثالثاً : مبدأ أمر الحرم وبناء الكعبة المشرفة : لقد ارتبط أمر بناء الكعبة المعظّمة ، وبداية أمر الحرم والكعبة والمناسك باسم خليل الرحمن إبراهيم وابنه إسماعيل ـ عليهما السلام ـ على ما ورد في كتاب الله تعالى . قال الحافظ ابن كثير : ( فإن ظاهر القرآن يقتضي أن إبراهيم ـ عليه السلام ـ أول من بناه مبتداءاً ، وأول من أسسه ) (3) أهـ . وإن كانت النصوص الواردة في ذلك لا تنفي احتمال وجوده مبنياً قبل ذلك . والله أعلم .
وفي خبر البناء وقيام الخليل إبراهيم ـ عليه السلام ـ به ، يساعده ابنه إسماعيل ، يقول الله ـ عز وجل ـ : { وإذْ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسمعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم} ( البقرة : 127) . ووردت الروايات الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مبدأ أمر الحرم وقصة البناء فيروي البخاري في صحيحه عن سعيد بن جبير قال قال ابن عباس : أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل اتخذت منطقاً تعفي أثرها على سارة ، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه ـ حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد ، وليس يومئذٍ أحد ، وليس بها ماء فوضعها هناك ، ووضع عندهما جراباً فيه تمر وسقاء فيه ماء ، ثم قفّى إبراهيم منطلقاً فتبعته أم إسماعيل ، فقالت : يا إبراهيم أين تذهب ؟ وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مراراً . وجعل لا يلتفت إليها . فقالت له : آلله أمرك بهذا ؟ . قال : نعم . قالت : إذن لا يضيعنا ، ثم رجعت ، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنيَّة حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الكلمات ورفع يديه فقال : { ربنآ إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرعٍ عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدةً من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون (37) } . ( إبراهيم : 37) . وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء ، حتى إذانفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها ، وجعلت تنظر إليه يتلوى ـ أو قال : يتلبط ـ فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها ، فقامت عليه ، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً ؟ فلم تر أحداً ، فهبطت من الصفا ، حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة فقامت عليها ، فنظرت هل ترى أحداً ؟ فلم تر أحداً ، ففعلت ذلك سبع مرات . قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " فذلك سعي الناس بينهما " . فما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت : صه ـ تريد نفسها ثم تسمّعت أيضاً ، ، فقال : قد أسمعت إن كان عندك غِواثٍ ، فإذا هي بالمَلَك عند موضع زمزم فبحث بعقبه ـ أو قال ـ بجناحه ، حتى ظهر الماء فجعلت تحوضه وتقول بيده هكذا ، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف . قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم ـ أو قال ـ لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عيناً معيناً ، قال : فشربت وأرضعت ولدها فقال لها المَلَك : لا تخافوا الضيعة ، فإن ههنا بيت الله يبني هذا الغلام ، وأبوه وإن الله لا يضيع أهله ، وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية ـ تأتيه السيول ، فتأخذ عن يمينه وشماله ، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم ، أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كدا فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائراً عائفاً ، فقالوا : إن هذا الطائر ليدور على ماء ، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء ، فأرسلوا جريّاً أو جريين فإذا هم بالماء ، فرجعوا فأخبروهم بالماء فأقبلوا . قال : وأم إسماعيل عند الماء ، فقالوا : أتأذنين لنا أن ننزل عندك ؟ . فقالت : نعم ، ولكن لا حَقَّ لكم في الماء . قالوا : نعم . قال ابن العباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس ، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم ، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم ، وشب الغلام ، وتعلم العربية منهم وأَنْفَسَهُم وأَعْجَبَهُم حين شبّ ، فلما أدرك زوجوه إمرأة منهم وماتت أم إسماعيل ، فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يطالع تركته ، فلم يجد إسماعيل ، فسأل امرأته عنه فقالت : خرج يبتغي لنا ، ثم سأل عن عيشهم وهيأتهم ، فقالت نحن بِشَرٍّ ، نحن في ضيق وشدّة ، فشكت إليه . قال : فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له : يغير عتبة بابه ، فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئاً ، فقال : هل جاءكم من أحد؟ قالت : نعم ، جاءنا شيخ كذا وكذا ، فسألنا عنك فأخبرته ، وسألني كيف عيشنا ، فأخبرته ، أّنا في جهد وشدة . قال : فهل أوصاك بشيء؟ قالت : نعم ، أمرني أن أقرأ عليك السلام ، ويقول : غَيِّرْ عتبة بابك . قال : ذاك أبي ، وقد أمرني أن أفارقك ، الحقي بأهلك ، فطلقها ، وتزوج منهم أخرى ، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ، ثم أتاهم بعد ، فلم يجده ، فدخل على امرأته فسألها عنه ، فقالت : خرج يبتغي لنا . قال : كيف أنتم ؟ وسألها عن عيشهم وهيأتهم . فقالت : نحن بخير وسعة ، وأثنت على الله . فقال : ما طعامكم ؟ . قالت : اللحم . قال : فما شرابكم؟. قالت : الماء . قال : اللهم بارك لهم في اللحم والماء . قال النبي صلى الله عليه وسلم : ولم يكن لهم يؤمئذٍ حبٌّ ، ولو كان لهم دعا لهم فيه . قال : فهما لا يخلو عليهما أحد إلا لم يوافقاه . قال : فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ، ومريه يثبت عتبة بابه . فلماء جاء إسماعيل قال : هل أتاكم من أحد ؟ . قالت : نعم ، أتانا شيخ حسن الهيئة وأثنت عليه ، فسألني عنك ، فأخبرته ، فسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته : أنا بخير . قال : فأوصيك بشيء ؟ . قال : نعم ، هو يقرأ عليك السلام ، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك . قال : ذاك أبي ، وأنت العتبة ، أمرني أن أمسكك . ثم لبث عنهم ما شاء الله ، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلاً له تحت دوحة قريباً من زمزم ، فلما رأه قال إليه ، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد ، ثم قال : يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر ، قال : فأصنع ما أمرك ربك . قال : وتعينني ؟ . قال : أعينك ؟ . قال : إن الله أمرني أن أبني ههنا بيتاً ، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها . قال : فعند ذلك رفعا القواعد من البيت ، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني ، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له . فقام عيه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان : { ربنا تقبل منا * إنك أنت السميع العليم } . ( البقرة 127 ) . قال فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان : { ربنا تقبل منا * إنك أنت السميع العليم } .
فكان هذا البيت بعد بنائه أول بيت بني في الأرض للعبادة قال تعالى : { إن أول بيتٍ وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدىً للعالمين (96)} ( آل عمران : 96 } .
روى البخاري عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ قال : قلت : يا رسول الله ، أي مسجد وضع في الأرض أول ؟ قال : " المسجد الحرام " قال قلت : ثم أي ؟ قال : " المسجد الأقصى " قلت : كم كان بينهما ؟ قال :" أربعون سنة ، ثم أينما أدركتك الصلاة بعد فصله ، فإن الفضل فيه .
وقد أخبر الله تعالى أنه أبقى فيه آيات بينات ، ودلالات ظاهرات أنه من بناء إبراهيم الخليل ـ عليه السلام ـ وإن الله عظمه وشرفه فقال تعالى : { فيه أياتٌ بيناتٌ مقام إبراهيم * ومن دخله كان آمناً * ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبلا * ومن كفر فإن الله غنيٌ عن العالمين (97)} ( آل عمران 97). قال قتادة ومجاهد : مقام إبراهيم من الآيات البينات . لقد تبين مما سبق عظم مكانة هذا البلد الحرام ، وعلو منزلته وقدره ، دل على ذلك توارد النصوص الشرعية السابقة ، في تعدد أسمائه ووضع حدوده وذكر مبدأ أمره وما يأتي من بيان حرمته . والله أعلم .
الفصل الأول : فضائل البلد الحرام وبعض أحكامه 1- حرمة مكة بلد الله الحرام : إن الله ـ عز وجل ـ اصطفى هذه البقعة وحرمها منذ خلق السماوات والأرض قال تعالى : { إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيءٍ * وأمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيءٍ * وأمرت أن أكون من المسلمين (91) } . ( النمل : 91) . ودل على ذلك أيضاً حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة : " إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة .. " .
وقد أعلن خليل الله إبراهيم ـ عليه السلام ـ حرمة مكة ، وبنى وطهر بيت الله الكعبة ، وأذن في الناس بالحج ، فقد روى البخاري عن عبد الله بن زيد بن عاصم ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها ، وحرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة ودعوت لها في مدها وصاعها مثل ما دعا إبراهيم ـ عليه السلام لمكة" . وهذا لا يعارض ما ذكره الله من أن مكة محرمة منذ خلق السماوات والأرض ، قال الحافظ ابن كثير بعد ذكر الأحاديث الدالة على أن إبراهيم هو الذي حرم مكة : " لا منافاة بين هذه الأحاديث الدالة على أن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض ، وبين الأحاديث الدالة على أن إبراهيم ـ عليه السلام ـ حرمها ، لأن إبراهيم بلغ عن الله حكمه فيها وتحريمه إياها ، إنها لم تزل بلداً حراماً قبل بناء إبراهيم عليه السلام لها ، كما أنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوباً عند الله خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته ومع هذا قال إبراهيم عليه السلام : { ربنا وابعث فيهم رسولاً مهم } ( البقرة : 129) . وقد أجاب الله دعاءه بما سبق في علمه وقدره ، ولهذا جاء في الحديث إنهم قالوا : يا رسول الله ، أخبرنا عن بدء أمرك ؟ فقال : دعوة إبراهيم ـ عليه السلام ـ وبشرى عيسى بن مريم ، ورأت أمي كأنه خرج منها نور أضاء له قصور الشام .
وفي بناء إبراهيم البيت وابنه إسماعيل ـ عليهما السلام ـ البيت يقول تعالى : { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا * إنك أنت السميع العليم (127)} ( البقرة : 127) .
وفي تطهير إبراهيم ـ عليه السلام ـ لبيت الله وأذانه للناس بالحج يقول تعالى : { وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود (26) وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامرٍ يأتين من كل فجٍ عميقٍ (27) } ( الحج : 26،27) .
وقد أكد على عظيم حرمة البيت والحرم وبقاء هذه الحرمة ودوامها إلى يوم القيامة رسولنا محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ بعدما أحلها الله له ساعة من نهار لتطهيرها من الأوثان والشرك وأعمال الجاهلية . وعادت حرمتها ومكانتها كما كانت ـ فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله حبس عن مكة الفيل ، وسلط عليها رسوله والمؤمنين ، وإنها لن تحل لأحد كان قبلي ، وإنها أحلت لي ساعة من نهار ، وإنها لن تحل لأحد بعدي .. " . فمكة حرمها الله إلى يوم القيامة . وإن تلك الحرمة حاصلة للمسجد الحرام وما أحاط به من جوانبه جعل الله ـ عز وجل ـ حكمها حكمه في الحرمة وتشريفاً لمكة وبيته الحرام .
2- قسم الله تعالى بها في كتابه : لقد أقسم الله سبحانه وتعالى بالبلد الحرام في آيات عديدة من كتابه الكريم ، دلالة علىعظمة المقسم به ، وتنبيهاً إلى مكانته ورفعة منزلته عند الله سبحانه ، قال تعلى : { والتين والزيتون (1) وطور سينين (2) وهذا البلد الأمين (3) } ، والتعبير بهذه الصيغة يدل على عظيم شأن هذا البلد الحرام ، فقد عظمه الله حين أقسم به ، وفي ضمن القسم أشار إليه باسم الإشارة (هذا) الذي يدل على قرب مكانته عند الله ـ عز وجل ـ ثم وصفه بـ ( الأمين ) . وهو فعيل بمعنى فاعل أي آمن . وقال تعالى : { لا أقسم بهذا البلد (1) وأنت حلٌ بهذا البلد (2)} ( البلد : 1:2) ، وهذا قسم آخر استخدم فيه أسلوب آخر بالقسم المؤكد مع استخدام اسم الإشارة أيضاً (بهذا) .
3- دعوة إبراهيم ـ الخليل ـ عليه السلام ـ لمكة وأهلها : لقد ذكر لنا ربنا ـ عز وجل ـ في كتابه الكريم أن إبراهيم خليل الرحمن ـ عليه السلام ـ بعد أن أسكن ولده إسماعيل وزوجه هاجر عليهما السلام دعا لأهل هذا البلد وساكنيه . فدعا أن يجعله بلداً آمناً ، وأن يجنب بنيه عبادة الأصنام ، ودعا أن يجعل قلوب المسلمين تميل وتهفو إليهم وإلى بلدهم . • ودعا أن يرزقهم من الثمرات . • ودعا أن يبعث فيهم نبياً منهم .
فهذه دعوات مباركات من خليل الرحمن أبي الأنبياء ـ عليه الصلاة والسلام ـ ذكرها كلها ربنا ـ عز وجل ـ في كتابه الكريم . فقال تعالى : { وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمناً واجنبني وبني أن نعبد الأصنام (35) رب إنهن أضللن كثيراً من الناس * فمن تبعني فإنه مني * ومن عصاني فإنك غفور رحيمٌ (36) ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرعٍ عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدةً من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون} ( إبراهيم : 35 : 37) .
وقال عز وجل : { ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم (129) } ( البقرة : 129) . واستجاب الله الدعاء المبارك فرزق أهل هذا الوادي غير ذي الزرع من الثمرات تجبى إليه من كل حدب وصوب ، حتى تجد فيه فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء ، فسبحان الله المجيب ، والحمد لله الوهاب .
وامتنان الله ـ عز وجل ـ على أهل هذا البلد الحرام بذلك هو من باب تذكيرهم بفضل النعمة وتحذيرهم من سوء الأدب في بيته ، ويدل على ذلك قوله تعالى : { أولم نمكن لهم حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل شيءٍ رزقاً من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون (57)} ( القصص : 57) .
وأما دعوة إبراهيم الخليل بأن تميل قلوب المسلمين نحوهم وتشتاق إلى بلدهم ، فقد استجاب الله دعوته فجعل هذا البيت مثابة للناس يثوبون إليه ولا يشبعون من المجيء إليه . بل كلما صدروا أحبوا الرجوع إليه والمثابة إليه . لما جعل الله في قلوب المؤمنين من المحبة له والشوق إلى المجيء إليه .
قال ابن عباس ومجاهد وسعدي بن جبير لو قال : أفئدة الناس لازدحم عليهم فارس والروم واليهود والنصارى والناس ، كلهم ولكن قال : " من الناس " فاختُص به المسلمون .
وأما دعوة خليل الرحمن لهذه الأمة فقد وافقت هذه الدعوة المستجابة قدر الله السابق في بعث رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً في الأميين ، وكذا في سائر الإنس والجن . فعن العرباض بن سارية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني عند الله لخاتم النبيين . وإن آدم ـ عليه السلام ـ لمنجدل في طينته ، وسأنبئكم بأول ذلك دوعة أبي إبراهيم وبشارة وعيسى بي ، ورؤيا أمي التي رأت .. " .
4- أحب البلاد إلى الله : لقد وردت النصوص الشرعية المثبتة أن هذا البلد الحرام هو أفضل البلاد وأحبها عند الله ـ عز وجل ـ وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم . فعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة " ما أطيبك من بلد ، وما أحبك إليّ ، ولولا أن قومك أخرجوني ما سكنت غيرك " .
وعن عبد الله بن عدي بن حمراء قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفاً على الحزورة فقال : " إنك لخير أرض الله ، وأحب أرض الله إلى الله ، ولولا أُخْرِجْت منك ما خرجت ؟ .
5- لا يدخلها الدجال : لقد كرم الله ـ عز وجل ـ بلده الأمين مكة وبلد رسوله صلى الله عليه وسلم المدينة بأن لا يدخلهما الدجال ، وهيّأ لهما من ملائكته من يحميهما منه فلا يتمكن الدجال ، من دخول مكة حرم الله وبلده الآمن ، ولا طيبة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على ذلك ما رواه البخاري عن أنس ـ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ليس بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة ، ليس من نقابها نقب إلا عليه الملائكة صافين يحرسونها ، ثم ترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات فيخرج الله كل كافر ومنافق " .
وفي خبر تميم الداري ـ رضي الله عنه ـ عند الإمام مسلم وفيه من قول المسيح الدجال : ( إني أوشك أن يؤذن لي في الخروج فأخرج فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة فهما محرمتان علي كلتاهما ،كلما أردت أدخل واحدة أو واحداً منهما استقبلني مَلَكٌ بيده السيف صلتاً يصدني عنها ، وإن على كل نقب منها ملائكة يحرسونها ) . فنعوذ بالله من فتنة الدجال .
6- مآزر الإيمان : روى مسلم في صحيحه عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما كان ، وهو يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية في جحرها " . قال النووي :" أي مسجدي مكة والمدينة " .
7- مضاعفة أجر الصلاة في المسجد الحرام : إن المسجد الحرام لما كان أول بيت وضع للناس ، أكرم الله تعالى المصلين فيه بمضاعفة الصلوات فيه إلى أضعاف كثيرة . وهذا فضل عظيم لهذا البيت الكريم من الله الرؤوف الرحيم لعباده المؤمنين المصلين . فيا خسارة من سكن مكة أم القرى ، وجاور البيت العتيق وفتح له هذا الباب من الخير العظيم والأجر المضاعف ثم هو يعرض عن أداء فريضة الله ويهمل الصلاة . فمن أعظم من هذا خسارة وحسرة وندماً . فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام " .
وعن جابر ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه " .
وهل هذه المضاعفة والفضل للصلاة في المسجد الحرام المحيط بالكعبة فقط أم يشمل الحرم كله ؟ فيه خلاف بين أهل العلم ، فمن مخصص هذه المضاعفة بالمسجد المحيط بالكعبة فقط ، ومن معمم هذا الفضل في الحرم كله . وقد رجح كثير من العلماء أن مضاعفة الصلاة يشمل الحرم كله ، وممن قال بهذا الإمام التابعي الجليل عطاء بن أي رباح المكي إمام أهل مكة في زمانه ، فقد سأله الربيع بن صبيح فقال له : ( يا أبا محمد هذا الفضل الذي يذكر في المسجد الحرام وحده أو في الحرم كله ؟ فقال عطاء : بل في الحرم كله ، فإن الحرم كله مسجد ) .
وممن قال به الإمام بن القيم وله فيه بحث نفيس . وهو رأي الجمهور ، ورجحه من المعاصرين الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ . ومع هذا فال شك أن الصلاة في المسجد الحرام المحيط بالكعبة أفضل ، وتبعث في النفس الطمأنينة وانشراح الصدر وكثرة الجمع ، والقرب من الكعبة . وقد ذهب بعض أهل العلم إلى مضاعفة الحسنات عموماً في البلد الحرام . وهو قول الإمام أحمد واختيار النووي .
وقال شيخ الإسلام : ( والصلاة وغيرها من القرب بمكة أفضل ، والمجاورة بمكان يكثر فيه إيمانه وتقواه أفضل حيث كان ، وتضاعف السيئة بمكان أو زمان فاضل ذكره القاضي وابن الجوزي ).
8- تحريم الإلحاد في الحرم : حرم الله في كتابه الإلحاد في حرمة مكة ، وتوعَّد من فعل ذلك بالعذاب الأليم والخزي العظيم . فقال تعالى {إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواءً العاكف فيه والباد * ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذابٍ أليم (25)} ( الحج :25).
قال ابن جرير : ( هو أن يميل في البيت الحرام بظلم ) . وقد فسره بعض العلماء بالشرك . وفسره آخرون باستحلال الحرام فيه أو ركوبه ، وفسره بعضهم باحتكار الطعام بمكة . ذكر ذلك كله ابن جرير الطبري في تفسيره . والإلحاد يشمل هذه المنكرات وغيرها ، وهو من باب التفسير بالمثل ، والأظهر ـ والله تعالى أعلم ـ أن الإلحاد يعم كل معصية لله ـ عز وجل ـ قال الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ وكلمة ( إلحاد) تعم كل ميل إلى باطل سواء كان في العقيدة أو غيرها لأن الله تعالى قال : { ومن يرد فيه بإلحاد } . فنكر الجميع . فإذا ألحد أحد أي إلحاد فإنه متوعد بهذا الوعيد . وقد أكد النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ هذا التحريم للإلحاد في حرم الله تعالى ، وبين أن فاعله من أبغض الناس عند الله تعالى . فعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : قال الني صلى الله عيه وسلم : " أبغض الناس إلى الله ثلاثة ، ملحد في الحرم ومبتغٍ في الإسلام سنة الجاهلية ، ومطلب دم امريء بغير حق ليريق دمه " .
وقد عَدَّ الصحابي الجليل ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ الإلحاد في الحرم منك كبائر الذنوب والآثام ، فروى الإمام الطبري في تفسيره عن طيسلة بن علي قال : ( أتيت ابن عمر عشية عرفة وهو تحت ظل أراك فسألته عن الكبائر فقال : هن : الإشراك بالله ، وقذف المحصنة ، وقتل النفس المؤمنة ، والفرار من الزحف ، والسحر ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، وعقوق الوالدين المسلمين ، والإلحاد في البيت الحرام قبلتكم أحياءً وأمواتاً . ثم من الملاحظ أن المتوعد عليه بالعذاب الأليم في الآية الهمُّ وإن لم يفعل ما أراد ، فيكف بمن فعلّ ولذا قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه : لو أن رجلاً همَّ فيه بإلحاد وهو بعدن أبْين لأذاقه الله ـ عز وجل ـ عذاباً أليماً . قال ابن كثير : قال بعض أهل العلم : ( من همَّ أن يعمل سيئة في مكة أذاقه الله العذاب الأليم بسبب همه بذلك وإن لم يفعلها بخلاف غير الحرم المكي من البقاع فلا يعاقب فيه بالهم ) . وقال الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ : ( ومما يدل على شدة الوعيد في سيئات الحرم ، وأن سيئة الحرم عظمية وشديدة قول الله تعالى : { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذابٍ أليم (25)} .
فهذا يدل على أن السيئة في الحرم عظيمة حتى إن في الهم بالسيئة فيه هذا الوعيد . وإذا كان من هم بالإلحاد في الحرم متوعداً بالعذاب الأليم فكيف بحال من فعل في الحرم الإلحاد بالسيئات والمنكرات ، فإن إثمه يكون أكبر من مجرد الهم ، وهذا كله يدلنا على أن السيئة في الحرم لها شأن خطير ) . ألا فلينتبه من أكرمه الله بسكنى هذا البلد ، ومن أنعم عليه ويسر له القدوم إليه . اللهم أرزقنا حسن الجوار لبيتك وحرمك .
9- تحريم القتال وسفك الدماء بمكة وإيذاء قاطنيها : وهي مسألة عظيمة ، وهي أهم مقتضيات حرمة البلد الحرام ، وإن خليل الرحمن إبراهيم ـ عليه السلام ـ بعد أن بنى هذا البيت الحرام دعا ربه بدعوات مباركات لهذا البلد وأهله وتقدم ذكر عدد منها ، وكم هي الآيات الواردة في حرم الله التي تذكرنا بإبراهيم الخليل أبي الأنبياء ـ عليه السلام ـ قال تعالى : { وقالوا إن نتبع الهدى نتخطف من أرضنا * أو لم نمكن لهم حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل شيءٍ رزقاً من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون (57)} ( القصص : 57) ، وقال سبحانه : { وإذ جعلنا البيت مثابةً للناس وأمناً} ( البقرة : 125) ، وقال سبحانه : { والتين والزيتون (1) وطور سينين (2) وهذا البلد الأمين (3) } ( التين : 1-3) . وقال سبحانه في سياق الامتنان على الناس : { أولم يروا أنا جعلنا حرماً أمناً ويتخطف الناس من حولهم } ( العنكبوت : 67) . وقال القرطبي : ( إن مكة لم تزل حرماً آمناً من الجبابرة المسلطين ، ومن الزلازل وسائر المثلات التي تحل بالبلاد ، وجعل في النفوس المتمردة من تعظيمها والهيبة لها ما صار به أهلها متميزين بالأمن من غيرهم من أهل القرى ) . ولذلك نهي عن حمل السلاح بمكة لغير ضرورة ولا حاجة ، فروى مسلم عن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال : ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحمل السلاح بمكة ) . قال القاضي عياض : هذا محمول عند أهل العلم على حمل السلاح لغير ضرورة ولا حاجة فإن كانت جاز . قال : وهذا مذهب مالك والشافعي وعطاء ، قال : وكرهه الحسن البصري تمسكاً بظاهر هذا الحديث . وأما القتال في الحرم فقد عظم النبي صلى الله عليه وسلم أمره ، وأكد على تحريمه . قال الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ : باب : لا يحل القتال بمكة . وقال أبو شريح ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يسفك بها دماً ) . ثم روى حديث ابن عباس السابق وفيه قوله صلى الله عليه وسلم : ( وإن هذا بلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض . وهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ) . ولم يأذن الله ـ تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بقتال وقتل الكافرين بمكة إلا إذا ابتدرهم الكافرون بالقتال ، فقال تعالى : { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه * فإن قاتلوكم فاقتلوهم * كذلك جزاء الكافرين (191)} ( البقرة : 191) . وهكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه عليه السلام أمن كل من ألقى سلاحه ولم يقاتل من المشركين يوم الفتح . وبعث منادياً ينادي : من دخل المسجد فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن ، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن . ولم يأذن لأصحابه إلا بقتال من قاتلهم وبرز بسلاحه لهم . ولذا ينبغي على ساكن الحرم وقاصده من الوافدين أن لا يهتكوا حرمة الحرم بإيذا الناس فيه ، ونشر الذعر بينهم ، فإن ذلك من أعظم الآثام . فإن الله ـ عز وجل ـ قال : { فيه آياتٌ بيناتٌ مقام إبراهيم * ومن دخله كان آمناً } ( آل عمران : 97) ، أي من دخله ينبغي أن يؤمن ولا يؤذي . قال ابن كثير عند هذه الآية : ( يعني حرم مكة إذا دخله الخائف يأمن من كل سوء ) قال : ( وكذلك كان الأمر في حال الجاهلية) . قال الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ ويقول سبحانه : {ومن دخله كان آمناً} . يعني وجب أن يؤمن . وليس المعنى أن لا يقع فيه أذى لأحد ، ولا قتل ، بل ذلك قد يقع ، وإنما المقصود أن الواجب تأمين من دخله ، وعدم التعرض له بسوء وكانت الجاهلية تعرف ذلك . فكان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فلا يؤذيه بشيء حتى يخرج .
1- تحريم دخول الكفار والمشركين مكة : وهذه خصيصة من خصائص الحرم بلد الله الآمن ، فلا يجوز مطلقاً أن يمكن كافر أو مشرك من اليهود والنصارى وغيرهم من دخول بلد الله الحرام . لأن المشركين نجس ،وبلد الله مطهر مقدس ، فنجاستهم وكفرهم تمنعانهم من دخول المسجد الحرام . قال تعالى : { يأيها الذين آمنوا إنما المشركون نجسٌ فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا * وإن خفتم عيلةً فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء * إن الله عليمٌ حيكم (58)} ( التوبة : 28) . وتنفيذاً لهذا الأمر الإلهي بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق في العام التاسع ليؤذن في الناس : ( أن لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان) .
قال القرطبي : يحرم تمكين المشرك من دخول الحرم أجمع فإذا جاءنا رسول منهم خرج الإمام إلى الحل ليسمع ما يقول . ولو دخل مشرك الحرم مستوراً ومات ، نبش قبره وأخرجت عظامه . والمقصود بالمسجد الحرام في هذه الآية هو الحرم كله وليس المبني حول الكعبة فقط . وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على مضاعفة الصلاة في الحرم كله وليس المبني حول الكعبة فقط ، لأن الله تعالى أطلق على الحرم اسم المسجد الحرام ، والله تعالى أعلم .
11- تحريم الصيد وقطع الشجر وأخذ اللقطة في الحرم : روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : لما فتح الله ـ عز وجل ـ على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : " إن الله حبس عن مكة الفيل وسلَّط عليها رسوله والمؤمنين ، وإنها لن تحل لأحد كان قبلي ، وإنها أحلت لي ساعة من نهار ، وإنها لن تحل لأحد بعدي ، فلا ينفر صيدها ، ولا يختلى شوكها ، ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد .." . لقد اشتمل هذا الحديث على عدد من خصائص بلد الله الحرام بمكة ، منها تحريم تنفير الصيد بمكة وقتله ، ومنها تحريم قطع الشجر فيها ، ومنها لا تحل ساقطتها إلا لمعرِّف . وهي أحكام خاصة بهذا البلد الحرام بيّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي أحكام خالدة دائمة إلى يوم القيامة ، فأصبح من الواجب على كل مسلم يسكن مكة أو يأتيها لحج أو عمرة أن يعلم هذه الأحكام وأن يعمل الجميع بها ، ويحذروا كل الحذر من مخالفة أمر الله وتجاوز حدوده وانتهاك محارمه ونبين فيما يلي أحكام كل مسألة من هذه المسائل الثلاث بشيء من التفصيل : أ) تحريم تنفير الصيد بمكة وقتله : سبق في حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا ينفر صيدها " فهو صريح في النهي عن تنفير الصيد ، ولذا عقد البخاري في صحيحه لهذه المسألة باباً فقال : باب لا ينفر صيد الحرم . وروى بإسناده عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله حرم مكة ، فلم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي ، وإنما أحلت لي ساعة من نهار ، لا يختلى خلاها ، ولا يعضد شجرها ، ولا ينفر صيدها ، ولا تلتقط لقطتها إلا لمعرّف " . وقال العباس يا رسول الله إلا الإذخر لصاغتنا وقبورنا . فقال : " إلا الأذخر " . وتنفي الصيد إزعاجه عن موضعه . قال الإما النووي ـ رحمه الله ـ : ( يحرم التنفير وهو الإزعاج عن موضعه ، فإن نَفّرَه عصى سواء تلف أو لا ، فإن تلف في نفاره ضمن وإلا فلا ) . وبهذا المعنى فسره التابعي المشهور عكرمة ، وهو راوي الحديث عن ابن عباس فقال بعد رواية الحديث : هل تدري ما ( لا ينفر صيدها)؟ هو أن يُنَحِّيه من الظل وينزل مكانه . ولئن كان تنفير الصيد محرّماً فإن قتله وصيده أشد حرمة . قال الحافظ ابن حجر عقب تفسير عكرمة للتنفير : قيل نبه عكرمة بذلك على المنع من الإتلاف وسائر أنواع الأذى تنبيهاً بالأدنى على الأعلى . قال ابن المنذر : أجمعوا على أن صيد الحرم حرام على الحلال والحرام . وقد أباح الشارع قتل الفواسق التي ورد النص الشرعي بقتلها في الحل والحرم . فروى البخاري ومسلم عن حفصة أم المؤمنين ـ رضي الله عنها ـ قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خمس من الدواب ، لا حرج على قتلهن ، الغراب والحدأة ، والفأر ، والعقرب ، والكلب العقور " وعن عائشة ـ رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم : " خمس من الدواب كلهن فاسق يقتلن في الحرم ، الغراب ، والحدأة ، والعقرب ، والفأرة ، والكلب العقور " . وعند مسلم من حديثها ـ رضي الله عنها ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم ، الحية ، والغراب الأبقع ، والفأرة ، والكلب العقور ، والحديّا " . ويلحق بالمذكورات كل ما فيه مضرة ظاهرة ، ولا يختلف في أنها مؤذية ، وقد فسر الإمام مالك الكلب العقور فقال : إن كل ما عقر الناس وعدا عليهم وأخافهم مثل الأسد ، والنمر ، والفهد ، والذئب ، فهو الكلب العقور . ب) قطع الشجر والشوك والخلى : وهذا الحكم أيضاً من خصائص هذا البلد الحرام ، فقد سبق في الأحاديث قول النبي صلى الله عليه وسلم في مكة " ولا يختلى شوكها " وقوله " لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها " باستثناء الإذخر . فدلت هذه الأحاديث على النهي عن قطع شجر الحرم ونباته ، ولو كان شوكاً ، وهذا الحكم مخصوص فيما ينبته الله تعالى من غير عمل الآدمي . قال القرطبي : خص الفقهاء الشجر المنهي عن قطعه بما ينبته الله من غير صنع آدمي ، فأما ما ينبت بمعالجة آدمي فاختلف فيه ، والجمهور على الجواز. فإن حصل القطع لشجر وشوك الحرم الذي أنبته الله من غير عمل الآدمي ، فما حكم فاعله ؟ . أولاً : أجمع أهل العلم أن قاطع شجر وشوك الحرم آثم ومذنب ، متعدٍ لحرم ما حرم الله ورسوله . ثانياً : اختلف أهل العلم في جزاء من قطع . فعطاء يرى أنه آثم يستغفر ويتوب وهذا الذي يلزمه ، واختار ذلك الإمام مالك وابن المنذر وأبو ثور وابن حزم . وذهب الأئمة الثلاثة أبو حنيفة والشافعي وأحمد إلى ضمانه مع اختلاف بينهم في تقدير الضمان ، فالذي اختاره أبو حنيفة أنها تقدر بقيمتها أياً كانت فإن بلغت قيمة هدي كان عليه هدياً ،وإن كان أقل اشترى طعاماً فأطعم كل مسكين نصف صاع . والذي اختاره الشافعي وأحمد : في قطع الشجرة الكبيرة بقرة وفي الشجرة الصغير شاة ، وفي الخلى بقيمته . ويستثنى من هذا حكم المسألتين التاليتين : الأولى : قال ابن قدامة ـ رحمه الله ـ ( لا بأس بالانتفاع بما انكسر من الأغصان وانقطع من الشجر وسقط من الورق . نص عليه أحمد ولا نعلم فيه خلافاً ) . الثانية : جواز رعي الغنم من خلى وحشائش الحرم بدون قطع من الإنسان ، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد ومنع منه أبو حنيفة . ج) تحريم أخذ لقطة الحرم إلا للتعريف : وهذا الحكم من خصائص مكة أيضاً . فقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم اللقطة في سائر البلاد . وذلك بأن يعرفها الملتقط سنة ، ثم له الانتفاع بها ، كما دل عليه حديث زيد بن خالد ـ رضي الله عنه ـ قال : ( جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن اللقطة فقال : اعرف عفاصها ووكائها ثم عرفها سنة ، فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها ، قال فضالة الغنم ؟ قال : هي لك أو لأخيك أو للذئب . قال فضالة الإبل ؟ . قال : مالك ، ولها معها سقاؤها وحذاؤها ، ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها ) . فهذا حكم اللقطة في كل مكان ، أما لقطة مكة فمن أهل العلم من قال : هي كغيرها ولكن يتأكد التعريف بها ، وممن قال بذلك مالك وأبو حينفة ورواية عن أحمد . ومن أهل العلم من قال : لا يأخذها إلا من يعرفها أبداً لا ليمتلكها ، وهو قول الشافعي ورواية عن أحمد وقول عبد الرحمن بن مهدي . والقول الثاني هو الأرجح ، لأن لقطة مكة والحرم لا يجوز التقاطها إلا لتعريفها أبداً بدون تملك بعد سنة أو سنين ، وذلك أن سياق الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم : " ولا تلتقط لقطتها إلا لمعرف " ورد مورد بيان الأحكام التي يختص بها الحرم من سائر البلاد كتحريم الصيد وقطع الشجر ، فإذا سوى بين لقطة الحرم وبين لقطة غيره من البلاد لم يعد لذكرها حكمة ظاهرة . وممن اختار هذا القول الإمام النووي والحافظ ابن حجر . وقال : ( والمعنى لا تحل لقطتها إلا لمن يريد أن يعرفها فقط ، فأما من أراد أن يعرفها ثم يمتلكها فلا ) . وقال : ( واستدل بحديث ابن عباس وأبي هريرة المذكورين في هذا الباب على أن لقطة مكة لا تلتقط للتمليك بل للتعريف خاصة ، وهو قول الجمهور . وقال الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ وقد سئل عن لقطة الحرم . فقال السائل : ما حكم لقطة الحرم؟ وهل يجوز أن يعطيها للفقراء ؟ أو ينفقها في بناء مسجد مثلاً ؟ فأجاب : الواجب على من وجد لقطة في الحرم أن لا يتبرع بها لمسجد ولا يعطيها الفقراء ولا غيرهم ، بل يعرفها دائماً في الحرم في مجامع الناس قائلاً : من له الدراهم ؟ من له الذهب ؟ من له كذا؟ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تحل ساقطتها إلا لمعرِّف " وفي رواية " إلا لمنشد " وهو الذي ينادي عليها . وكذلك حرم المدينة ، وإن تركها في مكانها فلا بأس ، وإن سّلمها للجهة الرسمية التي قد وكلت لها الدولة حفظ اللقطة برئت ذمته .
12- حكم دخول مكة بغير إحرام : اتفق أهل العلم على أن من أراد دخول مكة لحج أو عمرة لا يدخلها إلا محرماً ، أما ذوو الحاجات المتكررة ، أو من دخل مكة لغير حج وعمرة . أو أهلها القاطنون بها فال يلزم أحداً منهم الإحرام كلما دخل مكة على الصحيح . قال الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ في الصحيح باب دخول الحرم ومكة بغير إحرام . ودخل ابن عمر ، وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإهلال لمن أراد الحج والعمرة . ولم يذكره للحطابين وغيرهم . قال الحافظ ابن حجر : (( وحاصله أنه خص الإحرام بمن أراد الحج والعمرة ، واستدل بمفهوم قوله في حديث ابن عباس ( ممن أراد الحج والعمرة) فمفهومه أن المتردد إلى مكة لغير قصد الحج والعمرة لا يلزمه الإحرام)) .
الفصل الثاني المواقع المعظمة في البلد الحرام
إن هذا البلد الحرام مع عظمة أمره ، وجلالة قدره ، يضم عدداً من المواقع المعظمة ، والمقامات المباركة ، والمشاعر المقدسة ، والآيات البينة ، مما يزيده تشريفاً وتعظيماً وإكراماً ، وقد جاءت النصوص الشرعية من الكتاب والسنة ، مبينة فضل هذه المواقع المباركة وأحكامها ، وموضحة الطرق المشروعة لتعظيمها والتي لا يجوز لأحد أن يتعداها بقصد التعظيم والتشريف ، وبيان ذلك على النحو التالي : أولاً : الكعبة وبعض أحكامها : هي بيت الله الحرام الذي في وسط المسجد الحرام مربع الشكل بابه مرتفع عن الأرض ، قيل : سميت بذلك لأنها مكعبة على خلقة الكعب . وقد ورد ذكرها في القرآن الكريم باسمها الصريح ( الكعبة) وورد باسم آخر ففي الصريح قال تعالى : {جعل الله الكعبة البيت الحرام} ( المائدة : 97) . ومن أسمائها الأخرى ما ذكره الله تعالى بقوله : { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا * إنك أنت السميع العليم (127)} (البقرة : 127) . وقال تعالى : { وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي للطآئفين والقآئمين والركع السجود(26)} (الحج : 26) . وقال تعالى : { ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق (29)} ( الحج : 29) فالكعبة هي البيت الحرام ، وهي البيت العتيق . وذكر الله ـ عز وجل ـ أن إبراهيم الخليل ـ عليه السلام ـ هو الذي رفع القواعد من البيت ، وبنى الكعبة ، وساعده في هذا البناء ابنه إسماعيل ـ عليهما السلام ـ كما مرّ سابقاً . وقد جعل الله لها من الحرمة والتقديس ما لم يجعله لمكان غيرها على وجه الأرض . وإليك عدداً من الأحكام والآداب المتعلقة بالكعبة بيت الله الحرام . أ- الطواف حولها : لم يأذن الله لأحد بالطواف على بنيان غير الكعبة بيته الحرام ، وجعل ذلك من أفضل الأعمال فأمر به في كتابه الكريم فقال : { وليطوفوا بالبيت العتيق (29)} ( الحج :29) . وأمر خليله إبراهيم وابنه إسماعيل ـ عليهما السلام ـ بتطهير بيته الحرام للطائفين والعاكفين والمصلين فقال تعالى : { وعهِدنآ إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهِرا بيتيَ للطآفين والعاكفين والركع السجود (125)} ( البقرة : 125) . وجعل الشارع الحكيم الطواف حول الكعبة ركناً على كل حاج ومعتمر لبيته الحرام ، فلا يصح الحج والعمرة إلا بالطواف حول الكعبة ، وفيما عدا الحج والعمرة رغب فيه الشارع الحكيم ، وجعل عليه أجراً عظيماً ، المغبون من فرَّط فيه بعد تيسره له . عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من طاف سبعاً فهو كعدل رقبة " . وثبت عن عبد الله بن عمر أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من طاف بالبيت كتب الله ـ عز وجل ـ له بكل خطوة حسنة ومحا عنه سيئة" . كما أوجب الشارع على كل حاج أراد الخروج من مكة أن يطوف بالكعبة طواف الوداع ، روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : ( أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت ، إلا أنه خفف عن الحائض) . وفي رواية مسلم عنه : كان الناس ينصرفون في كل وجه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت " . وحذر الشارع من منع الطائفين حول الكعبة متى شاؤوا . فعن جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يا بني عبد مناف ، لا تمنعُنَّ أحداً طاف بهذا البيت ، وصلى أيَّ ساعة شاء من ليل أو نهار " .
ب- الكعبة قبلة المسلمين أحياءً وأمواتاً : جعل الله الكعبة بيته الحرام قبلة للمسلمين يتوجهون إليها عند صلاتهم لربهم ـ عز وجل ـ قال تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم {فولِ وجهك شطر المسجدِ الحرام } ( البقرة : 144) . وفي صحيح البخاري من حديث ابن عباس : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركع ركعتين في قبل الكعبة وقال : هذه القبلة" وعند النسائي من حديث أسامة بن زيد وفيه ( ثم خرج ـ أي من جوف الكعبة ـ فصلى ركعتين مستقبل وجه الكعبة ثم انصرف فقال : هذه القبلة ، هذه القبلة " . فجهاتها الأربع قبلة ، لا تصح صلاة مصلٍّ حتى يتوجه إليها بعينها إن كان يعاينها ، ومتى انحرف عنها ـ عامداً ـ عليه إعادة كل ما صلى على تلك الحال . وأما من كان بعيداً عنها فعليه أن يستقبل ناحيتها وشطرها . واستثنى من ذلك صلاة النافلة للمسافر ، فإنه يصلي حيث توجهت به راحلته ، تيسيراً من النبي صلى الله عليه وسلم على أمته ، قال جابر ـ رضي الله عنه ـ : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته حيث توجهت ، فإذا أراد الفريضة نزل فاستقبل القبلة ) . وكما كانت الكعبة قبلة المسلم في صلاته في حياته فهي قبلته ميتاً ، كما في الحديث الموقوف عن ابن عمر في ذكر الكبائر وفيه : ( والإلحاد في البيت الحرام ، قبلتكم أحياءً وأمواتاً) . فالميت يُجعل في قبره على جنبه اليمين ووجهه قبالة القبلة ورأسه ورجلاه إلى يمين القبلة ويسارها . وعلى هذا جرى عمل أهل الإسلام من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا ، وهكذا كل مقبرة على ظهر الأرض لأهل الإسلام .
ج – النهي عن استقبال الكعبة واستدبارها عند قضاء الحاجة : ومن تعظيم حرمة الكعبة بيت الله الحرام نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن استقبال الكعبة وجهتها واستدبارها عند قضاء الحاجة . روى البخاري ومسلم عن أبي أيوب الأنصاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها . ولكن شرقوا أو غربوا " قال أبو أيوب ( فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض بنيت قبل القبلة ، فننحرف ونستغفر الله تعالى ) . وروى الإمام مسلم عن سلمان الفارسي ـ رضي الله عنه ـ قال : قيل له : ( قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم شيء حتى الخراءة؟ قال : فقال : أجل ، لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول ، أو أن نستنجي باليمين ، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار ، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم ) . فدلت هذه الأحاديث الصحيحة بظاهرها على منع الاستقبال والاستدبار عند قضاء الحاجة مطلقاً ، سواء في البنيان أو في الصحراء . ووردت نصوص أخرى مشعرة بأن هذا المنع في الصحراء دون البنيان ، منها ما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنه كان يقول : إن ناساً يقولون : إذا قعدت على حاجتك فلا تستقبل القبلة ولا بيت المقدس ، فقال عبد الله بن عمر : لقد ارتقيت يوماً على ظهر بيت لنا ، فأريت رسول الله صلى الله عليه وسلم على لبنتين مستقبلاً بيت المقدس لحاجته ) . وعند مسلم بلفظ عن ابن عمر قال : ( رقيت بيت أختى حفصة فرأست رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعداً لحاجته مستقبل الشام مستدبر القبلة ) . فتعددت أقوال أهل العلم في التوفيق بينهما . والجمهور على الجمع بين النصوص بحيث يكون المنع في الفضاء والصحراء ، والإباحة في داخل البنيان ، وقال الحافظ ابن حجر عند هذا القول : هو أعدل الأقوال لإعماله جميع الأدلة .
د- استحباب الصلاة داخل الكعبة لمن تيسر له ذلك : إن الصلاة داخل الكعبة مستحبة لمن تيسر له ذلك بدون إيذاء ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دخلها يوم الفتح وصلى فيها ركعتين ، فروى البخاري عن سالم عن أبيه قال : " دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت هو وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة فأغلقوا عليهم ، فلما فتحوا كنت أول من ولج ، فلقيت بلالاً فسألته : هل صلى فيه رسول الله صلى لله عليه وسلم ؟ قال : نعم ، بين العمودين اليمانيين " . ومن تيسر له دخولها صحَّ منه الصلاة في أي نواحيها . ذكره نافع مولى ابن عمر . هذا في النفل ، وبين أهل العلم خلاف في جواز أن تصلّي الفريضة داخل الكعبة . والصلاة في الحِجْر صلاة في داخل الكعبة ، لأنه جزء منها فيأخذ حكمها ، على تفصيل سيأتي تقريره قريباً إن شاء الله .
هـ- نهاية أمر الكعبة : لقد أخبر الله تعالى عن القيامة في كتابه الكريم ، وأخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته ، وقد جعل للقيامة علامات وأشراطاً جسيمة أخبر عنها الشارع الحكيم ، ومن أكبر أشراطها وعل